المصباح الرهباني
الباب السادس: في الصبر
الصبر هو اقتبال الصعب والهيّن بالسواء. وهو ضروري لسيرة العبادة جداً، كقول الرب: من يصبر للمنتهى يخلص. الذي معناه، بالنتيجة، من لا يصبر لا يخلص. وقال أيضاً: بصبركم تقتنون نفوسكم، أي بالصبر تقتنون الفضائل المانحة الحياة لأنفسكم. فيتضح من هذا أنّ الصبر ليس هو الكمال، بل موصل إلى الكمال. وهو على ما قال الآباء، ينقسم إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: وهي الإحتمال بتعب
الدرجة الثانية: وهي الإحتمال بغير تعب
الدرجة الثالثة: وهي الإحتمال بفرح
:ولنتكلم في واحدة فواحدة منها
الدرجة الأولى
الإحتمال بتعب
الإحتمال بتعب هو إقتبال ما نكره، كما يقال عن الرب تعالى، أنه يحتمل خطايانا، والرسل والآباء جميعاً يوصوننا بإحتمال بعضنا بعضاً، أي باحتمال أثقال بعضنا بعضاً. لأن المحتمل ما ليس فيه ثقل وكراهة فذاك ليس بمحتمل ولا صبور البتة، سواء كانت الصعوبة من قبل غيره أو من قبل ذاته. فالكل يُسمى إحتمالاً وصبراً. فمتى ما لحقك العناء من قبل ضجر النسك والعبادة مطلقاً، أو من قبل الطاعة وقطع المشيئة، واحتملت، وكان ذلك على ما يرضي الرب، فأنت محتمل وصبور؛ وإذا كان لغرض لا يرضي الرب، فلست بصبور. لأنّ شرط الصبر أن لا يكون بهائمياً في غير ناموس الرب، كما جاء عن أحد الإخوة، أنه قال للأب بيمين: يا أبانا في الموضع الذي أنا فيه لي خسارة كبيرة. فأجابه الشيخ: إبتعد منه مدى ثلاثة أيام. أي لا يجوز أن تصبر موضعاً يلزم فيه قطع أسباب الخطر والخطأ، لأن ذلك سقطة لا يحتملها الصبور. وما عدا ذلك يحتمل كل شيء حتى السقطات، كقول القديس السلّمي: إنّ الصبور يسقط وبالسقطات يخترع الظفر. أي مهما عرض له من نوائب جسدانية وروحية، من حيث أنها كرهية، يحتملها ولا يظهر من قبلها في ذاته، ألم الغيظ والحزن والسجس والتذمر، بل يظهر كل طول روح وإماتة النفس في غايتها، كما يقول أيضاً: إذا إستقنيت عكازة الصبر فستنقبض الكلاب عن وقاحتهم. أي كما أنّ الكلاب تنهزم من الذي بيده العصا وتنبح عليه من القريب والبعيد، هكذا الآلام تهجم على الصبور وتخيفه فيما يبعده من الحب وطول الروح والطاعة والإماتة وأمثال ذلك، لكنه لا ينغلب لها بل يغلبها ويطرحها من الدنو منه.
ومن هنا قال الحكيم إنّ الصبور يتكلم بالنصرات وهو أعظم ممن يفتح المدن كونه يهزم كل ضجر وحزن وكسل يلمّ به ويثبت في مقارعة الصعوبة كأنه بغير صعوبة، لكنه في الإبتداء يتعب ويتمرمر في مدافعة المرار لأنه ناتج عن الخوف من الله. ومن العادة إن فاعل الخوف يتوجع في تهزيم توجع الغيظ والحزن، كقول القديس السلّمي: الصبر هو تعب النفس لا تزعزعه البتة وجبات واضحة حجتها قد عدم أن ينفصل متفسخاً. أي يتعب لكنه لا ينغلب، وربما يُظهر بعض الأحيان حزناً ودموعاً لدى الله تعالى، على جهة الإتضاع له والتماس المعونة منه، على سبيل الشكوى على ضعف نفسه، كما جاء عن كثير من الصبورين القديسين وكالقائل لله وقت شدّته: أنظر إلى تواضعي وتعبي وارحمني.
أما من يصرخ ويحزن، لا بنوع الإبتهال إلى الرب، بل ضجراً وتذمراً وقلقاً، فهذا ليس بصبور، كما قال الأب توما الكمبيسي عن لسان الرب: يا بني لست بمحب مكين بصير لأنك لأجل مضادة قليلة تبطل ما إبتدأت به وتطلب التسلية بزيادة الطمع. أي لأجل تعب الصبر تترك تعب الفضيلة. وهذا خلاف مذهب الصبورين، لا الكاملين فقط بل المبتدئين. لأنّ المبتدئ بالصبر، وإن تعب وحزن قدام الله وبكى وابتهل، لكنه مع ذلك لا يبطل العمل ولا ينغلب للراحة والضجر والكسل، لا بالعمل ولا بالفكر، كما جاء عن أحد الرهبان الصبورين، أنه لكثرة قتال الشياطين، كان يسقط بعض الأحيان في الزناء ثم يقاتل فكره في أنه لا يترك الإسكيم ولا ينقض شيئاً من فروض رهبنته البتة. وكان يبتهل إلى الرب بحرقة ودموع ليخلصه من شيطان الزناء. وفي ليلة ما فيما هو يصلي، ظهر له الشيطان وقال له: كيف لا تختزي من الوقوف قدام الله ومن أن تدعو بإسمه بفمك؟ فأجابه الأخ: كيف لا أصلي ولا أطلب وهذه القلاية سندان تأخذ مرزبة وتعطي مرزبة. فأنا أصابرك في هذا الصراع إلى الموت ولا أكف عن الإستدعاء عليك إلى أن تكف عن قتالي، ونبصر من يغلب أنت أم الله. فلما فهم الشيطان كلامه قال له: أني منذ الآن لا أقاتلك لئلا من صبرك أسبب لك أكاليل وتاجات. وغاب الشيطان. ومنذ ذلك اليوم بطل عنه القتال.
فهذا هو تمام قول السلّمي، كما سبق: إنّ الصبور يسقط وبالسقطات يخترع الظفر. وهذا هو الإحتمال بتعب، حسب تعريف هذه الدرجة الأولى من الصبر.
الدرجة الثانية
هي الإحتمال من غير تعب
الإحتمال من غير تعب، أي أن العامل بالصبر على المحن والصعوبات، يحتمل كلما يلقاه الرضى والقبول من غير قلق واضطراب البتة. وهذا حسب قول الآباء، يتولد من فكرين:
الفكر الأول هو الإيقان بأنّ المحن والصعوبات ترد من قبل الله لنفعنا، والفكر الثاني هو موافقة إرادتنا لإرادة الله.
فمن قد حصل على هذين الفكرين معاً، بعد ممارسته عمل الدرجة السابقة، يقبل بتمام الرضى كل شدّة وبلاء ويقول مع النبي: مستعد قلبي يا الله مستعد قلبي. ويقول أيضاً مع يهوديت، حين أبصرت البلايا نزلت بشعبها: فلنعدّ هذه البلايا لتأديبنا لا لهلاكنا. ويقول أيضاً مع الرسول: من يقدر أن يفرقني من حب المسيح! ضرب أم قتل أم جوع أو مهما كان من الصعوبات.
وبالجملة، أنه يحتمل كل خارج وباطن، من غير تعب البتة، ومن غير أن يتنازل مع عدم الصبر بفكره أصلاً، كما جاء عن بعض من الآباء أنهم، في حال مرضهم وعازتهم، لم يشأوا أن يأخذوا من أحد صدقة لتمام رضاهم بضيق الفقر والمرض. وآخرون تهموا بأنواع التهمات، ومع قدرتهم أن يبرروا أنفسهم من الثلب، لم يفعلوا ذلك وهذا نظير الذي قال: أني أكون مع شعب الله بالضيق أفضل من أن أسكن في مساكن راحة الخطأة. وفي كل بلية يرى صاحب هذه الدرجة ما رآه تلميذ النبي أليشع ويؤمن بأنّ الذين معه أكثر من الذين عليه. ومن هنا يستمر بتمام القبول والرضى في الشدائد ويحتملها من غير تعب حسب تعريف هذه الدرجة.
الدرجة الثالثة
الإحتمال بفرح
والدرجة الثالثة هي الإحتمال بفرح. وهذه تتولد من المحبة الكاملة خاصة. فالرسل القديسون، بما أنهم كانوا كاملين بالمحبة؛ لما أُهينوا من رؤساء اليهود خرجوا من محفلهم فارحين. والبعض من المسيحيين، لما حظوا بهذه المحبة في أيام الرسول، فرحوا بإنتهاب أموالهم، كما كاتبهم الرسول حيث قال: وصبرتم على إنتهاب أموالكم بفرح. ومثل ذلك كان كثير من الآباء الذين دخل اللصوص قلاليهم، فنهبوا وكانوا يساعدونهم على النهب. وأحدهم كان يرغّب اللصوص بنهب ما عنده ويقول لهم: خذوا وأسرعوا قبل أن يجيء أحد يمنعكم عن النهب ويمنعني عن تكميل الوصية القائلة: من طلب ثوبك زده رداءك، وآخر شتمه إنسان فكان يجيبه بلذة قائلاً: أنت ومثلك أيها الحبيب تسبب الأكاليل للرهبان أما الذين يطوبونهم يخسرونهم. فهذه ومثلها كثير في الكتب تدل على أنّ محبي الله يصبرون على المؤلمات بفرح.
وكل إنسان يتأمل جيداً بمحبة الله لنا فإنه بسهولة يصبر على التجارب بفرح.
فأولاً من حيث المماثلة للرب، إذ هو تعالى احتمل العار والموت لأجلنا. فالعدل يقتضي أن نحتمل كل ضيق وكل موت لأجله كما قال القديس باسيليوس: ينبغي لنا الصبر، من أجل الله، في كلما يأتي علينا من البلايا اللائقة بالطبيعة البشرية حتى الموت، وفي تكميل الوصايا الإلهية أيضاً، إمتثالاً لربنا الذي حفظ وصية الآب إلى الموت. والرسول قال: لما أنعم عليكم بالمسيح فليس ذلك أن تؤمنوا به فقط بل وأن تتألموا بسبب.
ثانياً من طبع المحب أن يصبر بلذة على ما يرغبه المحبوب. فالله تعالى لا يرغب شيئاً كالمتواضع، بدليل قوله تعالى: لمن أنظر إلاّ إلى الوديع المتواضع. وهذا الفضل أي التواضع لا يُمتلك إلاّ برغبة الهوان وبالفرح بالإحتقار، كما سبق الشرح في باب التواضع. إذاً المحب لله بتحقيق يصبر على الضيقات بفرح.
ثالثاً من قد إمتلك الصبر والإحتمال على جهة المَلَكة، وإعتاد عليه وحسّ بلذة الإماتة، فهو يرغب في ممارسته ويفرح عند وقوع الفرصة بالإحتمال، كما نرى ذلك في غيره من العوائد والملكات الضدّية، إذ المعتاد على إكثار الكلام يفرح بلقاء الناس والمحافل. وقس عليه. وهكذا صاحب ملكة الفضيلة يفرح بأسبابها.
وهذا العمل عمله ذاك الأب الكبير الذي كان معتاداً أن يمرض كل سنة. ولما فاته المرض سنة من السنين، حزن وأخذ يطلب من الله أن يرسل له المرض المفرح له. وقد يتفق أحياناً للمحب أن يحزن في مواقع الهوان كقول القديس السلّمي: رأيت ثلاثة رهبان قد أُهينوا جميعاً. فأحدهم لذعه الهوان لكنه سكت والثاني فرح بفائدة نفسه واغتمّ بخسران مهينه والثالث تصور مضرة قريبه فبكي بكاءً حاراً. فكان يتجه للناظر أن يبصر فعله لخوف وأجرٍ وحب. فصاحب الحب، من الواضح، لولا مضرة قريبه لفرح فرحاً تاماً.
وهذه هي صورة درجات الصبر الثلاث التي يطلبها منا القانون ولأجلها وضع لنا الوسائط المساعدة على إمتلاكها وهي الفرائض الآتية وعددها ثلاث:
الفريضة الأولى: يجب على الراهب أن يسبق فيستعد للصبربعمل الإماتة بالقول والفعل.
الإماتة، على ما يعلّمنا آباؤنا القديسون، هي قهر المشيئة الذاتية، أي طرح شهوات ميلنا وهوانا بفرض عمل يهواه الله كقوله تعالى: من لم يمت لم يحي. أي من لم يقهر هوى نفسه لا يقدر أن يحصل على الفضائل المانحة الحياة. فكما أن العشب البري يمنع نبات القمح هكذا عمل الميل الذي يخصنا يمنع فضائل الروح، كقول الرسول: الشيء الذي لا أهواه إياه أعمل. أي أشتهي عمل الفضيلة ويمنعني عنها عمل مشيئتي.
قال يعقوب الرسول: من أين تأتي الحروب؟ أليس من الشهوات التي تقاتل في أعضائكم. أبطل يا هذا عمل شهواتك فيبطل حرب هواك وتجد روُحك السبيل لعمل الفضيلة. فهذه هي الإماتة، وهي مفيدة جداً لإمتلاك فضيلة الصبر. لأنّ الصبر، من حيث هو إحتمال الصعوبة، يقتضي أن تتقدمه أعمال الإماتة كالممهدة له الطريق إذ هو من الواضح إن من لم يقوَ على قطع هواه لمشيئة غيره ومن لم يقوَ على السكوت وقطع الكلام المولّد له عجباً، فهو بالأكثر لا يقوى على احتمال الحقارة والإزدراء بها ومن لا يقوى على أن يكرّم غيره فهو بالأكثر لا يقوى على الطاعة. ومن لم يقوَ على مثل هذه الأمور فهو بالأكثر لا يقوى على امتلاكها.
قال القديس السلّمي: أنه رأى في دير التوبة رهباناً يشتمون ذواتهم ويثلبون أنفسهم ويعيرونها بغرض أن يسبقوا فيستعدوا للصبر على الشتم والهوان الذي يلحقهم من الرئيس والمتقدمين. وقد جاء في البستان عن شيوخ من الآباء زاروا شيخاً كبيراً بغرض كشف أفكارهم له، فوجدوا عند باب قلايته صبياناً يرعون الغنم ويتكلمون كلاماً قبيحاً. فقالوا للشيخ لماذا أيها الأب لا تزجر هؤلاء الصبيان ليكفوا عن هذا الكلام؟ فأجابهم: صدقوني يا أبهاتي أن لي زماناً أريد أن أكلمهم وأعود أنتهر نفسي وأقول: إن كنت لا تحتمل هذا الأمر اليسير، فكيف إن دهمتك تجربة صعبة تقدر أن تصبر لها؟ وكان يقول أني أمارس عمل الإماتة لأكتسب الصبر بالتمام.
ومما قلناه يتضح للكل أن رياضة أنفسنا في عمل الإماتة تولد صبراً فهكذا علمنا الآباء الروحيون وهكذا عملوا قدامنا.
فإن قلت إنّ سيرة الدير والقانون هي إماتة وفيها الكفاية لإكتساب الصبر، أجبتك ليس الأمر كما تظن البتة لأن الإماتة كما سبق القول، هي قهر الهوى الخصوصي لا قهر الذات بمعنى العمومي وعلى الإطلاق، لأنه شيء هو أن تصوم وشيء آخر أن تصوم عن طعام يهواه طبعك؛ وشيء هو أن تميت نفسك بكشف أفكارك وشيء آخر أن تميت نفسك بكشف أفكارك بالنوع الذي تكره توضيحه. وشيء هو أن تميت نفسك بمحبة أخوتك وإكرامهم بالسواء وشيء آخر أن تميت نفسك بزيادة الكرامة لمن لا تهواه وقس على ذلك. فإن الإماتة الحقيقية هي لمن يعمل العمل الثاني لا الأول والفضل يتزايد كثيراً للثاني على الأول. وقد يتفق أن واحداً يميت نفسه بالسكوت عن كلمة واحدة ويحسب عند الله أعظم فضلاً من الذي سكت أياماً كثيرة.
مرة واحدة، قال داود لناتان النبي، أخطأت للرب. وأخذ صفحاً. وغيره قال مرات كثيرة” أخطأت”، وأخذ أقل صفحاً منه. كثيرون تصدقوا بكثير وغيرهم سبقهم بأخذ الجزاء بصدقة قليلة. والشاهد لذلك، فلسا الأرملة.
يقال عن أحد الآباء أنه يوماً ما كان صائماً مدى واحد وعشرين يوماً. فأبصر راهباً مبتدئاً بالرهبنة طريحاً على الأرض مدنفاً من الجوع يلصق بطنه بالتراب ليترطب قليلاً من حرارة الصوم. فصلى الأب لأجله وطلب من الله أن يريه ما هو أجره. فأجابه الرب قائلاً: إن هذا الصائم يوماً واحداً يأخذ مقدار ما تأخذ أنت بصيامك واحداً وعشرين يوماً. وذلك لأنه كان يتعب بقهر نفسه في يومه بقدر تعب الأب المذكور بقهره نفسه في الواحد والعشرين يوماً. فمن هذا ومثله نفهم أن عظم الفضيلة هو من قبل الإماتة والإماتة هي قهر الميل الخاص. وبمقدار هذا القهر تكون الفضيلة.
إذاً لا يقنعك يا هذا سعيك بحسب سيرة الدير فقط لأن ذلك ممكن أن يكون بغير حس قهر الذات وقمع الهوى، بل ينبغي أن تجعل سعيك بما فيه حس قهر هواك الخصوصي، ولو ظهر لك أن الأمر جزئي وقليل فذاك هو الكبير المعتبر، ولو كان سكوتاً عن كلمة واحدة تستلذها أو طرح لون واحد من طعام تشتهيه. وربما تحسب لنا الإماتة من طرح لقمة واحدة. وكذلك تكون الإماتة من ترك ثوب أو كتاب تفرح نفسنا به أو هجر صحبة روحية نهواها ونظرة ننظرها وخطوة نخطوها، وقس على ذلك ما لا عدد له، بما فيه لذع وكسر ميلنا الخصوصي. فإن أنت سرت وسعيت بمثل هذا السعي تكون ساعياً بالإماتة، وقد عملت كمن سبق وأعدّ له مكاناً للصبر. لأنه من قبل ممارستك عمل هذه الإماتات توجد عند مداهمة التجار قوياً على دفع القلق والإضطراب ويسهل عليك عمل طول الروح والسكون. وإذا كنت بعكس ذلك، أي تسير سيرتك من غير إماتة في شيء وداهمتك التجارب التي لا بدّ منها، فتقلق حالاً وتضطرب وتسقط في أعظم شرور الضجر والحزن. والطبع المشاع هو الشاهد بذلك، إذ من عادة الإنسان الدوار الذي ليس له عادة على الثبات في مكان ولا يستعمل الجلوس في بيت وحانوت، إذا إتفق ووقع في سجن، أن يضطرب بالحزن والغيظ أعظم الإضطراب ولا يقوى على الصبر أصلاً بل يثبت في الغم دائماً. أما المعتاد على الجلوس في البيت مثل الراهب المعتاد على جلوس القلاية، إذا سجن، فلا يصعب عليه السجن كثيراً وبسهولة يفلت من الحزن والقلق، لإعتياده على الجلوس. وكأنه سبق وإستعد للسجن.
إذاً من ههنا نفهم صحة ما رسمه لنا القانون بأنه يجب علينا عمل الإماتة لكيما نسبق ونستعد لفضيلة الصبر، بما أن الصبر ضروري للخلاص، كما اتّضح ذلك من القول في تعريفه السابق. ومن ههنا يفهم الرؤساء كيف يجب أن يمتحنوا المبتدئين بعمل الإماتة ليعرفوا ما عندهم من القوة بعمل الفضيلة وهل يصلحون لأن يكونوا رهباناً أم لا، لأن المبتدئ، بما أنه سالك بالتواضع الكلي، كما يقول القديس السلّمي: أن تذلل الداخلين في الرهبنة هو تواضع صادق، فهذا إن كان في أيام تواضعه لا يقوى على الإماتة، فهو على كل لا يقوى عليها بعد لبسه الإسكيم، ولا يقوى على شيء من الصبر. ومن لا صبر له، قال القديس أفرام، فلا فضيلة له ولا يصلح للرهبنة أصلاً. إذاً الإماتة سابقة للصبر والصبر سابق للكمال كقول الرب: بصبركم تقتنون أنفسكم. وإلى هذا ينظر القانون وله يطلب في هذه الفريضة أي “لنسعَ بعمل الإماتة فندرك الصبر.”
الفريضة الثانية: ومتى تعاظمت التجارب لا يقلق مضطرباً بالغضب بل يدافع القلق بطول الروح والسكون
الآباء القديسون مثلوا التجارب بالمياه. فكما أن المياه تغسل الأوساخ هكذا التجارب تطهر النفس. وكما أنّ السلوك في المياه القليلة سهل وليس كذلك في المياه الكثيرة، هكذا التجربة الخفيفة تحتمل بسهولة والتجربة الصعبة يصعب إحتمالها. ولأجل ذلك ينبهنا القانون على ذلك قائلاً: أن لا نقلق متى تعاظمت وتصعّبت التجارب. وكأنه يقول: هذا عنوان سعي الفضيلة، أن توجد صبوراً في التجارب، لا الخفيفة بل الثقيلة، لأن هذا علامة التواضع، بل إن خاصة التواضع الأولى هي موت الغضب الذي معناه الصبر الكامل.
فالنفس التي ليس لها هذا الفضل، فلتجتهد، كما قال القانون، بأن تتحفظ من القلق والإضطراب وباقي حركات الغضب الخارجية. فإن ذلك واسطة جيدة لإكتساب الصبر، أي السكون الباطن. فمن لم يمارس العمل الأول الذي هو سكون الحركات الخارجية، فمن الممتنع أن يبلغ العمل الثاني الذي هو سكون الحركات الداخلية، ويخيب من أن يكون صبوراً، إذ كان حد الصبر أن يوجد صاحبه في الضيق والفرج على حد سواء.
قال القديس السلّمي: إبتداء زوال الغيظ صمت الشفتين عند ارتجاف القلب. وهذا غرض القانون بهذه الفريضة بأن لا نتعربس ونضطرب وقت حلول التجربة، لا بحركة اليدين، ولا بالرجلين، ولا بالكلام والشفتين، حتى ولا بنظر العينين. وهذا الإضطراب قد أنكره الآباء من جهتين:
فأولاً لأنه يدل على تلف وفقد جميع الفضائل، كما قال الآباء: إن الغضب يشبه الدخان وروح القدس يشبه النحل وغير ممكن إجتماعهما معاً. وقال الأب أبراشيوس: من لا يضبط لسانه وقت غضبه، فذاك لا يمسك نفسه عن شيء من الأوجاع.
ثانياً إن حركة الغضب المقلق لا تليق بشأن الراهب ولا تناسب شكل الإسكيم، زي الكمال، كما قال الأب بيمين: إن من يستعمل الغضب ليس هو براهب. وقال الأب أغاتون إن رأيت رجلاً سريع الغضب كثير الحرد يقيم ميتاً لا تقبله. وقال الأب يوحنا القصير: قبيح هو بالراهب أن يخاصم من أحزنه.
وجملة الكلام، إن حركة الغضب وعربسة الغيظ خطيئة وغير لائقة بزي الرهبنة. وهذا الداء من عادته أن يتسلط بالأكثرعلى الرؤساء لفقدهم الإماتة والهوان المتولدين من عمل الطاعة. ثم يرسخ بهم بزيادة بحجة التعليم والزجر اللازم رتبتهم. ومن ههنا حكم الآباء بالخطر على المتقلد الرئاسة قبل قتله داء الغضب، لأنه عندما يشاء أن يستعمل الغضب يستعمله الغضب ولمثل هؤلاء يخاطب القديس السلّمي قائلاً:
إن كنت يا هذا تشاء أن تشفي قذا رفيقك، فلا تستعمل لعينه، بدلاً من الميل، جسراً وتطرفها. فالجسر هو ألفاظ ثقيلة وأشكال مكروهة والميل هو تعليم وديع وزجر بطول روح وتمهل. إنتهى كلام القديس. ومضمونه لا يمتنع الرؤساء من عمل الزجر والتبكيت والتعليم، لكن بشرط أن يكون ذلك من غير حركة غيظ وغضب ألمي، كالإضطراب الناتج عن البغض والحقد والإعتداد بالذات والضجر وصغر النفس وباقي الآلام الملتصقة بالغضب الألمي. لأن التعليم والزجر الخائب من الآلام المذكورة، هو من لوازم الرئاسة وفضيلة عظمى تخص الرؤساء، كما أن ضدّ ذلك هو رذيلة سمجة لا تليق بشأن الرؤساء.
وقد نبه على ذلك القديس باسيليوس وقال: إن القاتلين يستعملون السكاكين في قطع أعضاء الناس والأطباء أيضاً يستعملونها في ذلك. لكنّ القتلة يمسكونها بغضب وعدم رحمة ليعملوا بها أعمالاً مرذولة والأطباء يمسكونها بخوف وشفقة ويستعملونها بفكر صالح ليعملوا بها أعمالاً نافعة مفيدة. وهكذا الذين يعرفون أن يعملوا الإنتهار بفكر حسن ومقدار حقيقي يرضي الله فإنهم ينفعون الذين ينتهرونهم ويخلصونهم من توانيهم أما المضبوطون بألم الغضب فلا يفعلون من هذا شيئاً كمرضاة الله. فينبغي للذين يؤثرون أن يقوموا بالوداعة، أن ينتهروا بمقدار وفي الوقت الذي ينبغي، إذا دعت الحاجة إليه. فإنّ موسى الذي شُهد عنه أنه وديع أكثر من جميع سكان الأرض، لما دعت الحاجة، إنتهر وإنزعج حتى لعن بإنتهاره، لقتل إخوته بني إسرائيل بغير شفقة. وهذا أيضاً في الوقت الذي صنعوا فيه العجل وسجدوا له. فأما أن يكون الإنسان، وقت الإنتهار، غير متحرك بالجملة، فليست هذه وداعة بل هي رخاوة طبيعية. إنتهى كلام القديس.
ومنه نطلع على غرض القانون في أمره لنا بعدم الإضطراب والقلق، لا لكيلا نغضب إذا دعانا الوقت إلى الغضب، بل المقصود أن لا نغضب الغضب المقترن بالآلام، كما سبق القول، لأن حركة الغضب الألمي هي عند الآباء سقطة، وحركته في وقته هي للرؤساء، وقت إنتهارهم، عند الحاجة إليه كما رسم القديس؛ وللمرؤوسين، حين يعترض لهم عارض خبيث، كقول الأب بيمين، لما سأله أحد الإخوة: ما هو الغضب باطلاً، فأجابه القديس: إن ثلبَك أخوك أو عيّرك أو ضربك أو قصد قتلك وغضبت عليه، فباطلاً تغضب. لكن إن أراد أن يبعدك من الله فحينئذ إغضب عليه جداً واحرد.
وهذا الرأي مشهور عند الآباء الروحيين أجمع: إنّ الله إنما خلق فينا الغضب لكيما نغضب على الشيطان والخطيئة. وقد خصوا حركة الغضب بزيادة لأجل طرد شيطان الزنى، كقول القديس أفرام، والأب وغريس وغيره كثيرين، أنه يوافق لطرد شيطان الزنى الزجر والشتم بغضب وحرارة. وجملة الكلام أن حركة الغضب جيدة للقادر أن يستعملها في مكانها وزمانها من غير ألم. وإليها يشير النبي بقوله: إغضبوا ولا تخطوا. فمثل هذا القلق والغيظ لا ينهي عنه القانون. وما كان خلاف ذلك فهو الذي ينهي عنه وله يقصد كل عمال مجاهد، كما جاء في البستان، عن أحد الرهبان، أنه حكى عن نفسه وقال: أني ذهبت إلى السوق مع أخ لنشتري شيئاً فأبصرت أمراً يدعوني إلى الحرد فتركت كل شيء وهربت.
وراهب آخر، ضربه إنسان على رجله فأوجعته. فمسك مكان الوجع بيده وسجد لضاربه على الرجل الواحدة. فهؤلاء وأمثالهم هم الساعون بالتجنب عن الغضب ومتحفظون من حركاته حذراً من ضرره بغاية التحفظ، لعلمهم أن الغضب، كما قال القديس السلّمي، يشبه صخراً في البحر، وما أكثر السفن العقلية التي فسخها حين تلاطم بها وأتلف كلما كان في داخلها.
هذا الداء أخاف الأب أمون، صديق أبينا أنطونيوس، وأرعد جوارحه جداً وبقي أربع عشرة سنة، كما قال، يصلي ليله مع نهاره ويطلب إلى الله أن يخلصه من الغضب.
ولما أراد الآباء أن يعلمونا ما هو مصدر الغضب لنقتلع، بقلعه، جرثومته، وجدوا أنه يتولد من أسباب كثيرة. ولذلك نصحونا بإيجاز القول أن نسعى في محاربته بالأعمال المناسبة التواضع فإنها من كل جهة تصارع جنونه.
وأولها السعي بطول الروح، كما قال القانون. وهذا معروف لا عند المستضيئين بنور الإنجيل فقط، بل الوثنيون أيضاً قد عرفوا، بنور الطبيعة، هذا الفضل، واتخذوا طول الروح وعدم القلق مبدأ الحكمه وأخبارهم وتعاليمهم في هذا كثيرة. منها ما جاء عن أحد تلاميذ زينون الفيلسوف أنّ أباه سأله مرة عما كان تعلمه في مدة الزمان المديد. فأجابه الإبن سوف أريك ولم يقل شيئاً غير ذلك. فغضب أبوه لظنه أنه قد ضيع المصروف باطلاً، وشرع يجلده بالسياط. فاحتمل الشاب قساوة أبيه بصبر جميل وقال لأبيه: هذه هي الثمرة التي جنيتها من الفلسفة. أني أستطيع أن أحتمل غضب أبي بسكون وهدوء.
وهذا هو تمام معنى الفريضة. فإن قلت أنّ هذا الوثني كان في ظاهره وديعاً وليس في باطنه، أجبتك أن هذا أيضاً هو مقصودنا، لأن الممارسة بعدم القلق في الخارج، هي واسطة جيدة لإكتساب عدم القلق الباطن وامتلاك كمال الصبر.
الفريضة الثالثة : وليعوّد لسانه على الشكر في كل محنة وصعوبة
قال الله أنا الذي أضرب وأشفي. وقال الرسول بالشدائد الكثيرة ينبغي الدخول إلى ملكوت السماء. فإذا كان ذلك كذلك فقد اتضح أن من لم يشكر على المحن والتجارب أنه لا يخلو من أحد العيبين: أما أنه لا يعرف أنّ الله يرسل التجربة بقصد نفعنا، أما أنه يعرف ذلك ولا يريد أن يفي لله جميله.
فالأول وهو الجاهل ورود التجارب ومنفعتها، فقد شبهه النبي بالبهيمة، لأنه قال من كان في كرامة ولم يفهم قيس بالبهائم التي لا عقل لها وشُبّه بها. أي أنّ التجربة مفيدة، ولم يفطن بفائدتها ويشكر لأجلها فلذلك لا يُحسب من ذوي العقول بل من العديمي العقول. وقد يحق أن يُبكى على من هو كذلك، كما بكى الرب على أورشليم لعدمها معرفة إفتقاده لها، لأنّ المحنة إفتقاد من الرب يفيدنا الغفران والإتضاع والإقلاع عن العيوب. ومن لم ينتبه لمثل هذه الحظوظ، فهو كاليهود الذين ما انتبهوا لفائدة وجود الرب بينهم، ويبكي عليه مثلهم. أما إن كنت تفهم منفعة الشدّة وإحسان الله عليك بها، ولا تريد أن تشكره وتفي جميله فهذا شر أعظم ويلحقك بسببه التعيير من الرب، كما عيَّر التسعة البرص الذين لم يرجعوا مثل رفيقهم السامري يشكرون الرب، وكما أدّب الرب موسى وحزقيا الملك حين لم يشكروه، لما كان شكره واجباً. هكذا سيدرك الأدب من كان في محنة ولم يشكر عليها. وبالجملة أنك متى تهاملت وقت محنتك عن شكر الله أخطأت ضدّ حقوق الله تعالى وضدّ قانونك وخالفت الرسول القائل: كونوا شاكرين في كل حين عن كل شيء. وإن أنت شكرت الله عند التجارب، فقد عملت ما يجب لله عليك وسعيت حسب القانون وأوضحت عن ذاتك أنك ذو نفس شجيعة ومعرفة صادقة منيعة.
فإن قلت، أنك تشكر الله وقت الشدّة، ولكن ليس بقلبك بل بفمك فقط وتزعم أنك لا تقوى على الشكر بفمك وقلبك معاً. أجبتك: إثبت على ما أنت عليه. فمن الممارسة لعمل الشكر بفمك، تتوصّل أن تشكر بقلبك. ألا ترى ما يصنعه الملوك والحكام والأغنياء مع الذين يمدحونهم؟ يعلمون أن مديحهم لهم إنما هو بالفم فقط لا بالقلب، ومع ذلك يمنحونهم النعم والهبات عوضاً عن مديحهم، وبهذا يجعلونهم أن يرجعوا يمدحونهم بالفم والقلب معاً. وهكذا يجب أن نفهم عمل الله معنا. حين يرانا وقت التجارب نكلف ألسنتنا لشكره، يمنحنا نعمة أن نشكره فيما بعد باللسان والقلب معاً.
وكذلك، من الممارسة للشكر على التجربة الصغيرة، يمنحنا نعمة الشكر على التجربة الكبيرة، لأن الشكر على النعم يزيدها، كما هو المشهور عند الآباء جميعاً، أي يصير الشكر للشكور، وقت التجربة، بمنزلة اللجام يكبح عقله أن لا يفوت ويعبر حدود الصبر. والدليل على ذلك هو ما قلناه كثيراً ومثبوت عند الحكماء جميعاً: إن العوائد والملكات لا تمتلك إلاّ بالممارسة، أي من لم يبتدئ لم يصل، ومن لم يسعَ بالخارج لم يبلغ السعي الداخل. فإن شكرت الله على التجربة بفمك، أعطاك أن تشكر بقلبك وفمك، وإن شكرته على التجربة مرة أعطاك أن تشكره مرتين؛ وإن شكرته على المحن الصغار أعطاك أن تشكره على المحن الكبار؛ وإن شكرته بعض الأوقات أعطاك أن تشكره كل الأوقات.
وقد جاء في البستان عن أحد الآباء، أنه أبصر فقيراً نائماً ولم يكن له ثوب يتغطى به، سوى حصيرة نصفها تحته ونصفها فوقه. وكان حينئذ البرد صعباً. وكان يشكر الله ويعزي نفسه بهذا الكلام قائلاً: أشكرك يا رب كم من الأغنياء الآن في الحبوس مقيدين بأغلال الحديد وبعضهم أرجلهم في الخشب لا يمكنهم الخروج لإراقة الماء، وأنا مثل ملك أمدد رجلي وأذهب حيثما أشاء. فعجب الشيخ من كلامه وأعلم الرهبان وسبحوا الله.
تأمل أيها الأخ هذه النعمة واعلم أنها لم تعطَ لهذا الرجل منذ الإبتداء، بل بعد أن مارس الشكر أولاً على المحن الخفيفة ثم لم يزل يتدرج إلى أن بلغ هذا الحد، وصار يسعى في تمام وصية الرسول، يشكر في كل حين على كل شيء. وهذا هو غرض القانون بقوله: أن نعوّد ألسنتنا الشكر على المحن، لأن اللسان إذا اعتاد على ذلك يستحي العقل فيما بعد من أن يضجر ويصير يصبر كرهاً. ومن ههنا قال الآباء: إن التعليم بعض الأحيان، يفيد المعلمين كثيراً، وذلك أنه يسبب لهم من قبل التلفظ والقول، حساً بما يقولون وينتقلون إلى العمل به بعد أن كانوا لا يعملون به البتة. فهكذا أنت، عوّد لسانك على الشكر في التجربة فيأخذ قلبك الحس بواجب الصبر وينقلب يشكر ويصبر الصبر الجميل، في كل مكان وزمان، على كل تجربة وشدّة، صغرت أو كبرت، كما كان الآباء القديسون بالتمام. إذاً، واسطة جيدة هي عادة الشكر، لامتلاك الصبر، وقت المحن، كما رسم القانون.
No Result
View All Result
Discussion about this post