ميمر عيد العنصرة
للأنبا بولس البوشي أسقف مصر
(أي القاهرة القديمة)
مقتطفات من عظة على عيد حلول الروح القدس على التلاميذ، المعروف بعيد العنصرة أو عيد الخمسين، للأنبا بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر الميلادي، نقلاً عــــن المخطوطة م 18 (ورقة 152 وجه إلى 174 ظهر)
مكتبة دير القديس أنبا مقار ببرية شيهيت.
باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد
أيها الروح القدس المنبثق من الآب، الملك السماوي روح الحق الحاضر في كل مكان، وكل صقع، مالئ الكل، وكنز الصالحات، ورازق الحياة، هَلُمَّ واسكن فينا وطهِّرنا من كل دنس، أيها الصالح، وخلِّص نفوسنا.
كما كنتَ مع رسلك القديسين كُن معنا أيها السيد القدوس، وقدِّس القديسين، وطهِّر أجسادنا، وذكِّي عقولنا، وأضئ نفوسنا.
يا مَن منح الأميين حكمةً فاضلة حتى صاروا معلِّمين ومرشدين لكل المسكونة، امنح عبيدك تدبيراً يؤول إلى الحياة المؤبدة، أيها الروح المُحيي، لكي بك نحيا وتخلص نفوسنا.
وهَب لي أنا الحقير أن أتكلم بكرامتك أيها الروح الحق المتكلِّم في الناموس والأنبياء والقديسين إلى الأبد. أعطني معرفةً، يا مَن يُعطي كل المواهب الفاضلة، لكي ما أُعلِن مجدك المساوي مع الآب والابن في الجوهر والقِدَم والأزلية.
ألهمني منطقاً يا مَن ولدنا ميلاداً ثانياً لا يبلى لرجاء حياةٍ لا تَفنى، وبها نجسر وندعو الله أبانا، لكي أنطق بجلالة كرامتك وقوة أفعالك الكائنة في كل مكان.
أيها الروح القدس المنبثق من الآب أبدياً، وهو مستقر في الابن أزلياً سرمدياً، بوحدانية الجوهر، بلا ابتداء ولا انتهاء.
أنت هو روح الحياة، روح النبوَّة، روح الطهارة، روح العفاف، روح القوة، روح المواهب الفاضلة الكثيرة الأنواع، روح الرسالة، روح البنوَّة، روح البتولية، روح القداسة، روح المعرفة، روح الحكمة، روح الثبات، روح الصبر، روح الإيمان الفاعل بكل سلطان وقوة وجبروت، ليس كالخادم، بل كالمسلَّط، الحاضر مع كل واحد وكائن في كل مكان، المحتوي على الكل ولا شيء يحويه، القوي الذي لا يُمانع، والفاعل على المالك (أي على الحال عليه)، الذي لا ينحاز ولا يُعاند.
البسيط في طبعه، العظيم في أفعاله، الجبار في اقتداره، معدن العطايا الفاضلة، وينبوع المواهب العالية، المُعطي نُطقاً للأنبياء، وبُشرى للرسل التامِّين، وتشجيعاً للشهداء، وعفة للبتوليين، ونسكاً للقديسين.
الفاعل في رتبة الكهنوت، ويُولِد (أي يلد) المتعمِّدين بنينَ لله الآب السماوي. وبواسطته تكملة الذبيحة من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى اليمين.
روح البر والحق، البارقليط المعزِّي المنبثق من الآب، نسجد له ونمجده مع الآب والابن، كما سلَّمت إلينا الأمانة الأرثوذكسية.
وهكذا نؤمن أن الثالوث القدوس لاهوت واحد، لأن الله متكلمٌ حيٌّ لم يَزَل.
فإذا قلنا الله فإنما نقول: الآب والابن والروح القدس؛ لأن الخواص لا تزيد عن ذلك ولا تنظم أقل من هذه، ولا نكون أيضاً مع ذلك نعبد ثلاثة آلهة، لئلا نكون كالوثنيين الذين يقولون بكثرة الآلهة، ولا نكون أيضاً كاليهود الذين يجحدون كلمة الله وروحه…
وهذا ذكرناه باختصار عن الثالوث القدوس، هذا الذي كان رمزاً في كتب الأنبياء، وظهر الآن بالتجسُّد العجيب (لابن الله).
فنقتصر الآن من هذا ونرجع إلى ما تكلَّمنا فيه أولاً، وهو شرف هذا العيد المجيد، أعني البارقليط المعزِّي، روح القدس المتكلِّم
في الناموس العتيق والأنبياء الأطهار، المذكور ببيان في التوراة والأنبياء، كما هو مكتوب في بدء سفر الخليقة:
«في البدء خلق الله ذات السماء وذات الأرض، وكانت الأرض خالية خاوية، وكانت الظلمة غاشية وجه الغمر، وروح الله يرفُّ على المياه» (تك 1: 1-3)...
ومكتوب في السفر الثاني الذي يسمى سفر الخروج: «وكلَّم الرب موسى وقال له: اعلم أني انتخبت بصليا ابن أوري ابن حور من سبط يهوذا، وأسبغت عليه روح القدس، وملأته من الحكمة من العلم في كل عمل ليعمل… كل الأعمال التي أمرتك لصنعة القبة (أي خيمة الشهادة)» (خر 31: 2-5)…
وأيضاً مكتوب لما مسح صموئيل داود ابن يسَّى ملكاً ووضع عليه اليد وصلَّى عليه، حلَّ عليه روح القدس فتنبأ وبدأ يقول المزامير من ذلك اليوم (1صم 16: 13).
وأن روح الله انتُزع من شاول الملك عندما خالف كلمة الله ولم يعمل بها (1صم 16: 14)، ولأجل هذا الروح كان داود يتضرع إلى الله عندما أخطأ أن يُجدِّده فيه بالنبوَّة، لئلا يناله ما أصاب شاول الذي تقدَّمه، فتاب بقوة ورجع رجعة فاضلة وكان يتضرع قائلاً:
«قلباً طاهراً اخلق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّده في أحشائي، لا تطرحني من يديك ولا تنزع عني روح قدسك، أعطني بهجة خلاصك وبروحك القادر ثبِّتني» (مز 51: 10).
وقال: «روحك الصالح يهديني إلى سُبل الاستقامة» (مز 143: 10).
وقال أيضاً من أجل الروح: «فتحت فاي واستنشقت روحاً، لأني أحببتُ وصاياك» (مز 119: 131).
وإشعياء يقول: «منذ بدأت لم أتكلم في خِفية، بل أرسلني وروحه» (إش 48: 16).
وقال: «روح الله، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة والبر، الروح الذي يلهم مخافة الله» (إش 11: 2).
وقال: «روح الرب عليَّ من أجل هذا مسحني وأرسلني» (إش 61: 1)…
والآن نتكلَّم على فعل الروح مع الرسل الأطهار، ونُبيِّن ما التفاضُل الذي بينهم وبين الأنبياء، لأن أولئك (أي الأنبياء) كانوا يتكلَّمون في حين حين (أي ليس في كل وقت) عند حلول الروح عليهم بما هو مزمع أن يكون لا غير؛ فأما الرسل فكان الروح حالاًّ فيهم دائماً مستمراً، وذلك لأنهم تقلَّدوا تدبير كل المسكونة بالبُشرى الإنجيلية والتعليم والتعمُّد ووضع يد الرياسة وفعل الآيات. كما شهد الرب لهم بذلك قائلاً: «إني معطيكم البارقليط يثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يطيق العالم أن يقبله، لأنهم لم يَرَوْه ولم يعرفوه، وأنتم تعرفونه لأنه مُقيم عندكم وهو ثابت فيكم» (يو 14: 16)…
هذا الذي بدأ ربنا يسوع المسيح له المجد قبل آلامه يُعرِّف رسله بجلالة مواهب الروح، ويُعزيهم ويثبِّت قلوبهم بإتيانه إليهم قائلاً: «والبارقليط روح القدس الذي يُرسله الآب باسمي، هو يعلِّمكم كل شيء، وهو يُذكِّركم كل ما قلته لكم» (يو 14: 26).
وقال أيضاً: «إذا جاء البارقليط، روح الحق الذي من الآب ينبثق، هو يشهد لي، وأنتم تشهدون لي، لأنكم معي من الابتداء» (يو 15: 26-27).
ثم قال: «ولكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أذهب لن يأتيكم البارقليط» (يو 16: 7). أعني أنه لما كان هو معهم كان يُثبِّت قلوبهم ويرشدهم إلى الأشياء شفاهاً، وبه وجدوا عزاءً في رفض العالم، فلما صعد كان من عدله أن يُرسل لخواصه البارقليط، الذي تفسيره المعزِّي، ليكون ثابتاً معهم، ويجدون به عزاءً وسلوى ومجاهدة في البُشرى.
قال: «وإن انطلقت أرسلته إليكم» (يو 16: 7)، لأنه هو مع أبيه واحدٌ. ولكي ما يُعرِّفهم ونحن معاً محبته فيهم واهتمامه بهم، قال: «وإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على الخطية، وعلى البر، وعلى الدينونة» (يو 16: 8)، أعني أن به يقتدرون على التوبيخ والتأنيب وإظهار الإيمان والدينونة العتيدة. وقال أيضاً: «إن لي كلاماً كثيراًً أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن» (يو 16: 12)، عرَّفهم ضعفهم البشري عند معرفة الكمال.
قال: «فإذا جاء ذاك، روح الحق، هو يُرشدكم إلى جميع الحق» (يو 16: 13). قوله: «روح الحق» لأن الآب يُسمَّى «الحق» لقول الرب: «ليعرفوك أنك أنت الإله الحق والرب يسوع المسيح» (يو 17: 3).
وقال عن نفسه: «أنا هو القيامة والحق والحياة» (يو 14: 6)، وها هنا قال: «روح الحق» ليُبيِّن المساواة الواحدة التي للثالوث القدوس في وحدانية اللاهوت.
ولم يُعلِن الروح لرسله فقط، بل للجميع أيضاً، كمثل قوله لنيقوديموس: «الحق الحق أقوله لك: إن مَن لم يولد من الماء والروح لا يُعاين ملكوت الله» (يو 3: 5). وأيضاً في وسط الجمهور في اليوم العظيم عندهم، الذي هو آخر يوم في العيد، كان يُنادي ويقول: «مَن كان عطشاناً فيُقبل إليَّ ويشرب. كل مَن يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من بطنه أنهار ماء الحياة» (يو 7: 38)، قال الإنجيل: «إنما قال الرب هذا عن الروح، لأن الذين يؤمنون بـه مزمعون أن يقبلوه» (يو 7: 39).
وحتى بعد القيامة وعند صعوده أوصى رسله أن لا يبرحوا من أورشليم حتى يتدرَّعوا القوة من العلاء (أع 1: 4). فمكثوا منتظرين الوعد السمائي إلى كمال الخمسين.
هَلُمَّ إليَّ في وسطنا اليوم أيها الإنجيلي القديس لوقا، وأخبرنا كيفية حلول روح القدس على الرسل الأطهار. قال: «لما تمت أيام الخمسين» (أع 1)، أعني بعد قيامة الرب بخمسين يوماً، وهذا اليوم عند اليهود هو عيد العنصرة، وفيه كلَّم الله موسى على جبل طورسينا بنار تضطرم، وأعطاه الناموس والوصايا، فكان المثال موافقاً للحق والكمال، كما أن فصح المثال موافق لفصح الحق والكمال أيضاً.
وقال: «وكانوا مجتمعين بأسرهم جميعاً»، أعني آباءنا الرسل الأطهار حافظين وصية سيدهم ألا يبرحوا حتى يلبسوا القوة السماوية. قال: «وكان من السماء بغتة صوتٌ كصوت الريح الشديدة»، أعني صوت هبوب الروح نازلاً من السماء، وبيَّن سرعته وقوته ليُعلن أنها قوة إلهية لا تُعانَد.
قال: «فامتلأ منه جميع ذلك البيت الذي كانوا جلوساً فيه»، أعني أنه إليهم خاصةً أتى، وأن هذه الموهبة الفاضلة عليهم خاصةً حلَّت دون أهل العالم، كقول الرب لهم: «إني لستُ أمنحكم كما يمنح العالم» (يو 14: 27).
قال: «وظهرت لهم ألسنة منقسمة شبه النار»، أعني أن الروح مساوٍ مع الآب والابن في الجوهر، ذلك الذي ظهر بشبه نار تضطرم في هذا العيد ذلك الزمان وكلَّم موسى في طور سينا وأعطاه الناموس، وهكذا بهذا المثال ظهر للرسل الأفاضل واضعي أساس البيعة وأعطاهم قوة الكمال للناموس الجديد الدائم إلى الأبد.
قال: «فاستقر على كل واحد واحد منهم»، فيا لهذا العجب كيف النار غير الهيولي، الذي منه يستضيء كل الأنوار، حلَّ على قوم بشريين ولم يحرقهم؛ بل زادهم قوة وشرفاً وفضلاً، حتى غلبوا كل الطبائع من النار المُحرقة والسموم وكل شيء أُخضع لهم.
قال: «فامتلأوا كلهم من روح القدس»، بيَّن ها هنا المساواة التي صارت للرسل في قبول الروح.
قال: «فبدأوا ينطقون بلسان لسان كما كان الروح يؤتيهم النطق»، بيَّن شرف الموهبة التي صارت للرسل أفضل من الذين كانوا قبلهم، ومن الذين يأتون بعدهم أيضاً وإلى الأبد لا يكون مثلهم.
وكيف نطقوا بألسنة لم يكونوا أَلِفوها ولغات لم يكونوا يعلموها، وليس ذلك من تلقاء أنفسهم، بل كما كان الروح المُسلَّط يهب لهم أن ينطقوا بذلك من حيث لا يعرفون كيف يأتيهم النطق، ليتم المكتوب أن: «لساني مثل قلم الكاتب» (مز 45: 1)، يعني أن القلم ليس له سلطان أن يكتب بل الكاتب يكتب به كما يشاء. ومَن هو الكاتب؟ قال: «بهي في الحُسن أفضل من بني البشر» (مز 45: 2)، أعني الرب الذي تجسد، وإن كان ظهر بالجسد كالإنسان، فإن بهاء لاهوته يفوق كل البشرية.
بابل الكلدانيين فيها فرَّق الله الألسن، اليوم ائتلف لوضع سنة الخلاص كما قال إشعياء: «إن كلمة الله تظهر بأورشليم، ومن صهيون تخرج» (إش 2: 3). ألسنة بابل فيها تفرَّقت الألسن لأن قومها أضمروا أن يبنوا برجاً ويتعالوا إلى السماء بعظمة وكبرياء، ففرَّق الله لغاتهم وبدَّدهم في كل الأرض. أما علِّية صهيون ففيها اجتمعت اللغات لتواضُع الرسل الذين بها واتِّباعهم أثر المعلم الحق، ليجمعوا الأمم والشعوب المختلفي اللغات ويُصيِّروهم رعية واحدة.
بابل في ذلك الزمان تفرَّقت فيها الألسن وصاروا غير موافقين لبعضهم بعضاً؛ علِّية صهيون فيها اجتمعت كنيسة واحدة مقدَّسة جامعة رسولية التي أسَّسها الرب برسله الأطهار…
فينبغي لنا أن نُعيِّد الآن بنقاوة روحانية موافقة للروح، في عيد الروح المعزِّي، ليحل فينا ويُطهِّرنا ويُنقينا من أدناسنا، ويحفظ الجسد طاهراً لأنه هيكل الروح القدس الحال فينا. نحفظ النفس وكل الحواس نقية لكي يُشارك الروح القدس أرواحنا ونستحق إرث البنوَّة في الملكوت الأبدي.
إذ الرسول يُعلِّمنا بمثل هذه الأشياء قائلاً: «فلنعش الآن بالروح» (غل 5: 25)، ونوافقه بروح ضميرنا، ونحْذَر أن نصنع ضد ذلك لئلا يسخط الروح،
إذ يقول: «لا تُسخِطوا روح الله الذي خُتمتُم به ليوم النجاة ، بل كل تذمر وفرية فلينزع ذلك منكم مع بقية الشرور» (أف 4: 30-31). نرحم أهل الفاقة لكي يكمل مسرة الروح ونستحق الرحمة، لأن الرحمة تفتخر على الدينونة،
كما يقول يعقوب الرسول (يع 2: 13). نصنع سلاماً وصُلحاً في نفوسنا المقاتلة مع أوجاع أجسادنا. نعزِّي المتضيقين والمحبوسين بافتقادنا، ليكون الروح القدس المعزِّي يعضدنا ويقوينا في شدائدنا كالمكتوب:
«اسند الصغيري الروح بكلمة، وتسندك اليمين القوية» (1تس 5: 14). نغار على السيرة الروحانية ونجسر عليها، هذه التي سلك فيها الآباء الفُضلاء لابسي الروح، ونتشبَّه بهم حسب قوتنا، ليكون لنا إرث ونصيب معهم في المظال الأبدية.
ونحن نسأل ربنا يسوع المسيح الذي افتقد رسله الأطهار بموهبة روح قدسه أن يُطهِّر نفوسنا، ويغفر خطايانا، ويتجاوز عن سيئاتنا، ويسامحنا بهفواتنا، ويمنحنا سيرة روحانية بقية أيام حياتنا.
ويُنيِّح نفوس أسلافنا من كافة بني المعمودية الذين رقدوا على رجاء الإيمان باسمه القدوس، ويجعلنا مستحقين سماع صوته المملوء فرحاً القائل: «تعالوا إليَّ يا مباركي أبي، رِثوا المُلك المُعد لكم من قبل إنشاء العالم» (مت 25: 34)،
Discussion about this post