بونيفاسيوس الثامن
بنوا غايتاني 1294 – 1303
بنوا غايتاني، خليفة سالستينوس الخامس، ارتقى الكرسي بمساندة شارل دانجو، اعترضت السلطة الكنسية على ذلك بحجة أن استقالة سالستينوس الخامس غير مقبولة شرعاً، لأن البابا لا يستطيع التنازل. ومنشورهم الذي أصدروه سنة 1297، والذي اشترك فيه جاكوبون دي تودي، كانت عباراته عاصفة قاسية، فالسلطة الكنسية من الصعب أن تقبل بهذا التدبير وسيحمل، بعد ذلك، بونيفاسيوس الثامن، ثقل عداوتهم.
إن البابا الجديد كان قبل كل شيء رجل قانون. ففكرته الثيوقراطية، التي سيصيغها اللاهوتيون بإيحاء من البابا هي قاطعة جازمة وقاسية أكثر من أفكار اينوشنسيوس الرابع. وقد ظنّ أنه مازال باستطاعته وضع هذه الأفكار قيد العمل، وهذا كان لسوء حظه وحظ الكنيسة، بيد أنه كان ينقصه قداسة غريغوريوس السابع، وجدارة اينوشنسيوس الثالث. وقد قاده طبعه العصبي وعناده إلى خوض معركة لا أمل له فيها بالنصر. إذ سينقصه، فعلاً، دعم المسيحية. ومن أسباب انخذاله محاباته وتوظيفه لأقاربه المخالف للشرع مما جرّه إلى صراع مسلّح ضد حزب الكولونا، وكان ضده أيضاً، السلطة الكنسية، كما ستقوم ضده جامعة باريس التي أذلّها دون فائدة، وفي صراعه مع فيليب الجميل، حتى مع غض النظر عن تصرفات الملك المخادعة، قد رفض الرأي العام الفرنسي التفكير بأن مصلحة البابا تطابق مصلحة الكنيسة. سار البابا في اتجاه معاكس في أوروبا حيث راحت القوميات تتوضح أكثر مع عزم الشبيبة، وما من أحد يظن بأنّ مسيحياً واحداً عليه أن يتبعه تحت طائلة خسران نفسه. كان على البابا أن يسوّي سلسلة من الأعمال السياسية: المشكلة السيسيلية (ساند شارل دانجو وسيطلب من شارل دي فالوا أخي فيليب مساندته)؛ النزاع الفرنسي الفلمنكي؛ العلاقات مع الإمبراطورية، ومع المدن الإيطالية.
الأحداث التي تحركت أبداً والأكثر استحقاقاً للذكر في الباباوية هي الصراع بين بونيفاسيوس الثامن وملك فرنسا فيليب الجميل. قد حدث أول صراع سنة 1296 عندما طلب فيليب الجميل من الاكليروس دعم مصاريف المملكة. فالبابا ذكّر، وبدون مساومة، بحقوق الاكليروس. خمد النزاع وأظهر بونيفاسيوس الثامن حسن الاستعداد وقدّم شهادة على ذلك بأن باشر سنة 1298 بتطويب القديس لويس (جدّ الملك فيليب الجميل). بيد أن النزاع بقي ناراً تحت الرماد. ففيليب الجميل كان قد أصدر منذ سنة 1297 إعلاناً عن مبدأ صاغه بوضوح تام “فصل الحكومة الزمنية” مع بقائه “ابناً حقيقياً للكنيسة”. ما إن لفظ البابا الحكم بدعوى النزاع الفرنسي الانكليزي حتى قبله العاهلان تحت شرط أن يكون الحكم صادراً باسم وسلطة بنوا غايتاني وليس باسم السلطة الباباوية. كل هذا يدل على نيّة الملكين في فصل الحكومة عن الكنيسة. وفي سنة 1300 كان في روما اليوبيل الأول. كانت الحشود غفيرة، بنوع يفوق الحد، وقد أبدى الحجاج عميق الاحترام للبابا.
ظنّ بونيفاسيوس الثامن أن سلطته على المسيحية هي بلا حدود. فكان يرى لابساً بزّةً إمبراطورية، ومتقلداً بالشعارين، مما يعني في مفهوم ذلك العصر، رمز السلطة الروحية والسلطة الزمنية. أما الصراع الثاني ـ الذي كان كارثة ونكبة ـ فكان مع فيليب الجميل، بدأ سنة 1301 وبقيت أسبابه غير واضحة تماماً. فأوقف الملك، بتهمة الخيانة العظمى، مطران باميه، برنار سيسه. فاحتج البابا باسم حقوق الاكليروس وبالامتياز المحفوظ للكرسي الرسولي عندما يراد محاكمة مطران. جعل البابا هذا الخلاف في التصميم العقائدي، وأثبت في البراءة الباباوية “اسمع يا بني” أولية وسلطة البابا على الملك الذي، كمسيحي، عليه، حتى في حكومة المملكة، أن يحترم السلطة الباباوية والقواعد القانونية المنبثقة عنها.
زوّر الملك البراءة وجذب الرأي العام الفرنسي إلى جانبه، فيما راح كرادلة كولونا، المبعدون إلى فرنسا، ينفخون في النار، والسلطة الكنسية أجمع ثاروا كلهم ضد البابا بطريقة دنيئةٍ.
أعلن الملك ومجلس شوراه، دون أن يمسّوا أولية السلطة العرفية للحبر الأعظم، أنّ بنوا غيتاني لم يكن سوى بابا دخيل (بابا زور)، وإن تنازل سالستينوس كان لاغياً، حتى ولئن كان انتخابه قانونياً، فقد حقوقه الحبرية لكونه هرطوقياً ومرتكباً خطايا شائنة. كل هذا قد تكمل في الدعوة الرسمية لعقد مجمع عام للبحث في قضية بنوا غايتاني (حزيران 1303). أوفد الملك وفداً بقيادة نوغاره ليبلغ البابا الدعوة إلى المجمع. فنوغاره هذا أخذ معه جماعات مسلحة كانت قد جهزتها جماعة كولونا. احتلت هذه الجماعات أناني حيث يقيم البابا. وأكمل نوغاره مهمته؛ فأهان جماعات كولونا البابا الذي عندما أوقعوه عن الكرسي استعاد نشاطه ليقول لهم: “هوذا عنقي، هوذا رأسي، لكني أنا البابا وسأموت بابا”.
قام أهل أناني وطردوا كولونا قبل أن تتمكن هذه الجماعات من أخذ البابا أسيراً كما كانت نيتهم. لقد تأثر بونيفاسيوس الثامن بذلك، ومع أنه دخل إلى روما، فقد مات بعد شهر واحد شبه مهمل تقريباً. لم يجد أحدٌ، من اللاهوتيين الكاثوليك، مهما كانت الاعتبارات السابقة، في الأحداث العاصفة التي طبعت النزاع، شيئاً من النقد لينتقدوا به التحديد الصافي المشرق لأولية الحبر الأعظم، الذي ختم به البراءة “القدوس الواحد” (سنة 1302).
اعتبر القانونيون عمل بونيفاسيوس الثامن هاماً، ومؤخراً صنفوه، من وجهة النظر هذه، بأنه “سيمفوني ذواقة ومعتدل”.
برجوعنا في مجرى التاريخ، تبدو لنا حبرية بونيفاسيوس الثامن كآخر محاولة لإدراج المبدأ القائل بالثيوقراطية الحبرية بطريقة عملية لا نظرية فقط. كانت المحاولة عميقة لأن الشعوب (أو الملوك) لهم أيضاً مبادئهم في السلطة ولأن عمل البابا، بالواقع، كان بكل ما فيه من قوة، مسيّساً ولا يستطيع أن يجعله مدرجاً على البساط الديني فقط.
Discussion about this post