الحياة في المسيح (1691-1876)
التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية المقدسة
الجزء الثالث
الحياة في المسيح
1691- “أيها المسيحي، اعرف كرامتك. وبما أنك الآن شريك في الطبيعة الإلهية، فلا تنحط بعودتك إلى دناءة حياتك الماضية. تذكر إلى أي رأس تنتمي وفي أي جسم أنت عضو. تذكر إنك انتزعت من سلطان الظلمات لتنقل إلى النور وملكوت الله” .
1692- لقد أعلن قانون الإيمان عظمة عطايا الله للإنسان في عمل خلقه، وأكثر أيضا بالفداء والتقديس. وما يعلنه الإيمان توليه الأسرار: إن المسيحيين “بالأسرار التي جددت ولادتهم” قد أصبحوا “أبناء الله” ( 1 يو 3: 1) ، “شركاء في الطبيعة الإلهية” ( 2 بط 1 :4). وإذ يعلم المسيحيون بإيمانهم كرامتهم الجديدة، فهم مدعوون إلى أن يحيوا بعد ذلك حياة تليق بإنجيل المسيح . وهم يقبلون، بالأسرار والصلاة، نعمة المسيح ومواهب روحه التي تؤهلهم لها.
1693- لقد عمل المسيح يسوع دوما ما يرضي الآب . وعاش دوما باتحاد كامل معه. وتلاميذه هم كذلك مدعوون إلى أن يعيشوا تحت نظر الآب ” الذي يرى في الخفية” (متى 6:6) حتى يصيروا “كاملين كما أن الآب السماوي هو كامل” (متى 5: 47).
1694- إن المسيحيين، وقد ضموا بالمعمودية إلى جسد المسيح ، هم أموات للخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع ، ومشاركون هكذا في حياة القائم من الموت . ويستطيع المسيحيون، على آثار المسيح وبالاتحاد معه ، أن يسعوا إلى الاقتداء بالله كأولاد أحباء، وأن يسلكوا في المحبة ، مطابقين أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم على ما في المسيح يسوع من أخلاق ومقتفين آثاره .
1695- والمسيحيون قد أصبحوا “هيكل الروح القدس” (1 كو 6: 19)، بعد أن “برروا باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا” ( 1كو 6: 11)، وقدسوا ودعوا ليكونوا قديسين . و “روح الابن” هذا يعلمهم أن يصلوا إلى الآب ، ويحملهم ، بعد أن أصبح حياتهم، على أن يسعوا ليثمروا ثمار الروح بالمحبة الفاعلة . والروح القدس الشافي من جروح الخطيئة يجددنا في الصميم بتغيير روحي، وينيرنا ويقوينا لنحيا حياة “أبناء النور” (أف 5: 8)“بالصلاح والبر والحق” في كل شيء (أف 5: 9).
1696- طريق المسيح “تؤدي إلى الحياة” (متى 7: 14)، والطريق المخالفة “تؤدي إلى الهلاك” (متى 7: 13). إن مثل الطريقين الوارد في الإنجيل ما زال قائما في تعليم الكنيسة. وهو يعني أهمية القرارات الأخلاقية لخلاصنا. “هناك طريقان، وأحدهما طريق الحياة والآخر طريق الموت. ولكن بين الاثنين فارقا كبيرا” .
1697- من المهم في التعليم الديني أن نظهر بكل وضوح ما في طريق المسيح من فرح وما له من تطلبات. فالتعليم الديني في شأن “الحياة الجديدة” (رو 6: 4) في المسيح يكون :
– تعليما في شأن الروح القدس، المعلم الداخلي للحياة بحسب المسيح، والضيف والصديق اللطيف الذي يلهم تلك الحياة ويقودها، ويصلحها ، ويؤيّدها؛
– تعليما في شأن النعمة، لأننا بالنعمة نخلص، وبالنعمة أيضا يمكن أعمالنا أن تؤتي ثمارا للحياة الأبدية؛
– تعليما في شأن التطويبات، لأن طريق المسيح تختصرها التطويبات، وهي السبيل الوحيد إلى السعادة الأبدية التي يصبو إليها قلب الإنسان؛
– تعليما في شأن الخطيئة والمغفرة ، لأن الإنسان، ما لم يعترف بأنه خاطىء، لا يستطيع أن يعرف الحقيقة عن ذاته، وهي شرط للسلوك الصحيح، وما لم يعط المغفرة لا يستطيع احتمال تلك الحقيقة .
– وتعليما في شأن الفضائل الإنسانية يمكن من إدراك ما في الاستعدادات الصحيحة للخير من جمال وإغراء.
– وتعليما في شأن الفضائل المسيحية، الإيمان والرجاء والمحبة، مستوحى بعظمة من مثال القديسين .
– وتعليما في شأن وصية المحبة المزدوجة المنتشرة في تضاعيف الوصايا العشر.
– وتعليما كنسيا، فالحياة المسيحية إنما يستطيع أن تنمو وتنتشر وتمتد في التبادلات المتعددة “للخيور الروحية” في “شركة القديسين” .
1698-المرجع الأول والأخير لهذا التعليم الديني سيكون على الدوام يسوع المسيح نفسه الذي هو “الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). فبإلقاء النظرعليه، يستطيع المؤمنون بالمسيح أن يرجوا أنه سيحقق هو نفسه مواعيده فيهم، وأنهم سيحبونه بالمحبة التي أحبهم هو بها، بحيث يصنعون الأعمال المناسبة لكرامتهم :
” أرجوك أن تعتبر أن سيدنا يسوع المسيح هو رأسك الحقيقي، وأنك أحد أعضائه. … إنه بالنسبة إليك كالرأس بالنسبة إلى الأعضاء؛ كل ما هو له هو لك، روحه، قلبه، جسده، نفسه، وكل قواه … ، وينبغي لك أن تستخدمه كأمور خاصة بك لتخدم الله وتسبحه وتمجده. وأنت له كما أن الأعضاء هي لرأسها. لذلك منيته الحارة أن يستخدم ما هو فيك، كأشياء خاصة به، لخدمة أبيه ومجده” . “الحياة لي هي المسيح” (في 1 : 21).
القسم الأول
دعوة الإنسان : الحياة في الروح
1699-الحياة في الروح القدس تكمل دعوة الإنسان (الفصل الأول).وهي تقوم على المحبة الإلهية والتضامن البشري (الفصل الثاني).وهي ممنوحة مجانا بمثابة خلاص (الفصل الثالث).
الفصل الأول
كرامة الشخص البشري
1700- كرامة الشخص البشري متأصلة في خلقه على صورة الله ومثاله (المقال الأول). وهي تكتمل في دعوته إلى السعادة الإلهية(المقال الثاني). ويعود إلى الإنسان أمر حمل نفسه بحرية على هذا الاكتمال (المقال الثالث). والشخص البشري، بأفعاله الحرة (المقال الرابع)، يقبل أو يرفض الامتثال للخير الذي يعد به الله ويشهد به الضمير الأخلاقي (المقال الخامس). والكائنات البشرية تبني نفسها وتكبر من الداخل، وتجعل حياتها كلها، الحسية والروحية، مادة نموها (المقال السادس). فتنمو بمؤازرة النعمة، في الفضيلة (المقال السابع). وتتجنب الخطيئة، وإذا ما ارتكبتها فوضت أمرها، كالابن الشاطر ، إلى رحمة أبينا الذي في السماوات (المقال الثامن). فتبلغ هكذا إلى كمال المحبة.
المقال الأول
الإنسان على صورة الله
1701- “إن المسيح في كشفه عن سر الآب ومحبته يبين للإنسان حقيقته في وضوح، ويكشف له عن سمو دعوته” . ففي المسيح “صورة الله غير المنظور” (كو 15:1)، خلق الإنسان على “صورة” الخالق و “مثاله”. وفي المسيح الفادي والمخلص، أعيدت الصورة الإلهية التي شوهت في الإنسان بالخطيئة الأولى ، إلى جمالها الأول وشرفت بنعمة الله .
1702-صورة الله حاضرة في كل إنسان. وهي تتألق في وحدة الأشخاص على مثال وحدة الأقانيم الإلهية في ما بينها (راجع الفصل الثاني).
1703- الشخص البشري، الذي منح نفسا “روحانية خالدة” ، هو “الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها على الأرض” . وهو منذ الحبل به معد للسعادة الأبدية.
1704-يشترك الشخص البشري في نور الروح القدس الإلهي وقوته، وهو قادر بعقله أن يفهم نظام الأشياء الذي أقامه الخالق. وهو قادر بإرادته أن يحمل نفسه نحو خيره الحقيقي. وهو يجد كماله في “السعي إلى الحق والخير وفي حبهما” .
1705-لقد منح الإنسان بمقتضى نفسه وقواه الروحية العقلية والإرادية، الحرية “علامة مميزة لصورة الله” .
1706- يدرك الانسان بعقله صوت الله الذي يحضه “على فعل الخير وتجنب الشر” . وعلى كل واحد أن يتبع هذه الشريعة التي تسمع صوتها في الضمير ، وتكتمل في محبة الله والقريب. وممارسة الحياة الأخلاقية تدل على كرامة الشخص.
1707-“أغوى الشرير الإنسان منذ بدء التاريخ فأساء استعمال حريته” . وسقط في التجربة وارتكب الشر. إنه يحتفظ بالرغبة في الخير، ولكن طبيعته مجروحة بجرح الخطيئة الأصلية، فأصبح ميالا الى الشر، ومعرضا للضلال:
“فالإنسان يعاني من انقسام في ذاته. ولهذا فحياة البشر كلها سواء كانت فردية أو جماعية، تبدو صراعا، وصراعا مأسويا ، بين الخير والشر، بين النور والظلمات” .
1708- لقد أنقذنا المسيح بالامه من الشيطان والخطيئة، واستحق لنا الحياة الجديدة في الروح القدس. وجددت نعمته ما أفسدته الخطيئة فينا.
1709-من يؤمن بالمسيح يصبح ابنا لله . وهذا التبني يغيره بتمكينه من الاقتداء بمثل المسيح ، ويجعله قادرا على الاستقامة في الفعل وعلى ممارسة الخير. ويبلغ التلميذ في اتحاده بمخلصه كمال المحبة أي القداسة. فتنضج الحياة الأخلاقية في النعمة وتتفتح حياة أبدية في مجد السماء.
بإيجاز
1710- “إن المسيح يبين للإنسان حقيقة الإنسان في وضوح، ويكشف له عن سمو دعوته” .
1711- الشخص البشري الذي منح نفسا روحانية وعقلا وإرادة هو منذ الحبل به مهيأ لله ومعد للسعادة الأبدية. وهو ينطلق إلى كماله في “السعي الى الحق والخير وفي حبهما ” .
1712-الحرية الحقيقية هي، في الإنسان، “العلامة المميزة لصورة الله” .
1713- الإنسان ملزم باتباع الشريعة الأخلاقية التي تحضه على “فعل الخير وتجنب الشر” . وهذه الشريعة تسمع صوتها في الضمير.
1714- الإنسان الذي جرحته الخطيئة الأصلية بجرح في طبيعته، معرض للضلال وميال الى الشر في ممارسة حريته.
1715-من يؤمن بالمسيح له الحياة الجديدة في الروح القدس. والحياة الأخلاقية التي تكبر وتنضج في النعمة لا بد من أن تكتمل في مجد السماء.
المقال الثاني
دعوتنا إلى السعادة
1. التطويبات
1716-التطويبات هي في القلب من كرازة يسوع. وإعلانها يعيد ما قطع من مواعيد للشعب المختار منذ ابراهيم، ويكملها بيتوجيهها لا إلى التمتع بالأرض فحسب بل الى ملكوت السماوات:
“طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات.
طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض.
طوبى للحزانى، فإنهم يعزون.
طوبى للجياع والعطاش الى البر، فإنهم يشبعون.
طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون.
طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يعاينون الله.
طوبى لفاعلي السلام، فإنهم يدعون أبناء الله.
طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات.
طوبى لكم، اذا عيروكم، واضطهدوكم، وافتروا عليكم بكل سوء، من أجلي.
افرحوا وابتهجوا، فإن أجركم عظيم في السماوات” (متى 3:5-12).
1717- إن التطويبات ترسم وجه يسوع المسيح وتصف محبته، وتعبر عن دعوة المؤمنين المشتركين في مجد آلامه وقيامته. وتنير الأفعال والمواقف التي تميز الحياة المسيحية. إنها المواعيد البادية التناقض التي تدعم الرجاء في المضايق. وهي تعلن ما يحصل عليه التلاميذ من الآن بصورة غامضة من البركات والمكافآت. وهي قد بدأت في حياة العذراء مريم وجميع القديسين.
2. الرغبة في السعادة
1718-التطويبات تلبي الرغبة الطبيعية في السعادة. وهذه الرغبة هي من أصل إلهي، وضعها الله في قلب الانسان ليجتذبه إليه، هو القادر وحده على اشباعها.
“كلنا نريد بلا ريب أن نعيش سعداء، وليس في الجنس البشري من لا يوافق على هذه العبارة حتى قبل أن تقال” .
“فكيف إذن أسعى اليك، يا رب؟ وبما أنني في سعيي إليك، يا إلهي، أسعى إلى الحياة السعيدة، فأعمل على أن أسعى إليك حتى تحيا نفسي، لأن جسدي يحيا من نفسي ونفسي تحيا منك”
“الله وحده يُشبع” .
1719-التطويبات تكشف عن هدف الوجود الإنساني، عن الغاية القصوى للأعمال الإنسانية، وهي أن الله يدعونا إلى سعادته الخاصة. وهذه الدعوة موجهة إلى كل واحد شخصيا.