البابا يوحنا الثالث والعشرون
انجلو جيوزب رونكالي 1958 – 1963
ولد في 25 تشرين الثاني 1881، في بلدة “سوتو ايل مونتيه” قرب برغام، في عائلة من القرويين البسطاء. سيم البابا الجديد كاهناً سنة 1904، ثم عيّنه البابا بيوس الحادي عشر وسامه أسقفاً وسنة 1925 أرسله “زائراً رسولياً” إلى بلغاريا، وفي سنة 1935 أصبح الخورأسقف رونكالي فرئيس أساقفة، ومفوضاً رسولياً في تركيا وفي اليونان وسنة 1945 أرسله بيوس الثاني عشر إلى باريس بصفة قاصد رسولي، وهناك قابل الجنرال ديغول، رئيس الحكومة، وقت ذاك، وألقى أمامه خطاب عيد رأس السنة، وهذا الخطاب محفوظ، في سائر الدول، للقاصد الرسولي، فكان هناك يعمل، كما قال، بصمت وهدوء، خطوة خطوة. بقي في فرنسا سبع سنوات، زار خلالها كل فرنسا تقريباً، وفيها كان يهدئ النزاع بين المتخاصمين ويولد الثقة في النفوس، ومن أقواله: “أشكر الله أني لم أعقّد الأمور بل حللت الأمور المعقّدة”. التقى، أثناء زيارته لبلدة أميان في فرنسا، بجماعة من الفلاحين الذين أحاطوا به، فقال لهم: “أنتم أبناء الحقول وأنا أيضاً ابن الحقول فأهلي فلاحون مثلكم”.
بساطته لفتت الأنظار إليه عندما مثّل الكرسي الرسولي هناك وكان الأول بين المراقبين فأعطى ملاحظات ذات قيمة. وفي 30 تشرين الثاني سنة 1952 تلقى نبأ تعيينه كردينالاً بكل بساطة وهدوء، وفي 15 كانون الثاني 1952 تسلم قبعة الكردينالية، في فرنسا، من يد الرئيس اوريول – هذا إنعام وتقليد قديم لفرنسا – الذي قال له: “إن فرنسا ممتنة لك وتأسف لتركك إياها”. فأجابه الكردينال بكل تواضع: “أتمنى أن تقول عني: كان كاهناً أميناً لكهنوته ومسالماً وبكل مناسبة، نراه صديقاً مخلصاً لفرنسا”. ومع الكردينالية أعطِي لقب بطريرك البندقية.
ترك باريس في 23 شباط 1952 إلى روما، ثم إلى دير براغليا حيث اختلى مدة وبعدها دخل باحتفال إلى أبرشيته في 15 آذار، حيث استقبله الجميع بحماس… كان يسوس أبرشيته بيقظة الراعي المنتبه إلى كل شاردة وواردة وكان يحمل الألعاب للأطفال المرضى ويزورهم، وكان يعرف كل كهنة أبرشيته ويحبهم واحداً واحداً، مع أنه أضحى، أو كاد يضحي واحداً من أهل البندقية، لم ينس مسقط رأسه ولا عائلته. بكى ثلاثة من أخياته وأخاه جيوفاني، وهو أيضاً، رأى نفسه يتقدم في العمر وظنّ أنه سيموت في البندقية. احتفل في بلدته بيوبيله الذهبي، سنة 1954 لمرور خمسين عاماً على سيامته الكهنوتية. كان كثير الأسفار، وقد طلبه البابا البابا ليكرس كنيسة القديس البابا بيوس العاشر في لورد، لم يخبئ فرحه في ذلك ولاسيما تلك السنة التي هي المئوية الأولى لظهور العذراء لبرناديت. ولم يكن أحد يشك بأن هذا الكردينال ذو الابتسامة الحلوة والقلب الطيب سيكون عما قريب رأساً للكنيسة.
وهنت صحة البابا بيوس الثاني عشر كثيراً وانتقل إليه تعالى في 9 تشرين الأول 1958، كان الكردينال رونكالي يمضي فترة استراحة في قريته لدى أهله، يتذكر أيام طفولته ويبارك إكليل أحد أبناء إخوته قبل عودته إلى البندقية. ذهب، بعد رجوعه إلى البندقية بقليل، مع نائبه المطران لورس كابوفيلا، لحضور المجمع الانتخابي. لم يكن معه، أثناء المجمع الانتخابي، سوى حقيبة صغيرة هي كل ما يملك.
قال أثناء المجمع وقبل أن ينتخبه الكرادلة: “عندما نسحق الكبرياء تحت أقدامنا، ونضع في قلوبنا المحبة عندها نستطيع أن نقبل ما يطلبه منا الله ونحفظ السلام في قلوبنا”. فما إن انتهى الاقتراع حتى كانت الأصوات كلها، تقريباً له، ثم قال: أدعى يوحنا، وإني أضع ذاتي تحت حماية يوحنا المعمدان ويوحنا الانجيلي، ثم تذكر أيضاً أن أباه يدعى يوحنا. بقي في الباباوية كما كان قبلها ذلك الرجل العادي المتواضع البسيط.
في مساء اليوم الذي توّج فيه حبراً أعظم (4 تشرين الثاني 1958) قال لأمين سره، ما يجول في قلبه: ” لإني أفكر ببلدي سوتو ايل مونتيه وبأبي وأمي”. أما في ساعة تتويجه فقد افتتح خطابه بكلمة من الكتاب المقدس، قالها يوسف الصديق عندما جاءه إخوته، وكان هو قد أصبح وزيراً للفرعون: ” أنا يوسف، أخاكم”. كان يقوم بمهام أسقف لروما، يزور المرضى في المستشفيات ويتحدث معهم بتلك الابتسامة الحلوة، كما كان يطوف الرعايا في القرى ويتحدث معهم ويسألهم عن أحوالهم… وكان يزور السجناء في سجون روما ويعزيهم بكلام حلو يشجعهم على استئناف حياة لا يشوبها غبار.
في مرضه الأخير زارته الأخت آنا، ابنة أخيه، الراهبة المرسلة في أفريقيا، فقال لها: ” كم هو لطف منك أن تزوريني. إني أشكر رئيساتك، وأبارك جميعكن… ما أحسن الرسالات…”
كان يتمنى أن تقوم الكنيسة بمهمتها الأساسية، الأمومة والتثقيف، لذلك أرسل رسالته العامة: “أمّ ومعلمة” التي استقبلها العالم بأسره على غاية ما يكون من الاحترام والاجلال، فقد أوضح فيها معالم الكنيسة بكل أبعادها والتزاماتها، والتزام كل إنسان تجاه ضميره…
أما أمنيته العظمى فهي وحدة الكنيسة، فكم كان يردّد، في رسالته الأخيرة: “السلام على الأرض” والتي كان لها الصدى البعيد، فهذه الرسالة أضافت إليه لقباً حلواً هو “بابا السلام” مضافاً إلى لقبه: “بابا الوحدة وبابا المجمع”. فقد دعا إلى المجمع في 11 آب 1959، وقال للمنفصلين عن روما: هيا تعالوا نتلاقى معاً فالطريق مفتوح… قابل جميع الوفود الآتية من جميع أصقاع الأرض من الطوائف المنفصلة: الانغليكان والأرثوذكس والبروتستانت والجميع بكل محبة.
افتتح المجمع بذاته في 11 تشرين الأول سنة 1962، وراح يتتبع الجلسة الأولى من غرفته بواسطة جهاز تلفزيون، ولا يتدخل إلا عندما تدعو الحاجة، وكان في كل ذلك يضرع إلى الله الروح القدس لينير الجميع ويفتح قلوبهم إلى الوحدة الشاملة، وبعده يستشفع بالعذراء القديسة وبالقديس يوسف..
بعد أن نال جائزة نوبل للسلام وقيمتها مليون فرنك سويسري قال: إن هذا المبلغ هو مخصص لإنشاء مكان يضم ضحايا الثورات والحروب” وهكذا كان… وبعد ذلك صدرت نشرة طبية تقول بإصابته بالسرطان في الجهاز الهضمي، بقي يتألم منه بصبر وفرح. قال في مرضه: “إن هذا السرير هو مذبح، والمذبح يطلب ذبيحة وها أنا ذا الذبيحة”. قال طبيبه كاسباريني: “كنت أسمعه يردد دائماً: لتكن مشيئة الله. ثم قال لي: أيها الطبيب، لا تهتم كثيراً لمرضي فإن حقائبي حاضرة، وإني مهيأ للسفر، ساعة يصل القطار”.
كان يستقبل زواره بكل بشاشة، وخاصة مع أهله الذين أسرعوا حين علموا بمرضه، فقد علّم الناس هذا البابا كيف يموتون بهدوء وسلام مع الله بعد أن علّمهم كيف يعيشون بالمحبة. ولما دخل في النزاع قال لأخته آسونتا: سأبقى حياً هذه الليلة. وفعلاً بقى حياً تلك الليلة، وفي ليلة 30 – 31 أيار طلب أن يمنحوه الأسرار الأخيرة، واستقبل الكردينال كوشينياني، الذي ناوله القربان الأقدس، بهذه الآية الداودية: “فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب ننطلق” ثم بعد تناوله القربان: صرّح بإيمانه بكل هدوء ورزانة، ثم نال المسحة الأخيرة.
لم يمنح إخوته أي لقب بل قال: “ليكتفوا بأنهم إخوة البابا”، مات يوحنا الثالث والعشرون مأسوفاً عليه، وقد نعته جميع إذاعات العالم بكلمات التأسف ولاحترام. وضع في الغرفة التي شهدت تألمه، وبقيت هيئته على حالها، فيظنّه الناظر نائماً لولا صفرة بسيطة تعلو وجهه. وعلى صدره صليب بسيط كان قد اشتراه يوم سيم أسقفاً، وقد كتب سنة 1925: أرجو أن تضعوا هذا الصليب فوق صدري عندما أموت.دفن في كنيسة القديس بطرس حيث يرقد سلفاؤه، ليلاقي جزاء الراعي الصالح.
ملاحظة
بعض الباباوات الذين اتخذوا اسم قد سبق واستعمله في السابق أحد الباباوات المزيفين، اتخذوا الرقم التالي، البعض الآخر أهمل الرقم الذي كان قد اتُّخِذ قبلاً، وبهذه الطريقة أعلن عن عدم قانونية البابا المزيَّف، كانت هذه حال “يوحنا الثالث والعشرون” الذي أهمل ذات الاسم الذي حملهُ البابا المزيَّّف في فترة ما بين (1410 – 1415).
Discussion about this post