اينوشنسيوس الثالث (زخيا الثالث)
لوثير، من كونتات دي سيني 1198 – 1216
كان اينوشنسيوس الثالث في السابعة والثلاثين من عمره عندما انتخب حبراً أعظم؛ وهو ابن أخ اكليمنضوس الثالث، درس الحقوق وكان متفوقاً، وبعدها أمضى مدة لا بأس بها في البلاط الباباوي، مما جعله مهيّأ لمعالجة القضايا الكبيرة. إن عهده هو أحد أهم العهود الباباوية في تاريخ الكنيسة.
كانت التفسيرات اللاهوتية، التي فسّر بها الثيوقراطية (الحق الإلهي) الباباوية، أقل جزماً من تلك التفسيرات التي فسّرها بعض أسلافه وبعض الذين خلفوه. فقد أوضح، بالفعل، بأنه لم يكن من حق البابا ممارسة سلطته الروحية على الأمراء إلاّ لدوافع دينية وأخلاقية صرف؛ أي لدوافع ارتكاب الخطيئة. إن الفضل في بروزه كعالم قانوني متشرّع يعود إلى مفهومه الواقعي الذي مكنّه من بناء المسيحية حول الكرسي المقدس. لقد ركّز عمله بانتظام على ست نقاط هامة: العلاقات مع الإمبراطورية، ملكيات المقطعين التابعين للكرسي الرسولي. الجهاد الصليبي، محاربة الهراقطة، الإصلاح الديني وإنماء المؤسسات الرهبانية المتسولة ومجمع اللاتران.
أولاً: العلاقات مع الإمبراطورية: عند وفاة هنري السادس لم يكن لوريثه سوى ثلاث سنوات؛ ولم يكن وارداً تنصيبه إمبراطوراً، فانقسم الناخبون الألمان إلى قسمين: القسم الأول كان مع فيليب دي صواب، شقيق هنري السادس. والقسم الثاني كان مع اوتون دي برنسويك ابن أخت جان صان تير. توجّه نداء إلى البابا ليكون حكماً؛ لكن البابا اينوشنسيوس الثالث لم يعط جوابه في الحال، بل بعد طول انتظار، وذلك لأن حقوق كل منها كانت قابلة للجدل؛ ثم أيضاً إن خلو العرش الإمبراطي أتاحت للبابا الحرية ليفعل ما يشاء (كان يحق له خاصةً عزل الموظفين الإمبراطوريين في الدول التابعة للكرسي الرسولي). أخيراً أعلن البابا تأييده لأتون الذي توّج في 9 تشرين الأول سنة 1209. بيد أن أوتون هذا قد أثبت بأنه لم يكن أقل خطراً من آل شتافن، فحرمه البابا سنة 1210.
غيّر الأمراء الألمان موقفهم واعترفوا بفريدريك الثاني، ابن هنري السادس، كإمبراطور لفترة الحكم المقبلة، توّج فريدريك ملكاً على جرمانيا في مايانس سنة 1212: لقد جاء أوتون إلى بوفين (سنة 1214) للقتال ولمساندة ابن اخته جان صان تير ثم اختفى عن مسرح الأحداث.
ثانياً: ملكيات المقطعين: كان اينوشنسيوس الثالث يقبل بالنظام الإمبراطوري كعنصر أساسي للحق العام للمسيحية؛ ولكنه يعتقد أيضاً بأنه على الباباوية استعمال الحق الإقطاعي، وتركز سياسته الثابتة على إنشاء نوع من اتحاد لملكيات المقطعين حول الكرسي المقدس. انضمت، عند موته، جميع الدول المسيحية ذات الأهمية إلى التابعية الرومانية ما عدا فرنسا والبندقية، كانت سياسة البابا، من هذه الناحية، مفيدة جداً وبنوع خاص لصقلية وانكلترة. كانت صقلية تابعة لفريدريك الثاني الصغير السن، فكان على البابا، بما أنه سيد الإقطاعة، ممارسة وظيفته كمحافظ نبيل وكوصي على العرش، لقد اعترفت كونستانسيا والدة الملك الصغير صراحة بالبابا كوصي على ابنها وذلك عند موتها سنة 1198. دافع البابا عن حقوق فريدريك الصغير السن ضد الإمبراطور أوتون بكل قوته ولكنه لم يستطع أن يفعل أكثر من ذلك. وقع خلاف سنة 1203 بين البابا وملك انجلترا جان صان تير الذي كان يقوم بنهب أملاك الكنيسة بكل وقاحة ويسيء معاملة الاكليركيين، ويهزأ بالقانون إذا جوبه به.
كان الملك قد وقع بالحرم، وفرنسا كانت تعدّ العدّة للقيام بحملة عسكرية ضدّه لأنه أعلن نفسه سنة 1213 مقطعاً للكرسي المقدس ليحول، بذلك، دون خلعه عن العرش. إن إعادة فرض السلطة الباباوية التابعة للكرسي المقدس المبنية على تابعية جماعة أمناء مخلصين تابعين للإقطاعة لهي تجسيد للسياسة الأقطاعية التي اتبعها اينوشنسيوس الثالث.
ثالثاً: الجهاد الصليبي: كان الجهاد الصليبي، على أرجح الاحتمال، الشغل الشاغل لاينوشنسيوس الثالث، إذ راح يبشر به منذ اللحظة الأولى لانتخابه. لم يتم تنظيم الصليبية إلاّ في سنة 1203، وأيضاً نظراً للوضع المضطرب في ألمانيا، ثم إن الصراع الذي قام بين فيليب أوغوست وجان صان تير، بسبب إعادة فتح أسبانيا، لم يشمل أياً من الملوك، لذلك حوله أهالي البندقية فعلاً إلى مصلحتهم. إنه لمعروف كيف أدّى هذا النزاع إلى احتلال القسطنطينية المزدوج، وإلى إبادة الإمبراطورية البيزنطية وقيام إمبراطورية لاتينية ما لبثت أن تلاشت بعد نصف قرن، فاضطر البابا إلى تحمّل البلاء بطيبة خاطر؛ ثم رفع إحتجاجاً شديد اللجهة في ما يتعلق بنهب القسطنطينية، وأصرّ، على أن يكون احتلالها نقطة انطلاق للجهاد الصليبي الحقيقي إصراراً قوياً لكنه لم يجرؤ على رشق الصليبيين بالحرم. كان يعدّ العدة لحملة صليبية جديدة قبيل موته بقليل، إذ توفي أثناء ذلك.
رابعاً: مكافحة الهرطقة: كانت الهرطقة الكاتارية أكثر الهرطقات خطراً، فاصطدم اينوشنسيوس الثالث بنوايا ريمون دي تولوز السادس السيئة، اضطرّ للرجوع عن قراره بحرمه ولاصدار الأوامر بقيام حملة صليبية ضد الكاتاريين الألبيجيين. أما الألبيجيون فقد سحقهم صليبيو الشمال في مورية سنة 1213. فاقتسم الصليبيون ـ بالتآمر مع السفراء الباباويين الغير اعتياديين ـ ممتلكات المهزومين. وانحرفت الصليبية هذه عن هدفها واتجهت إلى سلب الأملاك؛ ولم يستطع البابا منع ذلك. انطفأت الهرطقة الكاتارية بفضل التبشير الدومينيكي وبفضل التدابير الصارمة أيضاً ـ منها محكمة التفتيش ـ شيئاً فشيئاً.
خامساً: الإصلاح والمؤسسات الرهبانية المتسولة: إن الإصلاح الغريغوري قد حرر الكنيسة من علمنة الدرجات الكنسية؛ لكنه قد بقي، لإتمام الإصلاح، أن يصار إلى إقامة اكليروس ملتزم بأصول الحشمة، وإلى تحديد أطر الحياة المسيحية بوضوح، خاصة في الوقت الذي كانت تولد فيه مدنيّة جديدة في الغرب بفعل التطوّر العمراني، وفي حين كانت الرأسمالية تفرض نفسها كقوة جديدة.
أوجد القديس “دومينيك والقديس فرنسيس الأسيزي” نمطاً للحياة المسيحية مبنياً على احتقار المال، إذ باشرا باتّباع نوع جديد من التبشير الشعبي ثم أنشأ كل منهما رهبانيات لمتابعة عملهما: وبهذا أثبت هذان القديسان أنهما العاملان الأقوى في الإصلاح الذي ظلّ الشاغل الأكبر لعهد البابا اينوشنسيوس الثالث. وكان الفضل في فهم وتأييد وتشجيع عمل هذين القديسين المؤسسين.
سادساً: مجمع اللاتران: التأم المجمع (المسكوني) في اللاتران سنة 1215 بناء على دعوة من البابا، وكان على جدول أعماله محاربة الهرطقة، والجهاد الصليبي، واتحاد الروم (اليونان) فالإصلاح.
ومما هو جدير بالذكر أن هذا المجمع قد أعلن مجدداً الحكم على الهرطقة الألبيجية؛ وأنّ آباءه قد حددوا وشرحوا بكل دقة مبادئ التعليم في الأسرار. مانحين بذلك المسيحية أطر حياة واضحة المعالم هي بحاجة إليها في تلك الفترة التي كانت تحدث فيها تجديدات وتغيّرات. إن المجمع اللاتراني هذا هو بمثابة خلاصة عهد اينوشنسيوس الثالث. توفي اينوشينسيوس الثالث في بيروزا سنة 1216.
ترك لخلفائه عملاً ضخماً مثقلاً بالمناهج، ولكن على المسيحية الاستمرار في بناء ذاتها وتطبيق منهجها.
قد عظمّت أسطورة الأيقونات والرسوم اينوشنسيوس الثالث تعظيماً في الرسوم التي رسمها أمثال: (دجيوتو في أسيز وفلورنسا وغيرلنداجو في فلورنسا، وفي جدرانية ساكرو التي عملها سوبياكو، الخ…).
نقل لاون الثالث عشر (مطران بيروزا سابقاً) رفات اينوشنسيوس الثالث إلى اللاتران.
Discussion about this post