القديس اغسطينوس
أولا: المسيح ليس ببعلزبول رئيس الشياطين :
نطق السيد المسيح بالكلمات السابقة ليكشف لهم باعترافهم، أنهم قد اختاروا الانتماء إلى مملكة الشيطان بعدم إيمانهم به. فإن كان الشيطان لا ينقسم على ذاته، يكون حديثهم عن السيد المسيح أنه ببعلزبول يخرج الشياطين خاطئا. وإن كان ممكنا أن ينقسم الشيطان على ذاته فالأولى بهم أن ينفصلوا على مملكته لأنها لن تثبت.
وحتى لا يحسب الفريسيون أن يسوع المسيح برئيس الشياطين يخرج الشياطين، عليهم أن ينصتوا إلى قوله “فَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذَلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ” (لو11: 19). لقد قصد بـ”أبنائهم” تلاميذه هؤلاء الذين هم من أبناء هذا الشعب. فمن الثابت تمامًا أنهم لم يتلقنوا أي فن من الفنون الشيطانية من سيدهم الصالح، حتى يتمكنوا به التسلط على الشياطين، لذلك هو قال لهم “هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ”(لو11: 19)
إنهم أوفياء من أحقر الطبقات لا يعرفون الحقد إنما يتسمون ببساطة قوتي المقدسة إنهم شهود لي وقضاة عليكم
فبقوله “فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟” (مت 12: 27) يظهر لهم أنهم يفعلون ذلك بحسب نعمته وليس كاستحقاقهم… فقد قال
“أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟” (مت 12: 29) فأبناؤهم الذين آمنوا به أو سيؤمنون به، يخرجون الشياطين ببساطة القداسة وليس بقوة ببعلزبول. إنهم بلا شك كانوا أو مازالوا أشرارًا وخطاة مثلكم. فإذ هم في بيت الشيطان فهم آنية له، فكيف يستطيعون الخلاص منه ذاك الذي قد ربطهم بالظلمة وقد تسلط عليهم، ما لم قد ربطه الرب بسلاسل عدالته، وأخذ منه الآنية التي كانت للسخط وجعلها آنية للرحمة؟!
هذا هو ما قاله الرسول المبارك عندما زجر المتكبرين المعتمدين على برهم الذاتي قائلا “لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟” (1 كو 4: 7) أي من يغيرك من الهلاك الأبدي الموروث عن آدم، أو من يحولك عن كونك آنية للسخط؟!
فإذ لا يستطيع أحد أن يجيب بأنه يستطيع ببره أن يتغير عن كونه آنية للسخط، لذلك يضيف الرسول “وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟”(1 كو 4: 7)
يتحدث الرسول بولس عن تغييره من كونه آنية للسخط… قائلا : “وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً” (أف 2: 3) لقد كنت مضطهدًا للكنيسة، “كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِيا” (1تي 1: 13) كنت آنية في منزل ذلك القوي في الشر ولكن المسيح الذي ربط هذا الشيطان القوي أخذني كآنية الهلاك وجعلني آنية مختارة
ثانيًا: مملكة الشيطان لا الكنيسة منقسمة على ذاتها :
لا يظن غير المؤمنين والأشرار وأعداء الكنيسة، أن مملكة المسيح منقسمة على نفسها، بسبب وجود بعض الهرطقات والانشقاقات التي يسببها أولئك الذين يجمعون الخراف الضالة تحت اسم المسيحية.
لذلك أضاف رب المجد قائلا “مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ” (مت 12: 30)، فهو لم يقل “من ليس لهم مظهر الإيمان باسمي” أو “من ليس له صورة قداستي” بل “مَنْ لَيْسَ مَعِي”.
إنه لم يقل “من لا يجمع إلى الإيمان الظاهري باسمي”، لذلك فمملكة المسيح غير منقسمة على ذاتها، إنما يحاول البعض أن يقسم الكنيسة المشتراة بدم المسيح. “يَعْلَمُ الرَّبُّ الَّذِينَ هُمْ لَهُ. وَلْيَتَجَنَّبِ الإِثْمَ كُلُّ مَنْ يُسَمِّي اسْمَ الْمَسِيحِ” (2 تي 2: 19). فمن لا يتجنب الإثم لا ينتسب إلى المسيح ولو دعي اسم المسيح عليه. فينبغي ألا يخدع الإنسان نفسه لمجرد تسميته باسم المسيح.
لنعطي مثالاً يوضح انقسام مملكة الشيطان وهو أن روح الطمع وروح التبذير ينتميان إلى مملكة الشيطان، وهما منقسمان على نفسيهما، فالذي يطمع لا يجمع والذي يبذر يسرف ويفرق.
روح جونو و روح الإله هرقل ينتميان إلى مملكة الشيطان ومع ذلك فهما منقسمان على نفسيهما. الوثني واليهودي المعاديان للمسيح منتميان إلى مملكة الشيطان ومع ذلك فهما منقسمان على نفسيهما أريانوس وفونتنيانوس هرطوقان ومع ذلك فهما منقسمان على نفسيهما. كل أخطاء البشر وشرورهم مضادة بعضهما لبعض ومنقسمة على ذاتها ومع ذلك فجميعها ينتمي إلى مملكة الشيطان. أما الإنسان البار وغير البار، المؤمن وغير المؤمن، المنتمي للكنيسة الجامعة والهرطوقي، .. فمنقسمون على بعضهم البعض ولكن ليس جميعهم منتمين إلى مملكة المسيح… فلا يخدع الإنسان نفسه لمجرد تسميته باسم المسيح.
ثالثًا: هل يوجد إنسان لم يجدف على الروح القدس؟
ما هو مصير أولئك الذين ترغب الكنيسة في احتضانهم؟! هل يكون رجائهم باطلا… عندما يتجددون ويدخلون إلى الكنيسة تائبين عن كل خطاياهم على رجاء مغفرة هذه الخطايا جميعها…
لأنه مَن مِن الناس لم يخطيء بكلمة على الروح القدس قبل دخوله المسيحية أو قبل عضويته في الكنيسة الجامعة؟!
1- الوثنيون: أليس الوثنيون الذين يعبدون آلهة كثيرة باطلة، ويسجدون للأصنام، يقولون بأن الرب يسوع صنع معجزاته بقوة السحر، أي يقولون ما قاله البعض “بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ” (مت 9: 34) وإذ يجدفون على مقدساتنا يوميًا… ألا يكون ذلك تجديفا على الروح القدس؟!
2- اليهود : أليس بسبب كلام اليهود ثارت هذه المشكلة التي أعالجها؟ أليسوا إلى اليوم ينطقون بكلمة على الروح القدس، وذلك بإنكارهم حلوله في المسيح…؟!
لقد أنكر الصديقيون وجود الروح القدس، أما الفريسيون فلم ينكروا وجوده، لكنهم أنكروا علاقته بالرب يسوع المسيح، إذ حسبوا الرب بأنه “بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ” (مت 9: 34) مع أنه أخرجها بالروح القدس.
3- الهراطقة : إن كل اليهود والهراطقة الذين يعترفون بوجود الروح القدس، لكنهم ينكرون علاقته بجسد المسيح أي بكنيسته الواحدة الوحيدة الجامعة هؤلاء يشبهون الفريسيين الذين رغم اعترافهم بوجود الروح القدس إلا أنهم أنكروا علاقتهم بالسيد المسيح، ناسبين إخراج الشياطين إلى كونه رئيس الشياطين.
هنا لا أتكلم عن الهراطقة الذين إما أن يجسروا ويقولوا بأن الروح القدس مخلوق لا خالق مثل الأريوسيين والمقدونيين أو أولئك الذين ينكرون وجوده تمامًا بانكارهم الثالوث الأقدس مثل سابيليوس وأتباع فونتنيانوس…
النتيجة:
لقد اتضح مما سبق أن كلا من الوثنيين واليهود و الهراطقة جدفوا على الروح القدس، فهل يهمل هؤلاء كما لو كان لا رجاء لهم بحسب الآية “وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي”(مت 12: 32) هل لا يمكن أن يوجد إنسان لم يخطئ ضد الروح القدس بكلمة غير الإنسان المسيحي الذي نشأ منذ طفولته في الكنيسة الجامعة؟!
حقا إن كل الذين آمنوا بكلمة الله وصاروا تابعين للكنيسة الجامعة، سواء كانوا وثنيين أو يهودًا أو هراطقة، نالوا نعمة المسيح وسلامه.
فإن لم يكونوا قد نالوا غفرانا على ما تفوهوا به على الروح القدس، فيصير وعدنا لهم وتبشيرنا بالرجوع إلى الله لينالوا السلام والمغفرة باطلا…
لأن الآية لم تقل “لا يغفر له إلا بالمعمودية” بل ” فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي”(مت 12: 32) (أي لا رجاء له بالمرة).
4- المسيحيون قد يظن البعض أنه لا يخطيء إلى الروح القدس غير الذين اغتسلوا في جرن الولادة الجديدة، فخطيتهم هذه تحدث بجحدهم لتلك العطية العظمى التي وهبهم المخلص إياها، فيلقون بأنفسهم- بعد نوالهم العطية- في الخطايا المهلكة كالزنا والقتل والارتداد عن المسيحية أو الانشقاق عن الكنيسة الجامعة…
لكن كيف يمكننا البرهنة على صحة هذا القول؟! إنني لا أستطيع البرهنة على صدق هذا القول، لأن الكنيسة لن ترفض قط التوبة على أي خطية مهما كانت هذه الخطية.
والرسول بولس يقول بأنه يمكن توبيخ الهراطقة (أي المسيحيين الذين أخطأوا) لأجل توبتهم، فيقول “عَسَى انْ يُعْطِيَهُمُ اللهُ تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ ابْلِيسَ اذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ” (2 تي 2: 25، 26) فما فائدة اصلاحهم لو لم يكن لهم رجاء في نوال الغفران؟!
كذلك لم يقل الرب “الإنسان المسيحي الذي اعتمد، الذي يقول كلمة على الروح القدس” بل قال “مَنْ قَالَ كَلِمَةً …” (مت 12: 32) أي كل من قال هذه الكلمة سواء أكان وثنيًا أو يهوديًا أو مسيحيًا أو هرطوقيًا بين اليهودية والمسيحية… علاوة على ذلك،
فكما رأينا أن كل خطية ضد الحق ومعادية للسلام المسيحي تحسب “كلمة على الروح القدس”، ومع هذا فالكنيسة لم تكف عن نداء مرتكبيها لنوال الغفران!!!
أظن أنني قد اكتشفت سرًا عظيمًا يفسر هذه الآية ……
فلنصل إلى الرب ليعطينا نورًا يوضحه به لنا ……
رابعًا: هل يقصد “بالتجديف” هنا المعنى العام لها أم الخاص؟
إخوتي… أنصتوا إليﱠ بآذانكم. أما قلوبكم فارفعوها إلى الرب. أحبائي… إنني أخبركم بأنه ربما لا يوجد في الكتاب المقدس سؤال أهم وأصعب من هذا السؤال…
لذلك كنت أتجنب الحديث عنه أثناء عظاتي للشعب… ليس بسبب عدم تفكيري فيه إذ أنني لم أهمل السؤال والطلب والقرع من أجل موضوع على جانب كبير من الأهمية كهذا الموضوع…
وإذ استمعت إلى فصل إنجيل اليوم… أحسست بنبضات قلبي ترتفع أثناء قراءته، حتى اعتقدت أن إرادة الله هي أن تسمعوا مني شيئا عن هذا الموضوع.
أطلب إليكم أن تنظروا إلى قول الرب… فإنه لم يقل ” لا يغفر أي تجديف على الروح القدس” ولا قال ” من يقول أي كلمة”،
بل قال “مَنْ قَالَ كَلِمَةً …” (مت 12: 32) فلو ذكرت كلمة “أي” لما أمكن للكنيسة أن تحتضن أي إنسان خاطيء أو شرير أو مقاوم لعطية المسيح ولمقدسات الكنيسة، سواء أكان هذا الإنسان يهوديًا أو أمميًا أو وثنيًا أو مهرطقا…
بل ولما أمكنها تحتضن حتى الضعفاء من المسيحيين الذين ينتمون للكنيسة الجامعة نفسها. وحاشا أن يكون قصد الرب هكذا. أقول حاشا أن يقول الرب “كل أو أي تجديف وكلمة على الروح القدس ليس لها غفران”.
فلو أخذنا النص بمعنى أن “كل” كلمة ليس لها غفران فمن يستطيع أن يخلص؟! وفي نفس الوقت لو قلنا أن بأن كل كلمة على الروح القدس ليس لها غفران إلى الأبد لكنا مناقضين لأقوال المخلص.
إذاً بلا شك توجد تجديفات وكلمات معينة لو قيلت على الروح القدس لا يكون لها غفران. ولكن ما هي هذه الكلمة التي بلا غفران؟ هذه هي إرادة الله أن نسأل السؤال السابق دون أن يوضحه لنا، إرادته أن نسأل لا أن نعترض على كلماته …
ملحوظة :
غالبًا ما يستخدم الكتاب هذه الطريقة وهي أن يعبر عن أمر معين بدون تحديد، إن كان يقصد به المعنى العام أو المعنى الخاص وعندئذ لا توجد ضرورة لأخذه بالمعنى العام أو الخاص. فهو لم يستخدم كلمة “كل” للتعميم أو “بعض” للتخصيص… أي لم يذكرها لا في صيغة عامة ولا في صيغة خاصة.
أمثلة :
1ـ حتى يظهر لكم ذلك بأكثر بوضوح تأملوا قول الرب نفسه عن اليهود “لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ” (يو 15: 22). فهنا لم يحدد أي معنى- هل المعنى العام أم الخاص، فيبدو كأنه يقصد بأن اليهود ما كان عليهم أي خطية لو لم يكن المسيح قد جاء وتكلم معهم. مع إنه بالحقيقة قد جاء فوجدهم مثقلين بالخطايا … فكيف لم تكن لهم خطية لو لم يكن المسيح قد جاء؟!… إنه لم يقل “أي خطية” لئلا يكذب الحق، ولا قال بصيغة خاصة “بعض الخطايا” حتى يدربنا على الشغف بورع نحو البحث.
لأن الكتاب المقدس غني بالأجزاء الواضحة التي نتغذى بها وبالأجزاء الغامضة التي نتدرب بها. فبالأجزاء الأولى يُطرد الجوع وأما بالثانية فنحصل على اللذة.
فبقول المسيح هذا… لابد أن يكونوا اليهود قد ارتكبوا خطايا معينة لم يرتكبوها قبل مجيئه… وهي “عدم الإيمان به”… فبقوله “لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ” (يو 15: 22) لا نفهمها على أنه لم تكن لهم أي خطية بل “لم تكن لهم خطايا معينة. كذلك عندما نسمع فصل إنجيل اليوم “التَّجْدِيفُ عَلَى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ” (مت 12: 31) لا نفهمه على أنه “أي تجديف” بل أنواع معينة من التجديف…
2ـ وإذ قيل الله “لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً” (يع 1: 13) فلا يفهم أن الله لا يجرب أحدًا بأي نوع من التجارب، إنما لا يجربه بتجارب معينة، لئلا يكون باطلا المكتوب“الرَّبَّ إِلهَكُمْ يَمْتَحِنُكُمْ (يجربكم)” (تث 13: 3)… فالله لا يجربنا بالتجربة التي تقود إللى الخطية، لكنه يهبنا أن نُجرب بالتجربة التي تمتحن إيماننا. هكذا عندما نسمع “مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ” (مر 3: 28) لا نفهمها على “من جدف بأي تجديف” إنما “من جدف بتجديف معين”.
3ـ هكذا أيضًا عندما نسمع “مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ” (مر 16: 16) فبالطبع لا نفهمها على أنه يقصد كل من يؤمن، مهما كان إيمانه فـ “الشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ” (يع 2: 19) كما لا نفهمها على جميع الذين اعتمدوا، فسيمون الساحر رغم قبوله المعمودية إلا أنه لم يكن من السهل أن يخلص… فقوله “مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ” (مر 16: 16) لم يقصد به جميع الذين آمنوا واعتمدوا إنما بعضهم، هؤلاء الراسخون في ذلك الإيمان الذي وضحه الرسول بولس بأنه “الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ” (غلا 5: 6).
4ـ كذلك قول السيد المسيح “مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ” (يو 6: 56) هل يمكن أن يقصد به كل من يأكله يشربه حتى أولئك الذين قال عنهم الرسول “يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ” (1 كو 11: 29) ؟!
لقد أوضح لوقا الإنجيلي أن يهوذا أكل وشرب مع بقية التلاميذ في العشاء الرباني الأول من جسد الرب ودمه اللذين قدسهما بيده، ومع ذلك هل ثبت يهوذا فيه وهو في يهوذا؟!
هل يثبت في المسيح من يتناول ذلك الجسد ويشرب ذلك الدم بِرِِياء؟! أو من يرتد عن الإيمان المسيحي بعد تناوله؟!
فكما أنه ليس كل من يأكل جسد الرب ويشرب دمه – بأي طريقة ما- يثبت في المسيح والمسيح يثبت فيه، إنما يقصد الرب أن يتم التناول بطريقة معينة، هكذا في قوله “مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ” (مر 3: 28) قصد من جدف بطريقة معينة…
فالله يريد منا أن نبحث ونفهم هذه العبارة …..
خامسًا: ما هو المعنى الخاص الذي قصده الرب بـ “التجديف على الروح”؟
الروح القدس واهب الشركة والمحبة
أحبائي… إنكم تعلمون أن في سر الثالوث غير المنظور… هذا الذي يعتمد عليه إيماننا، وتعتمد عليه الكنيسة الجامعة وتبشر به، أن الآب ليس أبًا للروح القدس بل للابن، والابن ليس ابنًا للروح القدس بل للآب أما الروح القدس فليس روح الآب وحده، ولا روح الابن وحده، بل هو روح الآب والابن (منبثق من الآب، ومستقر في الابن) لقد سُلمت لنا فكرة العلة في الآب، والبنوة في الابن، والشركة في الروح القدس، والمساواة في الثلاثة.
وبذلك صارت مسرة الله أن ننال بواسطة من هو رابطة الوحدة بين أقنومي الآب والابن، (أي الروح القدس) ننال بواسطته الشركة مع بعضنا البعض، والشركة مع الثالوث الأقدس…
فبنفس العطية نجتمع جميعًا في وحدانية… ننالها بواسطة الروح القدس الذي هو الله وفي نفس الوقت العطية هي “عَطِيَّةُ اللهِ” (أف 2:8) . بالروح القدس تصالحنا مع الله وصار لنا ابتهاج فيه. لأننا ماذا ننتفع بمعرفتنا لأي صالح (الله) ما لم نحبه؟ “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رو 5: 5) وبالرغم من بالخطية صرنا غرباء عن امتلاك الصلاح الحقيقي، لكن المحبة (المعطاة لنا بالروح القدس) ” تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا “ (1 بط 4: 8) وبذلك لم نعد غرباء.
الروح القدس واهب الغفران في المعمودية والتوبة
إن الحياة الأبدية التي ستوهب لنا، تعطى من صلاح الله منذ بداية الإيمان بمغفرة خطايانا. ففي بقاء الخطية بقاء للعداوة لله والغربة عنه…
لذلك لم يقل الكتاب باطلا” آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ “ (إش 59: 2) فهو لن يهبنا ما هو صالح ما لم نطرد شرورنا. فكلما نقص الشر ازداد الصلاح ولا يكمل أحدهما إلا بانتهاء الآخر. ويسوع يغفر الخطايا (كما يخرج الشياطين) بالروح القدس، ويظهر ذلك من قوله لتلاميذه بعد القيامة “أقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ” (يو 20: 22، 23).
وهذه الولادة أيضًا التي ننال فيها غفران الخطايا (بالمعمودية) تتم بواسطة الروح القدس فكما يقول الرب “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ” (يو 3: 5). غير أن الولادة من الروح تختلف عن الانتعاش به، وذلك كما في الولادة الجسدية، فهي تحدث بولادة الأم للطفل.
وهذا يختلف عن نموه بواسطة رضاعته وشربه بسرور من الجسد الذي ولد منه ليجد حياة. فهو ينال دعائم حياته من نفس الجسد الذي نال منه بدايته.
فعطية الله الأولى في الروح القدس هي “مَغْفِرَةِ الْخَطَايَا” (لو 24 : 46)، وهذا ما بدأت به بشارة يوحنا المعمدان السابق للرب…
قائلا “تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ” (مت 3: 2)، وهو نفس ما بدأ به ربنا بشارته (مت 4: 17)… ومن بين الأمور التي تحدث بها يوحنا المعمدان إلى الذين جاءوا ليعتمدوا منه قوله
“أنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ” (مت 3: 11).
وقال الرب أيضا “لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِير” (أع 1: 5)… فالنار رغم إمكان فهمها على أنها الضيقات التي يتحملها المؤمنون من أجل المسيح، إلا أنه من المعقول أن يقصد بها هنا الروح القدس نفسه.
لذلك عندما حل الروح القدس قيل “وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ” (أع 2: 3).
وقال الرب نفسه “جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراًعَلَى الأرضِ” (لو 12: 49)، ويقول الرسول “حَارِّينَ فِي الرُّوحِ” (رو 12: 11) لأن من الروح القدس (النار) تأتي غيرة (حرارة) الحب
“لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رو 5: 5) وعلى العكس قال الرب “وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ” (مت 24: 12).
إذن الحب الكامل هو عطية الروح (النار) الكاملة. ولكن عطيته الأولى هي غفران الخطية التي بها “انْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ” (كو 1: 13)، ومن “رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ” (يو 12: 31) “الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ” (أف 2: 2)… فبالروح القدس الذي يجمع شعب الله في واحد يُطرد الروح الشرير المنقسم على ذاته.
الخلاصة
إذن القلب غير التائب ينطق بكلمة على الروح القدس ينطقها ضد هذه العطية المجانية وضد النعمة الإلهية. فعدم التوبة هو التجديف على الروح القدس الذي لن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي،
لأن فكر غير التائب ولسانه ينطقان بكلمة شنيعة بالغة الشر ضد الروح واهب المغفرة بالمعمودية، هذا الذي قبلته الكنيسة لتغفر به الخطايا (في سر التوبة والاعتراف).“أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟. وَلَكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباًفِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَ اسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ. الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ.” (رو 2: 4- 6).
عدم التوبة هذا هو ما صرخ من أجله التلميذ والديان قائلين “تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ” (مت 3: 2؛ 4: 17)، والذي لأجله فتح الرب فاه مبشرًا بالإنجيل، ولأجله أيضًا أخبر بأنه سينادي بالإنجيل في كل أنحاء العالم،
إذ خاطب تلاميذه بعد القيامة قائلا “هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ مُبْتَدَأًمِنْ أُورُشَلِيمَ” (لو 24: 46 و 47). وفي كلمة واحدة نقول إن “عدم التوبة” هو الخطية التي لا غفران لها لا في هذا الدهر ولا في الآتي… لأن بالتوبة وحدها نحصل على الغفران في هذا العالم وبالتالي يكون لها آثارها في الدهر الآتي.
هل يمكننا أن نحكم على إنسان بأنه جدف على الروح؟
إن عدم التوبة أو القلب غير التائب أمر غير ثابت، طالما كان الإنسان حيًا في الجسد. لذلك ينبغي علينا ألا نيأس قط من إنسان، مادامت أناة الله تقود الشرير إلى التوبة،
مادام الله لم يأخذه سريعًا من هذا العالم “هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟” (حز 18: 3). قد يكون الإنسان وثنيًا اليوم، ولكن من أعلمك فقد يكون مسيحيًا في الغد؟!!
قد يكون مهرطقا اليوم، ولكن ماذا يكون أمره لو عاد في الغد إلى الحق الذي تنادي به الكنيسة الجامعة؟!! إنه منقسم على الكنيسة ولكنه قد يحتضن سلامها غدًا.
ماذا تكون أحوال هؤلاء جميعًا الذين تراهم اليوم يصنعون خطايا من أي نوع، فتذمهم على ضعفهم هذا كما لو كنت يائسًا منهم؟ ماذا يكون أمرهم لو أنهم تابوا قبيل نهاية حياتهم على الأرض ووجدوا الحياة الحقيقية التي ينبغي السير فيها؟!
لهذا فإني أترك الرسول يحثك أيها الأخ قائلا “لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ” (1 كو 4: 5). إنني أكرر قولي بأن هذا التجديف لا يمكن أن يثبت على إنسان ما، بأي حال من الأحوال، طالما كان موجودًا في هذه الحياة.
لماذا يغفر لمن يجدف على ابن الإنسان ولا يغفر لمن يجدف على الروح القدس؟
حقا إن جميع الخطايا والتجديف، وليس فقط ما يقال على ابن الإنسان، تغفر للبشر فطالما لا توجد خطية “عدم التوبة” تلك الخطية الموجهة ضد الروح القدس الذي بواسطته تغفر الكنيسة جميع الخطايا… فإنه يمكن أن تغفر خطاياه.
إن قول رب المجد “كُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَهُ” (لو 12: 10) لا يعني أن الروح القدس أعظم من الابن. فنحن لا نسمع قط عن هرطقة نادت بهذا إنما يقصد بقوله هذا أن من يقاوم الحق ويجدف عليه أي على المسيح، بعد إعلانه عن ذاته بين البشر، اذ “صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو 1: 14)…
ولم يقل كلمة على الروح القدس، أي ناب عن مقاومته للحق وتجديفه على المسيح فإن ما ارتكبه يغفر له.
لذلك يجب علينا ألا نظن كالبعض بأن “ما يقال على ابن الإنسان يغفر له، وأما ما يُقال عن الروح القدس فلن يغفر له” بسبب تجسد الابن، وبالتالي يكون الروح القدس أعظم منه في هذه الناحية…
فالروح القدس مساو للآب والابن الوحيد الجنس، في الجوهر بحسب لاهوته. لأنه لو كان الرب نطق بذلك بسبب تجسد الابن، لكان معنى هذا أنه لا تغفر له أي كلمة أو تجديف إلا ما يوجه ضد ابن الإنسان من حيث ناسوته.
لكن على نقيض هذا نجد أن الكتاب المقدس يقول “كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ” (مت 12: 31). “إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا” (مر 3: 28)… فهي تشمل التجديف على الآب (أي أنها تغفر) فهل يعني هذا أن الآب أخذ صورة العبد كالابن حتى صار الروح القدس أعظم منه في هذه الناحية، فيغفر التجديف الموجه ضد الآب دون التجديف الموجه الروح؟! بالتأكيد لا…
لكن قد يتساءل البعض: هل الروح القدس وحده دون الآب أو الابن يغفر الخطايا؟
أجيب على ذلك بالنفي. فإن كلا من الآب والابن يغفر الخطايا فالابن يقول عن الآب “فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ” (مت 6: 14)…
كما يقول عن نفسه “وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناًعَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا” (مت 9: 6) وعندئذ يتساءلون أيضًا: مادام الآب والابن والروح القدس… كل من هؤلاء الأقانيم يغفر الخطايا، فلماذا نعتبر “عدم التوبة” الخطية التي لا غفران لها بأنها تجديف موجه ضد الروح القدس وحده، ناظرين إلى مرتكب هذه الخطية على أنه يقاوم عطية الروح القدس الذي به ننال الغفران؟
لكل أقنوم من الأقانيم الإلهية الثلاثة عمله الخاص، ومع ذلك فيشترك الأقنومان الآخران في هذا العمل
بالرغم من أن المغفرة يقوم بها الثالوث إلا أنها تخص الروح القدس بوجه خاص، لأنه هو روح التبني الذي للأبناء “الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ!»”(رو 8: 15)، وبذلك نستطيع أن نقول “اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا” (مت 6: 12).
وكما يقول يوحنا الرسول “وبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّهُ (المسيح) يَثْبُتُ فِينَا: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَعْطَانَا”(1 يو 3: 24)، اَلرُّوحُ يَشْهَدُ “أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ” (يو 8: 16). فمن اختصاص الروح القدس الشركة، التي بها صرنا جسدًا واحدًا لابن الله الواحد الوحيد،
إذ مكتوب “فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ” (في 2: 1)… إنه روح الآب… وهو روح الابن.. فإلى الأقانيم الثلاثة ينسب إليه اختصاص الشركة إلا لذاك الروح الذي هو للآب والابن (منبثق من الآب مستقر في الابن) لذلك فالذين انفصلوا عن الكنيسة (أي ليس لهم شركة) هؤلاء ليس لهم هذا الروح.
ويوضح يهوذا الرسول ذلك بقوله “هَؤُلاَءِ هُمُ الْمُعْتَزِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، نَفْسَانِيُّونَ لاَ رُوحَ لَهُمْ” (يه 1: 19)، كما ينتهر الرسول بولس أولئك الذي يبثون الانشقاق في الكنيسة (أي المقاومين للشركة بين المؤمنين) رغم وجودهم بعد في الكنيسة…
فيقول “وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ” (1كو 2: 14) فهؤلاء إذ ليس لهم مكان في الكنيسة، لذلك يعتبرهم أطفالا، ليس بعد روحيين بل مازالوا جسديين (1 كو 3: 1-2)…
فيقول “فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَ انْشِقَاقٌ أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ الْبَشَرِ؟” (1 كو 2: 3)… فإذ هم لم ينفصلوا بعد عن الكنيسة لذلك دعاهم “أَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ”(1كو 3 : 1) ،
لأنه كان يرغب فيهم أن يكونوا ملائكة أو حتى آلهة- هؤلاء الذين انتهرهم لأنهم مازالوا بشرًا، أي لازالوا يهتمون بإرضاء الناس لا بإرضاء الله في جهادهم… فرغم وجودهم في الكنيسة،
إلا أنهم لازالوا طبيعيين جسديين، لا يستطيعون إدراك ما قد نالوه… فقد أخذوا الروح!!! لأنه كيف يمكن أن يدعوا “أَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ” (1كو 3 : 1) ما لم يكونوا قد ولدوا ولادة ثانية بالروح القدس(أي بالمعمودية)؟! فعلينا ألا نعجب من أن يمتلك إنسان شيئا لا يستطيع إدراكه…
أخيرًا لكي نفهم بأكثر تأكيد كيف أن هؤلاء الـ “أَطْفَالٍ فِي الْمَسِيحِ” (1كو 3 : 1) لا يقبلون ما لروح الله رغم أن لهم هذا الروح، فلننظر إلى كلمات الرسول بولس إذ يقول لهم بعد تبكيتهم على عدم قبولهم روح الله “أمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1 كو 3: 16).
ولكن لا يمكن القول عمن اختلط بقطيع المسيح مخالطة جسدانية، في خداع قلبي، إنهم في الكنيسة ومنتمون إلى شركة الروح… فكل من اعتمد في جماعات بل بالأحرى اعتمد عند المنفصلين عن الكنيسة أو الهراطقة،
فبالرغم من ولادتهم الثانية بالروح يكونون كما لو كانوا كاسماعيل ابن ابراهيم المولود حسب الجسد، وليس كاسحق المولود بالروح لأنه ابن الموعد. غير أنهم عادوا إلى الكنيسة الجامعة وارتبطوا بشركة الروح الذي لا يمكن لهم أن ينالوه خارج الكنيسة…
فغسل الجسد لا يتكرر في هذه الحالة. فقبل دخولهم الكنيسة الجامعة ينطبق عليهم قول الرسول “لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا”(2 تي 3: 5) لأنه يمكن للغصن أن يأخذ المظهر رغم كونه منفصلا عن الكرمة، ولكن لا يمكن أن تكون له الحياة ما لم يكن متصلا بالكرمة. هكذا المنفصلون عن وحدة جسد المسيح يمكن أن يكون لهم صورة التقوى بتقديسهم الجسدي، ولكن لا يمكن لهم بأي حكمة أن تكون لهم قوة الصلاح الروحية غير المنظورة.
ومادام الأمر هكذا، لذلك فإن مغفرة الخطايا لا تعطي إلا بالروح القدس، ولا توهب إلا داخل الكنيسة التي لها الروح القدس ….
سادسًا: الظروف التي نطق فيها السيد بهذه الكلمات :
نجد في إنجيل لوقا أن الرب كان يتحدث عن الذين يعترفون به أو ينكرونه أمام الناس، إذ يقول ” وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ النَّاسِ يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ.” (لو 12: 8-9).
وقد خشى الرب من أن ييأس بطرس (الذي سينكره) من خلاص نفسه، لذلك أردف للحال قائلا “وَكُلُّ مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ وَأَمَّا مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلاَ يُغْفَرُ لَهُ” (لو 12: 10)
قاصدًا بقوله “مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ” (لو 12: 10) أي لم يتب على خطيته مقاومًا غفران الخطية الذي يوهب في الكنيسة بواسطة الروح القدس. هذا التجديف الذي لم يرتكبه بطرس، لأنه تاب للحال عندما “بَكَى بُكَاءً مُرّاً” (مت 26: 75) منتصرًا بذلك على الروح المنقسم على ذاته الذي أراد أن يغربله (لو 22: 31)
والذي لأجله طلب الرب حتى لا يفنى إيمانه، فأخذ الروح القدس نفسه الذي لم يقاومه لأنه تاب وبذلك لم تغفر خطاياه فحسب، بل صار يبشر بغفران الخطايا ويمنحه
جاء في إنجيل مرقس “اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلَكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً” (مر 3: 28- 29)، مكملا “لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مَعَهُ رُوحاً نَجِساً” (مر 3: 30) بذلك يظهر سبب قول المسيح هذه الجملة وهو أنهم قالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين.
هذا لا يعنى أن قولهم هذا هو تجديف لا غفران له، لأنهم لو تابوا عن ذلك توبة صادقة فسيغفر لهم، إنما نطق بذلك ليعرفهم أن الروح الشرير منقسم على ذاته، أما الروح القدس فليس فقط غير منقسم على ذاته،
بل يجعل الذين يجمعهم غير منقسمين على ذواتهم، وذلك بغفرانه لخطاياهم المنقسمة على ذاتها، وبسكناه في المطهرين، كما هو مكتوب “وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ” (أع 4: 32)
لقد أوضح الرب ما أراد أن يفهمنا إياه من قوله بهذه الآية وهو أن من يتكلم على الروح القدس، أي بعدم توبته يقاوم وحدة الكنيسة التي فيها يعطي الروح القدس مغفرة الخطايا، فإنه لم يأخذ هذا الروح… رغم حمله مقدسات المسيح واستخدامه إياها، فهو منفصل عن كنيسته…
وحتى لا يظن أحد أن ملكوت المسيح منقسم على ذاته بسبب هؤلاء الذين يجتمعون تحت اسم المسيح في جماعات شاذة خارج الحظيرة لذلك أردف قائلا “مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ”(مت 12: 30)
فمن لا يجمع مع المسيح، مهما جمع تحت اسم المسيح لا يكون معه الروح القدس. وبهذا يجعلنا نفهم أن الغفران عن أي خطية أو تجديف بأي حال من الأحوال إلا باتحادنا معًا في المسيح الذي لا يفرق. ففي الروح القدس يحدث اتحادًا وتجمع، بعكس الروح النجس المنقسم على ذاته.
المصدر مدونة كتابات الاباء القديسين
Discussion about this post