العلية وبابل الروحية
|
رسالة عيد العنصرةإذ أراد مار يعقوب السروجي أن ينشر ميمرًا عن العنصرة (عيد البنطقستي) انسحبت أعماقه إلى علية صهيون في لحظات حلول الروح القدس. وهناك عاد بفكره إلى بلبلة الألسن في بابل عندما أراد البابليون بناء برج يحميهم من الغضب الإلهي، وينقذهم متى حدث طوفان جديد كما في أيام نوح. هب لي لسانًا ينطق بالحقافتح لي يا رب خزائنك المملوءة حكمة ومعرفة، لأستطيع أن أزيد معرفتي بسمو محبتك… يا من بلبل الألسنة في أرض بابل، هب لي لسانًا ينطق بالحق ويتحدى الباطل. من قضيب التأديب صدر الحنان وأغناهمكثيرًا ما يقارن بعض الآباء والمفسرين بين بلبلة الألسن التي حدثت بعد الطوفان في أيام نوح، وبين تمتع التلاميذ والرسل بعطية الألسن المتنوعة. اجتمع البابليون وخططوا لبناء برج، وكان غايتهم التحدي ضد الله نفسه. وأما التلاميذ ومن معهم في علية صهيون فكانوا في ضعفٍ يترقبون تحقيق الوعد الإلهي لكي ينالوا قوة من الأعالي. فيكرزون ببشارة الخلاص، ويردون البشرية من كل الأمم والشعوب والألسنة إلى الله في حبٍ وتواضعٍ وتسليمٍ لمشيئة الله المقدسة. إلى أيام الطوفان، “كانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة” (تك 11: 1). لكن إذ ارتحلوا من الشرق إلى شنعار (البلد المفتوحة)، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمالقديس أغسطينوس، وظنوا أنهم قادرون على الخلاص بأنفسهم. لا الخلاص من خطاياهم بل الخلاص من تأديبات الله. يقدم لنا القديس مار يعقوب السروجي صورة رائعة عن التأديب الإلهي. إنه لا يحمل نقمة إلهية، لأن الله ليس بمنتقمٍ، ولن تؤذيه شرور البشر، حتى إن وجهت لمقاومة الإيمان به. إنه إله عادل، وفي عدله يفيض حبًا ولطفًا وحنانًا. القديس جيروم أن هذا التوزيع لإقامة الشعوب كان لصالحهم. فإن اجتماع الأبرار معًا يزيدهم صلاحًا، كما اجتماع الأشرار معًا يزيدهم شرًا. فتفريقهم كان لنفعهم. تعدوا حدودهم وامتلأوا طمعًا، هؤلاء دخلوا في تحدٍ مع الله نفسه كما يقول 1. لو بقي العالم ينطق بلغة واحدة، لاكتظت مناطق معينة بالبشرية، وكان يصعب على الإنسان مهما بلغت الضغوط الخاصة بالموارد من التحرك. 2. إذ تبلبلت ألسنتهم نشأت القبائل والأمم والشعوب. وصار لكل شعبٍ ثقافته التي يعتز بها، فصار العالم غنيًا بالثقافات المتنوعة. 3. يرى 4. في ميمر “على بابل” تحدث تمرد البابليون فتنوعت لغاتهم، وكان ذلك خير ورحمة. كان قضاؤك وعقابك لا شرًا ، وإنما نعمة على العالم. فقد أصبح لكل أمةٍ لغتها، يتفاهم أفرادها بواسطتها. بتأديب هؤلاء الذين تمردوا يعرف المرء بأنك كلك مراحم، لمن يتزاحم ليستتر بك. كيف اسمي قصاص بني بابل، هل يا ترى هو تأديب أم أعجوبة مملوءة ثروة؟ تمرد البابليون، ورفع قضيبه ليضربهم، ومن القضيب صدر الحنان وأغناهم. وزعهم قبائل قبائل وألسنة ألسنة، وهوذا الموهبة تُعطى كتأديب. أذنبوا ضده، وعلّمهم الأسفار مجانًا، فلو لم يذنبوا ضده، ماذا كان سيصنع؟ ازدادت اللغات، واختلفت لهجاتها، فأغني البشرية بالعلوم. تأديبه صار زينة للعالم كله حتى يتكلم بطلاقة بألسنة جديدة. توزيع الألسنة أقام أممًا وشعوبًايؤكد القديس مار يعقوب حنو الله على البشرية حتى في لحظات التأديب. فإنه سمح ببلبلة الألسنة، لكنه لم يبلبل ألسنة الأسرة الواحدة، وإلا صار التعامل بين الأعضاء مستحيلاً، خاصة بين الأزواج وزوجاتهم، والآباء وأبنائهم. فالهدف ليس تحطيم المجتمع خاصة الأسرة، وإنما مراجعة الإنسان لنفسه بعد إقامة شعوب بثقافات متنوعة. تحول التأديب إلى هبة لبنيان كل إنسانٍ، كما لبنيان الجماعات. فاضت المراحم من العلي على البابليين، فأغناهم بألسنة، كما لو كان بالذهب. لو كان غاضبًا كما هدد ببلبلتهم، لماذا لم يفصل الرجال عن زوجاتهم، والأبناء عن آبائهم؟ على من يفهم أن يعرف بوضوح بأن توزيع ألسنتهم كان موهبة. وزع الله اللغات بين البشر، وهذه اللغات نفسها هي التي وهبها للرسل تلاميذه. بدون تعليم ولا ممارسة، بالروح نطق التلاميذ بكل اللغات. بابل رمز كنيسة بابل المختارةإن كانت بابل وهي تعني “الارتباك” رمزًا للنفس المتشامخة ضد الله، فإن مار يعقوب بابل المختارة“، أو “بابل العهد الجديد“. في بابل الأولى قام الله بتأديب سكانها خلال بلبلة الألسن، لكن هذا التأديب هو هبة لنفع هؤلاء المقاومين له. وفي بابل الجديدة أو المختارة وهب الله تلاميذه التكلم بألسنة دون حاجةٍ إلى تعليم أو تدريب. غاية هذه العطية ليس استعراض قوة الروح، وإنما إعلان حب الله لكل الشعوب والأمم. إنه يود أن يقيم من كل الشعوب خورس تسبيح فريد، يتناغم الكل معًا بروحٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ، وإن اختلفت الألسنة والثقافات. يستغل عبارة القديس بطرس الرسول (1 بط 5: 13) ليدعوا الكنيسة “ في العلية التي سماها بطرس الرسول كنيسة بابل المختارة، سمع الألسنة التي تتكلم فيها بطلاقة فسجّلها: بابل التي فيها توزعت كل الألسنة. الكنيسة المختارة الموجودة في بابل تهديكم السلام، أعني هذه التي ترتل بكل الألسنة. بابل والعليةيصور القديس مار يعقوب التلاميذ والرسل في العلية أشبه بسجناء لا حول لهم ولا قوة، في حالة رعب من المقاومين لحق الإنجيل. لكنهم قادة جيوش تنتظر استلام السلاح الإلهي ? الروح القدس ? الذي يقودهم في معركة روحية تملأ العالم بالسلام الإلهي. لو أقدر سأخلط في الميمر إذا: بابليين اثنتين، وأكرز غنى ألسنتهما. الآن أتكلم عن العلية التي في أرض اليهودية، فهي أيضًا في خبرها بابل كما قلنا. كان ربنا قد صعد إلى موضعه العالي، وظل التلاميذ، وتجمعوا في علية وهم خائفون. كانوا بدون الراعي فزعين من القتلة الذين كانوا يهددون، وكانوا مجتمعين إلى أن يتم الوعد. رافقوا الابن وهو يرتفع إلى موضعه العالي، وظلوا مثل اليتامى الذين فقدوا أباهم. حلول الروح القدس (أع 2: 1-13)كان صعد ابن الملك عند أبيه ليرسل سلاح الروح لعبيده من عند أبيه. قبل صعوده وأثناء ارتفاعه جمعهم ونفخ فيهم ليقبلوا منه الروح. الروح القدس معلم الرسلجاء السيد المسيح إلى عالمنا لكي يحملنا فيه، فنتعلم به وفيه ومنه، وننعم بالشركة في سماته، ونحمل بره. وكما يقول العلامة أوريجينوس إن المسيح هو الفضيلة. الآن بعد صعوده يرى مار يعقوب السروجي أن التلاميذ اجتمعوا في علية الابن (المسيح) أو بابل الابن حيث يقدم لهم روحه القدوس معلمًا، يعلمهم كتابًا جديدًًا (عهدًا جديدًا) بدون القراءة في كتبٍ. فجأة رعد صوت الريح القوي هناك على جمع مصاف الرسل. امتزجت الريح بالصوت، والنار بالمنظر، فصاغا سلاحًا للتلاميذ وألبسهما لهم. كان يُسمع صوت الريح فجأة، وكان يُعطى منظر النار كألسنة. يا للعجب!علية صهيون أصبحت بابل الثانية. أصبح التلاميذ يتكلمون مختلف اللغات. العلية هي مدرسة وبابل روحية وكنيسة مختارةنالوا موهبة التكلم بالألسن ليس للكرازة فحسب، وإنما للتسبيح. فصار العالم كله مدرسة لبني النور، وخورس شبه سماوي للتسبيح. معركة روحية سلاحها سماوي. أيتها العلية إن خبرك أسمى من بابل، ففيك توزعت كل الألسنة بدون سِفر. جعلك الروح كمدرسة لبني النور، وفيك تعلموا كلام الشعوب وألسنتهم. |
Discussion about this post