العنصرة – الأب بولس فغالي
العنصرة:
العنصرة أو ولادة شعب جديد في التقليد السرياني إذا كان كل شيء قد تمّ في المسيح، وإذا كان التاريخ البشري قد استعيد فيه، إلاّ أن العمل ما زال هنا في مدى زمني لبشريّة يجب أن تتحرّر لكي تصبح قيامةُ المسيح قيامتَها.
لقد قدّم لنا المسيح ملء حياة الله، ولكنّه لم يفرضها علينا. فيبقى إذن أن يأخذ كل إنسان هذه الحياة التي تتفجّر من القبر، بقرار حرّ. هنا يتحدّد موقع العنصرة التي ينظر إليها التقليد السرياني نظرة خاصة جدًا، وإن ربطها رباطًا حميمًا بسر الفصح. وهذا الارتباط لا يقلّل من قيمة العنصرة ولا من دورها. بل عكس ذلك. فنحن هنا في منعطف جديد وحازم يطبع بطابعه العميق تاريخ الكون وخلاصه. إنه نقطة انطلاق في حقبة يدخل فيها البشر دخولاً حرًا، بواسطة نشاط الروح الذي يفاض عليهم، في المسيح القائم من الموت، ليكوّنوا معه جسدًا واحدًا.
إن هذه الطريقة في النظر إلى العنصرة لم تكن في البدء واضحة في تفكير المسيحية الأولى وتعابيرها. ونشير على المستوى التاريخيّ وإن بشكل عاجل، إلى أن لفظة عنصرة التي نجدها في العهد الجديد (أع 2: 10؛ 20: 16؛ 1 كور 16: 8) ليست خاصّة بالمسيحية. فقد دلّت على عيد يهوديّ يُحتفل به خمسين يومًا بعد الفصح. أما موضوع هذا العبد فقط تطوّر مع الزمن.
كان في البدء احتفالاً زراعيًا. كان عيد الحصاد الذي فيه يسيطر مناخ الفرح والشكر. وكان الشعب يقدّم للربّ بواكير الغلال (خر 23: 16؛ عد 28: 26؛ لا 23: 16 ي). وقد سُمّي أيضًا عيد الأسابيع (خر 34: 22)، لأنه يقع بعد الفصح بسبعة أسابيع.
بعد ذلك، صار وقتًا يتذكّرون فيه واقعًا تاريخيًا هو العهد الذي عُقد بعد الخروج من مصر (ساعة عيّدوا الفصح) بخمسين يومًا (خر 19: 1- 16). لاشكّ في أن العنصرة صارت تذكّرًا للعهد في القرن الثاني ق م، تذكّرًا للوقت الذي فيه أعطيت الشريعة. وسوف تعمّم في بداية المسيحيّة كما تقول الشهادات الرابينيّة ونصوص قمران.
على المستوى المسيحيّ، يجب أن ننتظر نهاية القرن الثاني وبداية الثالث لنجد شهادات متعلّقة بالعنصرة كعيد مسيحيّ. هي في ذلك الوقت، شأنها شأن العيد اليهودي، عيد فرح وبهجة. ولكن ما كانت تدوم يومًا أو يومين كما في عيد الحصاد لدى اليهود، بل تمتدّ على حقبة سبعة أسابيع تتبع الفصح. أما مضمونها فهو كل السرّ الفصحيّ الذي يتلخّص بشكل خاصّ في انتصار المسيح على الشر وصعوده وتمجيده.
نحن هنا في خط بواكير الحصاد، أمام بواكير بشريّة افتداها الكلمة. وصورة البواكير هذه يطبّقها ايريناوس على الجماعة الفتيّة التي كوّنها الروح يوم العنصرة وقدّمها باكورة للآب. وطبّقها أيضًا أوريجانس (185- 254) على الروح الذي ناله الرسل. وبعد ذلك الوقت بقليل، سيطبّقها أوسابيوس القيصري (265- 340) على الجماعة المسيحية الأولى التي وُلدت بحلول الروح، فأدخلها المسيح إلى الله كتقدمة خاصة.
وسيتحدّث أوسابيوس في “حياة قسطنطين” (4: 64). ومثله “تعليم الرسل” الذي هو منحول وُلد في الرها في القرن الثالث أو الرابع، عن تيّار جديد وُلد في ذلك الوقت فاعتبر الصعود والعنصرة كفيض للروح يُحتفل بهما في وقت واحد، في اليوم الخمسين. هذا الواقع الذي يُعتبر خروجًا على مطلع سفر الأعمال الذي يحدّد موقع الصعود أربعين يومًا بعد القيامة، قد يكون رجع إلى أف 4: 7- 12 الذي يقدّم عطيّة الروح التي تحقّق الوحدة الكنسيّة في تنوّع الدعوات والمواهب والخدم التي يثيرها في الجماعة الفتيّة، كثمرة مباشرة لارتفاع المخلّص عن يمين الله.
في هذا الإطار، يبدو أن بداية هذه الظاهرة الجديدة قد وُلدت متأثّرة بمواسم الحجّ في فلسطين وأورشليم، حيث أراد المؤمنون أن يتذكّروا أحداث حياة المسيح التاريخيّة في الزمان والمكان اللذين فيهما حصلت. هذا ما تتحدّث عنه أتيرية في “يوميّات سفرها”. وهكذا ارتبط يوم الفصح بالقيامة. واليوم الاربعون بالصعود، وإن عُيّد في اليوم الخمسين.
غير أن يوم الخمسين سوف يرتبط بشكل نهائي بحدث العنصرة وحلول الروح في العالم ودخوله في صيرورة البشر “ليجدّد الإنسان على الأرض من أجل الله” كما قال ايريناوس في “البرهان الرسولي” (رقم 6). وهنا أيضًا يرتبط فيض الروح في تقليد الآباء، بالعهد وعطيّة الشريعة في سيناء. وكل هذا بتأثير من العالم الرابيني الذي جعل من عيد الأسابيع عيد عطيّة الشريعة والوحي. وإن التقليد السريانيّ سوف يشدّد بشكل خاص على التوازي بين العيد اليهوديّ والعيد المسيحيّ.
وهكذا بدت العنصرة في المسيحيّة الأولى، حقبة من سبعة أسابيع تتبع عيد الفصح وتوافق عيد الحصاد كما في التوراة. أما مضمونها فالسرّ الفصحيّ كله. وبعد القرن الرابع، صارت تدلّ بشكل خاص على اليوم الخمسين. وصار مضمونها حلول الروح كمقابل لعطيّة الشريعة في سيناء.
بعد أن صار عيد العنصرة، عيد حلول الروح، احتفالاً كبيرًا في المسيحيّة، بدأ الآباء يتأمّلون في العيد بشكل خاص، ويتعرّفون إلى شخص البارقليط، كما إلى تدخّله وعمله في العالم وفي تاريخ البشر بشكل حاسم جدًا. ولكن من الواضح أن هذا التفكير والشرح اللاهوتيّ، هما إظهار على مستوى الكلمة والطقس لواقع أول عاشته جماعة المسيح الجديدة واختبرته. وواقع العنصرة الحيّ هذا الذي هو في أصل الواقع الكنسيّ، يسبق فكر الكنيسة وتعابيرها.
فهي التي تشرف على رؤية لوقا، إبن أنطاكية، حين صوّر في سفر الأعمال بداية المسيحيّة وامتدادها في الزمان وفي المكان. لهذا، سنحاول أن نكتشف قدر المستطاع ما حدث يوم العنصرة. أن نكتشف العنصر الجديد في هذا الحدث الذي كان له تأثير حاسم في حياة الكون.
إن الجديد الجذريّ في حدث العنصرة هو نزول أقنوم الروح القدس إلى عالمنا. في العهد القديم وفي زمن التجسّد (ما عدا في ما يخصّ المسيح وأمه) كانت تصل مواهب الروح وأعماله إلى العالم، وما كان يُعطى هو بذاته.
Discussion about this post