القيامة و الحياة الجديدة
المسيح قام! إذاً انحلّت المشكلة!
صدِّق! لا تستخفنّ! ما أنت بحاجة إليه، في أعماق ذاتك، قد أُعطي لك بالكامل. بإمكانك أن تتأكّد، من ذلك، وبنفسك. ولكنْ، فقط إذا ما كان لك ذهن منفتح وتفرح بالحقّ يتسنّى لك هذا الأمر.
بدل أن يكون موقفك رافضاً، في المبدأ، لما هو مطروح عليك والرفض المبدئي موقف غير علمي بدل أن تتمسّك برأي زُرع فيك عن غير حقّ أنّ القيامة “خبريّة”، ما رأيك أن تتبنّى موقفاً أكثر واقعية وأكثر تجرّداً وتقول، على نحو إيجابي:
“أنا لا أعرف ولا أستطيع أن أحكم في الأمر. ولكنْ إذا كان ما يُطرَح بشأن قيامة المسيح صحيحاً، وثبت لي أنّه صحيح، فأنا مستعد أن أقبل به بفرح”؟ إذا ما كانت نيّة قلبك سليمة، إذا ما كنت، في قرارة نفسك، صادقاً ومستعداً لأن تتبنّى الحقيقة المستجدّة عليك في شأن هذه المسألة، فدعني أؤكّد لك أنّه مستحيل ألا تأتي إلى قيامة المسيح وإلى الإيمان بالربّ يسوع المسيح.
كيف يمكنني أن أكون قاطعاً إلى هذا الحدّ؟ لأنّي أعرف الذي تكلّم. فقط أعرني انتباهك قليلاً واسمعني بكيانك!
ما مشكلتك ومشكلتي؟ ما مشكلة البشريّة جمعاء؟ حياة الإنسان على الأرض، عملياً، كتلة مشكلات، بعضها قابلٌ، بشرياً، للحلّ وبعضها غير قابل للحلّ. لو تسنّى لك أن تنظر في مشكلاتك، في العمق، لاكتشفت أنّ وراءها كلّها مشكلة واحدة أساسية:
الخوف من الموت (عب 2: 15). حُلّ هذه المشكلة تجدْ حلاً يقينياً لكل معاناتك. كل البشريّة، إذ ذاك، تُشفَى. الحروب تنتهي. الصراعات تزول. القلق يتبدّد. ويسود سلام عميق وأكيد في العالم يدوم إلى الأبد.
ولكنْ لا حلول بشريّة للخوف من الموت. فقط محاولات لا عدّ لها للهرب من الموت فاشلة. وكلّما حاولت أن تهرب أنتجتْ محاولتُك مشكلات أكبر وأعمق.
خذ العنف مثلاً. لماذا يقمع الناس بعضهم بعضاً ولماذا يتقاتلون؟ أليس لشعورهم بأنّ الآخرين تهديد لهم؟ إذاً الخوف هو مشكلتهم. أَحِلَّ السلام محلّ الخوف في القلب ينتفي مبرِّر العنف. يسقط العنف من ذاته. خذ الصراع بين الطبقات الإجتماعية.
خذ الإدمان، إدمان المخدّرات والمسكرات والمقامرة. خذ الجشع. خذ النهم. خذ الشغف بالألعاب. خذ الإغراق في متع الحياة على أنواعها. خذ ما شئت تجدْ أن تصرّفات الناس محكومة، في العمق، بالخوف من الموت. الإنسان يعاني القلق والسأم والضجر والفراغ. وهذه كلّها مؤشّرات الموت.
حتى المعتقدات الدينية يمكن أن تكون، في الممارسة، مساعي للهرب من شبح الموت. الديانات، في أحسن الحالات، خليط من نفسانيات وأخلاقيات وما ورائيات.
تسعى إلى تنظيم علاقة الإنسان بنفسه وبالمجتمع وبالغيبيّات. ربما تدعو الناس إلى فضائل إجتماعية كالصدق والاستقامة والأمانة والإحسان والمسامحة وسواها، وربما تساعد الإنسان على اكتشاف قواه الذاتية الكامنة فيه، وتمدّه بما يعينه على الامتداد إلى عالم آخر غير عالمه حلاً لمشكلة الموت لديه.
تَعِدُه بالجنّة، أو بما يعادلها، إن هو فعل كذا وكذا. كل هذه، بيسر، يمكن أن تسيطر على وجدان الإنسان وهواجسه وأن يصير لها فيه مفعول الأفيون. تخلق له عالماً غير عالمه وتسكره بوعودها. وكثيراً ما يكون هذا العالم وهمياً، لكنّه يتحكّم بفكر الإنسان وتصرّفاته. يخرجه أحلامياً من الواقع الأليم الذي هو فيه إلى وعد بحياة لا موت فيها بعد الموت.
إذ ذاك يرضى الإنسان أن يقيم في الجحيم هنا ليأتي إلى الجنَّة هناك. يتمسّك الناس بمثل هذه المعتقدات لدرجة يكونون معها مستعدّين لأن يعنفوا ولأن يقتلوا، من أجل الدين، مَن يتصدّى لهم أو يرفض أن يذعن لهم أو يقف في وجههم ويهدّدهم في معتقداتهم، وهم يظنّون، عن حسن نيّة، أنّ لهم في ذلك ثواباً عظيماً. هذا، في الواقع، أحد أسباب الصراعات الكبرى بين الشعوب اليوم: العنف باسم الله! والقتل باسم الله! الديانات تتحوّل، بيسر، في وجدان المؤمنين بها، إلى أحزاب وشعارات ذات منحى سياسي بمقادير.
الديانات، التي هي على هذه الصورة، إن هي، في العمق، سوى اختراعات بشريّة القصد منها وضع ضوابط لتفلّت الناس وربط هذه الضوابط بقوى خفيّة برباط الثواب والعقاب.
المسيحيّة، بهذا المعنى، ليست ديناً، لا بل هي نقضٌ للأديان قاطبة! في وجدان بعض المسيحيّين المسيحيّة دين من الأديان، لذا يتعاطونها كما يتعاطى غير المسيحيّين دياناتهم. الفرق يكون في الشكل لا في المضمون. لكن هؤلاء يخطئون الهدف.
المسيحيّة لا تهدف إلى تحسين الأخلاق ولا ترمي إلى اكتشاف الإنسان قواه الذاتية ولا ترسله إلى الآخرة لينعم بالسعادة التي هو محروم منها هنا. المسيحيّة ليست نظرة جديدة مختلفة إلى الحياة الحاضرة المائتة. المسيحيّة حياة جديدة بالكامل منذ الآن. طبعاً ثمّة كلام على ملكوت الله ولكن لا كحقيقة تأتي في المستقبل، بل كحقيقة آنية تمتدّ إلى الأبد. “ها ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). في كل حال الحياة الأبدية في المسيحيّة ليست حياة إلى الأبد، بالمعنى الزمني للكلمة، بل نوعية حياة.
“هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنتَ الإله الحقيقي [الآب السماوي] وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 17: 3). الحياة الأبدية هي الاشتراك في حياة الله الأزلي الأبدي. كذلك نتكلّم على قيامة الربّ يسوع المسيح في الجسد من الموت، لكنَّ ما يعنينا فيها، مباشرة، هو أن قيامة الربّ يسوع تنتقل إلينا بمثابة حياة جديدة
“حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة” (رو 6: 4). قيامة يسوع أتتنا بحياة جديدة، لا بمعنى التمنّي ولا بالمعنى المستقبلي للكلمة، بل بمعنى الحياة الجديدة التي يبثّها فينا يسوع الآن. لهذا أعطانا الروحَ القدس، روحَ الحياة الجديدة. ولهذا اقتبلنا المعمودية باسمه.
هذا كلام كبير ليس برسم المحاججة ولا الإقناع ومن حقّ القارئ أن يقف منه موقفاً حيادياً. لكن الكلام يُعرف بمفاعيله كما تُعرف الشمسُ بنورها وحرارتها والحياةُ في الشجرة بأوراقها وثمرها. عمل الروح القدس، أي الحياة الجديدة، يُعرف في القدّيسين. لا أتكلّم على القدّيسين الذين يصنعون العجائب فقط بل، بخاصة، على القدّيسين الذين اقتبلوا الحياة الجديدة وأثمروا.
أتكلّم، إذاً، على العجائب الروحيّة التي أبانتها الحياة الجديدة في القدّيسين. الزانية، كمريم المصرية، التي صارت معلِّمة للعفّة، والقاتول، كموسى الأسود، الذي صار معلِّماً للوداعة، والسارق، كإبراهيم اللص، الذي صار مثالاً يُحتذى في الأمانة، والبخيل، كبطرس الرحيم، الذي صار معطاء سخيّاً مبدِّداً على المحتاج.
وإن ننسى لا ننسى الكافر، كبولس الرسول، الذي صار معلِّماً للشريعة الجديدة في كل المسكونة. هل تعلم كيف تغيّر هؤلاء؟ تغيّروا لأنّ قوّة حلّت وبدّدت الخوف من الموت فيهم. استقرّ فيهم سلام غير سلام العالم. كان هذا سلام المسيح القائل: “سلامي أُعطيكم لا كما يعطيكم العالم”. الحياة الجديدة التي مدّهم بها الروحُ القدس، روحُ الحياة، جعلتهم أقوى من الموت. عبثاً نحاول أن نجد أسباباً بشريّة نعلِّل بها التغيير الهائل الذي حصل لهم. متى كانت العفّة، بشريّاً، تأتي من الزنى؟ ومتى كان العنف يولّد الوداعة؟ متى كانت اللصوصية تنتج أمانة؟
ومتى كان البخل ينشئ سخاء وكرماً؟ متى كان الكافر يتحوّل إلى مُسَار لأقوال الله؟ هذه كلّها صور عن القيامة من الموت. وهذه كلّها تشهد لنعمة الله المجدِّدة في هؤلاء القوم وأمثالهم.
وماذا بإمكانك أن تقول عن الشهداء في المسيحيّة؟ لكل ديانةٍ شهداؤها، طبعاً على أساس قِيمها. أما الشهداء في المسيحيّة فمعجزة مدهشة لا مثيل لها. ليس أنّهم يتخطّون حاجز الخوف من الموت وحسب. غيرهم قد يتخطّى حاجز الموت أيضاً إذا ما كان مشحوناً بأفكار سياسية أو بأوهام دينية أو بخيالات حادّة. ولكن مَن يقدر، في آن، أن يكون هادئاً، فرحاً، وديعاً، لا يكنّ لجلاّده أي ضغينة، محبّاً لأعدائه؟ تصوّروا أنّ القدّيس كبريانوس القرطاجي أمر لجلاّده، وهو ذاهب إلى الموت، بعشرين ذهبية، كأجرة له على تعبه. أهذا من صنع البشر؟ الناس الذين كانوا يلاحظون شهداء المسيحيّة كانوا دائماً يتساءلون باستغراب كبير:
من أين تأتي المسيحيّين هذه القوّةُ الداخلية التي تجعلهم يُقبلون على الموت كما يُقبل الناس على الحياة؟ الشهيد في المسيحيّة هو الشاهد لقيامة الربّ يسوع المسيح بامتياز. الشهيد ثمرة هذه القيامة. قوّة قيامة يسوع هي الفاعلة فيه. الشهيد هو الإثبات!
طبعاً قوّة الله لا تفعل في الإنسان من غير مساهمة الإنسان نفسه. لا نتصوّرن أنّ الخوف من الموت يزول فينا آلياً. لا بد من التعب في حفظ الوصيّة. لا بد من غصب النفس عليها. لا بد من الجهاد الداخلي من أجلها. نساهم في الحياة الجديدة بما أُوتينا. لكنّ هذه المبادرات كلّها لا يأتيها صاحبها إلاّ إذا كان راغباً جدِّياً في الحياة الجديدة، طالباً الحقّ بشغف ولو كلّفه الأمر غالياً. طبعاً مهما فعل الإنسان لا يمكنه أن يبلغ الحياة الجديدة.
هذه تُعطى له من فوق لأنّه يريدها ويطلبها. ومهما فعل ليس دليل بشري يمكن أن يقنعه بصدقية الحياة الجديدة. النعمة هي التي تقنعه متى حلّت فيه. بشرياً لا شيء تَقْبَله إلاّ إذا كنتَ مقتنعاً به. إلهياً تبدي استعداداً عميقاً للقبول بما يُعرض عليك، إذا ثبت لديك أنّه حقّ، فيأتيك الإثبات من ذاته من حيث لا تدري.
إذ ذاك تصير مؤمناً. الله يعطيك أن تصير مؤمناً. قبل ذلك تنتظر، بصدق، كشفاً. تنتظر ولا تملّ من الانتظار فيأتيك الإيمان وتأتيك النعمة ولا تعرف كيف ولا متى. تصارع نفسك! والله، علاّم القلوب، لا ينساك، لكنّه لا يأتيك إلاّ متى تهيأت.
حَسْبُك أن تعرف أنّك إن أحببت الحقّ أحبّك الحقّ، أي يسوع، وكشف لك ذاته حياة جديدة. الباقي تفصيل، وحده العليّ عارف به. هذا ما يجعلك في قلب القيامة.
هذا الكلام لي ولك وللجميع. ليس لفئة دون سواها. كلّنا معطى القيامة إذا ما رغب فيها. القيامة لكل الناس إذا ما أرادوا. الحياة الجديدة ممدودة للجميع. لذا قال الذهبي الفم في خطبة الفصح: “المملكة العامة قد ظهرت… لا يخافن أحد من الموت لأنّ موت المخلّص قد حرّرنا. فإنّه أخمده لما ضُبط فيه…
قام المسيح واستقرّت الحياة. قام المسيح وليس ميت في القبر لأنّ المسيح بقيامته من الأموات قد صار مقدمة الراقدين. فله المجد والعزّة إلى دهر الداهرين، آمين”
Discussion about this post