شرح عيد العنصرة و أيقونتها
مبارك أنت أيها المسيح إلهنا
يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة،
إذ سكبت عليهم الروح القدس.
وبهم المسكونة اقتنصت يا محب البشر المجد لك“
“إنما قال هذا عن الروح“
معنى العيد
في البدء كان هذا العيد عند العبرانيين عيداً أرضياً زراعياً، عيد الحصاد، “عيد حصاد بواكير غلاتك التي تزرعها وعيد الاستغلال عند نهاية السنة عندما تجمع غلاتك” (خروج 16:23) وكان يدعى أيضاً عيد الأسابيع (خروج 22:34)، أي سبعة أسابيع من وقت “شروع المنجل في الزرع”. ثم تطور العيد وأصبح ذكرى نزول الشريعة في طور سيناء، بعد خروج الشعب من مصر، ابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد لأن الشريعة أعطيت خمسين يوماً من بعد الفصح، أي عبورهم من أرض العبودية إلى صحراء الحرية. ولذلك أعطى الأصل اليوناني للعيد Pentecôte في الفرنسية ويتضمن معنى الخمسين. أما كلمة “عنصرة” فهي لفظة عبرانية بمعنى اجتماع أو محفل. العنصرة مع عيدَي الفصح والمظال تعتبر من أهم الأعياد في إسرائيل، إنه اليوم الذي يختاره الرب لكي يسكن اسمه مع شعبه في المكان الذي يحدده هو أيضاً لهم (تثنية 6:16و11).
أما الرسل فكانوا مجتمعين لذكرى يوم الخمسين بالذات، منتظرين موعد الروح “بعد قليل ستعمدون بالروح القدس” (أعمال 5:1). فمعنى العيد مسيحياً هو عطاء الروح القدس “الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبالمسيح صارا” (يوحنا 17:1). إنه يوم انصبَّ فيه عطاء الروح السخي على الكنيسة الممثلة بمحفل الرسل. حزقيال النبي كان قد تحدث قديماً عن الروح الذي يخلق الكائنات ويحركها، فيتملك بالإنسان ليزوده بسلطة جديدة فائقة الطبيعة! وكان يتكلم عن الأيام الماسيانية فيصفها كفترة تتميز بذلك الفيض من الروح. إذاً فكرة الروح القدس لم تكن غريبة عن الشعب العبري المثقف الذي كان يقرأ النبوءات. أما نزول الروح القدس مع ما اصطحبه من عاصفة ونار يندرج في سلسلة ظهورات الرب في العهد القديم ويتوجها! العجيبة مزدوجة، الحدث نفسه معجزة ونتيجته معجزة إذ ابتدأ الرسل يتكلمون “بألسنة” ليخبروا بعجائب الله. ويبدو أنه، بعد العنصرة، كثرت في الكنيسة الناشئة تلك الظاهرة الجديدة وهي التكلم “بألسنة” وهي نوع من نبوءة. يحذر بولس الرسول المؤمنين من مزايداتها! (1كورنثس 1:14-25).
فالعنصرة إذاً تتويج للفصح، لأن المسيح بعد أن أنهى عمله على الأرض، وانتقل إلى يمين الآب، أرسل الروح القدس على المجموعة الرسولية وبواسطتهم لكل المسكونة، لكي ينير أذهانهم فيفهموا الكتب ويدركوا في العمق أقواله التي ألقاها عندما كان معهم. حققت العنصرة في أورشليم الوحدة الروحية بين اليهود والأمم، إنها دعوة مباشرة للأمم (أعمال 8:1). التفرقة التي حصلت في برج بابل قديماً عندما تبلبلت الألسنة وابتعد الإنسان عن الآخر، أصبحت الآن وحدة لأن الجميع فهموا ألسنة الروح التي هي القاسم المشترك لدى جميع الشعوب. العنصرة اعتماد للرسل بالروح قبل ابتداء مهمتهم التبشيرية كما أن المسيح اعتمد بالروح على يد يوحنا المعمدان قبل حياته الكرازية: إنها تنصيب رسولي في الكنيسة. هذا الفيض من الروح سيصل إلى الجميع ليعطيهم هبات متنوعة وخاصة لكل واحد منهم. وعلاوة عن هذا، سيكون الروح القدس لكل إنسان سبب تغيير داخلي يحصل بصورة سرية، وتجديد عميق يجعله يستوعب الشريعة الجديدة التي حفرت في القلوب. إنها المعاهدة الجديدة التي نزلت كماء مخصبة تثبت أثمار الحق والعدالة والقداسة وتضمن الرعاية الإلهية وحمايتها. أما هذا الفيض فلم يتحقق إلاّ بواسطة الجلجلة والقيامة التي كسرت السدود ففاضت النعم.
لنلق الآن نظرة على أيقونة العنصرة الموجودة في أحد أديرة جبل آثوس والتي هي على الأرجح من القرن السادس عشر. إنهم الرسل الإثنا عشر والآعداد: اثنا عشر، سبعة، أربعون هي أعداد كتابية مقدسة. اثنا عشر هو عدد أسباط اسرائيل وهذا يعني أن الرسل هم أسباط اسرائيل الجديد، أي دعائم الكنيسة التي تتأسس.
وصف الأيقونة
ها هم الرسل متحلقون في علية أورشليم كما أمرهم الرب الصاعد إلى السماء “وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم ألاّ يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب” (أعمال 4:1). إنهم الرسل الذين اختارهم الرب بعد ليلة صلاة (لوقا 12:6)، والذين طالما عانى في تنميتهم روحيّاً وصبر على ثقل أذهانهم وبطء إدراكهم وصعوبة انتفاحهم لسر الخلاص! أما العلية فهي نفسها التي اجتمعوا فيها مع سيدهم ليأكلوا الفصح أي ذكرى خروج أسباط اسرائيل الإثني عشر من مصر بقيادة موسى النبي. إنها “علية كبيرة مفروشة” كما يصفها لوقا (12:22) وهي إطار الحادثة، مبنى ذو نوافذ وكأني به يزين الأيقونة ولكن الحادثة لا تتحقق في داخله، فهو لا يحويها، فمجموعة الرسل تبرز خارج الزمان والمكان.
المركز الرئيسي شاغر في هذه الأيقونة. في بعض الأيقونات نجد الأنجيل يترأس المحفل وفي البعض الآخر تبرز والدة الإله لأنها كانت تجتمع دوماً مع الرسل وتواظب معهم على الصلوات (أعمال 14:1). لماذا هي غائبة في هذه الأيقونة؟ الأرجح هو أن مريم أخذت حصتها كاملة من الروح القدس يوم بشارتها: “الروح القدس يحلّ عليك وقوة العلي تظللك”. إذ حصلت عنصرتها يومذاك فلا داعي لاعتماد ثانٍ بالروح القدس.
والآن من هم الرسل الجالسون على أريكة بشكل نصف قوس؟ لائحة الرسل الواردة في أعمال13:1 هي التالية: بطرس – يوحنا – يعقوب – اندراوس – فييلبس وتوما ثم برتلماوس- متى – يعقوب بن حلفى وسمعان الغيور ويهوذا المدعو تداوس.
إذا تمعنّا بالأيقونة وقارناها مع سائر الأيقونات الموجودة في سيناء واليونان ويوغسلافيا وبلغاريا لاكتشاف هوية الرسل ووجوههم نلاحظ أن اللائحة هي التالية في الأيقونة:
فئة اليمين: بولس – يوحنا – لوقا – اندراوس – برتلماوس – فيليبس.
فئة اليسار: بطرس- متى – مرقس – يعقوب- سمعان – توما.
وهذه اللائحة نجدها في جميع أيقونسطاسات الكنائس بهذا الترتيب غالباً. فهناك ثلاثة أشخاص أضيفوا إلى اللائحة الواردة في كتاب الأعمال وهم: بولس ولوقا ومرقس وهم كما نعلم لم يحسبوا من عداد الرسل الإثني عشر، ولم يعاينوا السيد خلال وجوده على الأرض، ولكنّ أهميتهم في الكنيسة جعلت وجودهم في مجموعة الرسل ضرورياً، مما يدل على أن راسم الأيقونة ليس مصوّراً فحسب ولكنه لاهوتي أيضاً: إنه يفهم الرسول بمعناه الواسع المنفتح الشامل كل عصر ولا يحصره في مكان وزمان. فبولس هو رسول الأمم المميزولوقا ومرقس انجيليان وكاتبان ماهران لهما الأهمية الكافية ليدخلا في مصاف الرسل. فبولس حلّ مكان ماتياس الذي انتخب مكان يهوذا الاسخريوطي.
والآن من هم الرسولان اللذان استبدلهما الرسام بلوقا ومرقس؟ لقد حذف يعقوب بن حلفى على أساس أنه أقل أهمية من اليعقوب الآخر ابن زبدى وأخي يوحنا، ويهوذا الملقب بتداوس وهو شخصية منزوية بالنسبة للآخرين.
لنلق الضوء على الرسل
فئة اليمين
بولس: يتصدر الحلقة، يحمل كتاباً هو كتاب رسائله، وجهه التاريخي معروف وهو نفسه في الأيقونات جميعها: لحية مقرنة ورأس أخذ الصلع شيئاً منه.
يوحنا: إنه الإنجيلي وهو بدون لحية لأنه كان أصغرهم سناًَ على الأرجح مما يفسر حضن السيد له، ووضع رأسه على كتف يسوع يوم العشاء السري. وهو كاتب ثلاث رسائل وكتاب الرؤيا ما بين 90-100م.
لوقا: إته تلميذ بولس وكاتب الإنجيل وأعمال الرسل وكان طبيباً من أصل يوناني ورساماً أيضاً. يقال إنه أول من رسم أيقونة والدة الإله.
اندراوس: إنه أخو بطرس وجهه في كل الأيقونات كما هو هنا، شعر مائل للشقار ومجعد. يقال إنه استشهد وصلب بشكل صليب مقلوب.
برتلماوس: لا يظهر الوجه كاملاً ولكن الأرجح أنه برتلماوس لأنه غالباً موجود بقرب اندراوس فوق الأبواب الملوكية.
فيليبس: وهو عادة في الأيقونات بدون لحية نظراً لسنه وهو القائل: “أرنا الآب وكفانا” (يوحنا 8:14) فأجابه يسوع: “من رآني رأى الآب”. وهو من بيت صيدا من الجليل مثل اندراوس وبطرس.
فئة اليسار
بطرس: يتصدر الاجتماع مع بولس، إنه الأول في كل لوائح الرسل يحمل ملفاً لا كتاباً لأنه لم يكتب إلا رسالتين.
متى: هو كاتب الإنجيل واسمه الثاني لاوي (متى 9:9). وكان جابياً للضرائب، أي عشاراً يجمع العشور في كفرناحوم ولما دعاه يسوع لكي يصيرمن أتباعه أقام للمعلم مأدبة فاخرة. كتب الإنجيل بالآرامية ويقال إنه بشّر بلاد العرب حتى بلغ الحبشة.
مرقس: كان تلميذاً لبطرس ومنه استقى جميع معلوماته عن يسوع. تدل الدراسات أنه كتب إنجيله في اليونانية ما بين سنة 64-67م.
يعقوب: إنه أخو يوحنا وقد دعاه السيد هو ويوحنا “بوانرجس” أي ابني الرعد وهما ابنا زبدى الصياد وكان ثرياً في الجليل، وهو الذي اصطحب السيد يوم التجلي مع بطرس ويوحنا، صورته واضحة في أيقونات التجلي. يقال إنه استشهد في أيام هيرودس سنة 44م.
سمعان: ويسمى سمعان الغيور أو القانوني.
توما: إنه بدون لحية كما يظهر في الأيقونة التي يضع إصبعه في جنب السيد والتي تسمى “شك توما الرسول”. ينسب إليه إنجيل يعتبر منحولاً. وورد ذكره في إنجيل يوحنا (16:11و5:14و19:20-29). ويقال إنه بشّر حتى حدود الهند.
من هو الرجل المتوج في أسفل الأيقونة؟
لتصميم رسمها، أيقونة العنصرة تندرج في فئة مواضيع الاجتماعات، كصور اجتماعات المجامع المسكونية مثلاً التي تتخذ النموذج نفسه. في كتاب “نهاية العصور القديمة والمتوسطة” للكاتب غرابار GRABAR يوضح المؤلف في موضوع رسم العنصرة، أن أقدم نسخة تعود إلى ما قبل القرن التاسع شرقاً وغرباً وأن في هذه النسخة تظهر الشعوب تحت القوس الذي يمثل صف التلاميذ، وأحياناً تظهر فئتان من الأشخاص في زاويتي الأيقونة السفليتين وأما الوسط فيبدو فارغاً. ومع الزمن ازدادت القيمة التعبيرية للصورة وخفت الظاهرة الواقعية فاستبدلت الشعوب بشخص واحد متوّج وكأنه ملك يمثلها جميعاً. والهدف واحد وهو إيصال كلمة الإنجيل وهبات الروح إلى العالم بأسره.
فهذا الرجل المتوّج إذاً، المحصور في قنطرة مظلمة، المرتدي بدلة قرمزية مذهبة، يمثل المسكونة المنتظرة عطاء الروح. إنه محبوس في هذا الكهف القاتم، لأنه لم يضأ بعد بنور المسيح، ولم ينسكب بعد عليه الروح القدس بواسطة الأسرار المقدسة. إنه شيخ يحمل على كتفيه خطيئة الإنسانية منذ السقطة، أسير لرئيس العالم الذي ليس هو إلاّ إبليس! إنه واقف في “ظلال الموت” ينتظر الخلاص. مصوّر الأيقونة أراده في تواضع وسكون، لم يمثله ثائراً متمرداً. إنه باسط يديه وماسك طرفي قماشة تحمل اثنتي عشرة مخطوطة بشكل ملفات، يحملها بكل احترام. وهنا تبرز كلمات السيد “ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى” (متى 14:24) فقبل زوال العالم إذاً ينبغي أن تبشر المسكونة كلها بالإنجيل.
إلى ماذا ترمز تلك القماشة التي يحملها هذا الملك؟ ربما ذكرتنا برؤية بطرس الرسول (أعمال 9:10-17). وقع بطرس في غيبوبة، وكان جائعاً، فرأى السماء مفتوحة، وإذا بغطاء من قماش بالشكل الذي نراه في الرسم مربوط بأطرافه الأربعة، يهبط من السماء أمامه وعليه كل دواب الأرض وزحافاتها، وطيور السماء ومجنحاتها. وإذا به يسمع صوتاً يأمره: “قم يا بطرس اذبح وكل!”. فأجاب بطرس: “كلا، يا رب لأني لم آكل قط شيئاً دنساً أو نجساً”. فانتهره الصوت ثانية: “ما طهره الله لا تدنسه أنت!”. هذا المقطع يبرهن لنا أن بطرس بصفته رسولاً، مدعو لكي يتخطى اليهودية والطهارة والشرعية المحدودة، لكي ينفتح إلى الأمم. بالإيمان فقط يستطيع الله أن يطهر قلوب الأمم. إنها دعوة لبطرس لكسر ملزمة اليهودية والإنطلاق نحو المسكونة بأسرها “أفيض من روحي على كل البشر …” يقول الرب بلسان يوئيل النبي.
بكلمة، الأيقونة تمثل منظرين معاكسين: الأرض الجديدة التي تمثل الكون المثالي المشتعل بالنار الإلهية، والملك الشيخ المحبوس في ظلمته، وإن تحلّى بمجد هذا العالم، فإنه يطمح إلى النور الذي فوقه ويتوق إلى المطر المنهمر من السماء بألسنة نارية، غيث محي، منير، مفيض للنعم، مؤله في النهاية.
طروبارية عيد العنصرة
نهار العنصرة، ينشد المؤمنين الترتيلة التالية:
“مبارك أنت أيها المسيح إلهنا يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة، إذ سكبت عليهم الروح القدس. وبهم المسكونة اقتنصت يا محب البشر المجد لك”
الأيقونة تبرز هذه العناصر الثلاثة: الرسول الصياد، المسكونة الممثلة بالشيخ المتوج، والروح القدس بشكل الألسنة النارية. المعلوم أن أغلبية التلاميذ كانوا يلقون الشباك في بحيرة طبريا في الجليل، حيث دعاهم يسوع. وأما السيد فأراد أن يجعلهم صيادي بشر، لماذا اختار تلك الصورة لرسله؟ في الواقع يتحلى الصياد أينما كان بشخصية مميزة. الصيد هاجسه ولايقف أمام صعوبة من أجل تحقيقه، يستيقظ مع الفجر ويسهر الليالي ليصطاد سمكة. وكأن بالسيد أراد لتلاميذه هذه النفسية الشجاعة المثابرة المهتمة بانتشال البشر من لجة الخطيئة إلى الحياة الأبدية، بحيوية، وصبر، ومواظبة. والصياد عادة من عامة الشعب: لاعلم ولاثقافة! ولكن حكمة فطرية غريزية.
وهنا تبرز المفارقة، فالصياد بفعل الروح القدس يصبح غزير الحكمة والمعرفة. ولكي نفهم فعل الروح القدس في الإنسان لنقارن بين شخصية بطرس قبل العنصرة وبعدها! بطرس كان يخاف، يتردد، يهرب من الخطر، يشك، ينكر، يتسرع، أراد أن يستقر في برهة الأبدية يوم التجلي، أما بعد العنصرة فيبرز كرجل قوي، واثق من نفسه شديد البلاغة والمنطق، يستنجد بالكتب وبالراهين، يشفي المرضى، يقيم غزاله من الموت في لدة (أعمال 36:9-43) أدت به شجاعته إلى الشهادة! الشهادة من أجل المسيح الذي أنكره…
تقول الطروبارية: “إذ سكبت عليهم الروح القدس”. والانسكاب يعني أن ينصب سائل من وعاء فيملأه ويأخذ شكله. وهنا تبرز فكرة الماء في فهم الروح القدس الذي هو فيض كما شرح يسوع للمرأة السامرية. نرى في الأيقونة الألسنة وكأنها تمطر على التلاميذ، والمسيح استعمل كلمة “ينابيع”. والروح القدس ينبثق من الآب والانبثاق يعطي فكرة تدفق الماء الذي يزيل سده ليفيض بغزارة. في الروح القدس نلمح صورة تفجر. الروح القدس كرم وسخاء، عطاء بلا حساب، يملأ الكل، ينسكب على التلاميذ معزيّاً ثانياً، لأن المعزي الأول وهو المسيح كان قد فارقهم، عند الفراق نقدر قوة المحبة! المسيح أعلن أنه “الطريق والحق والحياة”. أما الروح الذي يغمرهم الآن فهو روح الحق، ولكنه يهُبُّ حيث يشاء، لايصمم لنفسه منهجاً ولايخطط! لا يعرف للاعتدال معنى، ولئن ينتظم مع الآب والأبن، فيبث الحياة حيث يمر، من حرارته، انتقل العالم من العدم إلى الوجود! إنه صاحب المعجزات، منطق البشر المحدود لايستطيع أن يسعه: يظلل عذراء، فتلد ابناً، ينسكب على التلاميذ فتولد الكنيسة، أينما يحلّ يحول الحجر إلى لحم. يفتح الأذهان فتفهم الكتب، يكسر قالب الناموس، فيسجل ناموساً آخر في قلوب البشر، يسجل كلمتين هما محبة وعطاء. لايطلب إلا الإنفتاح، إنفتاح القلب، فينحدر بقوة وسخاء، ويزلزل الكائن بأعماقه. وأما عطاؤه فليس له حدود، إنه رمز للأبدية إنه الماء والنار إذا اجتمعا! فيض الماء مصطحب بحرارة النار. إنه اجتماع الماء بالنار إذا استطعت أن تتخيلهما معاً شرط ألا يطفئ الأول الثانية! لايعرف حدود الزمان والمكان، به يزول الماضي والحاضر والمستقبل ليصبح في حاضرية الأزلية “كان دائماً وكائن وسيكون”. تنشد الكنيسة يوم العنصرة. الروح القدس يبعث الحياة الأبدية، فهو الذي يؤله الإنسان ويجعله مشابهاً لسيده، هو الذي يجعل الكلمة التي أعطاها الله الآب بابنه الوحيد فعّالة فينا. يعطي المواهب، ويوزع الطاقات لتقوي شخصية كل فرد، فتتحد فيما بعد بسائر أفراد الكنيسة مكوّنة جسد المسيح الكوني. بفضله يستوعب الثالوث لأنه مصدر الإلهام…
يتكلم المسيح عن خطيئة ضد الروح القس. وليست هذه الخطيئة إلا الإنغلاق الداخلي أمام فيض الروح! إنها الخطيئة التي لاتغتفر، خطيئة الفريسيين الذين يريدون حصر عطاء الروح في جمودية الناموس! يريدون أن يحصروا العطاء السخي في أحرف، ومجتمع مغلق، محدود في شريعة. الشريعة مرحلة أرادوها دائمة فرفضوا الإنفتاح أمام هبوب عاصفة الروح!
هدف المسيحي من العيد
أمام هذا الفيض والسخاء أيبقى الإنسان مكتوف الأيدي، يتقبل العطاء فقط؟ طبعاً هناك عملية أخرى من قبل المؤمن. يقول القدّيس سرافيم سروفسكي: “هدف المسيحي اكتساب الروح القدس”. لم يقل نيل الروح القدس أو أخذه بل اكتسابه. والإكتساب يفرض تعباً وشقاء واجتهاداً مستمراً. الروح ينسكب والإنسان يحصّل ما يستطيع بتطهير النفس من الخطيئة والأنسلاخ المستمر عن الأهواء الدنيوية، والمسيرة عبر البوادي وراء المصلوب مستنيرين بنور وجهه فقط. فموقف المسيحي، عندما تنكب عليه نعمة الحياة الإلهية، ينبغي أن يكون يقظاً ويغتنم الفرصة لاكتسابها بعمق وغزارة.
No Result
View All Result
Discussion about this post