بيوس التاسع
جان ماري، دي كونت ماستاي فرّاتي 1846 – 1878
ولد في 13 أيار 1792 في سينيغاغليا، بعد أن انهى دروسه سامه بيوس السابع كاهناً سنة 1818، وأرسله في مهمة ديبلوماسية إلى تشيلي، وبرجوعه جعله سنة 1825 رئيس كهنة، ثم في سنة 1827 سامه رئيساً لأساقفة سبوليت؛ استطاع، أثناء الحوادث التي عقبت سنة 1831، أن يخلّص لويس نابليون الملاحق كمتآمر، وأن يساعده على الهرب إلى سويسرا مع أمه، المكلة هورتنسيا. جعله غريغوريوس السادس عشر أسقفاً على ايمولا سنة 1832؛ لم يكن في إيطاليا مطران آنذاك يعامل بالحسنى واللطف وشعبي مثل ماستاي فرّاتي. يكفي دفاعه عن الأفكار التحررية، مسامحته للمتآمرين ولكثيرين ممن كانوا يسيئون إليه. عظاته كلها تدعو إلى الرأفة والشفقة، كل هذه الأعمال جعلته محبوباً، وقد عيّنه غريغوريوس السادس عشر كردينالاً سنة 1840 بالرغم من أفكاره التحررية.
أصدر بيوس التاسع، بعد شهر من انتخابه، براءته الشهيرة، بالعفو العام عن الجرائم السياسية، التي أحدثت فرحاً يعجز عنه الوصف، فأنعش آمالاً كباراً، وبعد ثلاثة أيام، من إصدار البراءة، اندفع الشعب المتحمس وجرّ عربة البابا وسط المدينة، تحت وابل من أمطار الورود.
إن الإصلاحيات التي أنهى بيوس التاسع، الرقيق الشعور، جعلته ليس مكرماً فقط بل معبود الشعب. رأى البابا أن يوحد إيطاليا، فإذا بجيزيب مازّني وفنسنزيو جيوبرتي يرسلان له رسائل المديح والشكر والتشجيع. ظهرت في تلك الأثناء، انفجارات البغض والعداء لحبرية غريغوريوس.
أما بيوس التاسع فكان عيبه الوحيد أنه لم يستطع أن يسيطر على الوضع، فعاطفته تغلبت عليه كرجل دولة، حيث كان عليه أن يعي مسؤوليته ويوفق بين مركزه الباباوي ومركزه كملك يريد السعادة لشعبه، فوقع في حيرة من أمره وخاصة عندما دوى صراخ الحرب الوطنية ضد النمسا: فقد قامت كل من سردينيا والبيمونت والولايات التي تحتلها البندقية ولومبارديا بالثورة.
وما زاد الحالة تأزماً هي ثورة سنة 1848؛ إذ اتخذ الشعب، الذي لم يقدّر موقف البابا العالمي ودوره كوسيط للسلام، البابا “كخائن وعدو للوطن” لأنه رفض محاربة النمسا، وشجب الحركة الشعبية، اغتيل وزيره بلغرينو روسي في 15 تشرين الثاني 1848، وأطلقت النار على الكويرينال، وجرّد الحرس السويسري من سلاحه، وفي 24 تشرين الثاني هرب بيوس التاسع، الذي رأى نفسه أنه يعامل، على الأقل، كأسير، إلى غاييت في المقاطعة النابوليتانية، وهذا كان، آخر هرب لبابا، من روما، حتى يومنا هذا، أعلن في روما تجرده عن حقوقه الزمنية، فيما حقوقه الروحية بقيت مضمونة له، وأعلنت الجمهورية الرومانية، طلب بيوس التاسع من الدول التدخل، فعادت النمسا، وانتصرت، في 23 آذار 1849، في معركة نوفارا، على شارل ألبرت ملك البيمونت وسردينيا، واحتلت قسماً من الولايات الباباوية.
خلف فيكتور عمانوئيل الثاني والده الذي تنازل عن العرش في مساء المعركة. أما في فرنسا، وبعد هرب البابا ببضعة أيام، فقد أصبح لويس نابليون رئيساً، فإذا به، هو أيضاً، يتدخل، وفي 2 تموز سنة 1849 استولى الفرنسيون على روما. وفي 12 نيسان 1850 احتفل البابا من جديد بدخوله المدينة الأبدية.
اتخذت سياسة البابا، منذئذ، طريقاً انعكاسياً متشبثاً، ولا سيما بتأثير الكردينال أنطونلّي أمين سر الدولة الجديد. وأنطونلّي هذا لم ينل من الدرجات سوى درجة شمّاس؛ ويعتبره معظم المؤرخين العبقري الشرير للباباوية. حياته الخاصة كانت مشككة، أغنى عائلته، ولم يبكته ضميره، كان سيء الطباع، لكنه كان دبلوماسياً لبقاً.
أضاع بيوس التاسع، بعد رجوعه، الفرصة، في العمل على ازدهار ما كان يعتمر في قلبه من ميل واندفاع إلى التحررية الحديثة التي تلائم الباباوية في وسط هذا القرن، قامت ثورة جديدة، في الولايات الباباوية، تحرض بمبادرة اعتداء ضد البابا وأنطونلّي، فكانت النتيجة أن سجن الثائرون وحكم على بعضهم بالموت والبعض الآخر بالأشغال الشاقة.
شرع البابا، سنة 1857 و 1863، بالقيام بسفر لتفقد ولاياته، فترك الناس يهتفون له، فيما كان أنطونلي يعمل جهده ليحول دون تقديم عرائض وشروط الإصلاح. لدى البعثة الفرنسية فقط حفظت سيادة بيوس التاسع الزمنية. وفي سنة 1860 ثار النزاع بينه وبين البيمونت، إذ قام هؤلاء باحتلال الولاية الباباوية الشمالية، فرشقهم البابا بالحرم الكبير، واحتج أنطونلّي على فيكتور عمانوئيل لتسميته ذاته “ملك إيطاليا” في 26 شباط سنة 1861 بعد سقوط بوربون نابولي.
إن اتفاق أيلول قد وقّع بالحقيقة في 15 أيلول سنة 1864 دون علم البابا، والذي بموجبه يلتزم البيمونت بعدم مهاجمة الأراضي الباباوية. فسحب نابوليون آخر جيوشه من روما التي سُلمت إلى البيمونت بدون مقاومة. أصبح الشرع الروماني أكثر فأكثر عدواً للكنيسة، وقد دعم حرب سنة 1866 وانتصار البروسيين في سادووا، شعور الللبيمونت في الظفر. اندحرت جيوش غاريبالدي، التي عاثت الخراب في الولايات الباباوية، في 3 تشرين الثاني سنة 1866 في منتانا على يد الجيوش الباباوية والجيوش الفرنسية التي عادت واحتلت روما لحماية البابا.
افتتح بيوس التاسع، في 8 كانون أول سنة 1869 المجمع المسكوني العشرين (مجمع الفاتيكان) وأعلنت أثناء المجمع العصمة الباباوية (18 تموز 1870). وفي اليوم التالي، فرنسا كانت قد أعلنت الحرب على بروسيا؛ وفي 22 تموز سعى البابا، وفي آخر محاولة له، أن يتدخل بين غليوم الأول ونابليون الثالث. وفي 2 أيلول استسلم نابوليون الثالث في سيدان، على أثر ذلك لفتت إيطاليا نظر الحكومة الفرنسية لاحتلال روما. رفض بيوس التنازل عن الدولة الباباوية، كما دعوه لذلك، والنمسا رفضت أن ترسل له النجدة التي طلبها منها ضد الغزاة. كذلك بروسيا تكلمت لمصلحة المحتلين.
أخيراً، في 20 أيلول سنة 1870 قصف الجنرال كادورنا لابورتابيا “باب بيا”. أما البابا، بعد أن دافعت جيوشه دفاعاً بطولياً، فرفع علم الاستسلام الأبيض، وفي اليوم نفسه ألغيت ملكية الباب الزمنية في الكابيتول. ولم تعد هناك الدولة الباباوية. وأصبح بيوس التاسع فعلاً، سجيناً. وكان يجاوب، على كل محاولة تسوية مرضية للطرفين، أو محاولة صلح، بالرفض وبقوله المشهور: “لا ملك هنا”.
لم تعني لخليفة القديس بطرس العروش وحكومات العالم شيئاً، ولم يعد يحفل بها. وفي 21 آذار سنة 1871 نشرت الحكومة شرعة قانونية قيل لها “ضمانات” والتي وصفها البابا، بكل صواب، بأنها “سخيفة وماكرة” بالنظر للقضايا التي هي ضد الكنيسة، فالضغط والمعاملات السيئة لا تزال مستمرة؛ ثم رفض قبول الدخول الذي كان يتوقعه هذا القانون. انتشرت صور ساخرة ملحدة حول شخصه.
وفي سنة 1878 رفع الحرم عن الملك المحتضر، ولكنه لم يعترف بحكومة همبرت الأول. بعد شهر، انتهت هذه الحبرية التعسة والأكثر مأساوية من غيرها في الأزمنة الحديثة، بوفاة البابا وهو بعمر ست وثمانين سنة. أما قبره الفخم، الموجود في سان لورنزيو فقد شيّد من هبات العالم الكاثوليكي وانتهى سنة 1803، ناقش بيوس العاشر دعوى تطويبه والتي لا تزال تلاحق حتى الساعة.
قليلون هم الباباوات الذين أصابتهم، مثل هذه التناقضات في المحاكمات، مثل بيوس التاسع، فقد كان، من جهة محترماً حتى العبادة، ومن جهة أخرى، قام ضده عدوان سافر. لذا علينا أن نرى أن الأسباب الدافعة لتلك الانقلابات الإيطالية، وفي “الحرب لأجل الحضارة” الألمانية التي أثارتها هي العصمة الباباوية، ولائحة الأضاليل التي حرمها البابا سنة 1864. أما صفات البابا الأدبية الكبرى والثقافية والروحية فهي صلاحه اللامتناهي، ومحبته المفرطة للقريب، وقد عرف فيه هذه الصفات جميع الناس الغير متحيّزين من كل الأديان. حياة بيوس التاسع كانت حياة قديس.
كان يكره توظيف الأقارب والمحسوبية وقد ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد كاد يطرد أحد أولاد أخوته من روما. ومما يبدو عليه أن قلبه كان أكبر من تفكيره؛ كان يميل إلى العاطفة، وكثرة الكلام فيها، وقد كانت هذه إحدى الإغراءات التي جعلته تعساً، عندما لا يهتف له أحد. كان يحب كل ما هو حسن، ولا سيما الموسيقى. كما إنه هو كان لاعب لمنجة ماهراً. كان له علاقة صداقة مع فرنز ليزت ثم وضع روسيني وغونود قصائد في مديح البابا.
بالرجوع إلى التاريخ، نستطيع القول: أن بيوس التاسع كان ينقصه العزم ليفصل بين المخطّطين الزمني والروحي في الحكم الباباوي ولم يدرك أن سلطة البابا الزمنية قد ولّدتها أسباب تاريخية كادت تحكم على الباباوية بالزوال، وهناك قضايا أخرى تاريخية، أصبحت في المتاحف وكلها “ضد التحديث”. نستشهد بالصدى الذي أحدثته اللائحة المحرومة (1864). قد يجوز أن يكون البابا تحت نفوذ أنطونلّي ومتكلاً على الحماية الفرنسية؛ ولذلك حرم من كل ولاياته، مع أن البحث في القضية الرومانية بقي مفتوحاً لأكثر من نصف قرن. عرف بالصلابة والعناد وقد قال هو عن ذاته “أنا الصخرة وسأبقى حيث أقع”. فالتاريخ قد تكلف بإزالة هذه الصخرة عن موضعها. الباباوية التي حرمت الحكم الزمني أصبحت ثقلاً ومسؤولية، قد اتخذت على عيون العالم بأسره، منطلقاً جديداً كقوة روحية، منطلقاً لا يزال قائماً.
أنشأ البابا سنة 1847 وسام بيوس التاسع، الذي هو كناية عن صلبان كبيرة من رتبة كوماندور وفارس. سنة 1856 ثبّت عيد قلب يسوع للكنيسة جمعاء. رفع فرنسوا دي سالس والفونس لغوري إلى مصاف معلمي الكنيسة، كما جعل من كاترين السيانية شفيعة روما، وفي سنة 1860 أنشأ جريدة الأوسرفاتور رومانو وفي 8 كانون أول سنة 1854 أعلن عقيدة الحبل بلا دنس.
Discussion about this post