حلول الروح القدس – في العهدين القديم و الجديد
العنصرة في العهد القديم
تدل لفظة “عنصرة” في التقويم العبري على العيد الذي كان اليهود يحتفلون به بعد الفصح بخمسين يوما. الاسم التقليدي هو “عيد الأسابيع” (لاويين 23: 15)، وهو في الواقع عيد حصاد القمح (خروج 23: 16؛ عدد 28: 26)، حيث كانت تقدَّم باكورة الغلات الى الله. بعد خراب اورشليم اتخذ العيد طابعا تاريخيا فلم يعد احتفالا بحدثٍ زراعي يحصل مرة في كل سنة، وانما احتفال بحدثٍ فريد وأساسي هو تذكار إعطاء الشريعة على جبل سيناء – لأن الشريعة أعطيت في الشهر الثالث من خروج بني اسرائيل من مصر (خروج 19)، الى ان اصبح معنى العيد، في القرن الثالث ق.م.، عيد تجديد العهد.
في العبرية القديمة والحديثة اللفظة “عَسَار”، منها “عَسَريت” التي جاءت منها لفظة “العنصرة”، تعني: اجتمع او جمع، وهي إشارة الى اجتماع الشعب في العيد. وتأتي بمعنى: منع او امتنع، لأن هذا اليوم مقدَّس ويُمنع العمل فيه. وقد تفيد: الختام والتنوع والتتميم، ولهذا التفسير معنيان: الاول زراعي ويشير الى ختم تقادم البواكير في عيد الاسابيع، والثاني تاريخي، خصوصا انه يتوج معنى الفصح الذي يبلغ تمامه بعطية التوراة.
الترجمة اليونانية للعهد القديم أطلقت على هذا العيد لفظة يفيد معناها اليوم “الخمسين”، باعتبار أن العيد يرتبط بتوقيته، كما ذكرنا، بالفصح (تثنية 16: 9). استعارت الكنيسة لفظة “العنصرة”، وأطلقتها على عيد حلول الروح القدس على الكنيسة الذي وقع في اليوم الخمسين من بعد قيامة الرب من بين الأموات.
كانت العنصرة عند العبرانيين إحدى الأعياد الثلاثة الكبرى التي كان الشعب يحج فيها إلى أورشليم:” ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره:
في عيد الفطير وفي عيد الأسابيع وفي عيد الأكواخ…” (تثنية الاشتراع 16: 16). وهذا العيد تطوَّر معناه عبر التاريخ، فكان في البدء عيدا زراعيا الانتهاء من الحصاد- اخذه العبرانيون عن جيرانهم. وكانت له تسميات عديدة:” عيد الأسابيع” (خروج 34: 22 وتثنية الاشتراع 16: 16)، “يوم البواكير” ” وفي يوم البواكير،عند تقريبكم تقدمة جديدة للرب، في عيد أسابيعكم…” (العدد 28: 26)، “عيد الخمسين” “Pentecote” وبعد العيد المعروف بعيد الخمسين…” (2مكابين 12: 32)، وهذه التسمية الاخيرة جاءت في الترجمة اليونانية للعهد القديم التي تعرف بالسبعينية.
اما كلمة “عنصرة” التي استعملها المسيحيون العرب فمشتقّة من” عَصْرَتْ ” العبرية، وتعني المحفل أو الاجتماع الذي كان يجري في عيد الأكواخ.
إذا كان هذا العيد في البدء عيدا زراعيا يأتي بعد خمسين يوما من عيد الفطير الذي كان العبرانيون يعيّدونه مع الفصح إلا أن هذا العيد أخذ معنى لاهوتيا جديدا في الفترة الأخيرة التي سبقت مجيء يسوع المسيح. فأصبح ذكرى إعطاء الشريعة الوصايا العشر- لموسى على جبل سيناء.
العنصرة في العهد الجديد – حلول الروح القدس
أما العنصرة في المسيحية فاخذت معناها منذ البدء ففي سفر أعمال الرسل: “ولما أتى اليوم الخمسون، كانوا مجتمعين كلهم في مكان واحد، فانطلق من السماء بغتة دويّ كريح عاصفة، فملأ جوانب البيت الذي كانوا فيه، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان، فامتلأوا جميعا من الروح القدس” (2: 1- 4). فالعنصرة في المسيحية هي عيد حلول الروح القدس الذي ” يُرسلُه الآب باسمي وهو يعلّمكم جميع الأشياء ويذكّركم جميع ما قلته لكم ” (يوحنا 14: 26).
فالعنصرة القديمة (عند اليهود) كانت عيد إعطاء الوصايا اي عيد شريعة الحرف، أما العنصرة المسيحية فهي إعطاء شريعة الروح:”….فقد حُللنا من الشريعة وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم” (رومية 7: 6).
يورد لوقا في بدء كتاب اعمال الرسل خبر ارتفاع الرب القائم إلى السموات، وذلك بعد أن أمضى مع تلاميذه أربعين يوما يُكلّمهم عن ملكوت الله. ويتابع فيشير الى أن جماعة التلاميذ انتظرت، حسب الوصية، طيلة الأيام العشرة المتبقية معمودية الروح وهي تصلي.
وفي اليوم الخمسين “يوم اكتمال سر المسيح”، يحدث في العلية ما كان التلاميذ ينتظرونه. يعبّر الكاتب عن الحدث باستعماله تعابير غريبة وانما معروفة في العهد القديم: “دويّ كريح عاصفة” (2:2)، “ألسنة كانها من نار قد انقسمت…” (2: 3)، “الصوت” (2: 6). لا شكّ أن هذه الصور تذكّر القارئ بحدث سيناء حيث كان صوت الله يخرج قديما، فيشير الكاتب بإيرادها الى اننا امام سيناء جديد، وأن هذا الشعب الذي اجتمع كله معا “في مكان واحد”، كما كان بنو اسرائيل على سفح الجبل، سيخرج منه صوت الله إلى العالم. هذه العلامات الدالة على عالم الله تعلن أن الشخص الذي وعدهم يسوع به ودعاهم إلى انتظاره في أورشليم (لوقا 24: 49؛ اعمال 1: 4) قد جاء، وها هو يملأ الجميع (2: 4). وفي ما تكلم لوقا عن ظواهر محسوسة للحدث الذي لا يوصف أشار إلى أن المجتمعين “ابتدأوا يتكلّمون بألسنةٍ أخرى”.
التكلمُ بالألسنة موهبةٌ شاعت في الكنيسة الأولى (اعمال 10: 46، 19: 6). الرسول بولس تَوسَّع في الحديث عنها ما بين الإصحاحين 12 و14 من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، فشدّد على تنوّع المواهب التي يعطيها الروح الواحد “لأجل الخير العام”. غير انه في كل مرة كان يعدّد المواهب، كان يضع موهبة التكلم بالألسنة في آخر القائمة (راجع 12: 10، 14: 26)، وذلك لأن هذه الموهبة تحتاج الى موهبة أخرى لتكون بنّاءة في الكنيسة هي موهبة “تفسير الألسن”، لأن الذي يتكلم بألسنة “يقول بروحه أشياء خفية” ولا يعمل للبناء إن لم يوجد مَنْ يترجمه.
يستوقفنا، في عودتنا الى حدث العنصرة، سؤال أساس هو :هل إن ما أورده لوقا، في اعمال 2:4، هو اياه ما تكلم بولس عنه في رسالته الاولى الى كورنثوس، أم اننا، في العنصرة، امام معجزة خاصة يفسرها فهم السامعين؟ لا شك أن حدث العنصرة أعطى الكنيسةَ الموهبةَ الكاملةَ (موهبة الروح القدس)، وانطلاقا منه يمكننا أن نقدّر أن المعجزة التي برزت في ذلك اليوم، أِْعني موهبة التكلم بالبشرى الجديدة، تختلف عن موهبة “التكلم بالألسنة” التي تحتاج الى “تفسير” التي تكلم عنها بولس، وذلك أن الناس الذين خاطبهم الرسل في العنصرة: فهموا مباشرة (2: 11) بلا تفسير من أحد. بيد أن الحدث – وهذا من أهم معانيه – يوحي بأن العنصرة عالجت بلبلة الألسنة في بابل وتشتّت الأمم (تكوين 11: 1-9)، فبينما مُنِعَ الناس في بابل، بسبب كبريائهم، من التفاهم، وما كان الواحد يستطيع أن يسمع صوت قريبه، أعطت العنصرة كل واحد أن يسمع الرسل “في لغته الخاصة” (2: 6)، وذلك أن الروح الإلهي أعاد وحدة البشرية التي تفكّكت قديما، وهذا ما تشير اليه احدى ترانيم العيد: “عندما انحدر العليُّ مبلبلا الألسنة كان للأمم مُقسما، ولما وزّع الألسنة النارية دعا الكل الى اتحاد واحد…”. من المفيد أن نذكر أن القديس يوحنا الذهبي الفم اعتبر أن موهبة التكلم بالألسنة – دون أن يعطي تفسيراً لها – وُضعت “بتصرفنا لفترة ما” (راجع: 1كورنثوس:13: 8)، وفي ما يؤكد أن هذه الموهبة “يمكنها أن تَحتبس من دون إلحاق اي ضرر بالكرازة”، يشهد بأننا “اليوم- اي، في انطاكية، في اواخر القرن الرابع – لا نقع على أثر لموهبة… الألسنة” (راجع: في أن الله لا يمكن إدراكه، العظة الاولى).
كانت النظرة اليهودية تقول إن عدد شعوب الأرض سبعون نوعا، الشعوب المسمّاة في كتاب أعمال الرسل (2: 9-11) إنها حضرت المعجزة تدل بطريقة ما على البعد الشامل والتاريخي لحدث العنصرة، فالناس كلهم هنا يشهدون لمجيء الروح ويسمعون كلمة الله. المعنى الجوهري للعنصرة يجعل الكنيسة مسؤولة عن خلاص العالم كله مما يفرض عليها جهدا رسوليا متواصلا، لذلك ما كانت دعوتها أن تبقى في اورشليم، وإنما أن تكرز بإنجيل القائم من بين الأموات ابتداء من أورشليم وإلى أقاصي الأرض (اعمال 1: 8)، وهذا تستطيعه دائما إن بقيت مملوكة الروح القادر على شيء.
العنصرة هي تحقيق وعود الله، إعطاء الروح القدس الى البشرية:
1- ليسيروا في فرائض الرب، وليصبح كل انسان نبيا يتكلم بكلمة الرب:” وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسيرون على فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها” (حزقيال 36: 27)، “وسيكون بعد هذه اني افيض روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم…..” (يوئيل 3: 1).
2- لتوحيد جميع الأمم في عبادة الله: “…فينادون بمجدي بين الأمم ويأتون بجميع أخوتكم من جميع الأمم تقدمة للرب….” (اشعيا 66: 19 – 20)، وهذا ما فعله الرسل بعد العنصرة فبدأوا يجوبون المسكونة معلنين البشارة إلى كل الأمم، عاملين بقول السيد قبل صعوده الى السماء:
” الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوة وتكونون لي شهودا في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الأرض” (اعمال الرسل 1: 8).
فالعنصرة عيد تأسيس الكنيسة. فالمسيح اسسها على الصليب، والروح القدس جمعها ووحّدها، وهو يربط بينها وبين المسيح. فالروح القدس هو فيض النعمة على المؤمنين ليقوم كل واحد منهم بالمهمة التي أعطيت له لبنيان جسد المسيح:” هذا كله يعمله الروح الواحد نفسه موزعا على كل واحد ما يوافقه كما يشاء” (1 كورنثوس 12:11).
العنصرة – ميلاد الكنيسة
ليست العنصرة حدثا تاريخيا حدث مرة في الزمن وانتهى. بل هي تجدد دائم، لأن عمل الروح القدس كان منذ بدء الخليقة وهو سيبقى إلى انتهاء الدهر. وتجلى عمل الروح في الكنيسة التي بقيت صامدة بالرغم من كل الاضطهادات والهرطقات التي حلت بها، فالروح في وسطها ولهذا في لن تتزعزع ابداً.
عيد العنصرة هو عيد “موهبة الروح المعطاة للكنيسة باعتبارها العطية الخالدة” التي نجدد قبولنا اياها في اليوم الخمسين للفصح، وفي كل يوم، ليعمق وعينا لحضور الرب القائم بيننا وفينا الى الابد ولمسؤوليتنا عن إعلان هذا الحضور المخلّص.
حلّ الروح القدس على التلاميذ جهارًا بصوت مسموع ومنظر أخاذ، ودخل وملأ الطبيعة البشرية فجدد خلقتها وقواها ورفع من مستواها الروحي بشكل عملي إعجازي فائق، أدهش الذين عاينوا حوادث ذلك اليوم العظيم الخالد….
في يوم الخمسين حدث فعل خلقي جديد في طبيعة الإنسان، ظهرت مفاعيله في سلوك التلاميذ وفي إمكانياتهم وفي لغتهم وفي مفهوماتهم وفي علمهم الأمر الذي حيّر رؤساء الكهنة والحكام، ولكن لم يقتصر هذا التغيير المفاجئ الشديد على التلاميذ، بل المدهش حقًا أنه انتقل إلى كل من آمن واعتمد و َقبِل وضع اليد، حتى فهم جيدًا أن حلول الروح القدس على التلاميذ كان عم ً لا تكميليًا لأعمال الخليقة الأولى . لذلك نرى أن يوم الخمسين أصبح مرتبطًا باليوم السادس من سفر التكوين ارتباطًا جوهريًا من حيث خلقة الإنسان . فالعنصرة من هذا الوجه ميلاد جديد للتلاميذ في طبيعة جديدة خلقها المسيح من جسده بموته وقيامته وعمل الروح القدس.
وحينما نتأمل في الوضع الذي كمل فيه هذا العمل الخلقي الجديد نندهش إذ نجد أنه لم يتم بصورة فردية كخلقة آدم الأول، بل كان التلاميذ مجتمعين معًا “مع النساء ومريم أم يسوع ” في حالة خشوع وصلاة، إذن فطبيعة الإنسان استقبلت خلقتها الروحية الجديدة على صورة كنيسة!!!
هذا معناه أن ميلاد الإنسان الجديد محصور في ميلاد الكنيسة، وطبيعة الإنسان الجديدة لا بدّ وأن تشمل في صميم جوهرها ارتباطًا حيًا وصلة وثيقة بالكنيسة… لا توجد فردية في الخليقة الجديدة!!
نحن نأخذ طبيعة الإنسان الجديد من الكنيسة، وليس يمكن لأحد أن يولد من الماء والروح ويصير خليقة جديدة في المسيح يسوع خارج الكنيسة.
العنصرة إذن عيد الكنيسة، هو ذكرى ميلادها…
العنصرة عيد الحياة بالروح للذين يعيشون حقًا في المسيح.
Discussion about this post