بيوس الثاني عشر
اوجين باتشللي 1939 – 1958
ولد في روما، في 2 آذار سنة 1876. أبوه فيليبو باتشيللي، كان عميد المحامين في الديوان الباباوي، وأخوه فرنشيسكو قد قام بنشاط ملموس في تحضير معاهدة اللاتران سنة 1929. بعد أن أتمّ أوجين باتشيللي دروسه في المعهد الغريغوري سيم كاهنا وهو بعمر ثلاث وعشرين سنة. دخل سنة 1901 في الخدمة الرسولية كمعاون لأمين سر الدولة. أصبح أستاذاً للحق القانوني سنة 1903، وبعد ذلك، أستاذاً لتعليم السياسة (الديبلوماسية) الاكليريكية، في سنة 1911 عيِّن معاوناً لأمين سر الدولة الباباوية الكردينال مارّي ديلفال، وسنة 1912 أمين سر مجمع الأعمال الاكليريكية. وقام لدى الكردينال غاسباري بوظيفة أمين سر لجنة تدوين القوانين للحق القانوني.
وفي سنة 1917 أرسل البابا بندكتوس الخامس عشر هذا السياسي الممتاز إلى ميونيخ قاصداً رسولياً – هذه المهمة كانت من أدق المهام في تلك الحقبة – ثم سامه، هو نفسه، مطراناً على ميونيخ وبرلين، فكان على ذلك القاصد أن يقنع ألمانيا بفكرة السلام التي ترغب الباباوية المفاوضة بها. كانت المهمة صعبة، لأن المستشار ميخائيلي خاصة والامبراطور أيضاً قد عرقلا ذلك، وقد بذل القاصد الرسولي هذا، كالبابا، جهداً عظيماً لصالح ضحايا الحرب والأسرى. وفي سنة 1919 هدده زعيم السبارتاكوسيين بالقتل.
بعد سنة، اعتِمد قاصدا رسولياً في برلين، التي لم يذهب ليقيم فيها إلا سنة 1925، فكان باتشيللي عميداً للسلك الديبلوماسي في ألمانيا، كما كان الكردينال كونسالفي في عهد نابليون، وبقي لما بعد الحرب أي من سنة 1919 إلى نهاية 1929. أما عمله الاكليريكي السياسي والإنساني فلا ينتسى، أما في رحلاته العديدة فقد تعلم لغة وثقافة البلاد التي سار إليها وعرف عنها الكثير، وفيها كلها قد قام بدور محترم قد يكون أسطورياً. عيّنه البابا بيوس الحادي عشر في شهر كانون الأول سنة 1929 كردينالاً وأمين لسر الدولة، خلفاً للكردينال غاسباري. قد توسع نشاطه، أيضاً، عندما فوّضه البابا في المؤتمر القرباني العالمي. في سنة 1939 كان طبيعياً مما يبدو حتى أن الجميع كانوا يتوقعون أن يكون خليفة لبيوس الحادي عشر.
لم تكن قد كتبت القصة الكاملة عن النشاطات الصامتة للحبر الأعظم، الذي توفي في كاستل غوندلفو أثناء الحرب العالمية الثانية، لاسيما أثناء الإرهاب الدموي النازي في روما، إذ منذ الاحتلال سنة 1943 حتى التحرير الذي قام به الحلفاء، في تموز سنة 1944، قد آوى بيوس الثاني عشر عدداً لا يحصى من المضطهدين السياسيين والعنصريين. وفي 18 شباط سنة 1946 عيّن، في المجمع الباباوي، اثنين وثلاثين كردينالاً، وهو أكبر عدد تعيين ولم يحدث مثله في تاريخ الباباوية، كان بين هؤلاء الكرادلة، كرادلة ألمان منهم: فون غالن، فون بريسنغ فرينغز، الذي كان يحترم فيهم المقاومة الألمانية، وعين في اليوم نفسه سالياج، ممثل مقاومة الكنيسة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، كردينالاً وكذلك عيّن كردينالاً، الكردينال الهنغاري الشهيد ميندزنتي، أما أعمال الرحمة ومبراته تجاه الشعوب المتألمة في اوروبا، بعد الحرب، فهي بلا حدود.
أعلن في أول تشرين الثاني من السنة المقدسة 1950 عقيدة انتقال العذراء بالنفس والجسد إلى السماء. وفي سنة 1946 أعلن قداسة فرانسواز كابريني، وفي سنة 1947 أعلن قداسة نيقولا دي فلو، وفي سنة 1950 أعلن قداسة ماريا غوريتي، وفي سنة 1954 أعلن قداسة بيوس العاشر ومنصور بالوتي. وفي السنة نفسها أصدر منشوراً بإعلان عيد العذراء الملكة. ثم سمى القديس أنطونيوس البادواني معلماً في الكنيسة <ملفاناً) تحت اسم المعلم الانجيلي ثم صحّح رتبة الجمعة العظيمة والتي قرّر البابا إثباتها بعد التحقيق من صحتها سنة 1955.
كل الذين أتيحت لهم الفرصة بمقابلة البابا قد أدهشهم جلالته وقوة شخصيته، أما هو فكان يتخلى عن كل مظاهر الأبهة لكي لا يرى إلا الإنسان المجرد فقط في كل من يقابله. وقد لفت انتباهه جميع المسائل العلمية والثقافية المعاصرة واهتم لها. ما من بابا قابل أناساً من جميع الطبقات العمالية المختلفة كما قابل بيوس الثاني عشر، وقد تكلم مع كل منهم تقريباً، بلغته الأم. وقد اهتم، أيضاً، بموسيقى باخ في هيندميث، وبفاعلية الطب الحالي، وبالحقوق والفلسفة والأدب الأخلاقي والعلوم الرياضية.
دافع بكل نشاط عن المؤسسات العالمية وجزم، كما لم أي بابا، بضرورة وجود حق عالمي بالنظر إلى اختلاط الشعوب ووحدتها القانونية. كان صوت البابا مدوياً بين تلك الأصوات التي حذرت العالم من أخطار القنبلة الذرية والأسلحة الأخرى المشؤومة، وقد كان له وزنه في ذلك. كان بيوس الثاني عشر صوت الضمير العالمي، والمحامي عن الإنسانية المطارَدَة في وسط الانهيار المرعب في تاريخ مشحون بالخوف والرعب. قد برهن بأن الباباوية، في الألف الثاني لإنشائها قد ملأت رسالتها العليا التي شعارها: “المحبة، والعدالة، والسلام” وبأنها الصخرة الثابتة للسلام والتي لا تتزعزع.
وفاة البابا بيوس الثاني عشر توحي بمظهر، حتى الساعة، لم تعرفه الباباوية. فقد عرف كيف يكسب ثقة المسيحيين بدون تمييز في المعتقدات، وثقة البوذيين والمسلمين. أما الاسرائيليون فلم ينسوا المساعدات التي حصلوا عليها، بفضل البابا، في الحقبة المريعة في تاريخهم. لقد أعطى بيوس الثاني عشر البرهان الأخير لحقيقة عظمته الروحية كبابا، ككاهن وكإنسان في عهده القصير حيث كان يطلب بكل بساطة الغفران من الجميع ويرجو بحرارة أن لا يقام له أثر أو نصب تذكاري.
Discussion about this post