لاون الثالث عشر
جيوواشينو، دي كونت بيتشي 1878 – 1903
ولد في 2 آذار 1810 في كاربينيتو قرب أناني درس في فيترب وفي روما الفلسفة واللاهوت والحقوق، قد أدهش ببلاغته الشعرية لما ارتجل، قبيل وفاة بيوس السابع بقليل، وعلى مسامعه، مئتي بيت شعري لاتيني سداسي المقاطع، حول حريق كنيسة القديس بطرس، سيم كاهناً سنة 1837، فإذا هو كاهن موهوب واع لذاته مدرك لمهمته، فشعر بذاته أنه قادر على اعتلاء درجات السلطة بسرعة. فسلّمه غريغوريوس السادس عشر عدة وظائف، ثمّ عيّنه سنة 1843 قاصداً رسولياً في بروكسل، فصادفته هناك متاعب فاستدعي من هناك، وبدلاً من أن يستلم مهام قصادة أكثر أهمية، سيم أسقفاً على بيروز سنة 1846، فنضج، خلال ثلاثين سنة، نضوجاً كبيراً، فانطفأت رغبته وطموحاته، ولكنه هيّأ وكيّف شخصيته على ما يجب أن تكون. وبما أنه أظهر رسوخاً في العقيدة، وسعة اطلاع واعتدال؛ وبما أنه كان رضي الأخلاق، متحرراً مجارياً الحياة في مسراها، وجد نوعاً من العطف لدى بيوس التاسع؛ وأقل منه لدى الكردينال أمين السر، أنطونلي الذي أظهر له بغضاً، ولكنه لم يلبث أن أضحى، بعد وفاة أنطونلي، سنة 1853 كردينالاً ونائباً عن البابا.
أول مناسبة اغتنمها البابا الجديد، واحترمها العالم أجمع، حتى أعداء الكنيسة ومناهضوها أنفسهم، هي كلمات المصالحة والمحبة والوفاق التي وجهها إلى الأمراء ورؤساء الدول. أما علاقاته مع إيطاليا فبقيت متوترة؛ تهديدات بالثورة مستمرة، وعلى وشك الإنفجار ضد الباباوية، حتى أنها جعلته يهمّ سنة 1881، بترك روما مؤقتاً ويجد له ملاذاً في النمسا.
وفي سنة 1886 أظهر أنه موافق للدولة، لكنه اقترح إعادة سلطته كاملة، لكنّ هذا الاقتراح، بالتحديد، دفع برئيس الوزراء فرنسيسكو كريسبي لدعم مواقفه وتدابيره المناوئة للباباوية، التي بلغت أوجها من العدوان، التي ظهرت واضحة سنة 1889 في تدشين النصب التذكاري لجيوردانو برونو، ومما زاد الطين بلّة التظاهرات الماسونية والتي رأى فيها البابا علامة عدوان ضد شخصه؛ فإذا هو أمام مشروع هرب جديد، إزاء سكوت القوات التي شكلها رامبولا، فأبلغ كريسبي رامبولا: أنه لا يكون هناك عائق أمام رحيل البابا، على أن لا يفكر بالعودة؛ وقد تصل المسألة الرومانية في عهد لاون الثالث عشر إلى طريق مسدود، إذا لم تصل إلى حل موافق.
أما حيال الألمان فقد ترك لاون الأمور تنكشف ضمن الإمكانيات لينهي الصراع مع جماعة ” المناضلون لأجل الحضارة” والقوانين التي وضعت في شهر أيار ضد الاكليروس صار إلغاؤها تدريجياً، وفي سنة 1882 أوفد بسمارك البارون كورت فون شلدزر كسفير لدى الفاتيكان. وفي سنة 1883 استقبل البابا الأمير ولي العهد، الذي سوف يكون الإمبراطور فريدريك الثالث، وتلقى بسمارك وسام المسيح. وفي خريف سنة 1888 قام غليوم الثاني يزيارته الأولى إلى الفاتيكان، أعقبها بزيارة ثانية سنة 1893 وثالثة في سنة 1903.
إن فطنة ولطافة ودماثة لاون الثالث عشر أدت إلى وضع أسس جديدة لعلاقات الكرسي الرسولي مع مختلف الحكومات، التي شوشتها سياسة سلفائه. أما تصرف لاون مع اللادينيين فقد ارتكز، في أول خطوة، على عدة رسائل سياسية واجتماعية، كتبت بلغة رائعة، قد حلل فيها أخطار الاشتراكية، ومشاكل الطاقة العلمانية، السياسية المسيحية داخل الدولة المسيحية، كل هذا وضعه تحت أنظار الطاقة الإنسانية، لتعي مسؤولياتها تجاه المادية الإلحادية.
عالج أيضاً فكرة الحرية وواجبات المواطن المسيحي ضمن جوهر الديموقراطية المسيحية، وأخيراً نرى في رسالته التي بدؤها “الأفكار الجديدة” التي صدرت سنة 1891، ولا تزال على جدّتها وكأنها صدرت اليوم، الذي فيها يعالج المسألة العمّالية وفي حلّها: كان يرغب أن يصبح نفسه بابا للعمّال.
لم يكن يرى لاون الثالث عشر أساساً إلهياً في الملوك إلا بقدر ما يرى الملوك أنفسهم قادرين على توفير السعادة لشعبهم. أما في ما يخص الجماعة التي ضمن الدولة فلا قيمة لها في نظره إلا إذا كانت مؤسسة على العدالة.
كان موالياً لنزع السلاح، عدواً للمادية الإلحادية؛ وهو الذي نادى بمحكمة للتحكيم، فاستحق أن يلقب ببابا السلام، وقد استطاع أن يتدخل وبملء الحق في العمل على التهدئة والصلح في العالم، فأصبح صوته مسموعاً في العالم.
لقد تخلى لاون قطعياً عن كل مطامح الهيمنة الباباوية في القرون الوسطى لمصلحة الاستقلال السياسي، ولكنه، مقابل ذلك، اقترح صيغة سياسية له، رافضاً كل نفوذ للدولة عليه بكل أشكال هذا النفوذ. جعل الكاثوليك في العالم يخضعون للحكومة التي يقيمون على أرضها، وأن لا يشكّلوا أي جماعة أو تنظيم إيماني عقائدي خارجاً عن الدولة.
أمر الاكليروس ببعض تحفّظات حيال سياسة ليست دائماً صالحة أو متبعة. اقتنع لاون بثناية الكنيسة والدولة، لعلمه بأن لا هذه ولا تلك تستطيع، منفردة، الوصول إلى حل مشكلة ما اجتماعية. هذه تقريباً، المثالية الأفلاطونية التي كانت لديه ويدافع عنها.
كان صديقاً كبيراً للعلم؛ فقد أغنى المكتبة الفاتيكانية بشرائه مكتبات: بورغيز وباربيريني، وفتح دار المحفوظات أمام العامة، فأدّى بذلك خدمات جليلة للأبحاث التاريخية الحديثة.
أما علم الآثار والعلوم الطبيعية فقد أعارهما اهتمامه. كان يعرف جيداً أعمال غاليله التي كان يعجب بها خصوصاً، وكذلك أعمال فولتا ولينّه وفاراداي أنشأ أول مرصد في الفاتيكان، وجامعة خاصة للآداب والنقد الأدبي؛ حتى أنه هو نفسه كان أستاذاً في هذا الحقل، كما أنه كان شاعراً موهوباً في الإيطالية كاللاتينية، وهو على الأرجح، كان يعرف “الكوميديا الإلهية” غيباً، حتى أنه نظم شعراً في التقدم التقني، ذكر أعجوبة آلة التصوير بين الأشياء التي ذكرها. وقد حيّا القرن العشرين بقصيدة ذكر فيها الماضي وما يخبئه المستقبل وقد وقف هو على عتبة التسعين من عمره، بقي حتى أواخر أيامه، يقرأ فيرجيل هوراس تاسيت، شيشرون وسالوست. نقّح قصائده وهو على فراش الموت.
إنّ أول كردينال عينه سنة 1879 هو جون هنري نيومان، الذي كان يدعوه “أحسن كردينال” والذي فيه كان يكرم أكبر وجه مشرق للكثلكة الحديثة وإحدى الشخصيات الأكثر ذكاء وموهبة في الحياة الروحية في أوروبا. طوّب لاون لابر وكالفير وجان بيرشمان. أنشأ وسام الكنيسة ووسام الحبر الأعظم.
توفي لاون الثالث عشر وقد تجاوز الثالثة والتسعين من عمره. لم يدفن في قبره الخاص في اللاتران، مقابل مدفن اينوشنسيوس الثالث، الذي جاء هو برفاته من بيروز إلى روما، إلا سنة 1924. لينباخ قد رسم صورة لاون، كانت أوضح صورة له أكثر تعريفاً عنه، موم نيسن، أيضاً، قد رسم للبابا شخصيته الروحانية العالية في أيامه الأخيرة. لم يعتمر التاج المثلث، بعد بنديكتوس الرابع عشر، من الشخصيات ذات الأهلية سواه.
له سطوة ملكية مع ترفع وإباء، متشدد في حفظ القوانين دون تصلّب وتشبث، طموح إلى الثقافة وإلى الروح الوثّابة حتى النهاية، حتى أنه كان يرفض واجبات خاصة به، قد تجعله يسهو عن واجباته ومسؤوليته.
ترك تخطيطاً للعالم ذا نظرة نقّادة وإيجابية، كان في داخله إنسان كبير ورجل فكر أكثر مما هو رجل عاطفة. واسع ومنفتح على كل ما هو عظيم وجديد في مجاريات العصر، والذي ينخرط مع كل ما يتجاوب مع مبادئ الكنيسة الكاثوليكية. كان شديد الاهتمام بقضايا المصالحات. كان له نظرة واضحة ونبوية حيال الأخطار التي كانت تتزايد يوماً عن يوم: فقد رأى لاون، بعد فشل سلفه في العصمة الزمنية، أن يعيد للباباوية أعظم احترام، بالنسبة للعالم الغير كاثوليكي.
ومن جملة أقواله المأثورة: “أريد أن أضع الكنيسة في المركز الأمامي بحيث لا يستطيع خلفائي إرجاعها إلى الوراء”. كان يبدي، أحياناً، بعض تنازلات هامة، حباً بالسلام ـ لكن ليس هذا على حساب المبادئ أو المسائل المبدئية ، يعزى إليه نوعاً من الاقتصاد حتى التقتير، ولكن هذه ليست سوى بعض هنّات، لا يعبأ بها، بالمقابل لشخصيته العالية.
Discussion about this post