– المحبة الأخوية هي، كما قال الرب: أن تحب قريبك كنفسك. وهي ضرورية جداً لسيرة الكمال ولحسن العبادة مطلقاً. لأن الرسول جزم القول: إن أنا أعطيت جسدي لحريق النار ولم يكن فيّ محبة فلست أربح شيئاً. والرسول يوحنا قال: هذه هي الوصية التي قبلناها من الله، أن يكون المحب لله محباً لأخيه. والرب تعالى قال: بهذا يعرف الكل أنكم تلاميذي إذا كان فيكم الحب بعضكم لبعض. ثم وضع لنا أيضاً المثال لعمل المحبة من أنفسنا لا من الخارج ليفهمه الكل وقال: كما تريدون أن يصنع الناس بكم إصنعوا أنتم بهم. أي كما تريد أن يَصنع إخوتُك مسرتك اصنع أنت مسرتهم. وعمل هذه المسرة، إذا مارسناه، نراه ينقسم إلى إبتداء ووسط وإنتهاء وهي ثلاث درجات المحبة:
– فالدرجة الأولى هي العمل بما يسر إخوتنا بتعب.
– والدرجة الثانية هي العمل بما يسر إخوتنا من غير تعب.
– والدرجة الثالثة هي العمل بما يسر إخوتنا بفرح. ولنتكلم في واحدة فواحدة منها فأولاً:
الدرجة الأولى:
العمل بما يسر إخوتنا بتعب
– عمل الفضيلة يجب أن يكون كاملاً أي ظاهراً وباطناً. وإلاّ فليست بفضيلة. أعني إن أنت عاملت أخاك بالمحبة ظاهراً فقط لا باطناً، فلا تحسب بمحب لأن فكرك لا يتبرأ من المراءاة. وهذا خلاف قول الرسول: إن المحبة لا تفكر بالشر، أي أن أفعالها بسيطة سليمة صادقة تطلب نفع المحبوب ظاهراً وباطناً. وتعمل معه الخير وتشتهيه له، لا على الإطلاق، بل بالنظر إلى ما يلائم محبة الله ورضوانه تعالى. لأنّ المحبة الأخوية هي مع المحبة الإلهية، كالإبنة مع أمها، كقوله تعالى: إن الوصية الأولى هي محبة الله والوصية الثانية المشابهة لها هي محبة القريب. فقوله المشابهة لمحبة الله، أي المنتهية إلى محبة الله كقول الآباء: إننا نحب الله لأجل الله ونحب إخوتنا لأجل الله. إذاً من حيث أنّ المحبة الأخوية لها شبه وصورة محبة الله لزم أنها لا تفعل إلاّ بالنظر إلى محبة الله. أي إن رأيت العمل المناسب غرض أخيك مناسباً لغرض الرب إفعله وإلاّ فلا تفعله.
– قال الأب رودريكوس: إنّ محبة الله والقريب هما بمنزلة خاتمين منتظمين معاً في الإصبع فلا يمكن إستخراج الثاني بدون الأول. وقال آخر: إنّ محبة الله هي كالميزان لمحبة الأخوة تُظهر وتفضح كل زائد وناقص فيها. فإن أنت أنقصت في محبة أخيك فتكون قد جذبت ميزان محبة الله إلى الجهة اليسرى وأعبت إعتدالها، وإن أنت أفرطت في محبة أخيك فتكون جذبت ميزان محبة الله إلى الجهة اليمنى وأعبت إعتدالها، وإن أنت أحببت أخاك كما يشاء الله وكما يوافق محبته تعالى فقد أوقفت الميزان على صحته وإعتداله بالسواء.
– ومضمون القول أن نحب إخوتنا بالنوع الذي ليس فيه خطيئة، كقول القديس باسيليوس: أنه لا يجب، من أجل حفظ المحبة، أن يختلط الراهب مع أخ يقصد أن يعمل الشر أو يحل القوانين الموضوعة. بل ما داما في الخير ينبغي أن تكون المحبة والمصادقة من كل واحد لواحد. وإذا أراد واحد أن يضاد الحدود الموضوعة ويجتهد أن يجتذب آخراً إليه، حتى يكون مثله، فليؤدبه المتقدم. وهذا مناسب قول الرسول: إنّ المحبة لا تفكر بالشر ولا تأتي بما يُستحى منه، أي لا يخالط عملها الخطيئة، وصاحبها لم يزل شاخصاً إلى إعتدال وموافقة الناموس، لئلا يزيغ في شيء عن الوصايا، ومتحفظاً بزيادة من الأعمال المخالفة نذورنا الأربعة، لأن الخطأ فيها مضاعف، كما هو معلوم عند كل راهب.
– وشرح ذلك، أن الراهب المحب أخاه هو الذي يعمل ما يوافق المحبة والطاعة معاً، لا الذي يوافق الأخ ويخالف الطاعة: مثل من يحامي عن المخطئ ضد الرئيس أو يتشفع للمخطئ بعنف وجفاء عند الرئيس أو يستر خطيئة المخطئ عن الرئيس أو يساعد المخطئ في مخالفته سراً عن الرئيس أو ينقص هو بشيء من القوانين لأجل محبة أخيه، خلاف مشيئة الرئيس. وقس على هذه مثلها من التي تُرى كأنها حركة محبة أخوية وهي بالحقيقة رذيلة لا فضيلة، لأنها تعاند الطاعة وتخالف المحبة الإلهية. وهو تعالى قال لصموئيل النبي: طاعة أريد ولا ذبيحة. وهذه الجملة قالها لأجل شاول الذي خالف أمر الله بحجة المحبة والرحمة لملك عماليق ولم يقتله كوصية الرب. فرذله الرب ورذل محبته ورحمته وحكم بأنها رذيلة لا فضيلة. وهكذا عزّ وجلّ، يحكم على عملك الموافق أخاك المخالف الطاعة، ويجازيك عنه مجازاة الرذيلة لا الفضيلة، لأنه ضد الطاعة وضد محبة الله.
– ومثل ذلك المحب أخاه بغرض نجس وصحبة خصوصية تنافي غرض الطهارة وتؤذي الحواس كما سبق شرح ذلك في باب الطهارة. فهذه المحبة ليست بفضيلة بل رذيلة ضد الطهارة وضد محبة الله.
– وكذلك فاعل المحبة والرحمة مع المساكين وغير المساكين الذين له نحوهم نسبة الصداقة أو نسبة الجنس أو غرض ما بشري. فهذا يتوهم أنه يصنع محبة ورحمة ولكنه بالحقيقة يصنع رذيلة تعاند الفقر الإختياري.
– ومثله يصنع أيضاً المتضع الإتضاع البهائمي، المستحي من إخوته المتوانين في سيرتهم، لما يكلفونه لعمل ما يخالف القوانين، ولحشمته العديمة الإفراز، لا يشاء مخالفتهم ولا يجسر على نصحهم ولا على الهرب منهم. وإن حدث ذلك في قلاّيته، فلا يقوى على إخراجهم منها. فهذه الحوادث وأمثالها من عادتها أن تحدث من الإخوة العمالين لتواضعهم البهائمي ووهمهم أنهم يصنعون حباً وهم يصنعون المراءاة المناقضة الحب والتواضع معاً. وقس على ذلك كل عمل ظاهره محبة أخوية ويعاند وصية إلهية.
– فإن قلت أنّ الصلاة وصية إلهية وقد سمح الآباء بتركها لأجل عمل الحب، أجبتك إن الصلاة والصوم وما يتبعه من عمل التقشف، هو وصية إلهية، لكنها، بالنسبة إلى الحب، هي وصية جزئية لا كلية. أي أنّ الصلاة إنما غايتها الأولى إمتلاك الفضائل الكلية مثل الحب والتواضع وغيره، كقول القديس إسحق: إنّ الصلاة التي لا يتبعها أعمال فاضلة هي نسر قد نُتفت أجنحته. وقال القديس سمعان العامودي: إنّ الصلاة من غير طهارة وعدل ليست بمقبولة، أي إنّ غاية الصلاة الفضائل الكلية. فينتج من ذلك أن من ترك الصلاة أو الصوم لأجل الحب لا يُحسب كمن نقض وصيةً إلهية بل قد وافق محبة الله بالنوع الأفضل، بشرط إذا كانت الصلاة غير متعلقة بشيء من الطاعة والحب، مثلاً: إن أنت عرفت أن تركك الصلاة لأجل محبة أخيك يغيظ رئيسك أو يشكك أحد إخوتك. فحينئذ لا يجوز لك أن تتركها.
– ومن يشاء الإستقصاء في معرفة هذه المعاني فليقرأ كتب الآباء المطولة لأنّ هذا المختصر لا يسعه إيضاح ذلك.
– إنما مضمون الكلام هو أنك متى عملت مع أخيك فعل المحبة إحذر من أن تخطئ بمخالفة وصية أخرى. فحينئذ تكون قد أكملت الوصية بالحب ومن عادة فاعل الحب إذا كان قائماً في الدرجة الأولى أنه يحس من قبل المحبة بالتعب، أي يقاتله الضجر والكسل وأفكار البغض والتنقل من خدمة الإخوة والكراهة من عمل التودد والتفدي. ثم يحس أحياناً بحركات الحقد ومحبة الذات وما شاكل ذلك من الحركات المعاندة الحب الأخوي، لكنه لا ينغلب لها بل يتعب بطردها. فإن هو إنغلب، فما قد دخل خدر المحبة البتة، لأن الداخل خدرها والممتلك شيئاً منها هو على الدوام يعمل ما يناسب الحب ولا يضاد صفاء الوداد أبداً، حسب وصية الرسول القائلة: ليكن لكم مودة دائمة بعضكم لبعض. وهذا هو المعنى المقول من الرسول والآباء، إنّ من خواص الحب، الصبر وطول الروح. أي أنّ العامل الحب قد يلحقه من إخوته هوان وأثقال، وربما يصدر ذلك إليه من المحسن إليه، ومع ذلك لا يبطل عمل حبه ولا ينغلب للحقد والبغض البتة، لكنه يثبت محباً متودداً باشاً موجباً اللوم على ذاته.
– قال الأب توما الكمبيسي: من كان غير مستعد للصبر على كل محنة ولا مهيأ للإستقامة على إرادة الحبيب، فإنه غير مستحق أن يدعى محباً. قد جاء عن كثير من الآباء أنهم حين كانوا يسمعون بأن أحداً قال فيهم كلمةً ردية كانوا يسارعون في عمل الجميل معه بقدر الإمكان. وهذا يفيد جداً لمحاربة الحزن والبغض، كما قال القديس السلّمي في شرحه عن الحقد: متى ما قارعك الحقد الصعب وما أمكنك أن تحله في الغاية، فتب عند عدوك، ولو بفمك، حتى إذا إستحيت من مراءاتك إياه، تقتبله إقتبالاً تاماً، إذ تقرعك فطنتك قرع النار.
– ومعنى ذلك أن من كان في الحب غير كامل، فهو محتاج إلى تكليف وإجتهاد في عمله دوام الحب. وكما ان الآباء الكاملين عند قطعهم مشيئاتهم، لأجل الحب، كانوا يُرون غير متعذّبين وفرحين، هكذا المبتدئ يُرى عند عمله قطع هواه لأجل الحب، متعوباً ومكلفاً ذاته تكليفاً، لا دائماً بل وقتاً بعد وقت. قال الآباء أن أحد الأسباب الباعثة الرهبان العاجزين إلى الإنفراد هو مرض اللسان، أي عجزهم عن عمل الحب الأخوي، كما جاء عن راهب كان حاملاً ميتاً ليدفنه. فرآه أحد الآباء وقال له: الموتى تحمل! إذهب إحمل الأحياء. أي إن شئت أن تعمل حباً وتتعب ذاتك بالرحمة، فاصنع ذلك مع الأحياء، لأن عمل محبة الحي أتعب من عمل محبة الميت، وحمله ودفنه أتعب من عمل السكوت والإنفراد.
– ومن حيث أن عمل المحبة متصف بالتعب فيقتضي أن يكون في إبتدائه، لأن الإنتهاء في كل فضيلة لا يمكن أن يكون متعباً البتة. إذاً هذه الدرجة الأولى هي المتعبة، أي المصارعة ألم البغض والحقد والكسل ومحبة النصيب الأكبر والعجب والجبانة. لأن هذه الآلام وغيرها، المحتواة في محبة الذات، تحارب الحب وتصارع المبتدئ فيه وتتعبه. وفي الحقيقة ليس تعبه في أنه لا يعمل عملاً يغيظ أخاه أو لا يفكر ضده فكراً ردياً ينافي المحبة ويقبله فقط، بل أيضاً لا يتنازل مع الفكر المضاد المحبة ولا ينسبي عقله فيه، كما سبق القول. فهذه هي الصعوبة وهذا هو التعب. ومن غلب ذاته وقهرها في هذا الصراع، وبدل كل شهوة حقد وبغض إلى شهوة حب ومودة، وطلب النفع لأعدائه خاصة، ثم لكل الناس على الإطلاق، ودام مستمراً في هذا العمل، فهو في درجة الحب الأولى مقيم.
الدرجة الثانية
العمل بما يسر إخوتنا من غير تعب
– الدرجة الثانية هي العمل بما يسر أخوتنا من غير تعب. وهذه حقّاً، هي تمام المقول في الرب: كما تريدون أن يصنع الناس لكم إصنعوا أنتم بهم، أي إعملوا الحب مع إخوتكم بتمام الرضى والقبول من غير ضجر وحزن البتة، ظاهراً وباطناً.
– وهذه المحبة تتولد خاصة من حسن الرجاء بالأجر والثواب، وقبله، من التبرّؤ من آلام محبة الذات، لأن المتبرّئ من محبة ذاته قد تفرغ إلى أن يحب الله والقريب الذي هو صورة الله، ولم يبقَ له ما يعيقه عن محبتهما، إذ المشهور عند الآباء أن ليس لنا عائق يعيقنا عن المحبة سوى محبتنا ذاتنا. وهذه متى ما إنهزمت من قبل ممارسة عمل الدرجة الأولى السابقة، صار العمال بالمحبة الأخوية، يسعى من غير تعب، كما يحدث ذلك في كل فضيلة، ويكمل حينئذ المقول: أن تحب قريبك كنفسك.
– والعلامة الصادقة لهذه الدرجة هي تكميلها في حين الشدة والضيق لا في السعة والرخاء فقط. لأن وقت السعة والرخاء يسهل فيه عمل الحب لكل أحد، كقول الرب: إن أنتم أحببتم من يحبكم فأيّ فضل لكم. فإن العشارين والخطأة يصنعون ذلك. وإنما الحب الحقيقي هو أن تصنع المساواة ما بينك وبين أخيك بتمام الرضا في أوان الضيق، كما جاء في المثل:”في الضيق يعرف الصديق”. وقال أحد الآباء: كما أنّ الفلاح النشيط لا يعوقه عن الرزع المطر والريح، هكذا الحب الحقيقي لا يرتجع عن عمله في أوان الإمتحان. قد جاء عن الأب سيصويس وأخ آخر كان معه، أن مرة ما نهبهما العرب. ولما أضناهما الجوع خرجا يجولان البرية يطلبان شيئاً يأكلانه. ولما إبتعد أحدهما عن رفيقه وجد الأب سيصويس بعرات جمل، فأخذ يفلقها ويخرج شعيراً كان فيها. وكان يترك في يده حبةً ويأكل حبة. فلما دنا منه الأخ قال له: أهذا هو الحب يا أبانا! إنك وجدت مأكلاً وأكلته وحدك. قال له الأب القديس: ما ظلمتك يا أخي. هوذا نصيبك في كفي.
– فالذي لا يتناسى محبة أخيه في مثل هذا الحال قد دلّ بأوضح الدلالة أنه لم يحب ذاته أكثر من محبته لأخيه، وأنه لم يتعب بعمله الحب، كما أن محبتنا ذاتنا لا تتعبنا، حسب تعريف هذه الدرجة. وإنما يتعب هذا الحميد سعيه، حين يرى ذاته راجحة على أخيه ومتميزة عنه بجهة من الجهات. فحينئذ يقلق ويتعب، كما جاء عن ثلاثة رهبان خرجوا للحصاد وضمنوا حقلة ليحصدوها. ومن اليوم الأول إعتلّ أحدهم ومرض ورجع نام في قلايته. فلما أكمل الإثنان حصاد الحقلة دعيا ذلك الأخ ليستوفوا الأجرة معاً. فأجابهم الذي كان مريضاً: وأيّ أجرة لي وأنا لم أعمل معكما شيئاً؟ فقال له الراهبان: نحن بصلواتك أكملنا الحصاد. فلم يقبل الراهب أن يأخذ معهما أجرة البتة، ولا أيضاً الراهبان كانا يتركانه ليمضي بلا أجرة. وعظم الكلام بينهم حتى توصّلوا أن يترافعوا أمام أحد الآباء الكبار. فلما سمع الشيخ كلامهم أمر بضرب الناقوس وأن تجتمع الرهبان ليسمعوا خبراً جديداً يفيدهم. ولما اجتمع الرهبان عجبوا من محبتهم وحكموا أن يأخذ المريض كواحد من الإثنين اللذين حصدا الحقلة. فهذه هي سجية من يحب أخاه كنفسه، ويشتهي له ما يشتهي لذاته، ويكره أن يعرض له ما يكره أن يعرض لذاته.
الدرجة الثالثة
العمل بما يسر إخوتنا بفرح
– والدرجة الثالثة هي العمل بما يسر إخوتنا بفرح. هذه الدرجة تختص بالكاملين من حيث أن أنفسهم إرتاحت بخوف الله وتطهّرت من كدر الأوجاع بالتمام، فبلغت مقام الحب، كما هو المشهور عند الآباء: إنّ الحب يتولد من الخوف فلم يبق هؤلاء العمالون يفكرون، فيما بعد، بأجر وثواب، ولا يحذرون من عذاب وعقاب، بل سعيهم كله يتجه نحو رغبتهم بأن يعملوا مشيئة الله فقط، على مثال واضع جهاد المحبة تعالى القائل: طعامي هو أن أعمل مشيئة من أرسلني. فهؤلاء السعداء، متى ما وقعت لهم الفرصة لعمل المحبة الأخوية، بالذي يتحققون منه أنّه يوافق المشيئة الإلهية، سعوا نحو تكميله برغبة وفرح. فرغبتهم، لأنها مشيئة الله؛ وفرحهم، لأن الأخ المخدوم منهم هو صورة الله. فيرون محبته هي محبة الله، كقوله الصادق: إنّ محبة القريب تشابه محبة الله، أي كأنها محبة الله. وقال الرسول: إنّ من يحب قريبه قد أكمل الناموس وقال أيضاً: إنّ الناموس جميعه يكمل بكلمة واحدة وهي أن تحب قريبك كنفسك، أي إن أنت أحببت قريبك فقد أحببت الله. وهذا، أيضاً، حسب قول الله، هو كمال الناموس.
– فلأجل هذه المعاني يحاضر الكامل إلى محبة قريبه بفرح وسرور ويقتبل من يقصده بغبطة وحبور، كقبول أليشابع لمريم البتول؛ ومرتى ومريم، لسيّد الكل. وعن هذا الفرح قال الرسول: إن المحبة تفرح بالحق. ولذلك تفرح به وبمحبته وتسر بخدمته وراحته، كما جاء في البستان عن الأب لاون ساكن القلالي، أنه كان، متى دعاه أحد ليمضي معه يساعده بالعمل، يذهب بفرح كثير، ويقول: أنا اليوم ذاهب لأعمل مع المسيح. وهذا طبق قول الرسول أن نفرح مع الفارحين ونبكي مع الباكين.
– ومثله قال القديس السلّمي، في شرحه عن زوال الحقد: إن الخلاص الكامل من الحقد والبغض، ليس إذا صليت من أجل من غمك ولا إذا أحضرته إلى مائدتك ولا إذا كافأته بهداياك، لكن إذا سمعت أنه تكبد مصيبة، إمّا في أحوال تناسب نفسه، وأما من النوائب الجسدانية، فتوجعت له كما تتوجع لنفسك وبكيت على مصابه- إنتهى كلام القديس-
– ومعناه: إن فرحنا بمحبة القريب لا يكفي أن يكون فقط من الظاهر بل وأن نفرح بمحبته باطناً، إذ العلامة للمحبة الباطنية هي البكاء على مصابه. والرب الواضع رسوم الأعمال الصالحة كلها قد بكى على أورشليم لمحبته الصادقة لها، عند معاينته من بعيد شدّة ضيقتها. وهذا العمل عمله ذاك الراهب الذي احتمل التوبة مع أخيه لأجل خطيئته وكان يبكي ويصوم لأجله؛ وذاك الذي بكى، لما شُتم، لأنه تأمل خسارة الذي شتمه، ولحزنه عليه ما قدر أن يضبط دموع عينيه.
– وقد يوجد علامة أخرى لهؤلاء الكاملة محبتهم وهي أنهم يفضلون عمل أخيهم على عمل أنفسهم ويؤثرون الخسارة لذواتهم ولا لأخوتهم، كما جاء في البستان عن الأب دوروتاوس، أنه مضى مرة ليخبز خبزه. ولما عزم أن يبتدئ، جاء أحد الرهبان ليخبز أيضاً خبزه. فترك الأب خبزه وخبز للأخ. وقبل أن ينتهي جاء راهب ثانٍ وثالث فخبز الأب لهما. وبعد أن فرغ منهما خبز خبزه.
– وقيل أيضاً عن أحد الآباء أنه أرسل تلميذه إلى مصر وجاء بجمل ليحمل عليه عمل أيديهما. وعندما أتى التلميذ بالجمل إلتقى براهب فقال له هذا: لو كنت علمت أنك ذهبت لمصر، لكنت سألتك أن تأتيني أيضاً بجمل لأحمل عليه عمل يدي. فلما بلغ التلميذ إلى عند معلمه أخبره بكلام الراهب. فقال له معلمه خذ الجمل إليه وقل له: قد بدا لنا رأي آخر وما نريد الآن نرسل عملنا، فإقضِ حاجتك به. فلما ذهب التلميذ بالجمل لم يشأ الراهب أن يأخذه، لأنه شكّ بعملهم الإماتة والحب. فبدأ التلميذ يقول له: إن كنت لا تشاء أن تأخذه فنحن نخسر أجرته، لأنّ الشيخ لا يريد أن يرسل الآن عملنا، فأخذ الراهب الجمل. وبعد ذلك أرسل الشيخ التلميذ ثانية ليأتي بجمل آخر. وفيما هو ذاهب به أبصره الراهب الذي أخذ الجمل الأول وسأله: ما لك بهذا الجمل؟ ولما عرف منه أنه لأجل حمل عمل أيديهما سجد له وقال: إغفر لي يا أخي، لأن جزيل حبكم أعدمني أجري.
– فهذا ومثله هو عمل الكاملين بالحب الأخوي، والعاملين بفرح من غير تكليف، لأنّ التكليف بالعمل يخص الدرجة الأولى، كما سبق القول. أما هذه فيخصها الفرح بالعمل. وهذه هي وصية الرسول القائل: كونوا متقدمين في إكرام بعضكم بعضاً. ولا يقف الحب الأخوي عند الفرح بالإكرام والسعي فقط، بل يبلغ إلى أن يقدم الإنسان نفسه عوض أخيه، كما قدم الرب نفسه عنا، حين أحبنا وأشهر ذلك بقوله: ما من حب أعظم من هذا وهو أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه.
– فهذا هو تمام الحب وتمام هذه الدرجة الثالثة من الحب. ومن قد إمتلكها فهو قادر أن يمتحن ذاته ليعرفها من إستطاعته بذل نفسه عن أخيه، لأنّ ذلك يحق على من إمتلك هذه النعمة، كما قال يوحنا الرسول: بهذا عرفنا حب الله إيانا لأنه أسلم نفسه عوضنا. ونحن يجب علينا أن نسلم أنفسنا عوض أخوتنا، أي أن ندفع راحتنا بدل راحتهم ومالنا بدل مالهم وحياتنا بدل حياتهم، كموسى وبولس الرسول اللذين خرجا عن ذواتهما لأجل أخوتهما. فموسى رضي أن يُمحى إسمه من سفر الحياة لأجل شعبه، وبولس إشتهى أن يكون محروماً بجسمه من المسيح فداءً عن أبناء جنسه. فهذا أشرف درجات المحبة الأخوية. وإن عَمِلنا بها نكتمل بمحبة الله التي تُعرف بالكمال كقول الرسول: ليَكن فيكم الحب الذي هو رباط الكمال. وكقول يوحنا الرسول: إن أحببنا بعضنا بعضاً فإن الله يحل فينا ومحبته تكمل بنا.
– النتيجة من هذا كله، هي أنّ الراهب لا يقدر أن يبلغ قصد محبة الله إلاّ بالإرتقاء على درجات محبة القريب كلها. ولما كانت هذه ضرورة إمتلاك محبة القريب، وضع لنا القانون الوسائط المساعدة على إمتلاكها وهي الفرائض الآتية وعددها أربع.
الفريضة الأولى : يجب على الراهب أن يسعى بكل حرص فيما يلائم لإتفاق والسلامة مع أخوته جميعاً بالسواء.
– لما عزم القديس باسيليوس أن يتكلم في الإتفاق والسلامة الأخوية قال: قبل كل شيء فليكن للرهبان قلب واحد وإرادة واحدة وشهوة واحدة. وهذا القول، إذا أردنا أن نتفهم صفة وجوده في جماعة الرهبان لا يمكننا ذلك إلاّ أن نتصور قلوب الرهبان ومشيئاتهم ورغباتهم جميعها منصبة نحو تكميل القانون بحفظ فرائضه بالتمام. ومن دون ذلك لا يكون إتفاق أخوي البتة.
– والدليل على ما قلناه، هو أنه لا يُرى إتفاق بين كثيرين، إلاّ من قبل إجتماعهم على رأي واحد في شيء من الأشياء. وكذلك لا يُرى إختلاف إلاّ من قبل إختلاف الرأي في شيء من الأشياء. ومن هنا نقول: إن إتفاق الرهبان الكثير عددهم، المختلفة أوطانهم وأخلاقهم وعوائدهم، لا يمكن وجوده من غير إتفاق رأيهم في شيء يكون موضوع إجتماعهم وألفتهم. وهذا ما عساه يكون غير القانون، أي الجد والإجتهاد على حفظه بالتمام. إذاً قول القديس باسيليوس:”إنّ الإتفاق الأخوي يلزمه، قبل كل شيء، أن يكون للرهبان قلب واحد ومشيئة واحدة وشهوة واحدة”، يعني أن يكونوا واحداً بغرض حفظ القانون. وهذا الغرض يصير لهم واسطة عظيمة للإتفاق والحب الأخوي.
– والرسول قد شبّه العيشة الجمعية بالجسد وأعضائه. أي كما أنّ أعضاء الجسد، المختلفة أعمالها، تسعى جميعها برأي واحد وقصد واحد وهو ثبات الجسد، إذ الرجل تسعى لتحمله وتنقله من مكانه إلى حيث إصطلاحه، واليد تخدم فيما هو إصطلاحه، والعين توضح له ما فيه إصطلاحه، وقس على ذلك بقية الأعضاء، هكذا هم الرهبان المجتمعون في أعمالهم الروحانية والجسدانية، يسعى كل منهم بعمل يختص به. فواحد يجاهد على ما يقتضيه طبعه ليمتلك عدم الغيظ وحسن الوداعة والتواضع، وآخر ينسك مقابل روح الزناء ليبلغ الطهارة، وآخر يُظهر تعليماً يفيد إخوته، وآخر يخدم بأمانة وطاعة، والجميع قلبهم وغرضهم واحد، وهو السعي في تحقيق القانون. ومن قبل إتحادهم بهذا الغرض الواحد، يتولّد بينهم الإتفاق الأخوي والحب الذي هو كمال الناموس، لأن التعصّب على شيء واحد يقتضي، بحكم الطبيعة، الضم والإتحاد، كما يُرى ذلك، لا في الإنسان فقط، بل أيضاً في البهائم والوحوش الكواسر، لأنّ كل نوع من جنس الحيوان يطلب حفظ وثبات نوعه. ومن قبل هذا الغرض، وإن كان الواحد من الوحوش يطلب بعض الأحيان قتل غيره، لكن إذا حضر بينهما مَن نوعُه غير نوعهما، فللحين يتفقان على قتله. وترى الحب، من قبل هذا الغرض، يزهر بينهما.
– ولهذا لما تكلم القديس باسيليوس في الحب قال: أنه زرع طبيعي، وأنّ الناموس الإلهي يربي الزرع الطبيعي: ثم أورد الدلالة في ذلك وقال: من هو الذي لا يعرف أنّ الإنسان وحده، دون جميع الحيوانات، أنيس بالطبع مشارك، غير وحشي؟ فهذه الزروع التي غرسها الله فينا، هو يطلب منا ثمارها لأنه قال، إن علامة المحبة التي لنا فيه هي أن نحب بعضنا بعضاً. فلم يطلب من تلاميذه، ما جعله فيهم، أخيراً، من فعل الآيات، لكنه طلب منهم ما غرسه، في البداية، في طبيعتهم المشتركة. إنتهى كلام القديس.
– ومنه يتضح أن الإشتراك يقتضي الحب طبعاً، والطبع يقتضي الإشتراك، والحب نتيجة الطبع والإشتراك. إذاً إشتراك الرهبان بالغرض الواحد، الذي هو قيام سيرة العبادة والكمال، على موجب القانون، يخترع إتفاقاً وحباً. ومن دون هذا الإتفاق، لا يصح بينهم إتفاق البتة، لأن غير القانون ما عساه يكون موضوع إتفاقهم، إذ كل شيء يُحتاج إليه لبنيان الإتفاق، القانون هو المرشد فيه، لأنه يأمر أن الأكل والشرب والكسوة تكون بالسواء. وكذلك إجتماع الصلوات، وتناول الأسرار الإلهية، وباقي أعمال الطاعة والفقر، ثم العبادات الفرضية، وكذلك السكوت والتنزه، والتناوب على الوظائف والخدمة وباقي الأعمال، فجميعها في الكل بالسواء. وهذا سبب كبير للإتفاق.
– وبالجملة، إحفظ أنت القانون بالتمام، فقد تكمل عمل الإتفاق المفروض منه عليك. وإن أنقصت فيه، فقد طرحت عنك سيرة الإتفاق والسلامة، أما مع رئيسك، أما مع إخوتك، وصرت زارع التعب والسجس والشكوك، من وجوه متعددة، إذاً السلوك يُحتسب، بموجب فرائض القانون، ضرورياً لأجل الإتفاق، وخاصة السلوك، بموجب هذه الفريضة، التي تأمر بالسلوك مع الكل بالسواء، لأن الساعي بفرائض القانون جميعها، ولم يكمل هذه الفريضة، أي أنه لم يسع بالإتفاق والسلام مع البعض من إخوته، بل ميزهم عن غيرهم، فيما هو ضروري للمحبة والإتفاق، فذاك مخالف للقانون وناقض رسوم المحبة وساقط منها بالتمام.
– قال القديس باسيليوس: ظلم هو أن يكون في الدير إخوة مرتبطون بالإتفاق ربائع ربائع وثلاثة ثلاثة وإثنين إثنين، لأن الذي يحب واحداً أكثر من الباقين، فهو يُظهر أنّ المحبة الكاملة في الكل ليست فيه. إنتهى. أي كما أنّ المحبة تقتفي أن تكون للكل بالسواء، هكذا الإتفاق والسلامة، اللذان هما علّة المحبة وأساسها، يلزم أن يكونا. وإلاّ فأنت غير محب وغير فاعل بما في القانون، الذي يأمرك بالإتفاق مع إخوتك جميعاً، بالسواء. وتخطئ الخطأ العظيم من حيث أنّ هذا النقص يولد الحسد والخصومات. وكثير من الآباء حكموا بأن يُطرد من الدير الزارع الفتن بين الإخوة.
– وقال القديس السلّمي، إنّ رئيس دير التوبة هكذا أيضاً كان يفعل وكان يجيب الأخ الذي يطرده بسبب الفتن: لست أريد أن يكون في ديري محَّال ملحوظ ومحَّال غير ملحوظ. وقد جاء في البستان عن القديس إستراتيوس أنه يوماً ما، فيما كان قائماً وقت تقدمة القداس، بدأ يبكي بكاءً حاراً، فسأله أحد القسوس عن سبب بكائه، فأجابه: أبكي لأجلكم لأني في كل قداس كنت أرى الروح القدس ينزل عياناً واليوم لم أره قط. فقال له القسيس: صلِ لأجلنا، يا أبانا، لأنه واقع بيننا كلام سجس.
– تأمل أيها الأخ، المرتبط بالحب، مع أناس دون أناس، وإعلم أن فعلك هذا يرمي السجس ويزرع كلام البغض ويتملك الشيطان، من قبله، بزيادة.
– وإذا كان هذا شر من يزرع البغض ما بين الأخ وأخيه وهذا مقدار ضرره وخسارته، فالذي يزرع البغض ما بين الأخ والرئيس، كم يكون شره! وكم هو مقدار ضرره وخسارته وكم يستحقّ أن يطرد من الدير بمنزلة الشيطان! لأنه قد يوجد في الأديار مثل هؤلاء الشياطين الملحوظين، وهو أنهم لما يسمعون كلمة في شأن الأخ من الرئيس، يسرعون في تبليغها إياه ويفتنون بينهما ويسببون للرئيس تعباً وللأخ هلاكاً. وكذلك الذين يحامون عن المخطئ ضد الرئيس، وضد أصحاب الوظائف، وضد العوائد، فهذه جميعها تزرع وتخترع السجس.
– لما عزم الرسل الكذبة أن يفتنوا ما بين الرسول وأهل غلاطية ويزيغوهم عن رأيه، كاتبهم الرسول بهذا وقال: يا ليت الذين يغرونكم يقطعون قطعاً! وهكذا يجب أن نقول نحن: يا ليت الذين يفتنون ما بين الراهب ورئيسه يقطعون من شركة الأخوة وينفصلون بالتمام! لأن هكذا حكم القديس باسيليوس وقال: بعد أن ننصحه مرة ومرتين وقدام أكابر الأخوة، فإن لم يعتبر النصح فليفرز، لأن سيرة الإتفاق والسلامة، ضرورية هي لسيرتنا كثيراً. وربنا تعالى، العارف بكل شيء، لعلمه بذلك، طلب من أبيه وقال: أيها الآب القدوس، هؤلاء الذين أعطيتني، إحفظهم بإسمك ليكونوا واحداً، كما نحن واحد. ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي كل من يؤمن بي ليكونوا بأجمعهم واحداً. تأمل أيها الأخ كم يشاء الله الإتفاق والحب المتساوي بالكل. فهذه نعمة الله التي وهبت لأهل البيعة، في ابتداء الأمانة، كما يخبر عنهم القديس لوقا، أنهم كانوا جميعاً ذوي قلب واحد ونفس واحدة. وهذا بالتمام هو غرض القانون.
– فإن قلت: أني راغب بالمحبة والإتفاق. لكن الشرح السابق يدعو إلى حفظ القانون بأجمعه، وذلك يصعب على الضعيف مثلي. إذاً كيف السبيل إلى إمتلاك هذه الفريضة بالنوع المقتصر؟ أجبتك، على التقريب، هو أن تسعى بزيادة حرص، بموجب الأدب والحشمة، مع الكل، حسب رتبتهم، فتحصل على المحبة للكل. وتعلم ذلك، مما هو مسطر في باب الأدب والحشمة، لأن العمل به يزرع المحبة ويثبت الإتفاق والسلامة، ما بين الإخوة، كما فرض القانون. وليس الأدب ضرورياً لما يخص هذه الفريضة فقط، بل وللفرائض الآتية أيضاً، أي أن الأدب يصحب الحب، وعدم الأدب ينقض الحب. وجملة الكلام، أن للأدب واسطة جيدة للإتفاق، والإتفاق واسطة جيدة للحب.
الفريضة الثانية : وأن يظهر الكرامة والسهولة بالقول والفعل لأخوته، لا المتقدمين فقط، بل والمساوين له والذين هم دونه، وخاصة الذين لا يكرمونه.
– عمل الكرامة والسهولة مع الإخوة، هو من خواص التواضع والمحبة معاً، إذا كان تاماً بالقول والفعل. لأن من يقدم لأخيه الكرامة بالقول لا بالفعل، أو بالفعل لا بالقول، فهو غير تام بعمل الكرامة. وهذا قد نبه إليه يوحنا الرسول بقوله: لا تكن محبتنا لبعضنا بعض بالكلام واللسان فقط، بل بالعمل والصدق. وهذا السعي ضروري جداً لسيرة الكمال، وهو واسطة جيدة لإمتلاك الحب الأخوي، ولأجله يوحي الرسول قائلاً: كونوا متقدمين في الإكرام بعضكم لبعض. والقديس أفرام يقول: من يقدم قريبه في الكرامة يجد إكراماً، وهذه السجية كانت سجية أب الآباء إبراهيم، عند إستقباله الضيوف، وسجوده لهم. وقد جاء عن أبينا أنطونيوس، أنه، في إحدى الليالي، سهر مع الأب مكاريوس إلى الصباح. وكانا مع عمل عقلهما وكلامهما الروحي، يعملان بأيديهما الخوص، ولما صار الصباح، ونظر أبونا أنطونيوس كثرة الخوص الذي ضفره الأب مكاريوس، بادر لوقته، إلى يديه، وقبلهما تكريماً وحباً له. وقد كانت العادة، عند الآباء القدماء جميعاً، أنهم يغسلون أقدام الواردين إليهم، وذلك لغرض إكرامهم وراحتهم.
– وبالجملة، إنّ عمل الكرامة للغير، هو من ضروريات الرهبنة، ومن خاب منه، فقد سقط تحت لائمة الرسول القائل: كونوا متقدمين في الإكرام بعضكم لبعض. فلم يقل: إسعوا في الإكرام، بل كونوا متقدمين، حتى لا تقول قول الجهة: لأنه لم يكرمني أنا لا أكرمه، بل لتسعى في إكرامه قبل أن يسعى هو في إكرامك. والفضل للسابق، لا لللاحق. وهذا قد نبه عليه الحكيم بقوله: لا تقل أني أصنع به كما صنع بي. هو تركني وأنا أتركه.
– وقد جاء في البستان، عن الأب الوجيوس، أنه لما ذهب إلى أبينا أنطونيوس ليشكو حاله، مما ناله من المبتلى الضجور، الذي كان يخدمه، إذ صار المبتلى لا يهوى خدمته ويطلب فراقه، وصار الوجيوس قريباً من أن يطرحه، بعد أن كان عاهد الله على خدمته للموت. فأجابه الأب القديس بصوت جهير، وقال: أنت تطرحه، لكن الله الذي خلقه لا يطرحه. أنت تتركه، لكن الذي خلقه، لا يتركه. وهكذا بالسواء يجيبك الله، يا من تعزم على ترك كرامة أخيك، بغرض أنك تهينه، ويقول لك: أنت تشاء أن تهينه، لكن أنا لا أهينه. ومضمون هذا: إن أنت دمت ثابتاً على عزمك في عدم الكرامة لأخيك، فأنت حاصل في المضادة لله، لأنه تعالى لا يشاؤك أن تهينه، وأنت تشاء ذلك. هو يريدك أن تكرمه وتحتشمه، وأنت لا تشاء ذلك. فأنت إذاً، معاند الله وفاقد الطاعة له وساقط في رذيلة الحقد وبعيد من المحبة؛ لأن المحبة، كقول الرسول، لا تطلب مالها، ولا تفكر بالشر. لكن، إن أنت فعلت مع أخيك خلاف ذلك، وقلت نظير قول يوحنا السابق للرب: أنا المحتاج أن أتعمّد منك، وأنت تريد أن تعتمد مني! أعني: أنا الواجب علي أن أخضع لك وأسبق في إكرامك، لا أنت تسبق في إكرامي، فحينئذ تُعدّ من أصحاب المحبة المكرمين إخوتهم، الطائعين الله وقانونهم.
– ويجب أن نعلم، أن هذا الفضل ليس بعظيم، إذا صنعناه مع الذين هم أعظم قدراً منا، لأن أولئك يحق علينا إكرامهم، كالدَين اللازم وفاؤه، حسب قول الرسول: اعطوا من له الكرامة كرامته. والآباء جميعاً حكموا على من لا يعطى الكرامة لمن هو أعظم منه، أنه ليس براهب. وإنما الفضل، هو أن تكرم المساوين لك ومن هم دونك، كالرسم الذي رسمه لنا الرب جلّ وعزّ، لما خدم تلاميذه، وسقاهم الخمر على المائدة ليلة غسل أرجلهم. ثم أوضح لهم ولنا قصده بهذا، وقال: إذا كنت أنا ربكم ومعلمكم قد غسلت لكم أرجلكم، فكم بالحري يلزمكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض! ومن هذا نحن نقول: إذا كان الرب رسم لنا فضيلة إكرام بعضنا بعضاً، مع الذين هم دوننا، وأمرنا بها أمراً، فكم يجب علينا أن نتفاضل نحن، في عملها ونتغاير بها.
– قال القديس السلّمي: إن رهبان دير التوبة كانوا متغايرين، في إكرام بعضهم بعضاً بهذا المقدار، حتى كان، متى زلّ أحدهم زلّة، يسارع رفيقه إليه، ويسجد لديه، ويطلب منه الإذن، بأن يذهب يعتذر عنه لدى الرئيس، ويقبل عنه الأدب. فهذه التصرّفات الحميدة هي واسطة عظمى لإكتساب الحب الكامل، ومُجلبة له بأسرع وقت، ومفيدة للمُكرِم والمكرَم معاً، لأن الذي أنت تكرمه، تستحي من عملك وتحبه، لأن نفسنا تتشكل بأعمال جسمها. أما هو، فمن إكرامك له، يحبك ويرجع يباديك، بدل إكرامك بإكرام مضاعف. ومن هنا تعظم المحبة وتتسع، ويستفيد الفريقان، كما عظم فضل وثواب الأب مكاريوس، حين سلم بوداد حب، على خادم الأصنام، وأفاده، من قبل تودده وإكرامه له، الإيمان بالمسيح والرهبنة معاً.
– وقد جاء عن الأب باخوميوس، أنه كان في بدء أمره جندياً وثنياً من جنود قسطنطين الملك الكبير. ولما كان مسافراً مرة، مع العسكر، نقص عنهم الزاد وكادوا يهلكون جوعاً. فبلغوا أخيراً إحدى المدن، فخرج سكانها إلى لقائهم بالزاد والمأكل، أكثر من حاجتهم، مظهرين لهم الوداد. فلما نظر باخوميوس إلى سخائهم وعملهم المعروف معهم، وعلم أنهم مسيحيون، آمن بالمسيح. وكان عمل الإكرام سبباً لجذبه إلى الإيمان ومحبة المسيح والمسيحيين معاً. وهكذا مكتوب: إن هدايا يعقوب سكنت غيظ عيسو أخيه وحولته إلى المحبة.
– إذاً عمل الإكرام هو واسطة جيدة للمحبة، ولهذا الغرض رسمه القانون، ثم حثنا أكثر على فعله مع الذين يبغضوننا ولا يحبون إكرامنا. وهذه هي وصية إلهنا بأن نحب أعداءنا. وقد رسمها لنا، بغسله قدمي يهوذا، ولم يميزه بشيء عن باقي التلاميذ، حين العشاء، الذي فيه كان الخائن مزمعاً أن يسلمه.
– وما أكثر ما علمنا الآباء، قولاً وفعلاً، إكرام ومحبة من لا يحبنا. قال الرسول: يشتموننا فنبارك عليهم. وقال أحد الآباء: محبة الأعداء تنير العقل وتلد السلامة. وقال صاحب الأباطيل: لا تقل لي أنّ السيّد المسيح هو إله وصنع الإحسان مع عدوه، وأنا ليس لي هذه القوة. فأجيبك: إن الملك إذا مسك المكنسة وكنس بها، فأنت أولى منه بهذا. وشر عدوك سُمّ، إعمل أنت منه ترياقاً، أي إذا هو تجافى وأبغضك، إسعَ أنت بإكرامه، فتجلبه إلى السلامة والمحبة. والنتيجة أنّ عمل الإكرام مع أخينا من أي نوع كان، هو واسطة جيدة لإكتساب المحبة. وهذا هو غرض القانون بهذه الفريضة.
الفريضة الثالثة: وليحرص أشدّ الحرص من الدينونة والوقيعة ومن كل كلمة وحركة تسبب الحزن والشك لمن يسمعها.
– قال القديس السلّمي: إن الدينونة والوقيعة والنميمة لا تتولد إلاّ من قبل البغض ونقص التوبة. أي أنك متى كنت نادماً حقّاً على ما سلف منك من الخطايا، وكنت محباً ودوداً لأخيك، صادقاً، فمن غير الممكن أن تدينه أو تقع فيه بكلمة واهية البتة. ومتى ما كنت بخلاف ذلك، أي فاتراً بالمحبة أو فاتراً بالعبادة، فإنك تكون سريع الإنغلاب لخطيئة الدينونة والوقيعة والنميمة. فينتج من ذلك أنّ سيرة العمَّال هي بعيدة عن الدينونة والوقيعة بعداً كلياً.
– فإن قلت: كيف أعمل، حتى إذا أبصرت خطيئة أخي عياناً، لا أدينه؟ أجبتك: إن الآباء أتوا بهذا الجواب بأنوع متعددة.
– قال الأب بيمين ومعه كثير من الآباء: متى ما رأينا خطيئة أخينا عياناً، فيلزمنا حينئذ أن نقول: إن خطيئة أخينا هي كالعُوَيد الصغير، بالنسبة إلى خشب خطايانا. وقال القديس أبيفانيوس: الإنسان الصالح، إذا نظر غيره يخطئ، يبكي بحرقة، ويقول: لعل هذا أخطأ اليوم، لكن أنا مرات كثيرة أخطأت وأخطئ. وقال القديس السلّمي: إذا رأَيت أخاك يخطئ فلا تدنه، لأن حكم الله غامض على الناس، من حيث أن كثيرين وقعوا في خطايا عظيمة ظاهرة وعملوا في السر صالحات أعظم منها. والأثبت من كل قول هو قوله تعالى، إذ نهى عن الدينونة قائلاً: لا تدينوا.
– وإن نحن تأملنا بتعقل، نجد أن الدينونة يقع فيها الغلط من جهات كثيرة، فلذلك يجب تركها. والأصح أنها رتبة إلهنا، لأنه قال: لي الدينونة، لا لغيري. فلأجل ذلك يجب تركها، لئلا نُحسب بمنزلة محاربين لله، كما قال القديس السلّمي: تجاسُر أحدنا أن يدين غيره، هو إختلاس وقح لرتبة إلهنا. ثم أن الدينونة، من ذاتها، توجب تركها، إذ أنك، متى دنت غيرك على أنه أخطأ، وقد كان يحق عليه أن لا يخطئ، فقد صرت مثله خاطئاً. وكان الواجب أن لا تدين ولا تخطئ، كما قال بعض الآباء: أيها الضعيف لا تدن الزاني، لأن الذي قال لا تزنِ، هو أيضاً قال: لا تدن. فإن أنت لم تزنِ؛ لكنك دنت، فقد صرت مثله مخالفاً للناموس.
– وقد جاء في البستان وغيره من الكتب أخبار كثيرة لا تحصى دالة على وجوب ترك الدينونة وعظم ضررها، أعرضنا عن ذكرها هرباً من التطويل، لأن معرفتها مشهورة، وخاصة أن الرب وضع الوصية بها، واضحة النهي عنها، بقوله: لا تدينوا لئلا تُدانوا.
– وإنما يجب أن نوجه كلامنا، نحو الكلام الجزئي، الذي فيه قليل من رائحة الدينونة والنميمة والتذمر وما شاكل ذلك من كل كلمة وحركة تؤذي المحبة، حسبما نبه على ذلك القانون. وذلك: مثل من يقول لأخيه:”كنت أريد أن أقول لك كلمة، لكني أخاف لئلا تغتاظ”؛ “وكان مرادي أن أعلمك كيف أنّ واحداً من الأخوة قال فيك، لكن ذلك ما هو لازم”؛ “وكان مرادي أن تحكي قدام فلان”، “وما يحكي الحقّ إلاّ فلان”؛ ومثل هذه كلمات كثيرة تُرى أحياناً أنها ليست بدينونة ولا نميمة، خاصة إذا قالها القائل متبسماً بخبث. لكنها على التحقيق، دينونة ووقيعة، تخبط السلامة، وكالعلقة، تمتصّ دم المحبة قليلاً قليلاً وتضعفها، وربما سببت شعثاً وخصومة وبمنزلة نار قليلة، يلحق إضرامها غاباً ويضطرم إضطراماً عظيماً. وأقله، أنها تطرح الحزن أو الشك وتعيب الكمال.
– وقد جاء في البستان عن راهب شماس، في الأسقيط، سأله مرة، أحد الأخوة، قضاء حاجة تخصه. فأجابه، لست متفرغاً لذلك. ثم لما دخل لتقدمة القداس، لم يرَ أحدُ الآباء، حسب عادته، الروح القدس ينزل على القداس، بشبه النسر، فقال للشماس: ما السبب يا أخانا في أنّ الروح لم يُرَ اليوم؟ فلا بد أن أكون أنا صنعت شيئاً أم أنت. لكن إبتعد أنت، من المذبح، لنبصر هل ينزل أم لا. فلما إبتعد الشماس، نزل الروح بشكل النسر، كالعادة. وبعد تمام القداس، سأل القسيس الشماس: ما صنعت؟ فأجابه: لا أعلم، غير أني قلت لأحد الأخوة، لما سألني قضاء حاجته، أني لست متفرغاً لها. فقال له القسيس: لقد أحزنت أخاك بهذه الكلمة، ولذلك لم ينزل الروح. تأمل أيها الأخ كم يجب الإحتراس من الكلمة المسببة الحزن لأخينا، وقس على ذلك من يقول كلمة تسبب الحزن والشك، لا لواحد، بل لكثيرين.
– قد يتفق، مرات كثيرة، أن يتكلم الإنسان كلام مديح في واحد، ولا يكون قصده مديح من يمدحه، بل حزن السامع. وقد يوجد من يمدح غيره، بقصد تشكيك غيره، كما مدح موسى، أمام الشعب، أرض الميعاد، ليبغضوا مصر. وليس يصدر هذا البغض والشك فقط من الكلام، بل أيضاً من الحركات، لأنك بحركات عينك وأنفك ويدك وغيرها من أعضائك، تقدر أن تحزن أخاك وتشككه وتدينه وتنمّ به.
– قال القديس باسيليوس: فلنرذل الغمز والمسارة في الآذان لأن كل الغمزات لها نوع النميمة، وتحريك العينين أيضاً نميمة. وليس هذا فقط، بل الإستماع للثلاب والنمام يسمى أيضاً ثلباً ونميمة. ويلحق الإثم والمقاصة للقائل والسامع بالسواء كما قال القديس باسيليوس وغيره من الآباء: إن الذي ينم على أخ والذي يسمعه ويحتمله، لا سيما بشهوة، ينبغي أن يفرقا من الأخوة كلاهما. والإستماع بشهوة هو أنك تظهر الفرح بإستماع مذمة أخيك، حاضراً كان أم غائباً.
– وبالجملة، كل حركة وكلمة لا توافق الحب، فلنرذلها، لأنها ضارة وتعاند سيرة الرهبنة معاندة كاملة وتفسد الضمير، لا سيما الضمير السليم، كما قال الرسول: إن الكلمات الردية تفسد الضمائر السليمة. وقال أيضاً: لا يخرج من أفواهكم إلاّ الكلام الذي ينفع ويصلح. أي لسنا بملزومين فقط ان نبتعد من الكلام المضر، بل أيضاً من الذي لا يضر ولا ينفع، أي الكلام البطال المزمعين أن نعطي عنه للرب الجواب. فإذا كان يجب الإبتعاد من هذا، فكم بالأكثر يجب الإبتعاد من الكلام والحركات التي تؤذي وتضر المحبة من حيث أنها تضر المتكلم وغيره، كقول الحكيم: إنّ الموسوس ينجس نفسه ويُمقت من غيره. وبعكس ذلك هو الكلام المناسب المحبة، كما قال إبن سيراخ: إنّ الكلام اللطيف يكثر الأصدقاء ويلاطف الأعداء وهذا هو غرض القانون، بأن لا نسيء إلى أحد بكلمة ولا بحركة البتة، أعني: نتلاطف بالقول والعمل، مع الكل، لأجل حفظ المحبة اللازمة.
الفريضة الرابعة : ويحفظ قلبه وينظفه تنظيفاً بليغاً من ألم محبة النصيب الأكبر لئلا يتداخله الحسد الممقوت المبيد الحب.
– محبة النصيب الأكبر تتولد من الإشتهاء لما ليس فينا، حين لا نقنع بما قسمه الله لنا، من المواهب والعطايا. ومن هذا يتولد فينا أن نكره أن نرى غيرنا يحتوي على ما لم نحتوِ نحن عليه، ونبتدئ أن نحسد ونغار ونفقد الحب بالتمام. ونصبح أيضاً معاندين فضيلة المطابقة للمشيئة الإلهية ومخالفين الرسول القائل: فليثبت كل إنسان فيما دعي إليه. بل إن الحسود يرذل رأي ومشيئة الروح القدس، من حيث أن الروح القدس هو المقسم المواهب، ويخص كل إنسان بشيء، كما تشاء حكمته، وعندما تتعاظم ظلمة هذا الحسد الردي، ويستولي الحزن الكثيف على العقل، من حيث أنّ الحسد ليس هو شيئاً غير الحزن على خير القريب، فحينئذ تتولد المخاصمات والحروب والقتل، كما قتل قايين هابيل، وأخوة يوسف باعوه بعد أن عزموا على قتله، ورؤساء الكهنة قتلوا السيّد عزّ وجلّ، والشيطان أسقط جنسنا من الفردوس وسبّب له الموت. فهذه الشرور، وأمثالها لا تحصى، فعلها الحسد، وكأنها تدلنا بالإصبع، على أنّ الحسود يشبه قايين وإخوة يوسف وأحبار اليهود والشيطان.
– تأمل أيها الأخ الممحون بمحبة الرئاسة والتقدم والكهنوت وغيره وخَفْ وارتعد مما أنت فيه، لأنك مشرف على السقوط في هذه الحفرة نفسها، من حيث أن هؤلاء الساقطين المقدم ذكرهم، ما أوصلهم إلى هذا القتل والبغض البليغ، إلاّ محبة الرئاسة والكرامة والتقدم، وبالجملة، محبة النصيب الأكبر التي حذرنا منها القانون، كما حقق لنا ذلك يعقوب الرسول، حين قال: من أين تأتي الحروب والفتن؟ أليس من الشهوات التي تقاتل في أعضائكم؟ فكأنه يقول: أبطل، يا هذا، شهوات النصيب الأكبر ورغبة الكرامات، فتخلص من الحسد. ومتى تنظّفت من الحسد، فقد إبتعدت عن البغض والقتل.
– من عادة هذا الحسد الرديء أن يدخل، لا على الضعفاء بالفضيلة فقط، بل أيضاً على الأقوياء، ويهين قيمتهم جداً، كما صنع بذاك الأب الفاضل، المذكور في البستان، الذي وهب قلايته التي لا يحتاج إليها، لأحد الآباء الغرباء، ليسكنها. ولما رأى إكرام الناس للراهب الغريب أكثر منه، حسده وبغضه، بهذا المقدار، حتى عزم على طرده من القلاّية، بضرب العصا، لو لم يتلافاه تلميذه. ولما أفاق من سكرته، وعرف ما صنع تلميذه، سجد له وقال: أنت المعلم وأنا التلميذ.
– تأمل أيها الأخ، كم من الهوان والخسران يجلب الحسد على أصحابه، وانتبه لنفسك، واعلم أنك أنت حاصل على مثل هذا الهوان. لأنّ كثيرين هم الذين، لما يبصرونك تفرح وتبالغ بمذمة أخيك ومخاصمته، وتحزن لخير رئيسك ورفيقك، يزدرون بك ويستخفون عقلك، لعلمهم أنك تفعل ذلك حسداً.
– ومن عادة هذا الحسد الرديء، أن يدخل أيضاً علينا، بشكل الخير والغيرة الصالحة، ويجعلنا نعمل أعمالاً تُرى كأنها مجد الله الأعظم، والغرض فيها أن نكبر على أخينا ونحتقره، كما جاء عن بعض الرسل الكذبة، أنهم كانوا يبشرون بالمسيح، لا حباً بالمسيح، بل حسداً لبولس الرسول. فهذه وأمثالها حركات الحسود.
– وبالجملة، إن الكبرياء الذي فينا هو بمنزلة الطعم الذي يخفي صنارة الحسد، ونبتلعه كاملاً ويجتذبنا إلى جهنم جذباً لا مناص منه. ولأجل ذلك، حذرنا الرسل والعلماء جميعاً من الحسد، وزاد على ذلك الحكيم وقال: لا تؤاكل الحسود، أي لا يكفيك أن تهرب من الحسد، بل أيضاً من الواقع في الحسد. الذي معناه: إحتفظ من الحسد بكل قوتك.
– وهذا الشر يوجد فينا على نوعين، وذلك أنّ الحسود، أما أنه يشتهي زوال أخيه وموته بالتمام، ليأخذ رتبته كما قال القديس باسيليوس عن الراهب الذي يشتهي الكهنوت والرئاسة، أنه إذا انغلب لهذه الشهوة يصير يشتهي موت الكهنة والرؤساء ليأخذ رتبتهم؛ أما أنه يطيب قلبه بضرر أخيه وإهانته، لكيلا يرى أفضل منه، كما طاب قلب الشيطان بسقطة آدم، لأنه ظهر متقدماً عند الله أكثر منه. والنوعان، يخلص منهما الإنسان، لعندما يحفظ قلبه من النصيب الأكبر، وعندما يطابق مشيئته مع المشيئة الإلهية.
– وما أبعد فاعل الحب من هذا السقم! بل ما أكثر تحفظ فاعل الحب من الميل إلى محبة شيء يتعلق بالغيرة والحسد! وقد أورد الآباء في ذلك أمثلة مقنعة وقالوا: إن قوة المحبة التي فينا هي محدودة، كقوله تعالى، نحو الله والقريب لا غير. فمتى ما انسحبت إلى جهة ما غير محبة الله والقريب، صرت في خطر عظيم، كالنهر الذي إنثغر بناحية من جهاته، وصار على خطر لئلا تعظم الثغرة، ويتحول ماؤه كله إلى تلك الثغرة، وينشف مجراه القديم. هكذا يُخشى على من أحب شيئاً غير الله والقريب، أن يميل إليه ميلاً مفرطاً يوصله إلى عمى العقل والحسد والبغض والقتل، ويفقده فضيلة المحبة بالتمام.
– وما أكثر ما صار من هذا! أعني: وما أكثر الرهبان الذين خانوا عهودهم مع الله وتركوا الإسكيم من قبل الحسد!
– وما أكثر الرهبان الذين بغضوا رؤساءهم وإخوانهم ورهبنتهم، بسبب مصيبة الحسد!
– وما أكثر الذين خانوا عهودهم مع الله وتركوا الإسكيم من قبل الحسد! وما أكثر الفتن والمخاصمات في الأديار والكنائس، التي أنشأها الحسد! وما أحسن ما أوضحها لنا الخبير بذلك، أبين إيضاح! قال القديس أفرام: إنّ الحسد يجعل الراهب يتذمر ويقول:” فلان تقدم، وأنا ما تقدمت”؛ “فلان إنتخب للرئاسة والتدبير، وأنا ليس لي من يفكر بي”؛ “فلان يحَب ويكرم وأنا مرذول”. وبالجملة، على ما يدلنا الآباء والعلماء، أن سجية الحسود في باطنه، تشاكل الإمرأة النواحة: يتأمل محاسن غيره، كمن يتأمل الميت، ويحزن ويندب بغير إنقطاع. فمن تُرى لا يهرب من هذا السقم الذي هذه عيوبه وهذه قباحته؟ إذاً، بالصواب هو ما قلناه سابقاً، أن فاعل الحب، من حيث أنه مملوء من نعمة الله والإفراز، يهرب على الدوام من الحسد أشدّ الهرب ويتحفظ من أسبابه وامهاته أشدّ التحفظ، أي يتحفظ من محبة النصيب الأكبر ومن محبته كل شيء لم يهبه إياه الله. ومن هنا يرغب الزهد بالعالميات، تبعاً لما قال الآباء، إن الزهد بالعالميات دواء شافٍ للحسود ومعاند لشره بالتمام.
– وهذا هو تمام غرض القانون القائل بأن نتحفظ وننظف قلوبنا تنظيفاً، لا كيفما اتفق، بل تنظيفاً بليغاً من محبة النصيب الذي ليس هو بنصيبنا، ومن كل شيء نتوهمه حالاً أكبر ونزداد به عما نحن عليه. فهذا، ضرورةً، يجب الهرب منه، لنفلت من شر الحسود وتبقى فينا المحبة والسلامة.
Discussion about this post