العنصرة المستمرّة
كان شعب العهد القديم يحتفل يومَ عيد العنصرة بذكرى استلام موسى النبيّ لوحَي الشريعة على طور سيناء. أمّا في العهد الجديد فالعنصرة هي ذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ بعد صعود السيّد المسيح إلى السماء.
وقد اعتبرت الكنيسة المقدّسة أنّ يوم العنصرة هو يوم انطلاق دعوتها الأساسيّة إلى المسكونة تلبيةً لأمر الربّ لهم:
“إذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متّى 19:28). وهذا ما حدث يوم العنصرة بعد عظة القدّيس بطرس الرسول إذ اعتمد “نحو ثلاثة آلاف نفس” (أعمال الرسل 41:2).
لم تعتبر الكنيسة أنّ العنصرة حدث صار في الزمن لمرّة واحدة منذ أقلّ من ألفي سنة بنـزر يسير. فالعنصرة مستمرّة وهي تحدث في كلّ مرّة تجتمع فيه الكنيسة متحلّقة حول ربّها وسيّدها ورأسها ومخلّصها يسوع المسيح. ولا تغيب صلاة حلول الروح القدس عن أيّ صلاة تقدّيسيّة تبارك فيها الكنيسة المؤمنين، وبخاصّة في معظم الأسرار.
فالروح القدس هو الذي يرافق الكنيسة ويسندها ويعضدها في مسيرتها الزمنيّة نحو الاكتمال في الملكوت الآتي.
العنصرة، إذًا، ليست حدثًا منعزلاً نعيّد لذكراه بل هي حياة الكنيسة الدائمة، هي التذوّق السابق للملكوت الآتي.
“ولم يكن قد حلّ الروح القدس على أحد منهم”، فجاء إليهم بطرس ويوحنّا وصلّيا من أجلهم “لكي ينالوا الروح القدس”، “فـوضـعـا حـينـئـذ أيـديـهـمـا عـليـهم فنالوا الروح القدس” (أعمال 14:8-17).
لا تقتصر الصلاة هنا على تحويل الخبز والخمر إلى جسد ودم الربّ، بل تطلب أوّلاً حلول الروح القدس “علينا”، أي على المشتركين. حلول الروح القدس على القرابين يحصل كي ينال المشتركون بها مغفرة الخطايا وكي يدخلوا في شركة الروح القدس وكي يتّحدوا بصفتهم جسد المسيح، أي الكنيسة، برأس هذه الكنيسة، أي بالرب يسوع المخلّص. لذلك لا يمكن فصل حلول الروح القدس على المشاركين في القدّاس عن حلوله في القرابين المقدّسة. القدّاس نفهمه إذًا عنصرةً دائمة.
وبعد أن أعطاه موهبة وضع الأيدي ليختار الكهنة المؤهّلين، أوصى بولس تيموثاوس بقوله في رسالته الأولى إليه: “لا تستعجلْ في وضع يديك على أحد” (22:5).
وهكذا انتقل سلطان وضع الأيدي من الرسل إلى أتباعهم من الأساقفة، ومنهم إلى كلّ الأجيال المتتابعة من الأساقفة. وفي السياق نفسه يتمّ اختيار الشمامسة بوضع الأيدي كما جرى في انتخاب الشمامسة السبعة (أعمال 6:6).
يضيق المجال بنا في هذه المقالة لإيفاء موضوعنا حقّه، وبخاصّة فيما يختصّ ببقيّة الأسرار. غير أنّه يسعنا القول إنّ الروح القدس نفسه الذي جعل ابن الله يسكن في أحشاء مريم يوم البشارة: “إنّ الروح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك” (لوقا 35:1)، هو نفسه الروح القدس الذي به تأسّست الكنيسة يوم العنصرة، وهو نفسه الذي يحضر في وسط الجماعة المصلّية ويحوّلها إلى جسد المسيح.
وإذا شئنا التوسّع قليلاً لقلنا إنّ الروح القدس نفسه الذي كان عند البدء في الخلق “يرفّ على وجه المياه” (تكوين 2:1) هو نفسه الذي سيحفظ نفوسنا إلى حياة أبديّة لا نهاية لها.
Discussion about this post