اكليمنضوس الثاني عشر
لورانت كورسيني 1730 – 1740
هرب كوسيّا صدفة وظن أنه تخلّص من الإعدام دون محاكمة على يد الرومان، لكن في سنة 1732 ألقي القبض عليه وجرّد من كل صلاحياته، وحكم عليه بأنه مزوّر ونصّاب، لمدة عشر سنوات يسجن في سجن قصر الملاك القديس. وفي المجمع الانتخابي، تجاسر أحد الكرادلة ووضع بطاقة انتخاب باسم كوسيّا، على أثر ذلك توزعت قصيدة بين الكرادلة تروي للمقترعين الحقيقة المرّة. امتدت جلسات الانتخاب ما يقارب الخمسة أشهر لمعارضة الإمبراطور ترشيح الكردينال كورسيني.
ولد البابا الجديد في 7 نيسان 1652، من عائلة فلورنسية عريقة، منها يتحدر القديس اندره كورسيني. أكمل دروسه القانونية في بيز وأصبح كاهناً بعمر ثلاث وثلاثين سنة. عمل في روما على عهد اسكندر الثامن. ووشحه بالأرجوان اكليمنضوس الحادي عشر. فاشتهر بحبه ومناصرته للآداب والفنون.
أثناء انتخابه كان مريضاً جداً، ثم بعد سنتين من انتخابه أضحى كفيفاً؛ فعيّن نيري كورسيني ابن أخيه كردينالاً دون أن يسلمه ولاية ما أو صلاحية، وبدون أن يغمره بالغنى، نيري كورسيني، هو ابن عائلة غنية جداً، فاشتهر بأنه أكبر مناصر للأدب والفن، وهو الذي بنى قصر كورسيني.
حرب جديدة كانت تهدد إيطاليا: أنجزت، في 9 تشرين الثاني سنة 1729، أسبانيا وفرنسا وانكلترة، ثلاث قوى من الحلف الرابع، معاهدة سيفيل التي تنص، قبل كل شيء، وتلزم بتأمين خلافة عرش بارم وبليزانس لابن فيليب الخامس البكر ولامرأته الثانية اليزابيت فارنيز وللابن المولود في البرفير دون كارلوس، وهما من مقاطعة الكنيسة والتي كانت عائلة فارنيز مستولية عليهما منذ عهد بولس الثالث.
فاتقاء للدعم والتأثير الأسباني البغيض على المنطقة، حشد الإمبراطور شارل السادس الجيوش بين مانتو وميلان عندما عرف أنّ الملكة اليزابيت فارنيز ترغب في إقامة حامية أسبانيا في الأماكن الهامة من الدوقية التي كانت تحتلها جيوش من الحلف الرابع. فالبابا، الذي لم يكن قط معادياً لدون كارلو، كان يريد السلام من جهة، ومن جهة ثانية اقترح، لتهدئة آل فارنيز، إرجاع الدوقية للكنيسة في 20 حزيران 1731 ولكنّ أحداً، من هذه القوى، اهتم للتدخلات الباباوية، لأن الحلف الرابع قد أعلن أن بارم وبليزانس هما من مقاطعات الإمبراطورية وكذا توسكانا، حيث كان آل ميدتشي على وشك الانقراض، فلا يمكن أن تدفع هذه الولايات إلى دون كارلو هكذا على طبق من ذهب. وبما أن العداوة مع فيينا قد انتفت، عندها أقام، في 23 كانون الثاني سنة 1731، قائد إمبراطوري في الدوقية لدون كارلو، رغماً عن اعتراضات البابا.
وفي 22 تموز اعترف شارل السادس بمعاهدة سيفيل ووافق على تمركز الجيوش الأسبانية في بارم وبليزانس، على شرط الاعتراف بالمرسوم السابق الصادر سنة 1713، الذي يعطي الحق بخلافة النساء لدى آل هابسبورغ. وفي 9 أيلول كان موعد دخول دون كارلو إلى بارم؛ وهكذا نرى أن فكرة الاقطاعية الباباوية لم تكن إلا وهماً في المخيلة.
في سنة 1733 تحالفت أسبانيا وفرنسا ومملكة سردينيا على طرد الإمبراطور شارل السادس عن إيطاليا. وفي الخريف التزم الإمبراطور أن يترك لومبارديا التي وقعت بين يدي شارل عمانوئيل الثالث ملك سردينيا، وباطلاً وعظ البابا وناشد بالصلح فراحت كلها أدراج الرياح. وفي سنة 1734 أعاد الأسبان إنزالهم من جديد في إيطاليا، فمرّوا في أراضي الدولة الباباوية دون أن يتمكن البابا من منعهم، فاستولوا على نابولي، حيث كان دون كارلو، الذي كان قد تنازل عن بارم وبليزانس بعهد سرّي، لمصلحة أخيه دون فيليب، قد دخل نابولي في 10 أيار، وأصبح، باسم شارل الثالث، أول ملك من آل بوربون على نابولي وصقلية، ولكي يربح صداقة البابا اكليمنضوس، عينّ ابن شقيق البابا، برتولوميو كورسيني حاكماً على صقلية ولم يجد أية مقاومة نمساوية.
تمت معاهدة فيينا، في 3 تشرين الأول سنة 1735، بين الإمبراطور شارل السادس ولويس الخامس عشر، فتبدل، أيضاً، مرة أخرى الوضع السياسي، دون أن يقول البابا شيئاً: أعيدت اللومبارديا، كلها تقريباً، لشارل السادس، الذي حصل أيضاً على بارم وبليزانس، التي خرجتا نهائياً من حوزة الدولة الباباوية، والتي مرّت منها الجيوش بدون توقف، ولم يسمع أحد احتجاجات البابا، استطاع، في روما، جماعة السماسرة اجتذاب وحشد الجيوش بكل حرية؛ وأغاروا على مركز سفارة أسبانيا ليحرروا أبناء وطنهم الذين كانوا مسجونين فيها، وكان الشعب قد استولى على البيوت.
جيوش اسبانية عسكرت حول روما، فقتلت وابتزت الناس، ونصبت المشانق، وعبثاً حاولت نابولي ومدريد الحصول على امتيازات في حقلي السياسة الدينية من اكليمنضوس، فلما لم يحصل لها شيء من هذا، لم يتركا شيئاً من الإهانات إلا وألحقوها بهذا البابا المريض والمسكين والذي فوق هذه الإهانات، قطعت هاتان الحكوومتان العلاقات الديبلوماسية نفسها معه. ولم ينفع إعطاء اقطاعية نابولي أثر الإبتزاز الذي حصل، إلى شارل الثالث، ولا المعاهدة مع أسبانيا قدرت أن تجعل السلام السياسي يحل في الكنيسة: كل هذا لم يعد على البابا إلا بالخسران، فالأضرار الناجمة عن الجيوش الإمبراطورية والأسبانية، ونقص السكان، فضلاً عن فقدان العدالة وانحرافها. كل هذه وضعت الدولة الباباوية أمام مشاكل صعبة.
لقد تمّ آخر قرار هام في صلح فيينا لمصلحة شارل السادس، الذي جعل دوقية توسكانا الكبرى سنة 1737، والتي سقطت بين يدي سلالة ثانية، بعد انقراض آل مديتشي، لصهره فرنسوا اتيان ملك اللورين زوج ماري تيريز المعترف بها وريثة للعرش بمرسوم سابق سنة 1713. أما على الصعيد الديني فقد تميزت حبرية اكليمنضوس، قبل كل شيء، بتطويب القديس منصور دي بول، وبأول حكم أصدره ضد الماسونية سنة 1738. ويستحق اكليمنضوس أعظم ثناء واستحقاق لإعادته تعمير رافين التي تدمرت كليّاً. إذ أن الوزير الأسباني قديماً، والكردينال المقتدر سابقاً البيروني، بتدمير رافين، أضاف إلى سمعته العاطلة هذا العمل. أقام اكليمنضوس، أيضاً، في رافين أحد أعظم المراكز للمحركات المائية، في عصره، ليخلص المدينة من التهديد الدائم بالفيضانات، واحتفر قناة للملاحة تصل إلى البحر، كما أقام مرفأ يحمل اسم كورسيني. لا يزال اسم اكليمنضوس حياً في هذه المدينة، وكذلك في جمهورية سان مارينو الصغيرة المدينة بحريتها واستقلالها لاكليمنضوس.
لقد أبدى البابا، المسمّر على فراش المرض، في سنواته الأخيرة، نشاطاً كبيراً في العلوم والفنون، فحبريته التي كانت في مأساة سياسية كانت على الصعيد الروحي مشرقة، بالعلماء المشهورين الذين انخرطوا في خدمته، وبمشترى تمائيل الأباطرة النصفية من مجموعة الكردينال الشهير السندرو الباني، وبوضعه حجر الأساس لمنشآت متحف الكابيتول، الذي دشّن سنة 1734، فكان أول متحف للآثار القديمة في أوروبا، ومما هو جدير بالملاحظة، بين كل النصب والأعمدة الأثرية التي أقامها البابا، منها تريفي، وساحة كنيسة اللاتران ومعبد كورسيني المكرّس على اسم القديس اندره كورسيني ـ أحد أجمل المعابد في العالم، عمل مدهش من الفن الميال إلى المنهجية القديمة هناك دفن اكليمنضوس. لقد كان بابا ذا روح عالية، ولا هواية ولا ميول له، مستقيم صالح ومخلص، قد سارت حبريته درب الصليب. له تمثال نصفي نحته له بياترو براتشي، وموجود في دارة (فيلا) بورغيز.
Discussion about this post