أحد ظهور يسوع لتلميذي عمّاوس (لو 24/13-35)
تتمحور كل من أناجيل زمن القيامة حول ظهور يسوع المعلّم والمرافق والحاضر في حياة تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات. بعد موت يسوع إذ بالتلاميذ يعيشون حالة إحباط وتشتّت وفشل ذريع حيث عاد كل منهم إلى تجربة الماضي أي إلى ما كان عليه. عاد بطرس الرسول ورفاقه إلى صيد السمك ورجع تلميذا عمّاوس إلى قريتهما بعد خيبة أملٍ كبيرة. فبعد أن رأينا نشأة الكنيسة وتكوين صورتها في ظهور يسوع وسط تلاميذه والأبواب مغلقة، نرى في هذا النصّ ظهور يسوع لإثنين منهم على طريق عمّاوس وهما يتحادثان بكل تلك الأمور التي حدثت ويشرح لهما الكتب المقدّسة ولم يعرفاه إلاّ عند كسر الخبز. هذا ما يؤسس لتأسيس سّر الإفخارستيا في قسميه: قسم الكلمة وقسم الخبز الذي يشكّل جوهر الحياة المسيحيّة.
“وكانا يتحادثان بكل تلك الأمور التي حدثت” نستخلص من هذا النصّ بأن هناك أزمة حاصلة بعد موت يسوع حيث الجماعة المسيحيّة أضحت مقسّمة ومشتّتة. إثنان من التلاميذ يعودان بعد أن خاب أملهما إلى قريتهما وهما يتحادثان بكل تلك الأمور التي حدثت ليسوع الناصري، فهما يعلمان بأدق التفاصيل كلّ ما يختص بيسوع لكن عيونهما حُجبت عن معرفته:” وكنّا نحن نرجو أن يكون هو الذي سيفدي إسرائيل”. ان ما يجري في هذا الحدث يشهد له اثنان من التلاميذ وليس إذًا عمليّة خياليّة. في هذه الأزمة النفسيّة والإيمانيّة يدخل يسوع في حياة التلميذين بصفة الغريب بالرغم من السنوات التي أمضياها معه ويبدأ يشرح لهما الكتب المقدّسة. حرّكهما ذاك الغريب إذ جعلهما يتكّلمان وحضّهما على قراءة الماضي بانتباه فأشعل قلبهما وأنار عقلهما.
إن يسوع القائم من الموت لم يظهر على هامش حياة أزمة التلاميذ بل في وسط محنتهم وهو لم يقترب من تلميذيّ عمّاوس فقط بل أخذ يسير معهما بالرغم من أعينهما التي أمسكت عن معرفته. عندما يدخل يسوع في حياتنا اليوميّة وقضاياها المعقّدة عندئذ يبدأ تاريخ حياتنا يُستكمل بوجوده ونخبره وقائع حياتنا والفشل الذي وصلنا إليه عبر ما كنّا نظّنه سوف يتمّ حسب مخيلتنا وتخطيطنا البشري. فنحن نريد أموراً لا تتماشى مع مخطّط الله، لكنه في ظهوره بيننا يمنحنا معرفته ويصحّح تفكيرنا. ولا نريد حتى أن نؤمن بشهادة الآخرين الذين ينقلون لنا شهادة حياتهم عن قيامة الله فيهم:”غير أن نسوة منّا قد حيّرتنا، فإنهّن بكّرن إلى القبر فلم يجدن جثمانه فرجعن وقلن انهنّ أبصرن في رؤية ملائكة قالوا إنه حي…
“إن تلميذي عمّاوس لا يعرفان يسوع في الطريق ولا يفهمان حدث موته ولا يؤمنان بقيامته رغم شهادة النساء وبعض التلاميذ. لكن يسوع يتخّطى فشهلما وإيمانهما ويبدأ يشرح لهما ما تقوله عنه الكتب المقدّسة. وقد عرفاه عندما كسر الخبز أمامهما كما فعل في العشاء السرّي. من هذا المنطلق تكّون صورة الإفخارستيا التي أعطتهما القوة والدفع والمعرفة، ثمّ يعودان إلى أورشليم يبشّران التلاميذ.
إن المشاركة في مائدة الإفخارستيا تعطي القوة والجرأة للشهادة ليسوع القائم من بين الأموات حيث يقوم التلميذان حالاً ويعودان في الليل دون انتظار انبلاج الصباح، يعودان إلى أورشليم بعزم جديد ويشتركان في حدث القيامة والشهادة له. حيث يدخل يسوع يدخل اليقين والفرح مكان الشكّ والحزن، ويمنح قوّة جديدة للعودة إلى جماعة الرسل في الليل. يشرح يسوع الكتب ويعلّم الجماعة التي تتمحور حوله ويحوّل الليل الى نور والتعب إلى قوّة والعوز والجوع إلى شبع وبحبوحة.
إن هذا التحّول أعاد تكوين الجماعة بعودة المسافرين إلى أورشليم حيث تحدث كل منهما عن خبرته. فالكنيسة تتكوّن من خلال الخبرات التي تعيشها وتتداولها الجماعة:“كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون أنا في وسطهم”. هذا الحدث يرسم مسبقاً صورة الكنيسة، حيث يعي التلميذان أهمية الطريق في اكتشاف القائم من الموت. ان طريق الحياة يمرّ بمسيرة صعبة واختبار مؤلم ومواجهة لا بدّ من أن نعيشها لكن حدث القيامة يمنعنا من المكوث في اليأس والإحباط والفشل. ان معرفة يسوع لا تتمّ بالعقل والفهم فقط بل بالقلب وهو المكان الذي تحصل فيه معرفة سّر الله عبر الكنيسة والكتب المقدّسة:“ألم تكن قلوبنا مضطّرمة فينا حين كان يكلّمنا في الطريق ويشرح لنا الكتب المقدسة؟”(لو24/32). إن الكتب المقدسة تبقى مختومة بصعوبات الفهم، يسوع فقط يمكنه أن يفتح أذهان التلاميذ ليفهموا الكتب(لو24/26).
“فانفتحت أعينهما وعرفاه فإذا هو قد توارى عنهما” نرى أنه عندما كان يسوع يظهر نفسه لتلاميذه كان يختتم نهاية ظهوره بكسر الخبز وهذا ما بدا ظاهراً في الأناجيل وخاصة في ظهوره لتلميذيّ عمّاوس حيث أخذ الخبز وباركه وأعطاهما عند ذلك عرفاه. ان تكثير الخبز الذي يرمز إلى الإفخارستيا في إنجيل يوحنا (يو6) حيث أخذ يسوع الأرغفة الخمسة والسمكتين وشكر ووّزعهما على الشعب. وعلى شاطئ بحيرة طبريّة طلب يسوع إلى تلاميذه قائلاً:“هاتوا من ذلك السمك الذي أصبتموه الآن”(يو21/10)، ثمّ أخذ يسوع الخبز وناولهم وفعل مثل ذلك في السمك”(يو21/13). كل هذه الأمثلة الثلاثة تحمل جميعها مضموناً إفخارستياً الذي هو إحتفال بعطيّة الله الخلاصيّة للإنسان. لذلك تحتفل الكنيسة بهذا السّر بما تحقّق في التاريخ بقيامة يسوع من الموت. فالإفخارستيا هي المكان الذي تتمّ فيه معرفة يسوع المسيح، ليس اللاهوت ولا الفلسفة ما يكشف عبر النظريات عنه، يسوع هو نفسه يكشف عن ذاته على المائدة المقدّسة.
لهذه المائدة مكانة هامّة في العهد الجديد إذ تعني الملكوت والشراكة في حياة الوليمة، ولا يريد المسيح ان يبقى أحد خارج العرس وبعيداً عن هذه المائده. هذه الإفخارستيا تكّون الكنيسة وتعطي القوة للعيش في الجماعة وعدم وجود المسيح يبدّد المجتمعين ويحبط حياتهم ويفقدون كل مبادرة أخويّة إلى بعضهم البعض. فالإفخارستيا هي من أهم الأسرار التي تجعلنا نتّحد بالمسيح ونتحّول إليه ونشهد لقيامته فينا.
كانت الإفخارستيا في الكنيسة الأولى سّر الغفران والشفاء وهذا ما تحمله إلينا اليوم. فيسوع الذي شفى المرضى وغفر للخطاة أثناء حياته العلنيّة هو حاضر في الإفخارستيا بقوّة القائم من الموت. ففي الإفخارستيا نتّحد به من خلال التناول المقدّس حيث يأتي ويسكن في قلوبنا ويحوّلنا إليه فنصبح واحداً معه كما الكرمة والأغصان(يو15)، ويتمّ التعبير عن إيماننا من خلال هذه الصلاة:“أيها الرب يسوع المسيح لا يكن لي تناول جسدك ودمك دينونة لي وهلاكاً بل تعطّف واجعلها حماية لنفسي وعلاجاً لجسدي”. كما كان الفصح عبور الشعب من العبودية إلى الحريّة هكذا الإفخارستيا هي العبور من عبودية القلق إلى يقين حرّ في الإيمان في حياة المسيح المستترة، والخروج من عبودّيات التكرار اليومي إلى حريّة يوم الرب وجدّته. فالذبيحة هي عملية إتحاد بالآخرين من خلال البعدين:البُعد الإلهي والبُعد الإنساني في أن معاً بمعنى أننا عندما نجتمع للإشتراك في الذبيحة الإلهيّة نعيش إختباراً مشتركاً للتحرّر من العبوديات المختلفة التي يرمز إليها العبور من مصر إلى أرض الميعاد، هذا العبور معاً يجعل من الجماعة المتضامنة شعب الله في حلّه وترحاله. إن رواية القديس يوحنا للعشاء الأخير تتضمن غسل الأرجل (13/1-17)، هي تعبّر عن روح الخدمة وما يتحقّق في الذبيحة هو ممارسة عمليّة حيث تتمّ الذبيحة ضمن المحبّة الأخويّة. فالقديس متى يؤكّد كملة يسوع:“إذا قدّمت قربانك وعلمت أن لأخيك ديناً، فاترك قربانك واذهب أولاً فصالح أخاك”(متى 5/23-24). لذا لا يمكن أن تكون هناك إفخارستيا إذا لم يكن هناك غفران ومصالحة. يسوع بعد قيامته من الموت جمع في شخصه الماضي والحاضر والمستقبل أي لم يعد هناك زمان ولا مكان وهذا ما يحدث في عيش الإفخارستيا الذي يجعلنا نتحرّر من الماضي ويجعلنا نعيش الحاضر ويوجهّنا نحو المستقبل.
لذلك لا شيئ يعوّض عن هذا العمل الإفخارستي أي عن حضور الذبيحة الإلهيّة في حياتنا التي هي تاريخ الخلاص مع الإنسان منذ القديم حتى اليوم. فكم من المسيحيين يختارون من الحياة المسيحيّة ما يناسب أهواءهم وتفكيرهم. هناك أناس لديهم (فتلة روحيّة) فيتذرّعون بأنهم لا حاجة لهم بأن يعترفوا للكاهن فيعترفون وحدهم لله. وهناك أناس لا يأتون إلى الكنيسة إلا إذا كانت الكنيسة خالية من المؤمنين لأن زحمة الناس تمنعهم من لقائهم بالله. ان كل هؤلاء أضحوا بحاجة ماسّة إلى نعمة الله لكي يصحّح تفكيرهم ويشفي إيمانهم وينمحهم إدراك نعمته.
فكلنا معرّضون بأن يكون لدينا كل المعلومات والبراهين الثابتة والكافية عن الله لكننّا قد نفتقد إلى معرفة سّره وهوّيته. هذا يمكن بأن نعيشه في الكثير من الأحيان ويعيشه أصحاب البدع والهرطقات الذين لا يعترفون بالأسرار وخاصة الإفخارستيا إذ أنهم يملكون كل المعلومات التاريخية عن الله للمجادلة لا للعيش لكنهم بعيدون كل البعد عن إدراك سرّه وهويته. وهذا ما عاشه كل من تلميذيّ عمّاوس اللذين كانا يدركان كل ما كان يتعلّق بيسوع الناصري، لكنهم لم يعرفاه إلاّ عند كسر الخبز. لذلك نحن مدعوون لأن ندرك أن الإفخارستيا أي (الذبيحة الإلهية) يجب أن تكون لنا بمثابة خطّ أحمر في حياتنا لا يمكن تجاوزه لأنه لا يمكن بأن يستعاض عنه.
فمن خلال إنجيل تلميذيّ عمّاوس نحن مدعوون لأن نؤمن بأن خيبات الأمل والإحباط والفشل يظلّ لنا بمثابة القناة التي تتسرّب فيها قدرة الله ونعمة محبته إلى نفوسنا المضطّربة. ان معرفتنا لله تبقى معرفة ناقصة ومبهمة إن لم تنطلق من الكتاب المقدّس، والإفخارستيا هي المكان الوحيد الذي تتمّ فيه معرفة الله وخلاصه حيث تحدث فيها كل التحّولات. يقول القديس بيو:”ان المسيحي الذي يدرك عظمة الذبيحة الإلهية في حياته لا يمكنه إلاّ أن يقسم حياته إلى قسمين: القسم الأول من حياته يصرفه في حضوره وعيش هذا السّر، والقسم الثاني يظلّ يشكر الله على عظمة هذا السّر الممنوح للانسان”. يوم نشعر أن الرب بعيد وغائب عن عيوننا نحن مدعوون لأن نؤمن أنه يكون أقرب إلينا ممّا يمكننا تصوّره، هو يظهر في وسطنا ويسير معنا. فالعلّة تكمن في قصَر نظرنا عن رؤيته:“أما كان قلبنا يشتعل في صدرنا حين حدّثنا في الطريق ؟” ففي زمن الأزمات والمحن التي تعصف بنا اليوم ومهما اهتزّت قلوبنا وساورتنا الشكّوك والمخاوف ومهما ضعفنا وتردّدنا، نحن مدعوون لأن نؤمن بأن الله حاضر في وسطنا ويقود مسيرة حياتنا ويفتح قلوبنا للآية للإيمان به.
أسئلة للتأمل والتفكير:
1- ما مدى معرفتي للكتاب المقدّس؟ هل ندرك ان معرفتنا لله دون الكتاب المقدّس هي معرفة ناقصة ومبتورة؟ هل نؤمن ونثق في ليل التجارب والمحن والأزمات بأن الله يسير بيننا ويقود مسيرة حياتنا وقراراتنا؟
2- هلّ ندرك عظمة سّر الإفخارستيا في حياتنا اليوم أم نظّنه عملا تقوّياً عادياً يمكن أن يُستعاض عنه بأي شيئ آخر؟ هل نؤمن بأن هذا العمل هو الأوحد الذي نختبر فيه حضور الله الذي يجعلنا نتحّول ونتحرّر وندرك هوّيته؟
3- كيف نفهم هذا القول:” وعرفاه عند كسر الخبز وتوراى عنهما؟”هل ندرك بأن العمل الإفخارستي أصبح بديلاً عن يسوع القائم من الموت؟ هل ندرك بأن كل ذبيحة إلهيّة هي تكرار لكلّ ما عمله يسوع على الأرض؟
Discussion about this post