مجمـع العقيـدة والإيمـان
CONGRÉGATION POUR LA DOCTRINE DE LA FOI
«رسالة فاطيما»
LE MESSAGE DE FATIMA
حاضرة الفاتيكان 2000
في العبور من الألف الثاني إلى الثالث، قرّر البابا يوحنا بولس الثاني أن ينشر نصّ القسم الثالث من «سرّ فاطيما».
بعد أحداث القرن العشرين المأسويّة القاسية، وهو من أهمّ القرون في تاريخ الإنسانية، وقد بلغ ذروته القصوى في الاعتداء الدامي على من هو «المسيح الوديع على الأرض» يُكشف الستار عن حقيقة تطبع التاريخ وتشرحه في العمق، وَفْقَ بُعدٍ روحيّ، تتنكّر له الذهنيّة المعاصرة المطبوعة غالباً بالعقلانية.
فالظهورات والآيات الفائقة الطبيعة حاضرة على مدى التاريخ، وهي تدخل في صميم التحوّلات البشريّة، وترافق درب العالم، مذهلة المؤمنين وغير المؤمنين. ولكن تلك الظهورات، التي لا يمكنها أن تنقض محتوى الإيمان، ينبغي أن تتوجّه كلّها إلى الموضوع المركزيّ في بشارة المسيح، أي محبة الآب التي تحضّ الناس على التوبة، وتمنح النعمة لكي يسلّم الإنسان نفسه إلى الآب بعبارة بنوية. تلك هي أيضاً رسالة فاطيما، التي بندائها المؤثر إلى الاهتداء والتوبة تقود في الواقع إلى قلب الإنجيل.
إن ظهور العذراء في فاطيما هو بدون شكّ نبويّ أكثر من جميع الظهورات المعاصرة. فالقسمان الأوّلان من «السرّ» – وننشرهما طيّه لتكون المراجع كاملة – يتعلّقان بنوع أخص برؤيا جهنّم المخيفة، والعبادة لقلب مريم البريء من الدنس، والحرب العالمية الثانية، والإنباء أيضاً بالأضرار الجسيمة التي تسبَّبت بها روسيّا بحقّ الإنسانية، عندما أنكرت الإيمان المسيحي، والتزمت بالنظام الشيوعي.
في سنة 1917، ما كان أحد قادراً أن يتصوَّر كلّ تلك الأمور. لكنّ الرُعاة الصغار في فاطيما قد رأوا كل ذلك، وسمعوه، وحفظوه في ذاكرتهم. ولوسيَّا، الشاهدة التي ما زالت على قيد الحياة، قد حرَّرته كتابةً، منذ اقتبلت الأمر من الأسقف، والإذن من السيدة العذراء.
في ما يتعلّق بشرح القسمين الأوّلين من «السرّ»، وقد نُشرا سابقاً وأصبحا معروفين، اخترنا النصّ الذي كتبته الأخت لوسيَّا في مذكّرتها الثالثة (31 آب 1941) وفي مذكّرتها الرابعة (8 كانون الأول 1941) حيث أضافت إليه بعض الحواشي.
والقسم الثالث من «السرّ»، كتبته «بأمر من سيادة المطران ليريا والأم القديسة»، في 3 كانون الثاني 1944.
لا يوجد سوى مخطوط واحد، في مغلَّف مختوم حفظه أولاً أسقف ليريا. ولحفظ «السرّ» بنوع آمن، أرسل المغلّف إلى دار المحفوظات السرّية (الأرشيف) في المجمع المقدّس، في 4 نيسان 1957، بعد أن أَعلم أسقف ليريا الأخت لوسَّيا بذلك.
وفق ما ورد في ملاحظات حول المحفوظات، وبالاتفاق مع أمين سرّ المجمع المقدَّس، الكردينال ألفريدو أُوتَّافياني، في 17 آب 1959، نقل الأب بيار – بول فيليب، إلى البابا يوحنا الثالث والعشرين، الغلاف الحاوي القسم الثالث من «سرّ فاطيما». فقال قداسة البابا « بعد شيء من التردّد»: فلننظر. وسأصلّي. ثم سأعلمكم بما قرَّرت»[1].
وفي الواقع، قرَّر البابا يوحنا الثالث والعشرون أن يُعيد المغلّف مختوماً إلى المجمع المقدّس، وألاَّ يكشف القسم الثالث من «السرّ».
ولقد قرأ بولس السادس المحتوى مع نائبه المونسنيور أنجيلو ديَّلاكوا، في 17 آذار 1965، ثم أعاد المغلّف إلى دار المحفوظات السرّية في المجمع المقدّس، وقرَّر أن لا يُنشر النصّ.
أما يوحنا بولس الثاني فقد طلب المغلّف الذي يحوي القسم الثالث من «السرّ»، بعد الاعتداء عليه في 13 أيار 1981. ونيافة الكردينال مرانجو سيبير، رئيس المجمع، سلّم إلى سيادة المونسنيور إدواردو مارتيناز سومالو، نائب سكرتيرية الدولة، في 18 تموز 1981، مغلّفين: الواحد أبيض، وهو يحوي نصّ الأخت لوسيَّا الأصلي في اللغة البرتغالية، والثاني برتقالي، يحوي ترجمة «السر» في اللغة الإيطالية. وفي 11 آب التالي، أرجع المونسنيور مارتيناز المغلَّفين إلى دار المحفوظات في المجمع المقدّس[2].
وكما هو معلوم، بادر البابا يوحنا بولس الثاني حـالاً وفكرً في تكريس العالم لقلب مريم البريء من الدنس، وألّف هو بنفسه صلاة من أجل ما حدَّده وسمَّاه «فعل التكريس»، للاحتفال به في بازليك القديسة مريم الكبرى، في 7 حزيران 1981، عيد العنصرة، وهو اليوم المحدَّد للذكرى 1600 لمجمع القسطنطينية المسكوني الأول، و 1550 لمجمع أفسس. ولقد تغيَّب البابا قسراً عن الاحتفال [بسبب الاعتداء]، ولكن عظته أُذيعت مسجَّلة بصوته. وننقل هنا النصّ المتعلّق بفعل التكريس:
«يا أمّ الناس والشعوب، أنتِ يا من تعرفين كلَّ آلامهم وآمالهم، أنتِ يا من تشعرين بصورة أموميَّة بكلّ الصراعات بين البشر، بين النور والظلمات التي تهزّ العالم، تقبّلي ما نوجّهه، بالروح القدس، مباشرةً إلى قلبك، وضمّي بحبّكِ أنتِ يا أمَّ الربّ وخادمته، أولئك الذين هم في حاجة أكثر إلى حنانك، وأيضاًاولئك الذين تنتظرين منهم بصورة خاصّة أن يكلوا إليك بأنفسهم. احفظي بحمايتك الأمومية كل العائلة البشرية، التي نضعها، باندفاع محبّة، بين يديك، يا أمنّا، وليأتِ للجميع زمن السلام والحريّة، زمن الحقيقة والعدل والرجاء»[3].
ولكن الأب الأقدس، بُغيةَ الإجابة بنوع أكمل على طلبات «سيدتنا»، شاء أن يوضح، في أثناء سنة الفداء المقدَّسة، فعل التكريس الذي قام به في 7 حزيران 1981، وجدَّده في فاطيما في 13 أيار 1982. ففي 25 آذار 1984، في ساحة مار بطرس، بالاتحاد مع جميع أساقفة العالم، الذين «دعوا» سابقاً إلى الاجتماع، وبعد أن أشار إلى «نعم» مريم في البشارة، كرّس البابا الناس والشعوب لقلب مريم البريء من الدنس، بنبرات تذكّر بكلماته المؤثّرة التي فاه بها سنة 1981:
«لذلك، يا أم الناس والشعوب، أنتِ يا من تعرفين كلّ آلامهم وآمالهم، أنتِ يا من تشعرين بصورة أموميّة بكل الصراعات بين الخير والشرّ، بين النور والظلمات التي تهزّ العالم المعاصر، تقبّلي النداء الذي نوجّهه مباشرةً إلى قلبك، مدفوعين بالروح القدس، وضمي أنتِ يا أم الرب وخادمته، عالمنا الإنساني، الذي نقدّمه ونكّرسه لك، ونحن في قلق شديد على مصير الناس والشعوب الزمني والأبدي. نقدّم لك ونكّرس بصورة خاصّة الناس والأمم الذين بحاجة خاصّة إلى هذا التقديم والتكريس.
«فإلى حماية رحمتكِ نلتجئ، يا أمّ الله القديسة. لا تردّي صلواتنا ونحن في قلب المحنة».
ثم أضاف البابا بإشارات أقوى وبصورة ملموسة أكثر، وكأنه يشرح رسالة فاطيما:
«أمامك، يا أمّ المسيح، أمام قلبك البريء من الدنس، نريد اليوم مع الكنيسة جمعاء أن نتَّحد بالتكريس الذي كرَّس به ابنُكِ نفسَهُ لأبيه، حُبّاً لنا: «أنا أقدّس ذاتي من أجلهم، ليكونوا هم أيضاً مقدّسين في الحقّ» (يو 17/19). نريد أن نتّحد بفادينا بواسطة هذا التكريس من أجل العالم والناس، الذي هو في قلب الله ذو سلطان أن يمنحنا الغفران ويمُدّنا بالتعويض.
إن قوّة هذا التكريس تدوم في كل الأزمان، وتضمّ كلّ الناس والشعوب والأمم، وتتخطّى كل سرّ يمكن لروح الظلمات أن يوقظه في قلب الإنسان وفي تاريخه، وقد أيقظه بالفعل في عصرنا.
فكم نشعر في العمق بحاجة إلى تكريس من أجل الإنسانية ومن أجل العالم، ومن أجل عالمنا المعاصر، بالاتحاد مع المسيح نفسه! ينبغي بالفعل أن يشترك العالم بواسطة الكنيسة في عمل الفادي. وهذا ما تظهره سنة الفداء هذه، يوبيل الكنيسة كلّها الغير عاديّ.
في هذه السنة المقدَّسة، كوني مباركة فوق كل خليقة، أنتِ يا خادمة الربّ، يا من أطعتِ بالنوع الأكمل لفدائه الإلهيّ!
السلام عليك، أنتِ يا من اتحدتِ اتحاداً كلياً بالتكريس الفادي الذي قام به ابنكِ!
يا أمّ الكنيسة! علّمي شعب الله دروب الإيمان والرجاء والمحبّة! نوّري بنوع خاصّ الشعوب الذين تنتظرين منّا أن نكرّسهم ونقدّمهم! ساعدينا لنحيا في حقيقة تكريس المسيح من أجل كل العائلة البشرية في العالم المعاصر!
أيتها الأم!، أننا فيما نكل إليكِ العالم وجميع الناس، نكل إليكِ أيضاً تكريس العالم نفسه،، ونضعه في قلبك الأمومي.
أيها القلب البريء من الدنس! ساعدنا لنغلب تهديدات الشرّ الذي يتأصَّل اليوم بسهولة في قلوب النـاس، ويُلقي بثقله على الحياة الحاضرة بنتائجه التي لا يمكن حصرها، حتى لَيكادُ يقطع السبيل صوب المستقبل!
من الجوع ومن الحرب، نجيّنا!
من الحرب الذرّية، من تدمير أنفسنا بأنفسنا وبغير حساب، ومن كل أنواع الحروب، نجيّنا!
من الخطايا ضدّ حياة الإنسان منذ لحظات وجوده الأولى، نجيّنا!
من البغض والحطّ من كرامة أبناء الله، نجيّنا!
من كل أنواع الظلم في الحياة الاجتماعية والوطنية والدولية، نجيّنا!
من السهولة التي بها تُداس وصايا الله، نجيّنا!
من محاولة إطفاء حقيقة الله نفسها في قلوب البشر، نجيّنا!
من فقدان الضمير المميّز بين الخير والشرّ، نجيّنا!.
من الخطايا ضدّ الروح القدس، نجيّنا! نجيّنا!
يا أمّ المسيح، أنصتي إلى هذا الصراخ المثقّل بآلام جميع الناس! المثقل بآلام المجتمعات كافة!
ساعدينا بقوّة الروح القدس، لنغلب كلّ خطيئة: خطيئة الإنسان، و«خطيئة العالم»، والخطيئة في كلّ أشكالها!
ولتظر مرَّة أخرى في تاريخ العالم قدرة الفداء الخلاصية اللامتناهية، وقدرة الحب الرحوم! وليُوقفِ الشرَّ! وليحوّل الضمائر!
ولينجلِ في قلبكِ البريء من الدنس نور الرجاء للجميع!»[4].
ولقد أكّدت الأخت لوسيّا أن فعل التكريس هذا الاحتفالي الشامل هو مطابق لما كانت تريده سيّدتنا: («أجل! لقد تمّ كما كانت قد طلبته سيدتنا في 25 آذار 1984»: «رسالة بتاريخ 8 تشرين الثاني 1989). لذلك فكلّ جدال، وكل تطلّب جديد يبقى بدون أساس.
وبين الوثائق التي نعرضها هنا، أضفنا إلى ما خطّته الأخت لوسيَّا بيدها، أربعة نصوص أخرى:(1) رسالة الأب الأقدس إلى الأخت لوسيَّا، مؤرَّخة في 19 نيسان 2000؛ (2) وصف اللقاء مع الأخت لوسيَّا في 27 نيسان 2000؛ (3)الكلمة التي ألقاها بأمر الأب الأقدس، في فاطيما، في 13 أيار الماضي، نيافة الكردينال أنجيلو سودانو، أمين سرّ الدولة؛ (4) الشرح اللاهوتي لنيافة الكردينال جوزيف راتسنغر، رئيس مجمع العقيدة والإيمان.
ولقد أشارت الأخت لوسيَّا إلى شرح القسم الثالث من «السرّ» في رسالة إلى الأب الأقدس، في 12 أيار 1982، قالت فيها:
«القسم الثالث من السرّ يُشير إلى كلمات سيّدتنا : «وإلاّ فروسيا ستنشر أضاليلها عبر العالم، مشجعة على الحروب والاضطهادات ضدّ الكنيسة. سيُستشهَدُ الصُّلاَّح، والأب الأقدس سيتألّم كثيراً، وأمم عديدة ستُدمَّر».
القسم الثالث من السرّ هو وحي رمزي، يعود إلى ذلك القسم من الرسالة المشروط بأن نقبل أو لا نقبل بما تطلبه منّا هذه الرسالة: «إذا قُبلت مطالبي، فستهتدي روسيا، ويحلّ السلام؛ وإلاّ فهي ستنشر أضاليلها عبر العالم…».
وبما أننا لم نحسب لنداء الرسالة هذا حسابً، نرى انه قد تحقّق، لأنَّ روسيّا قد غمرت العالم بأضاليلها. وإن لم تتأكد بعد من التحقيق الكامل للقسم الأخير من هذه النبوءَة، فإننا نجد أنفسنا سائرين إليها تدريجياً بخطوات واسعة، إن لم نمتنع عن طريق الخطيئة، والبغض والثأر، الذي ينتهك حقوق الشخص البشري، واللاخُلُقيّة والعنف…
ولا نقل إن الله هو الذي يقاصصنا هكذا؛ بالعكس، فإن البشر هم الذين يهيّئون بأنفسهم القصاص لأنفسهم. لكنّ الله بعنايته يحذّرنا ويحضّنا على اتبّاع الطريق الصالح، محترماً الحريّة التي وهبها لنا؟ ولذلك فالبشر هم المسؤولون»[5].
إن قرار البابا يوحنا بولس الثاني بنشر القسم الثالـث من «سرّ» فاطيما يختم مرحلة من التاريخ، كانت مطبوعة بإرادات بشريّة مأسويّة للسيطرة والظلم، ولكنَّها كانت أيضاً مشبعة بحبّ الله الرحوم، وسهر أمّ الله، أمّ الكنيسة وتنبيهاتها.
إن عمل الله، سيّد التاريخ، وتجاوبَ الإنسان بحريّته المأسوية والخصبة معاً، هما المحوران اللذان عليهما يُبنى تاريخ الإنسانيّة.
والعذراء مريم، بظهورها في فاطيما، تذكّرنا بتلك القيم المنسيّة، وبمستقبل الإنسان في الله، ذاك المستقبل الذي لنا فيه قسمة فاعلة ومسؤولة.
+ تارشيسيو برتوني
رئيس أساقفة فرسلي شرفاً
أمين سر مجمع العقيدة والأيمان
سرّ فاطيما
القسمان الأول والثاني :
من «السرّ» كما وردا في رواية الأخت لوسيّا في مذكّرتها الثالثة، في 31 آب 1941، الموجّهة إلى أسقف ليريا – فاطيما (النص الأصلي)(في اللغة البرتغاليّة)[6]
«لذلك يجب علّي أن أتحدَّث قليلاً عن السرّ، فأجيب على السؤال الأوّل. بم يقوم هذا السرّ ؟
أرى أني أستطيع أن أبوح به، لأن السماء قد سمحت لي بذلك، والذين يمثّلون الله على الأرض قد أذنوا لي به، مرّات متكرّرة في الرسائل، وأظن أن سيادتك قد احتفظت بواحدة منها، برسالة الأب خوسه برنردو غونسالفس، التي فيها يأمرني بأن أكتب إلى الأب الأقدس، وبين النقاط التي يحدّدها لي هي إعلان السرّ. لقد قلت منه بعض الشيء. ولكنيّ لئلا أطيل الكلام أكثر في هذه الرسالة، قد اكتفيت بالضروري الذي لا بدّ منه، تاركة لله مناسبة أخرى مؤاتية.
حسن. يحوي السرّ ثلاثة أمور مختلفة، وسأكشف منها أمرين. الأمر الأول هو رؤيا جهنم. أظهرت لنا سيّدتنا بحراً كبيراً من نار، وكأنه تحت الأرض، وفي هذه النار يغوص الشياطين والنفوس، وكأنهم مجرات شفّافة، سوداء لمّاعة، في شكل بشري. كانوا يعومون فوق النار، محمولين باللهيب المتدفّق منهم، مع سُحُب دخان. ثمّ يتساقطون مثل شرارات في وسط حريقة واسعة المدى بدون ثقل وبدون اتّزان، مع صراخ وتنهّدات من ألم ويأس مخيفة ومرجّفة من شدَّة الهول. ولكن الشياطين مميَّزون بأشكالهم المرعبة والباعثة إلى الاشمئزاز، في أشكال حيوانات مروّعة وغير مألوفة، ولكنَّها شفاَّفة وسوداء. دامت الرؤيا هنيهة، بفضل أمّنا السماوية الطيّبة التي سبقت فنبّهتنا، ووعدتنا بأن تقودنا إلى السماء (في الرؤيا الأولى). وآلا، أظنّ أننا كنّا متنا من الرعب والخوف.
بعد هذا رفعنا أعيننا إلى سيّدتنا، فقالت لنا بطيبة وحزن:
«لقد رأيتم جهنّم حيث تذهب نفوس الخطأة المساكين. ولكي يخلّصها، يريد الله أن يقيم في العالم العبادة لقلبي البريء من الدنس. فإذا عمل الناس بما سأقوله لكم، تخلص نفوس كثيرة، ويكون السلام. وتنتهي الحرب. ولكن إذا ما برح الناس يهينون الله، في أثناء حبرية بيوس الحادي عشر، فسوف تبدأ حرب أشدّ منها بكثير. وعندما سترون الليل مشعاً بنور غير مألوف، اعلموا أنها العلامة الكبرى التي يعطيكم الله إياها، على انه سيقاصص العالم على جرائمه بواسطة الحرب والجوع والاضطهاد ضدّ الكنيسة والأب الأقدس. ولكي امنع تلك الحرب، سآتي وأطلب تكريس روسيّا لقلبي البريء من الدنس، والمناولة التعويضية في كل أوّل سبت من الشهر. فإذا قبل الناس مطالبي هذه، فسوف تهتدي روسيّا، ويحلّ السلام. وإلاّ فهي ستنشر أضاليلها عبر العالم مثيرة حروباً واضطهادات ضدّ الكنيسة. سيُستشهَدُ الصُّلاَّح، والأب الأقدس سيتألم كثيراً، وأمم عديدة ستُدمَّر. وفي النهاية سينتصر قلبي البريء من الدنس. والأب الأقدس سيكرّس لي روسيّا التي ستهتدي، فيوهب العالم وقتاً من السلام[7].
القسم الثالث من السرّ:
(النص الأصلي)(الترجمة)[8]
والقسم الثالث من السرّ قد أوحي به في 13 تموز 1917، في كوفا ايريا – فاطيما[9].
إني أكتب طاعةً لك، يا إلهي، يا من تأمرني بواسطة سيادة مطران ليريا، وأمّك الكليّة القداسة، وهي أيضاً أمّي.
بعد القسمين اللذين سبقت فعرضتُهما، رأينا إلى جانب سيدتنا الأيسر، وقليلاً نحو الأعلى، ملاكاً يحمل بيده اليسرى سيفاً من نار، وكان هذا السيّف يلمع ويرسل شُهُب نار مُعَدّة، على ما يبدو، لتُحرق العالم، ولكنّها كانت تنطفئ لدى ملامستها البهاء الذي كان ينبعث من يد سيّدتنا اليمنى في اتجاه الملاك. والملاك الذي كان يشير بيده اليمنى إلى الأرض، قال بصوت قويّ: توبوا! توبوا! توبوا! ورأينا في نور عظيم، من هو الله: «أشبه بما يرى فيه الأشخاص أنفسهم في مرآة عندما يمرّون من أمامها»، أسقفاً لابساً ثوباً أبيض، «وقد أحسسنا مسبقاً بأنه الأب الأقدس». ورأينا أساقفة آخرين عديدين، وكهنة ورهباناً وراهبات صاعدين إلى جبل وعر، وفي قمَّته كان ينتصب صليب كبير من جذعين خشنين وكأن قشرتهما من جذع سنديان ونخيل. فالأب الأقدس، قبل أن يصل، جاز في وسط مدينة كبيرة، نصفها مدمّر، وفيما كان يرتجف ويمشي بخطى مترجرجة، وهو مقتّم من الألم والتعب، كان يصلّي من أجل نفوس الجثث التي كان يصادفها على طريقه. ولمّا وصل إلى قمّة الجبل، وسجد على ركبتيه عند أقدام الصليب الكبير، قتله رهط من الجنود أطلقوا عليه عدَّة طلقات من سلاح ناريّ وأسهُم. وبالطريقة عينها مات الواحد بعد الآخر الأساقفة الآخرون والكهنة والرهبان والراهبات وكثيرون علمانيون، رجال ونساء، من مختلف فئات المجتمع. وتحت ذراعي الصليب، كان ملاكان يحملان كل واحد منهما بيده مرشَّة من بلّور، فيها كانا يجمعان دماء الشهداء، ومنها كانا يسقيان النفوس التي كانت تدنو من الله.
في توي 3/1/1944».
(تفسير السرّ)
رسالة من البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأخت لوسيّا (النص الأصلي)(الترجمة):
أيتها الأخت المحترمة ماريا لوسيا دير كوامبرا:
في فرح الأعياد الفصحيّة، أوجّه إليك تمنّي يسوع القائم لتلاميذه: «السلام معكم!».
سأكون سعيداً بأن ألتقيك في أثناء اليوم المنتظر لتطويب فرنسيسكو وياسنتا اللذين، إن شاء الرب، سأعلن تطويبهما في 13 أيار القادم.
ولكن بما انه لن يكون لديَّ وقت للقاء، بل لسلام سريع فقط، فقد كلّفت رسمياً المونسنيور ترسيسيو برتوني، أمين سرّ مجمع العقيدة والإيمان، بأن يأتي ويتحدّث اليكِ. هذا هو المجمع الذي يعاون البابا بتضامن كلّيّ، للدفاع عن الإيمان الحقيقي الكاثوليكي، والذي احتفظ، كما تعلمين، منذ 1957 برسالتك، بخطّ يدك، وهي تحتوي القسم الثالث من السرّ الذي أوحي به في 13 تموز 1917 في كوفا ايريا في فاطيما.
فالمونسنيور برتوني، يرافقه أسقف ليريا، المونسنيور سيرافيم سوزا فرّيرا أي سلفا، يأتي باسمياليكِ لكي يطرح عليكِ بعض الأسئلة حول تفسير «القسم الثالث من السرّ».
أيتها الأخت المحترمة ماريا لوسيّا، تكلّمي بوضوح كلّي وبطريقة تامة مع المونسينيور برتوني، وهو سينقل اليَّ مباشرة أجوبتكِ.
اني أصلّي إلى أمّ القائم، من أجلكِ، ومن أجل جماعة كوامبرا، ومن أجل الكنيسة كلّها. ولتحفظنا مريم أمّ الإنسانية التي تسير في حجّ نحو الله، قريبين دوماً مـن يسوع، ابنها الحبيب، وربّ الحياة والمحبة.
مع بركتي الرسولية الخاصة.
يوحنا بولس الثاني
الفاتيكان، في 19 نيسان 2000 .
اللقاء مع الأخت ماريا لوسيّا:
إن موعد اللقاء بين الأخت لوسيّا والمونسنيور ترشيسيو برتوني، امين سرّ مجمع العقيدة والإيمان، الموفد من قبل الأب الأقدس، والمونسنيور سرافيم دي سوسا فرّيرا أي سلفا، اسقف ليريا فاطيما، قد تمّ نهار الخميس الواقع فيه 27 نيسان الماضي في كرمل القديسة تريزيا في كوامبرا.
كانت الأخت لوسيّا واضحة وصافية الذهن. وكانت مسرورة جداً بمجيء الأب الأقدس إلى فاطيما، لتطويب فرنسيسكو وياسنتا، وقد كانت تتوقّعه من زمن بعيد.
قرأ أسقف ليريا فاطيما رسالة الأب الأقدس المكتوبة بخط يده، وفيها يشرح أسباب الزيارة. أحسّت الأخت لوسيّا بشرف كبير. وأعادت شخصيّاً قراءة الرسالة وهي تتأمّل فيها بين يديها. عبّرت انها مستعدّة أن تجيب بصراحة على كل الأسئلة.
حينئذ قدّم لها المونسينيور ترشيسيو برتوني المغلّفين: المغلّف الخارجي، والمغلّف الذي يحوي الرسالة مع القسم الثالث من «سرّ» فاطيما، فأعلنت مؤكّدة للحال، وهي تمّسها بأصابعها: «هذه رسالتي!»، ثم قرأتها قائلة: «هذا خطي!».
ثم قُرىء النص الأصلي المكتوب في اللغة البرتغالية، وشُرِحَ، بمعاونة أسقف ليريا فاطيما، وشاطرتهم الأخت لوسيّا في الشرح، معلنة ان القسم الثالث من «السرّ» هو كتابة عن رؤيا نبويّة، أشبه بالرؤيوات التي حصلت في التاريخ المقدّس. وأكّدت من جديد قناعتها بأن رؤيا فاطيما تتعلّق قبل كل شيء بصراع الشيوعيّة الملحدة ضدّ الكنيسة والمسيحيّين، وهي تصف ألم الضحايا الشديدة من أجل الإيمان، في القرن العشرين.
وعلى السؤال: «هل إن الشخص الرئيسي في الرؤيا هو البابا؟» أجابت الأخت لوسيّا حالاً بالإيجاب، وذكّرت بان الرعاة الثلاثة الصغار كانوا في حزن شديد لآلام البابا، وكانت جاسنتا تردّد: («مسكين هو الأب الأقدس! فإنه يتضايق جداً من أجل الخطأة!»). وأضافـت الأخت لوسيّا: «إننا لم نكن نعرف اسم البابا، لأن العذراء لم تعطنا اسم البابا، ولم نكن نعرف اذا كان المقصود هو بنوا الخامس عشر، أم بيوس الثاني عشر، أم بولس السادس، أم يوحنا بولس الثاني. ولكن البابا هو الذي كان يتألّم. وهذا ما كان يؤلمنا نحن أيضاً.
أمّا بالنسبة إلى المقطع المتعلّق بالأسقف اللابس ثوباً أبيض، أي الأب الأقدس، كما أدرك حالاً الرعاة الصغار في أثناء «الرؤيا»، وقد جُرحَ جرحاً مميتاً، وسقط على الأرض، فالأخت لوسيّا تشاطر كلياً ما أكدّه البابا: «هي يدّ أمّ قد وجّهت مسار الرصاصة، فأوقفت البابا المنازع على عتبة الموت» (يوحنا بولس الثاني، تأمل مع الأساقفة الإيطاليين في مستشفى جيملّي، 13 أيار/مايو 1994.
وكانت الأخت لوسيّا، قبل أن سلّمت إلى أسقف ليريا فاطيما في ذلك الوقت الرسالة التي تحتوي القسم الثالث من «السرّ» قد كتبت على الغلاف الخارجي أنه لا يمكن فتحه إلاّ بعد 1960 فقط، إمّا بيد بطريرك ليشبونا أو بيد أسقف ليريا، فسألها المونسنيور برتوني: لماذا حدّدتِ 1960؟ هل ان العذراء هي التي حدَّدت هذا التاريخ؟ فأجابت الأخت لوسيّا: «لا، لم تكن سيّدتنا هي التي حدَّدت تاريخ 1960، بل أنا نفسي قد حدَّدته، لأني كنت أرى بحدْسي انه لا يمكن فهمه قبل 1960، بل سيُفهم بعد 1960 فقط. فالآن يُفهم أكثر. ولقد كتبت ما رأيت. أمّا الشرح فليس هو من شأني أنا، بل هو من شأن البابا».
أخيراً دار الحديث حول مخطوط لم يُنشر، كانت قد هيأته الأخت لوسيّا جواباً على أسئلة عديدة من المؤمنين والزائرين. والكتاب يحمل هذا العنوان ( “Os opelos da Mensangen de Fatima”) ويحوي أفكاراً وخواطر تعبّر عن عواطفها وروحانيتها البسيطة الصافية، في شكل تعليم وتوجيه. وسئلت عمّا إذا كانت تحبّ أن يُنشر فأجابت: «إذا أراد البابا ذلك، فإني سأكون سعيدة، وإلاّ فاني اطيع ما يقرّره الأب الأقدس». وتتمنى الأخت لوسيّا أن يخضع النص لمصادقة السلطة الكنسية، وتأمل أن تساهم بكتابها هذا في توجيه الأجيال والنساء ذوي الإرادة الصالحة على الطريق الذي يقود إلى الله، وهو الغاية القصوى لكل ما ينتظره البشر.
وانتهت المقابلة بتناول بعض المسابح: قُدمّت للأخت لوسيّا مسبحة من قبل الأب الأقدس، وهي بدورها قدّمت مسابح من صنع يدها شخصياً.
وخُتم الحديث بالبركة المعطاة باسم الأب الأقدس.
كلمة نيافة الكردينال أنجليو سودانو
أمين سرّ الدولة إلى صاحب القداسة:
في ختام القداس الإحتفالي المشترك، برئاسة يوحنا بولس الثاني، في فاطيما، ألقى الكردينال أنجيلو سودانو أمين سرّ الدولة، في اللغة البرتغالية، الكلمة التالية:
إخوتي وأخواتي الأحباء في الرب!
في ختام هذا الإحتفال المهيب، أشعر من واجبي أن أوجّه إلى ابينا الأقدس الحبيب يوحنا بولس الثاني أحرّ التمنّيات القلبية، من جميع الحاضرين هنا، في مناسبة عيده الثمانين المقبل، شاكراً له خدمته الراعوية الثمينة لخير كنيسة الله المقدّسة جمعاء.
وبمناسبة حدث مجيئه إلى فاطيما، كلّفني الحبر الأعظم بأن أعلن لكم بشرى. كانت غاية زيارته إلى فاطيما، كما تعلمون، تطويب الراعيين الصغيرين. ولكنه يريد أيضاً أن يعطي لزيارته معنى فعل امتـنان جديد للسيدة، من أجل الحماية التي أحاطته بها طوال سنوات حبريته. وهذه الحماية تبدو أيضاً متعلّقة بما يدعى «القسم الثالث» من سرّ فاطيما.
هذا النصّ هو كناية عن رؤيا نبوية، أشبه برؤيوات الكتاب المقدس، التي لا تصف أحداث المستقبل بصورة فوتوغرافية، بل هي تختصر وتجمع في مشهد واحد أحداثاً تتوزّع على الزمن في تتابع ومدّة غير محدّدين. وبالتالي فالمفتاح لقراءة النص لا يمكن إلاّ أن يكون ذا طابع رمزيّ.
ان رؤيا فاطيما تتعلّق بنوع خاص بصراع الأنظمة الملحدة ضدّ الكنيسة وضدّ المسيحيين. إنها تصف الألم الشديد لشهود الإيمان في القرن الأخير من الألف الثاني. انه درب صليب طويل، بقيادة بابوات القرن العشرين.
وفق الشرح الذي أعطاه الرعيان الصغار، وهو شرح أكدّته من زمن قريب الأخت لوسيّا، فالبابا هو «الأسقف اللابس ثوباً ابيض»، وهو يصلّي من أجل جميع المؤمنين. وهو أيضاً، في مسيرة المضي نحو الصليب، في وسط جثث الشهداء المقتولين (الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والفقرة كبير من العلمانيين) يسقط على الأرض كالميت، تحت طلقات سلاح ناري.
بعد الإعتداء في 13 أيار 1981، اتّضح جيداً لقداسته ان ثمّة «يد أم قد وجّهت مسار الرصاصة» فسمحت «للبابا المنازع أن يقف «على عتبة الموت»(يوحنا بولس الثاني، تأمل مع الأساقفة الإيطاليين في مستشفى جيملّي، تعاليم، المجلّد 17/1، 1994، ص 1061) وفي مناسبة مرور مطران ليريا فاطيما في ذلك الوقت، بروما، قرّر البابا أن يسلّمه الرصاصة التي بقيت في سيّارة الجيب، بعد الإعتداء، لكي تُحفظ في المعبد, وببادرة من الأسقف، رُصّعت في تاج تمثال عذراء فاطيما.
والأحداث اللاحقة في سنة 1989، في الإتحاد السوفياتي وفي بلدان عدة من الشرق، قد آلت إلى سقوط النظام الشيوعي، الذي كان يقوم بدور المحامي عن الإلحاد. ولأجل ذلك أيضاً يشكر الحبر الأعظم من كل قلبه العذراء الكليّة القداسة. ومع ذلك، في بلدان أخرى من العالم، فالتعدّيات على الكنيسة وعلى المسيحيين، مع ما يرافقها من ثقل الألم، لا تزال قائمة ويا للأسف! وبالرغم من أن الأوضاع التي يشير إليها القسم الأخير من «سرّ» فاطيما تبدو الآن في نطاق الماضي، فنداء عذراء فاطيما إلى التوبة والتكفير، الذي أطلقته في بدء القرن العشرين، يبقى اليوم أيضاً محرّضاً في الوقت الحاضر. «تبدو العذراء الكلية القداسة وكأنها تقرأ، بحدّة بصر خاصة، علامات الأزمنة، علامات زمننا […]. وما الدعوة الملحّة من العذراء مريم الكلية القداسة إلى التوبة سوى اظهار لعنايتها الأمومية بمصير العائلة البشرية التي تحتاج إلى توبة وغفران» (يوحنا بولس الثاني، رسالة في مناسبة اليوم العالمي للمريض، 1997، الفقرة 1: مجلة الوثائق الكاثوليكية، 93 (1996) ص 1051).
ولكي يسمح للمؤمنين أن يقبلوا بسهولة رسالة عذراء فاطيما، أوكل البابا إلى مجمع العقيدة والإيمان العناية بنشر القسم الثالث من «السرّ» بعد أن هيّأ تفسيراً مخصّصاً له.
إننا نشكر عذراء فاطيما على حمايتها. ونكل إلى شفاعتها الأمومية كنيسة الألف الثالث.
إلى حمايتك نلتجىء، يا والدة الله القديسة! فاشفعي للكنيسة! واشفعي لأبينا البابا يوحنا بولس الثاني. آمين.
فاطيما، في 13 أيار 2000.
شرح لاهوتي
إن من يقرأ بتمعّن نصّ ما يُدعى «بالسرّ» الثالث في فاطيما، وقد نُشرَ طيّه كاملاً، بعد زمن طويل، وبأمر من الأب الأقدس، ربّما اعترته الخيبة أو الدهشة. بعد كل ما سيق حوله من تآويل. لم يُوحَ فيه بأي سرّ عظيم. ولم يمزَّق الستار عن المستقبل. ونرى كنيسة الشهداء في القرن العشرين الذي انتهى، ممثّلة من خلال مشهد وُصفَ بلغة رمزيّة يصعب فهمها. فهل كان هذا ما أرادت أمّ الرب أن تنقله إلى المسيحية وإلى الإنسانية، في حقبة تغصّ بالمشاكل الكبرى والمضايق؟ وهل يفيدنا ذلك في بدء هذا الألف الجديد؟ أم هي مجرّد تصوّرات أطفال تعكس لنا عالمهم الداخلي، وقد ترعرعوا في بيئة من التقوى العميقة، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه مضطربين بالعذاب الذي كان يهدّد عصرهم؟ فكيف ينبغي أن نفهم الرؤيا، وما يجب أن يكون رأينا فيها؟
الوحي العام والإيحاءات الفردية – مقامها اللاهوتي
قبل أن نقوم بمحاولة شرح، يمكننا أن نجد خطوطها الأساسية في الكلمة التي ألقاها الكردينال سودانو في 13 أيار الماضي، في ختام الإحتفال الإفخارستي الذي ترأسه الأب الأقدس في فاطيما، يجدر بنا أن نوضح في العمق الطريقة التي بها يجب أن نفهم، وفق عقيدة الكنيسة، ظاهراتٍ مثل ظاهرة فاطيما، في إطار حياة الإيمان. إن تعليم الكنيسة يميّز «الوحي العام» من «الإيحاءات الفرديّة». بين هاتين الحقيقتين فرق، لا في القياس فحسب، بل في الجوهر أيضاً. فالتعبير «الوحي العام» يعني عمل العهدين القديم والجديد، ويدعى «الوحي»، لأن الله فيه قد عرَّف بذاته تدريجياً للبشر، إلى درجة انه صار هو نفسه بشراً، لكي يجذب العالم أجمع إليه ويوحّده به، بواسطة ابنه المتجسّد، يسوع المسيح. فليس هو مجرّد نقل عقلاني، بل هو تصرّف حيويّ، به صار الله قريباً من البشر. ومن الطبيعي جداً أن تتخلّله أمور تهمّ العقل والفهم لسرّ الله، لأن تصرّف الله يهمّ الإنسان كله كاملاً. اذاً فهو يهمّ أيضاً عقله، ولكن لا العقل وحده. وبما ان الله واحد، فالتاريخ الذي عاشه مع البشر هو أيضاً واحد. وهذا ينطبق على كل الأزمان، وقد وجد تحقيقه الكامل في حياة يسوع المسيح وموته وقيامته. في المسيح قال الله كل شيء، أي ذاته، وبالتالي فالوحي قد اكتمل مع تحقيق سرّ المسيح، الذي وجد تعبيره في العهد الجديد. ويستشهد كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بنص من يوحنا الصليبي، ليشرح فيه ان الوحي نهائي وكامل: «لقد أعطانا الله ابنه، الذي هو كلمته، فلم يعد لديه كلمة أخرى يعطينا إيّاها. قال لنا كلّ شيء معاً دفعة واحدة في هذه الكلمة الواحدة […]؛ لأن ما كان يقوله مجزّأ للانبياء، قاله كلّه كاملاً في ابنه […]. ولذلك فكل من يريد الآن أن يسأله، أو يرغب في الحصول على رؤيا أو على وحي، لا يرتكب جنوناً فحسب، بل هو يهين الله، لأنه لا يصوّب نظره إلى المسيح وحده، غير مبالٍ بالحصول على أيّ شيء آخر جديد» (CEC. N.65: S. Jean de la Croix, Montée au Carmel, 2,22).
إن وحي الله الفريد الموجّه إلى جميع الشعوب قد اكتمل مع المسيح، وهو بالشهادة التي تشهدها له كتب العهد الجديد، يربط الكنيسة بالحدث الفريد في تاريخ الخلاص، وبكلمة البيبليا، التي تضمن هذا الحدث وتفسّره. لكن ذلك لا يعني ان الكنيسة يمكنها الآن أن تنظر إلى الماضي فقط، لتبقى هكذا محكوماً عليها في دوّامة ترداد عقيم. ويقول كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في هذا الصدد: «ولو أن الوحي قد اكتمل، فهو لم يتّضح كلّياً، ويبقى على الإيمان المسيحي ان يدرك تدريجياً مغزاه على ممّر الأجيال» (الفقرة 66). فهذان المظهران، أعني الرباط بين قراءة الحدث، والتقدّم في إدراكه، قد أشار إليهما المسيح في عظته الأخيرة، عندما ودَّع تلاميذه بقوله: «لديّ أمور كثيرة أيضاً أقولها لكم، ولكنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوها. ومتى جاء الروح الحق فهو يقود خطاكم في الحقّ كلّه، لأنه لا يأتيكم بشيء من عنده […]. وهو سوف يمجّدني، لأنه سيأخذ مّما لي ولينبئكم به» (يو 16/12-14).
فمن جهة، الروح هو القائد، وهو الذي يشرّع الباب إلى المعرفة، ولم يكن في السابق من يتحمّل ثقل تلك المعرفة، وذلك هو مدى الإيمان المسيحي وعمقه الذي لا يُدرك. ومن جهة ثانية، فإن عمل القيادة هذا هو نوع من «الأخذ» من كنز يسوع المسيح نفسه، وعمل الروح هو الذي يُظهر عمقه الخفيّ الذي لا يُسبر، ويستشهد كتاب التعليم في هذا الصدد بكلمة عميقة للبابا غريغوريوس الكبير: «الكلمات الإلهية وقارئها يكبران في آن معــاً» (CEC n, 94) ،غريغوريوس الكبير، عظة حول حزقيال 1، 7، 8). والمجمع الفاتيكاني الثاني يذكر ثلاث طرق أساسية، بها يتمّ عمل الروح القدس القيادي من قبل المؤمنين، وبالتالي «نحو الكلمة». يتمّ هذا العمل بواسطة التأمّل والدرس من قبل المؤمنين، وبواسطة الفهم العميق الناتج عن الأختبار الروحاني، وعن تبشير «أولئك الذين بالتسلسل في الأسقفية، نالوا بالتأكيد موهبة الحقيقة» (كلمة الله، الفقرة 8).
في هذا الإطار، يصبح منذ الآن ممكناً فهم «الوحي الفردي» بنوع صحيح، وهو يتعلّق بكل الرؤيوات والإيحاءات التي حصلت بعد ختام العهد الجديد. اذاً في هذا النوع من الوحي، ينبغي أن نضع رسالة فاطيما. ولنبدأ بقراءة كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في هذا الموضوع: «على مرّ الأجيال، كانت إيحاءات تدعى «فرديّة»، وبعضها أقرّت به سلطة الكنيسة […] ليس دورها […] في أن «تكمّل» وحي المسيح النهائي، بل في أن تساعد على العيش منه بصورة أكمل في حقبة معيّنة من التاريخ» (الفقرة 67) بهذا نجد توضيحاً لأمرين:
1- إن سلطة الإيحاءات الفردية هي في جوهرها مختلفة عن الوحي العام النهائي، فهذا الوحي ملزم لإيماننا. فيه يخاطبنا الله نفسه بواسطة كلمات بشريّة، وتأمُّل الجماعة الكنسية الحيّة. وهذا الإيمان بالله وبكلمته يتميّز عن أيّ ايمان آخر، أو أي معتقد أو رأي بشري. فهذا اليقين بأن الله هو المتكلّم يعطيني الضمانة بأنّ أواجه الحقيقة في ذاتها، واليقين الذي لا يمكن البرهان عنه بأيّ نوع بشريّ في المعرفة. ذلك هو اليقين الذي أبني عليه حياتي، والذي أكل إليه نفسي في وقت مماتي.
2- الوحي الفردي هو عون للايمان، وهو يَظهَر قابل التصديق لأنه بالتدقيق يعيدنا إلى الوحي العام النهائي. والكردينال بروسبيرو لمبرتيني، الذي غدا فيما بعد البابا مبارك الرابع، قال في هذا الصدد، في مؤلَّفه التقليدي، الذي أصبح فيما بعد قاعدة للتطويب وإعلان القداسة: «إن التسليم بإيماننا الكاثوليكي لا يرتكز على إيحاءات مصدَّق عليها بهذه الطريقة. هذا غير ممكن. تلك الإيحاءات تتطلّب بالحري تسليماً بإيمان بشري وفق قواعد الفطنة التي تعرضها لنا على أنها قابلة للبرهان والتصديق بروح التقوى». واللاهوتي الفلمندي أ. دانيس، العالم البارز في هذا الموضوع، يؤكّد في صورة مجملة إن مصادقة الكنيسة على وحي فردي يحوي ثلاثة عناصر: أن لا تحوي رسالته شيئاً يناقض الإيمان والأخلاق الحسنة، وأن يكون نشره شرعياً، وأن يُسمح للمؤمنين بتصديقه بكل فطنة». [E. DHANIS, regard sur Fatima et bilan d’une discussion, la Civiltà Cattolica 104 (1953, II), pp. 392-406, en particulier p. 397] . إذاً فالمقياس لصحّة الوحي الفردي وقيمته انما هو توجيهه نحو المسيح نفسه. أمّا عندما يبعدنا عنه وعندما يستقل عنه، أو عندما يدّعي انه يمنح خلاصاً آخر وأفضل وأهمّ من الإنجيل، فحينئذ بالتأكيد لا يكون من الروح القدس، الذي يقودنا في داخل الإنجيل لا خارجاً عنه. ولكن ذلك لا يمنع من ان الوحي الفردي قد يشدّد على نواحٍ جديدة، ويظهر أشكالاً من التقوى جديدة، ويعمّق أشكالاً قديمة ويطوّرها. ولكن، بأيّ شكل كان، وفي كل ذلك، ينبغي أن يكون غذاء للإيمان وللرجاء والمحبة، التي هي للجميع الطريق الدائم إلى الخلاص، ويمكن أن نضيف أن الإيحاءات الفردية تـنبع غالباً من التقوى الشعبية وتنعكس عليها، فتعطيها دفعاً جديداً، وتشرّع لها أشكالاً جديدة. وذلك لا يمنع أن يكون لها تأثير على الليتورجيا نفسها، كما يظهر مثلاً في عيدي جسد الرب وقلب يسوع الأقدس. ومن ناحية معيّنة، تندرج العلاقة بين الوحي العام والإيحاءات الفردية في إطار العلاقة التي بين الليتورجيا والتقوى الشعبية. تلك العلاقة هي صورة حيّة عن الكنيسة، في مجملها، وهي تتغذّى مباشرة من الإنجيل. فالتديّن الشعبي هو الشكل الأول والأساسي «للانثـقاف»، بالنسبة إلى الإيمان، الذي ينبغي أن يتوجّه بصورة متواصلة، وينقاد لتعليمات الليتورجيا، ولكن هو بدوره يخصب الإيمان انطلاقاً من القلب.
وهكذا ننتقل الآن من تحديدات كانت بالحري سلبية، وكانت في بداية الموضوع ضرورية، إلى تحديدات إيجابية للإيحاءات الفردية: كيف يمكننا أن نصنّفها بنوع صحيح، انطلاقاً من الكتاب المقدّس؟ ما هو معناها اللاهوتي؟ إن أقدم رسالة حُفظت لنا من القديس بولس، وربما كانت في المطلق أقدم نص في العهد الجديد، أي الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، يبدو لي انها تعطيني الإشارة. كتب فيها الرسول: «لا تطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوءات. بل اقتحموا كل شيء وتمّسكوا بما هو حسن» (5/19-21). إن موهبة النبوءة معطاة للكنيسة في كل العصور. وينبغي فحصُها ولا يمكن احتقارها! بهذا الصدد، يجدر بنا أن ندرك هذا الواقع، وهو ان النبوءة، في معناها البيبلي، لا تعني الإنباء بالمستقبل، بل شرح إرادة الله في الزمن الحاضر، وبالتالي إظهار الطريق المستقيم نحو المستقبل. إن من يُنبئ بالمستقبل يُشبع فضولية العقل، الذي يرغب في كشف الستار عن المستقبل. أمّا النبيّ، من جهته، فيشبع عمى الإرادة والفكر، ويُنير إرادة الله كضرورة وإشارة إلى الحاضر. في هذه الحال، تكون قيمة الإنباء بالمستقبل أمراً ثانوياً. أمّا الجوهري فهو تطبيق الوحي الفريد على الحاضر، الذي يعنيني في العمق: فالكلمة النبوية هي إنذار أو تعزية أو الاثنان معاً. وفي هذا المعنى، يمكننا أن نضمّ موهبة النبوءة إلى مجموعة «علامات الأزمنة» التي سلّط عليها الأنوار المجمع الفاتيكاني الثاني: «تعرفون أن تمّيزوا وجه الأرض والسماء، أمّا هذا الزمان، فكيف لا تميّزونه؟» (لو 12/56). «علامات الأزمنة»، في كلمـات يسوع، ينبغي فهمها أنها طريقه الخاصة، بل هو نفسه. فإن شرح علامات الأزمنة على ضؤ الإيمان يعني الإقرار بحضور المسيح في كلّ زمان. فالمقصود في الإيحاءات الفردية التي تقرّ بها الكنيسة – وبالتالي أيضاً وحي فاطيما – هو التالي: أن يُعيننا على فهم علامات الأزمنة، والحصول على الجواب الصحيح عليها في الإيمان».
البُنْيَة الأنتروبولوجية للإيحاءات الفردية
بعد أن حاولنا، بتلك الإعتبارات، تحديد المقام اللاهوتي للإيحاءات الفردية، وقبل أن نقوم بشرح رسالة فاطيما، ينبغي أيضاً أن نحاول باختصار توضيح طابعها الانتروبولوجي (النفساني). ان علم الإنسان (الانتروبولوجيا) اللاهوتي يميّز في هذا المضمار ثلاثة أشكال من الحسّ أو من «الرؤيا»: رؤيا الحواسّ، أي الحسّ الخارجي الجسديّ، والحس الداخلي، والرؤيا الروحانية. من الواضح أنه في رؤيوات لورد وفاطيما… ليس المقصود الحسّ العادي الخارجي بواسطة الحواس: فالصور والأشكال التي ترى ليست موجودة في الخارج في مكان ما، كما توجد مثلاً الشجرة او البيت. وهذا واضح تماماً، مثلاً، في ما يتعلّق برؤيا جهنم (الموصوفة في القسم الأول من «سرّ» فاطيما)، أو أيضاً الرؤيا الموصوفة في القسم الثالث من «السرّ». ولكن ذلك يمكن إثباته أيضاً بصورة سهلة جداً، بالنسبة إلى الرؤيوات الأخرى، خصوصاً لأن جميع الأشخاص الحاضرين لم يروها، بل «الراؤون» في الواقع وحدهم. وواضح أيضاً أنها ليست رؤيا «عقليّة» روحانية، بدون صور، كما تطالعنا في الدرجات الأخرى من الحياة الصوفية. إذاً فهي من الفئة الوسطى، أي الحسّ الداخلي، الذي يتّخذ بالنسبة إلى الرائي قوّة حضور تعادل في نظره الظهور الخارجي المحسوس.
تلك الرؤيا الداخلية لا تعني أشياء خيالية، ومجرّد تعبير عن تصوّر شخصيّ، بل هي تعني إن النفس قادرة أن ترى بالحواس ما هو غير قابل للحسّ، وما هو غير قابل للرؤية – تلك هي الرؤيا بواسطة «الحواس الداخلية». إنها «أشياء» حقيقية تلمس النفس، ولو إنها لا تخص عالمنا المحسوس العادي. لذلك فهي تتطلّب تنبّهاً داخلياً في القلب يكون في الغالب غير موجود بسبب ضغط الأشياء الخارجية القوية، وبسبب الصور والأفكار التي تملأ النفس. فالشخص البشري ينقاد إلى أبعد من العالم الخارجي البحت، فتمسّه الحقيقة بأعمق ما فيها من أبعاد، وتُصبح رؤيتها ممكنة لديه. هكذا يمكننا أن نفهم لماذا يكون الأطفال هم الأشخاص المميّزين لمثل تلك الظهورات: فالنفس فيهم ليست بعدُ مشوّهة، ولذلك فقدرتها الداخلية على الحس هي غير معطّلة: «من فم الأطفال والرضّع هيّأت تسبيحاً». بهذه الآية من المزمور 8، الآية 3، أجاب يسوع على انتقاد الأحبار والشيوخ، الذين اعتبروا في غير أوانه صراخ «هوشعنا» في هتاف الأطفال (راجع متى 21/16).
«فالرؤيا الداخلية» ليست تخيّلاً، بل هي طريقة حقيقية ودقيقة لإثبات الحقيقة، كما قلنا سابقاً. ولكن ضمن حدود. فإذا كانت الرؤيا الخارجية تتضمّن في ذاتها عامـلاً شخصيّاً، لأننا لا نرى الشيء في ذاته، بل هو يصل إلينا من خلال تصفية حواسّنا له، فعلى هذه الحواسّ أن تقوم بعمليّة نقل؛ فكم يكون ذلك واضحاً بالحري في الرؤيا الداخلية، وخصوصاً عندما يكون المقصود أموراً تتخطى في حدّ ذاتها آفاقنا. فالشخص الرائي ملتزم فيها بنوع أعمق شخصيّ. فهو يرى بواسطة إمكاناته الحسّية، وبالطرق التصويرية والتعبيرية الممكنة لديه. ففي الرؤيا الداخلية تتمّ عملية النقل بنوع أوسع بكثير مّما هي عليه في الرؤيا الخارجية، حتى إن الشخص هو بنوع أساسي مشارك في إعطاء الشكل في صورةٍ ما كما يظهر له، وهذه الصورة تأتي على قياس الشخص ووفق إمكاناته. إذاً فتلك الرؤيوات ليست البتة صوراً «فوتوغرافية» للماورائيات، بل هي تحمل في طيَّاتها إمكانات الشخص الذي يدركها ومحدوديّاته.
ويمكن إثبات ذلك من خلال رؤيوات القديسين الكبرى. وبالطبع هذا ينطبق أيضاً على رؤيوات اطفال فاطيما. فالصور التي وصفوها ليست هي بالفعل تعبيراً عن تخيّلهم، بل هي ثمرة حسّ حقيقي آتٍ من عَلُ ومن الداخل، كما انه أيضاً لا ينبغي اعتبارها، وكأنّ شعار الماورائيات قد أُزيح في لحظة، فظهرت السماء في جوهرها كما هي بصفاء، بالطريقة التي نرجو أن نراها يوماً ما في اتّحادنا النهائيّ بالله. تلك الصور، يمكننا القول انها بالحري خلاصة من الدافع الآتي من عَلُ، ومن الإمكانات الواقعية الممكنة لدى الشخص الرائي، أي الأطفال. لذلك فالتعبير التصويري لتلك الرؤيوات هو تعبير رمزيّ. قال الكردينال سودانو في هذا الصدد: «تلك الرؤيوات لا تصف أحداث المستقبل بصورة فوتوغرافية، بل هي تختصر وتجمع في مشهد واحد أحداثاً تتوزّع على الزمن في تتابع ومدّة غير محدّدين». فهذا الجمع بين الزمان والمكان في صورة واحدة، هو أمر مميّز خاصّ بهذا النوع من الرؤيوات، التي لا يمكن تفسيرها إلاّ بعد أن تكون قد تحقّقت. لا يمكننا القول ان كل عنصر من الرؤيا ينبغي أن يكون له معنى تاريخي واقعي. بل المقصود هي الرؤيا في مجملها، انطلاقاً من مجمل الصور التي فيها يجب أن نفهم عناصرها الخاصّة. وأيّاً كان مركز كل صورة، فهي تُكشف بنوع نهائيّ انطلاقاً ممّا هو المركز في «النبوءة» المسيحية نفسها: فالمركز هو حيث تصبح الرؤيا نداء وقائداً إلى مشيئة الله.
محاولة شرح «لسر» فاطيما
ان القسم الأول والثاني من «سرّ» فاطيما، قد سبق وتمّ البحث فيهما بصورة واسعة، في كتابات خاصة، لا نفع من تردادها هنا مرّة أخرى. لكنّي أودّ أن ألفت الانتباه باختصار إلى أهمّ نقطة في هذا الموضوع. في لحظة مخيفة، قام الأطفال باختبار رؤيا جهنم. رأوا سقوط «نفوس الخطأة المساكين». ثم قيل لهم لماذا تعرّضوا لتلك اللحظة، أي «لخلاص تلك النفوس»، لكي يبيّنوا لها طريق الخلاص. وتبادر إلى الفكر آية من رسالة بطرس الأول: «عندما تبلغون غاية إيمانكم أي خلاص نفوسكم» (1/9). وكطريق إلى هذا الهدف، أُشيرت إليهم – بنوع قد يفاجئ أشخاصاً آتين من بيئة حضارية انكلوساكسونية، والمانية – العبادة لقلب مريم البريء من الدنس. ولكي نفهم ذلك، يكفي أن نشير هنا إلى أن «القلب»، في لغة البيبليا، يعني مركز الوجود البشري، وفي صلة بالعقل والإرادة والمزاج والإحساس، حيثُ يجد الشخص البشـري وحدته ووجهته الداخلية. فالقلب «البريء من الدنس»، هو بحسب متى 5/8، القلب الذي بلغ، انطلاقاً من الله، إلى الوحدة الداخلية الكاملة، وبالتالي «رأى الله». إذاً فالعبادة لقلب مريم البريء من الدنس هي طريقة للدنوّ من تصرّف هذا القلب، الذي فيه «نعم» – لتكنْ مشيئتك! – صارت المركز الذي يوجّه كل الوجود. وإذا أراد أحد أن يعترض بأنه لا ينبغي مع ذلك أن نضع بيننا وبين المسيح كائناً بشرياً وسيطاً، ويجب حينئذ أن نتذكر ما لم يتردّد بولس في أن يقوله لجماعاته: اقتدوا بي. (راجع 1 كورنتس 4/16؛ فيليبي 3/17؛ 1 تسالونيكي 1/6؛ 2 تسالونيكي 3،7، 9). لقد كانت تلك الجماعات قادرة أن تتثبّت بنوع حسّي، لدى بولس، ما يعني اتباع المسيح، وممّن يمكن أن نتعلّم ذلك، في كل وقت، وبصورة أفضل، ممّا هو في أمّ الله؟
وهكذا نصل أخيراً إلى القسم الثالث من «سرّ» فاطيما، الذي يُنشر هنا للمرة الأولى كاملاً. وكما يبان مـن الوثائق السابقة، فالشرح الذي أعطاه الكردينال سودانو، في نصّه المؤرخ في 13 ايار، قُدم في وقت سابق إلى الأخت لوسيّا شخصيّاً. وفي هذا الصدد، لاحظت الأخت لوسيّا أولاً انها قد نالت الرؤيا بدون شرحها. فالشرح، بحسب قولها، ليس هو من شأن الرائي، بل من شأن الكنيسة. ومع ذلك، فبعد قراءة النص، قالت ان هذا الشرح يطابق ما هي اختبرته، وإنها من جهتها تُقرّ بأن هذا الشرح هو واقعي. إذا، في ما يلي، يمكننا فقط أن نعطي بنوع معمّق الأساس لهذا الشرح، انطلاقاً من المقاييس التي توسّعنا فيها حتى الآن.
لقد اكتشفنا أن الكلمة المفتاح للقسمين الأول والثاني كانت «خلاص النفوس». كذلك الكلمة المفتاح لهذا «السرّ» هو الصرخة ثلاث مرات: «توبوا! توبوا! توبوا!». ويحضر إلى ذهننا بدء الإنجيل: «توبوا وآمنوا بالإنجيل!» (مر 1/15). إن فهم علامات الأزمنة يعني الفهم لضرورة التوبة والاهتداء والإيمان. ذاك هو الجواب الصحيح في اللحظة التاريخية المطبوعة بالأخطار الجسيمة التي سيعبّر عنها في صور لاحقة. وأسمح هنا لنفسي فأستشهد بذكرى شخصية: في حديث معي، أكّدت لي الأخت لوسيَّا أنه كان يتضح لها كل يوم أكثر فأكثر ان الغاية من كل الظهورات كان النموّ دوماً وأكثر فأكثر في الإيمان والرجاء والمحبّة. وكل الباقي لا يعني إلاّ البلوغ إلى هنا.
فلنتفحّص الآن، عن كثب أكثر، مختلف تلك الصور: فالملاك مع سيف من نار، إلى يسار أمّ الله، يذكّر بصورة مماثلة من سفر الرؤيا. فهو يمثّل التهديد بالدينونة المرفّة فوق العالم. والنظرة إلى أن العالم قد يبتلعه بحر من لهيب لم تعد تبدو اليوم مجرّد تخيّل. فالإنسان نفسه قد هيأ باختراعاته لنفسه سيفاً من نار. وتتابع الرؤيا فتظهر القدرة التي تتصدّى للقوّة المدمّرة، بهاء أمّ الله، والنداء إلى التوبّة. وكأنه آت نوعاً ما من ذاك البهاء. وفي هذه الطريقة تشديد على أهميّة حريّة الإنسان: فالمستقبل ليس محدّداً البتة بصورة قدريّة لا تتغيّر. والصورة التي رآها الأطفال ليست البتّة فيلماً مسبقاً عن المستقبل، لا يمكن تغيير أيّ جزء منه. كل هذه الرؤيا لا تتمّ في الواقع إلاّ لكي تظهر الحريّة، ولكي تحرّكها في اتّجاه إيجابي. إذاً فمعنى الرؤيا ليس هو فيلماً عن المستقبل جامد محتوم. ان معناها هو بالتحديد معاكس، هو تعبئة الطاقات لتغيير كل شيء إلى الخير. لذلك فالشرح القدريّ «للسرّ» هو شرح مضلّل، التأكيد مثلاً إن مفتعل الاعتداء في 13 أيار1981 كان في النهاية آلة لتصميم إلهيّ، سيَّرتها عناية الله، وبالتالي لم يكن هو في وسعه أن يكون حرّاً في فعلته. وهناك أيضاً أفكار أخرى مماثلة تسري بين الناس. فالرؤيا تتحدّث بالحريّ عن الأخطار وعن طريقة تجنّبها.
والجمل التالية في النص تبيّن مرّة أخرى بكل وضوح الطابع الرمزيّ للرؤيا: يبقى الله الكائن غير المحدود، والنور الذي يتخطّى كل رؤيتنا. والأشخاص البشر يظهرون كما في مرآة. ينبغي أن نتنبّه دوماً إلى المحدودية الداخلية في تلك الرؤيا، والتي يُشار هنا إلى حدودها بنوع بصريّ. فالمستقبل لا ينجلي إلاّ «كما في مرآة على سبيل اللغز» (راجع 1 كورنتس 13/12). ولنمعن النظر الآن في مختلف الصور التالية في نصّ «السرّ». فمكان الحدث موصوف في رموز ثلاثة: الجبل الوعر، والمدينة الكبيرة التي نصفها مدمّر، وأخيراً الصليب الكبير من جذوع أشجار خشنة. فالجبل والمدينة يرمزان إلى مكان التاريخ البشري. فالتاريخ، هو صعود مُضنٍ صوب الأعالي. التاريخ هو مكان للاستنباط والعيش البشري معاً، وفي الوقت نفسه مكان للتدمير، به يُغني الإنسان عمله، صنع يديه. والمدينة يمكن أن تكون مكان المشاركة والتقدّم، ولكن أيضاً مكان الأخطار والتهديدات القصوى. وعلى الجبل يوجد الصليب، لأنه نُهية التاريخ، ونقطة المرجع فيه. بالصليب يتحوّل الدّمار إلى خلاص. وينتصب كعلامة لشفاء التاريخ وكوعدٍ له.
وبعدما يظهر هنا شخصان بشريان: الأسقف اللابس ثوباً أبيض (و«قد أحسسنا مسبقاً بأنه الأب الأقدس»)، ثم أساقفة آخرون وكهنة، ورهبان وراهبات وأخيراً رجال ونساء من كل طبقات المجتمع وكل الفئات الاجتماعية. ويبدو البابا في الطليعة مرتجفاً ومتألماً بسبب كل الأهوال المحيطة به. وليست المنازل في المدينة نصفها مدمّر فحسب، بل إن طريقه يمرّ بين جثث الموتى. وفي هذا وصف لمسيرة الكنيسة كدرب صليب، كطريق في زمن عنف ودمار واضطهادات. يمكن أن نجد في هذه الصور مثلاً تاريخ قرنٍ بكامله. فكما إن أماكن الأرض ممثّلة بصورة مختصرة في صورتين أي الجبل والمدينة، وهي موجّهة صوب الصليب، كذلك أيضاً الأزمنة ممثّلة بصورة مكثّفة؛ فيمكننا أن نتعرّف، من خلال الرؤيا، إلى القرن المنصرم وكأنه قرن الشهداء، قرن الآم الكنسية واضطهاداتها، قرن الحروب العالمية وحروب كثيرة محليّة، وقد ملأت كل القسم الثاني منه، وأدّت إلى أشكال جديدة من الشراسة. في «مرآة» هذه الرؤيا، نرى شهود الإيمان في السنوات العشر الأخيرة. وفي هذا الصدد يبدو مناسباً ذكر جملة في الرسالة التي كتبتها الأخت لوسيّا إلى الأب الأقدس في 12 ايار 1982: «القسم الثالث من «السرّ» يشير إلى كلمات سيّدتنا: «وإلاّ فروسيّا ستنشر أضاليلها عبر العالم، مشجّعة على الحروب والاضطهادات ضدّ الكنيسة. سيُستَشهَدُ الصُّلاَّح، والأب الأقدس سيتألم كثيراً، وأمم عديدة ستُدمَّر».
على درب صليب القرن العشرين، يقوم شخص البابا بدور خاص. وفي صعوده المضيء إلى الجبل، يمكننا ولا شكّ أن نجد مجتمعين بباباوات عدّة، شاركوا هذا القرن في آلامه، منذ بيوس العاشر حتى البابا الحالي، وبذلوا كل الجهد في السير قدماً وسط تلك الآلام، على الدرب التي تقود إلى الصليب. وفي الرؤيا، يموت البابا أيضاً على درب الشهداء. وعندما طلب البابا، بعد الإعتداء عليه في 13 ايار 1981، أن يُحضر إليه نص القسم الثالث من «السرّ»، أما كان ينبغي أن يتعرّف فيه إلى مصيره الشخصيّ؟ وقد كان قريباً جدًّ من أبواب الموت، وهو نفسه شرح كيف نجا كما يلي: «هي يد أمّ قد وجّهت مسار الرصاصة، فأوقفت البابا المنازع على عتبة الموت» (13 أيار 1994). أن تكون هنا «يد أمّ» قد غيّرت مسار الرصاصة، فهذا يبرهن مرّة أخرى انه ليس هناك مصير محتوم، بل ان الإيمان والصلاة هما قوّتان يمكن أن يحدثا تأثيراً في التاريخ، وفي النهاية، إن الصلاة هي أقوى من الرصاص، والإيمان أقوى من الانقسامات.
وخاتمة «السرّ» تذكّر بصور ربما رأتها الأخت لوسيّا في كتب تقوية، ومحتواها نابع من اعتبارات إيمانية قديمة. إنها رؤيا معزّية، تشاء أن يكون تاريخ الدم والدموع قابل الاختراق بقوّة شافية من الله. هناك ملائكة يجمعون تحت ذراعي الصليب دم الشهداء، ويسقون منه النفوس التي تدنو من الله. يجب أن ننظر، في آن معاً، إلى دم المسيح وإلى دم الشهداء، لأن دم الشهداء يتدفّق من ذراعي الصليب. فاستشهادهم يتمّ متضامناً مع آلام المسيح، ليضحي معها واحداً. فهم يتمّون في أجسادهم ما ينقص من آلامه (راجع قول 1/24). وحياتهم نفسها صارت إفخارستيّا متجسدة في سرّ حبّة الحنطة التي تموت فتأتي بثمر. ودم الشهداء بذار المؤمنين، كما قال ترتليانوس. فكما وُلدت الكنيسة من موت المسيح، من جنبه المفتوح، كذلك موت الشهداء يأتي بثمر لحياة الكنيسة في المستقبل. فرؤيا القسم الثالث من «السرّ» المؤلمة في البداية، تنتهي بصورة رجاء: ما من ألم يكون عبثاً، وبالتحديد، فالكنيسة المتألّمة، كنيسة الشهداء، تضحي علامة إشارة للإنسان في البحث عن الله. في يديّ الله المحبتين يُضمُّ الأشخاص الذين يتألمون مثل لعازر، الذي وجد تعزية كبرى، وهو يمثّل بنوع سرّي المسيح الذي شاء أن يصير من أجلنا لعازر الفقير، بل أكثر من ذلك: من آلام الشهود تنبع قوّة تطهير وتجديد، لأنها إكمال في الحاضر لآلام المسيح نفسها، ومنها تـنبعث اليوم فعالية مخلّصة. وهنا نبلغ إلى سؤال أخير: وماذا يعني في مجمله (في أقسامه الثلاثة) «سرّ» فاطيما؟ ماذا يقول لنا؟ قبل كل شيء، يجب أن نؤكّد مع الكردينال سودانو: «الأوضاع التي يشير إليها القسم الثالث من «سرّ» فاطيما، تبدو الآن في نطاق الماضي». فبقدر ما تتمثّل في «السرّ» أحداث خاصة، فهي الآن قد أمست في الماضي. وجميع الذين كانوا ينتظرون إيحاءات رؤيوية معبّرة عن نهاية العالم، ومجرى التاريخ المستقبل، قد باؤوا بالفشل. إن فاطيما لا تقدّم مثل تلك الأمور التي تُشيع فضوليّتنا، كما ان الإيمان المسيحي عامّة لا يريد ولا يمكنه أن يغذّي فضوليّتنا. وما يبقى إنما هو ما رأيناه في بداية تحليلنا لنصّ «السرّ»: الحضّ على الصلاة كطريق إلى خلاص النفوس، وفي المعنى نفسه، النداء إلى التوبة والاهتداء!
وأخيراً أريد أن أُعيد «كلمةَ مفتاحا» أخرى من «السرّ»، أصبحت بحقٍ مشهورة: «سينتصر قلبي البريء من الدنس». وماذا يعني ذلك؟ يعني ان القلب المنفتح على الله، المطّهر بالتأمّل في الله، هو أقوى من البندقيّة ومن السلاح أيّاً كان. أن «نَعَم» مريم، تلك الكلمة الصادرة مـن قلبها، قد غيّرت تاريخ العالم، لأنها أدخلت المخلّص إلى العالم. فالله، بفضل «نَعَم» مريم، أمكنه أن يصير إنساناً في عالمنا، ومذّاك هو باقٍ هكذا إلى الأبد. للشرّير سلطان على العالم، ونحن نرى ذلك ونختبره في صورة متواصلة، له السلطان لأن حرّيتنا تستسلم في صورة متواصلة وتنحرف عن الله. ولكن، قد أصبح الله له قلب انسان، وبالفعل نفسه وجّه حريّة الإنسان نحو الله، فالحريّة المتوجّهة صوب الشرّ لم يَعُد لها الكلمة الأخيرة. ومنذئذ أصبحت هذه الكلمات نافذة: «سيكون لكم في العالم ضيق. ولكن ثقوا: أنا غلبت العالم» (يو 16/33). إن رسالة فاطيما لَتدعونا إلى أن نثق بهذا الوعد من المسيح لنا.
الكردينال جوزيف رتزنغر
رئيس مجمع العقيدة والإيمان
[1]من يوميات يوحنا الثالث والعشرين، 17/8/1959 «لقاء: المفوّض ب.فيليب الذي حمل إليّ رسالة تحتوي على الجزء الثالث من سرّ فاطيما. أتحفظ عن قراءتها مع كاهني المعرّف».
[2] يجب أن نتذكّر التفسير الذي قدّمه قداسة البابا أمام جمهور المصلّين في اللقاء العام بتاريخ 14/10/1981، حول «ما حدث في شهر أيار/مايو: امتحان إلهي كبير»، تعاليم يوحنا بولس الثاني، 2،4،2، حاضرة الفاتيكان، (1981) ص 409 – 412.
[3] الخطاب الذي تمت إذاعته أثناء القداس الذي أقيم في بازليك القديسة مريم الكبرى. تكريم وشكر وتكريس للسيدة العذراء، أم الله: تعاليم يوحنا بولس الثاني 2،4،1، حاضرة الفاتيكان (1981) ص 1246.
[4]خلال اليوم اليوبيلي للعائلات، كرّس البابا للعذراء مريم البشر والأمم: تعاليم يوحنا بولس الثاني 2،7،1، حاضرة الفاتيكان (1984)، ص 775-777: مجلة الوثائق الكاثوليكية 81 (1984*، ص 287.
[5]
[6] في «المذكّرة الرابعة» المؤرخة في 8/12/1941، كتبت الأخت لوسيّا: «أبدأ واجبي الجديد وأخضع لأوامر سيادتكم الجزيل الإحترام، وإلى إرادة الدكتور غالمبا. عدا نصيب السرّ الذي لا يسمح لي بإعلانه الآن، أقول كل شيء: لا أكتم شيئاً عن قصد. أرضى بأن أنسى بعض التفاصيل الطفيفة»
[7] في «المذكرة الرابعة»، المشار إليها آنفاً، تضيف الأخت لوسيّا: «في البرتغال ستبقى محفوظة دائماً عقيدة الإيمان الخ…».
[8] في الترجمة، راعينا النص الأصلي كما هو، حتى في تشكيله غير الدقيق الذي يحول، مع ذلك، دون فهم ما شاءت الرائية أن تقوله.
Discussion about this post