– المائدة هي إجتماع الإخوة للطعام في الوقت المعين عند قرع الجرس. أما العمل اللائق في حين هذا الإجتماع فهو، كما يأمر الآباء، وحسب التعليم الكنائسي، أن نعمل صلاة عند إبتداء الأكل وبعده. يقف الرهبان أولاً بهيبة تليق بالمصلين. ويصنع المتقدم مع من يجاوبه الصلاة التي للقديس أفرام حسب العادة. ثم يجلسون بسكون من غير إضطراب. وبعد فتح مناديلهم قدامهم يبتدئون بالأكل بحشمة وإصغاء إلى القراءة.
– وهذان العملان أي الحشمة والإصغاء إلى القراءة يلزمان الراهب وقت أخذه الطعام.
– فالحشمة على المائدة هي وصية قديمة من الآباء، وفيها يقول القديس باسيليوس: إن الراهب لا يقلق في أكله، بل يمد يده إلى الحاجة الطبيعية بهدوء، كمن يكمل خدمة ثقيلة، ويستصعب أن يبطئ قليلاً في الأكل، بل يقوم عن المائدة مسرعاً إلى أعماله. أي لا يسرع في أخذ اللقم ولا يبطئ متفكها بلذة الحنجرة، بل يأكل بقناعة وعفة تليق بالراهب من غير شره وإمتلاء.
– أما عن القراءة على المائدة والإصغاء إليها، فهذه أيضاً عادة قديمة. وقد جاء ذكرها في البستان، أن الرهبان إشتكوا للأب يوسف على البعض من مشائخهم أنهم كانوا يتكلمون على المائدة ويعيقونهم عن سمع ما يقرأ عليهم. ولتكن القراءة من الكتب النسكية وأخبار القديسين وما يوافق شفاء أسقام النفس ولا يسكت القارئ إلى أن يسمع صوت الجرس أو صوت المتقدم يقول: المجد لله دائماً. وحينئذ ينهض الرهبان وقوفاً في أماكنهم بسكون وسكوت، ويصلي المتقدم الصلاة التي لفم الذهب. ثم يسعون جميعاً برفع ما على المائدة وحمله إلى مكانه بترتيب وسهولة. وينظف المبتدئون المائدة ويمسحون ما يحتاج مسحه من غير قلق وإضطراب البتة. والمقصود من هذا كله العفة في الأكل والشرب ودفع الإسراف والشره. وهذه الفضيلة يسهل فعلها على من يسعى بموجب الفرائض الآتي ذكرها وهي بالعدد سبع:
الفريضة الأولى : يجب على الراهب أن تكون مائدته سهلة الوجود.
– السهل الوجود له ثلاثة معاني:
– الأول ما كان تحصيله غيرعسر.
– الثاني ما كان ثمنه قليلاً.
– والثالث ما كان طبخه وإستعماله سهلاً هيناً.
– فالطعام الذي هذه صفته، يوافق الفقر جداً، ولا يقلقنا ولا يعيقنا عن عمل القانون والرياضات الروحية البتة.
– أما ما كان خلاف ذلك فإنه يخترع لنا تعويقاً وضرراً ليس بقليل. وقد نهانا عنه أبونا أنطونيوس بقوله: إستعمل الأطعمة الحقيرة، أي لا تستعمل طعاماً يعيقك فخره عن الفضيلة كقول القديس أفرام: فلنطلب الأمور الكافية حاجتنا. فإن الأشياء الزائدة والمسببة لنا تجارب الذهن، تلك غير نافعة. وقال أيضاً القديس باسيليوس: يجب على الرهبان أن يختاروا من الأطعمة أسهلها وجوداً ولا يطلبوا، بحجة النسك، أصنافاً مختلفة عسرة الوجود، بل يطلبون ما يجدونه بسهولة وما قرب، والذي يستعمله أكثر الناس والذي ثمنه قليل- إنتهى كلام القديس.
-ومن مضمونه نفهم أنه لا يجوز لنا أن نضع على مائدتنا كثرة ألوان الأطعمة. لأن في ذلك صعوبات واضحة وقلقاً كثيراً وإهتماماً زائداً متعباً. وربنا تعالى قد أوضح لنا هذا التعليم بخطابه لمرتا حين قال لها: مرتا، مرتا، تهتمين وتحرصين لأجل أشياء كثيرة، والذي يُحتاج إليه قليل. أي أن الضروري الذي يحتاج إليه لا يحتاج إلى كثرة الأطعمة. فكثرة الأطعمة إنما هي معنى زائد عن الحاجة وباب الشراهة والإمتلاء، كقول القديس السلّمي: نهم البطن مخترع ألوان الأطعمة.
– فإن سألت ما هو الضروري للحاجة؟ أجبتك: الرأي المتفق عليه عند جمهور الآباء هو لون واحد من الطعام، لأن الزائد بالعدد عن الواحد هو كثير.
– ولأجل العيشة المشتركة وإختلاف طباع الرهبان، جيد هو أن يكون على المائدة لونان من الطعام، وما زاد على ذلك يجعل المائدة غير رهبانية، ولا مقبولة عند أحد القديسين الكاملين البتة. وقد جاء في البستان، أن أسقفاً ما زار أحد الرهبان المتوحدين. فاستقبله الراهب ببشاشة ووضع له مائدة قدم فيها خبزاً وزيتاً وإعتذر له أن ليس عنده شيء يليق بشأنه. فأجابه الأسقف: غاية مرادي أن أزورك مرة أخرى ولا أجد عندك حتى ولا هذا. ومضمون كلامه أن القليل من الطعام هو المفيد، والكثير هو المضر. وضرر كثرة الأطعمة أنواعه كثيرة وأعظمها أربعة أشياء: ثقل الجوف والنوم والزنى ومضادة الفقر.
– وقد ينتج أيضاً مما قلناه أنه لا يليق بمأكولنا إستعمال البهار وأنواع البزورات، كأهل العالم. لأن ذلك داعياً إلى لذة الحنجرة والشره ويعيب نسك المائدة وسيرة الفقر. قال القديس السلّمي: نهم البطن مخترع ألوان الأغذية متفنن في أبازيرها التي تطيب طعمها وبخارها. وهذه كلها تبطل عند تقابُلها بسيرة إلهنا الذي هو الطريق والنموذج لكل بر وفضيلة. فكان أكله وشربه تعالى على الأغلب خبز الشعير والسمك المشوي، وشربه الماء. وذلك واضح من الإنجيل المقدس، وفي هذا مثل للقناعة كافٍ. وذلك أن خبز الشعير كان أسهل وجوداً من أنواع الخبز الأخرى وأقل ثمناً. أما السمك، فلأنّ تلاميذه كانوا صيادين ويترددون كثيراً إلى البحيرات، بسبب جولاتهم معه تعالى للتبشير. فكان الصيد سهلاً عليهم ويحصلون على السمك بلا ثمن ويأكلونه مشوياً، لأن ذلك أسهل طبخاً وأنقص إهتماماً.
– أما إن شرابهم كان الماء، فهو واضح، من حيث أن وجود الخمر في البرية متعسّر. وقد كانوا يشربون أحياناً الخمر إذا إتفق لهم حصوله من غير إعتناء بحصوله.
– وجملة ما قلناه يجتمع في كلمة واحدة وهي أن طعامنا يجب أن يكون سهل الوجود من حيث حضوره وثمنه وإستعماله وهذا هو غرض القانون بهذه الفريضة لمناسبة عيشة الفقر المقدس وتدبير الدير المشاع مذهبه.
الفريضة الثانية : ولا يستعمل الأكل إلا مرتين، غذاء وعشاء، ودون ذلك فليستأذن الرئيس
– هذا إحتراس آخر من شر الإمتلاء من الطعام والشره كقوله تعالى: أنظروا لئلا تثقل قلوبكم من الشبع والسكر لأن الأكل متى ما صار في اليوم أكثر من مرتين فقد صار أزيد من الكفاية وترجح إلى الشره، كقول أحد القديسين: إن من يأكل مرتين هو إنسان ومن يأكل ثلاث مرات فهو حيوان. أي قد عمل عملاً يخص الجسم فقط لا روح فيه وزاد على الكفاية. وما زاد على الكفاية فهو خطيئة. والخطيئة في معنى الشرب وإدخال الطعام على الطعام ليست بواحدة بل تنتهي إلى خطايا كثيرة. وهذا التعليم قد أوضحه لنا القديس السلّمي بقوله: إن أولاد البطن الأبكار هم: الزناء وقساوة القلب والنوم. وأولاده غير الأبكار فكثيرون جداً. ومن قبل هذا المعنى قال الآباء: إن أتون بابل ليست هي شراً علينا من الزيادة في غذاء الجسد.
– وما أكثر الذين دمرهم ودهورهم هذا البطن الغاصب. ولنعرض عن ذكرهم الكثير العدد ونكتف بما إختصره القديس السلّمي في وصفه شرح هذا السقم. قال: نهم البطن هو باب أسقام عزمنا، سقطة آدم، هلاك ألعيس، إستئصال الإسرائيليين، منظر نوح المنكر، دافع العامودين، مذمة لوط، إجتياح إبني عالي الكاهن. إنتهى كلام القديس. ومنه نكتفي إقتناعاً بأن الهرب من الشره واجب والأكل بقدر الكفاية لازم لا فقط بأن نأكل في اليوم مرتين بل ولا نتجاوز أيضاً الكفاية في المرتين.
– وإن سألت ما مقدار الكفاية في الأكل، أجبتك: إن تحديد ذلك، على قول الأب كسيانوس، ممتنع من قبل إختلافات الأمزجة والطباع والعادة. وإنما الحد العام فيه عند الآباء جميعاً هو أن يتجنبوا الإمتلاء وأن يأكل الراهب أقل من الشبع قليلاً، وليكن ذلك على ما رسم القانون، مرتين في اليوم لا أكثر. وإن دعت الضرورة إلى الأكل أكثر من مرتين، أو أن يأكل الراهب قبل وقت الأكل فليستأذن الرئيس، أي ليعلم أن الصوم لوقت الغذاء لازم ويُحتاج إلى حله وطرحه الإذن من الرئيس. ويجب على الرئيس أن لا يسمح بحله كيف ما إتفق بل للضرورة فقط؛ كما يوحي أبونا القديس أنطونيوس قائلاً: لا تفطر وتطرح الصوم إلاّ في المرض الشديد. وقوله الشديد، الظاهر الواضح لا المشكوك به الممتزج بالضجر، كون الصوم للراهب كالعلامة للجندي. فالجندي إذا طرح علامته يهان ويحتقره الكل. والراهب الطارح الصوم يذمه ضميره ويبعد الله عنه نعمته ويداهمه الويل الإنجيلي القائل: الويل لكم أيها الشباع.
– سؤال من القديس إسحاق: من طرح عن ذاته كل تعلق وولج إلى جهاد الخطيئة من أين يبتدئ بالصراع؟ الجواب: إن هذا معروف عند الكل، إن تعب الصوم مبدأ كل جهاد. وقال أيضاً: إن الصوم لمتقدم على كل فضيلة ومبدأ الجهاد وإكليل ذوي الإمساك وجمال العذرية والقدس وبهاء العفة وإبتداء الطريق المسيحية وأم الصلاة وينبوع الدموع ومعلم السكوت ومصدر المناقب الحميدة، ونظير ذلك يقول القديس السلّمي: لا تنخدع، فإنك ما تنعتق من فرعون ولا تعاين الفصح الذي فوق، ما لم تأكل كل حين مرائر وفطير. فالمرائر هي تعب الصوم والفطير هو رأي لا يتشامخ.
– وما أكثر الأقوال التي أوردها الآباء في هذا المعنى! ومنها نستدل على عظم ذلّ وخسارة الراهب الذي يتضرر لأجل أدنى سبب ويطلب من الرئيس أن يأكل قبل الوقت ويحل الصوم. وبقدر مذمة هذا يكون ترف الراهب الذي يستأذن الرئيس ليأكل في اليوم مرة واحدة. وهذا لائق جداً بمن كان عمل يده غير متعب وكان مستقراً في قلايته أو في مكان واحد، بعمل خال من الإضطراب. ومن ليس هو كذلك فله أن يأكل في اليوم مرتين حسبما رسم القانون.
الفريضة الثالثة : ولا يأكل لحماً، إلاّ لضرورة مرض، عن إذن الرئيس
– منع أكل اللحم هو عادة قديمة عند الرهبان. وقد جاءت كتب الآباء بذكرها كثيراً. وأبونا القديس أنطونيوس أوصى بها، كما كتب إلى أولاده في دير النطرون قائلاً: لا تأكل أيها الراهب لحماً أبداً. لكن عند ضرورة المرض فللرئيس أن يسمح به، كقول القديس سمعان العامودي في مقالته الرابعة والثلاثين، قال: لا تأكل لحماً إلاّ لضرورة المرض الثقيل.
– والغرض في منع أكل اللحم إنما هو موافقته طبع الإنسان أكثر مما سواه من المآكل وتهييجه الجسم هيجاناً مفرطاً لإمداده القوة بزيادة. وهذا فغير مناسب لمن يروم تقديم الطهارة، كقول بعض الآباء: إن أكل اللحم وشرب الخمر هو للجنود والشرط لا للرهبان النساك.
– فإن سألت فهل هو خطيئة أكل اللحم وهل هو خطيئة مميتة أم عرضية؟ أجبتك أنه في القديم لم يتضح لنا كيف كان ذلك وفي زماننا هذا فمذاهب الرهبنات تختلف. لكن نحن قد تسلمنا قانوننا هذا من السيد البطريرك إسطفانوس، سنة الألف والسبعمائة للميلاد الإلهي. والبطريرك المذكور وضع أكل اللحم علينا خطيئة مميتة. ونحن إقتبلنا ذلك بإختيارنا، دون ضرورة المرض، كما هو مرسوم في هذه الفريضة.
– وإن سألت ما هي ضرورة المرض، أجبتك: هو حكم الطبيب وأمره بضرورة أكل اللحم. لكن في ذلك لا بد من الإذن من الرئيس. والراهب الحقيقي هو الذي ينظر إلى الرئيس وحده من غير إلتفات إلى طبيب وطبيعة وضرورة. وإذا كانت الوصايا القانونية التي ليست مخالفتها خطيئة مميتة لا يجوز لنا حلها إلاّ بعد الإذن من الرئيس، فكم بالحري أكل اللحم الذي مجاوزته خطيئة مميتة! فلا تعتذر أيها الحنجراني الجسور وتخاصم رئيسك لأنه لم يسمح لك في مرضك بأكل اللحم، بقولك أنه مباح لك لضرورة مرضك. فالرئيس هو أخبر منك بهذه الضرورة ولست أنت ملزوماً بعمل ما هو ضروري لعافيتك بقدر ما أنت ملزوم بعمل ما هو ضروري للطاعة، لأن القديس باسيليوس يقول: متى لم يتسهل لنا المناسب لإصطلاح الطبيعة فلنسلّم الأمر بيد خالق الطبيعة. وكما أننا نصبر على المرض حين لا يتسهل لنا وجود المناسب للعافية، هكذا فلنصبر أيضاً حين لا يسمح لنا الرئيس بإستعمال ما نتوهم أنه يناسب العافية. فإذا بدى لنا أكل اللحم مناسباً للعافية فلنتركه حين لا يأذن به الرئيس لمناسبة عافية الطاعة.
الفريضة الرابعة: ولا يؤاكل علمانياً داخل ديره.
– قال أبونا القديس أنطونيوس: لا تخالط العالمي ولا تظهر نفسك كالفريسي، أي لا تزكي ذاتك وتحتقر العالمي، بل تتميز منه لئلا يخسّرك وتخسّره. يخسّرك باستماعك له ونظرك إليه، وتخسّره عندما يشك بما يتوهمه فيك من النقص.
– وهذا المعنى قد أوضحه القديس باسيليوس أبين الإيضاح حيث قال: إن العالمي هو شبعان من الشهوات واللذات الجسمية أما الناسك، ولا من الأمور الضرورية يشبع. ومع هذا إذا أكل الناسك من الغذاء شيئاً، مع أنه أقام مدة جائعاً، أو إستراح يسيراً بعد تعب كثير، فيقولون أنه شره ومنحل. والإهانة التي يهينونه بها، بجهالتهم، يسوقونها إلى باقي النساك. فإذ قد علمنا هذا يا أحباي يجب أن لا ندع حريتنا تدان من جهة نية آخرين. أما إن وجدنا عالمياً مشهوداً له بالحكمة والعبادة مادحاً لسيرتنا وتدعو الحاجة إلى أن نشترك معه في المائدة دفعة واحدة، فليكن ذلك بأدب- إنتهى قول القديس- ومنه نتحقق عدم فائدتنا من خلطة العالميين وكيف هم أيضاً يخسرون إذا خالطونا في بعض الأشياء.
– والرب، تعالى إسمه قد رسم لنا في هذا المعنى رسماً واضحاً وهو أنه كان يعلّم الجمع وفي الخلوة يفسر لتلاميذه ما قاله للجميع. وبعض الأحيان كان يأخذ تلاميذه عن الجمع وينفردون وحدهم ليأكلوا ويستريحوا. وعلى مثاله يجب أن نسعى نحن، أي إذا دعتنا الضرورة إلى الإنخلاط بالعالميين فلا نخالطهم بكل شيء بل نتميز منهم وقتاً بعد وقت، وخاصة وقت الطعام، كما سبق قول القديس باسيليوس.
– والسبب في مثل هذا القيد هو لئلا، من الوسعة بالإنخلاط مع الخائفين الله، نتدرج إلى الإنخلاط مع الجهلة والذين ليس لهم زي العبادة. وهؤلاء فمن عدم إفرازهم ونقص معرفتهم بعمل الفضيلة وأحوال النفس، يتوهمون فينا نقائص عديدة. فها هنا يجب أن نقول مع الرسول: لماذا تدان حريتنا من آخرين؟ ولنخرج من بينهم ونتميز منهم، كما قال الرب. بل إن هذا يلزم الرؤساء والمتقدمين خاصة. أعني إذا ما تقدم إلينا إنسان عالمي ودعت الحاجة إلى أن نؤاكله، فلينفرد المتقدم يأكل معه أو يعين له أحد الرهبان ليؤاكله، ولا يدخل به على مائدة الرهبان ويهين حريتهم. وبهذا يبقى قول القانون محفوظاً بأن لا نؤاكل علمانياً داخل ديرنا.
الفريضة الخامسة : لا يتقدم على المائدة على من هو أعظم منه دون إذن الرئيس.
– العيشة المشتركة يلزمها الترتيب، لأن الحكيم يقول: إن الذين لا ترتيب لهم كالورق يسقطون. وهكذا أيضاً عدم الترتيب في المائدة يحدث إضطراباً وسجساً ليس بقليل، ولو كانوا الرهبان يسعون بكرامة بعضهم بعضاً. فالقلق ينشأ ضرورة كما أوضح ذلك القديس باسيليوس بقوله: إن ربنا قد علمنا أن نختار الموضع الأدنى. لكن ليس ينبغي أن يقاوم أحدنا الآخر ويجاوبه في التمسك بالموضع الأخير، ليكمل الوصية. فإن هذا الأمر مرذول. فلهذا قد جعلنا هذا الأمر بيد مدبر الأخوة. إنتهى قول القديس.
– ومنه ينتج لنا ضرورة التدبير والترتيب على المائدة في جلوس الرهبان. قال هذا: بيد مدبر الإخوة. فالقانون هنا، هو مدبر الأخوة، لأن التدبير العام للقانون، هو الوحيد الذي يجب التمشي عليه. والتدبير الخاص هو للرئيس. فتدبير القانون في هذا هو أن يتقدم في الجلوس الأول فالأول، ولا يتبع كل منا هواه في المكان الذي يناسبه، ولو كان المكان الأدنى، لئلا يحدث الحران والخصام ويتقدم الجسور المحب التقدم على من هو أعظم منه، بإنتخابه لنفسه المكان الأرفع. أما التدبير الخاص فهو للرئيس، أي أن أمر الرئيس أن يقدم أو يؤخر أحد الرهبان، لعلة ثواب أو عقاب، فله ذلك. وإن شاء أحد الرهبان أن يواضع ذاته بالجلوس تحت من هو تحته فليس له ذلك دون الإذن من الرئيس.
الفريضة السادسة : ولا يسلّم على أحد وقت الطعام.
– لا لأن السلام من ذاته غير واجب، بل لأنه، وقت الطعام، يضاد الحشمة والترتيب من وجوه:
– فأولاً: لأن جلوسنا على المائدة يقتضي السكوت. والسلام ينقض السكوت.
– ثانياً: لأن السلام يخترع تعويقاً لإستماع القراءة التي تُقرأ على المائدة.
– ثالثاً: لأن السلام يلزمه القيام والإستقبال. وهذا يثقل فعله على الجالسين يتناولون الطعام، بسكوت واحتشام، كما هو واضح. فمن هذا وغيره نستدل على أن السلام وقت الطعام غير مناسب. وعن مثل هذا المعنى قال الحكيم: لكل شيء وقت. إذاً لا يليق بحسن السيرة السلام على الطعام، لأنه ليس هو وقته. إلاّ إذا حضر الرئيس العام أو رئيس الدير حيث لا يكون من هو أعظم منه، أو أحد رؤساء الكهنة، فحينئذ يجب أن يسكت القارئ ويستقبله بالسلام المتقدم فقط، ويجلسه مكانه من غير قلق وطول كلام. وإذا جلس، يبتدئ القارئ بالقراءة. بل الواجب على الرئيس ألا يداهم رهبانه بمثل هذا الحضور المستثقل لينحفظ القانون القائل: لا سلام وقت الطعام.
الفريضة السابعة : وله أن يتنزه من بعد الأكل قليلاً منفرداً وحده أو مع إخوته.
– هذا للضعفاء لا للأقوياء، يتلافى القانون بالتنزه ضررهم اللاحق بهم من الأكل. لأن الراهب الضعيف، إذا كان بطنه مفعماً يعظم عليه حينئذ خطر جلوسه في القلاية، لعدم قابليته نحو العمل والقراءة معاً. وإذا جلس بطالاً إستولى عليه حينئذ النوم المضر روحه وجسمه والأفكار الخبيثة معاً.
– وهذا الضرر قد أبانه القديس السلّمي قائلاً: إن شيطان البطن يحسنا أن نأكل ونشرب على المائدة كثيراً. وإذا امتلأ البطن يتركنا ويذهب إلى روح الزناء يخبره بما جرى ويقول له داهمه إزعجه، فإن جوفه مفعم وموثق، فلا تتعب معه كثيراً. قال فإذا وافانا ذاك النجس نظر إلينا مستهزئاً بنا وغلل بالنوم أيدينا وأرجلنا وعمل فينا كل ما أراد مدنساً نفسنا وجسمنا بخيالات وإستفراغات نجسة- إنتهى قول القديس- ومنه فهمنا ضرر الجلوس في القلاية بعد الأكل ومنفعة التنزه. وهذا، كما سبقنا وقلنا، أنه للضعفاء الذين يملأون بطونهم، لا للأقوياء الذين لا يسمحون لأنفسهم بالشبع.
– والدليل على أن هذا التنزه ليس هو للكل، هو لأن القانون لم يأمر به أمراً، بل قال: له أن يتنزه. أي من لا يقوى على الجلوس في القلاية بعد الأكل، فليتنزه. أما القوي على العمل فله أن يهرب وقت التنزه إلى قلايته، كما جاء في البستان عن كثير من الآباء الذين كانوا، مع ما يقومون عن المائدة يذهبون حالاً إلى قلاليهم، وكانوا أيضاً يحثون غيرهم على هذا العمل لعلمهم أن جلوس القلاية معصوم من مخاطر الكلام بعد الأكل، وخاصة إذا كان الكلام مع المتهاونين بالسيرة الفاضلة المنحلّين التحفظ المحبين الهزل والمزاح. وعن هذا المعنى قال القديس أفرام: إن إكثار الكلام بعد الإغتذاء يولد زلات وتهشيمات. وهذا نختبره بالعمل كل يوم، لأن اللسان بعد الأكل ينطلق في إكثار الكلام ويضر كثيراً.
– ولأن البعض لا تهوى أنفسهم كثرة الكلام البطال ولا أيضاً يقوون على الجلوس بعد الأكل في القلاية، فهؤلاء، لهم أن ينفردوا وحدهم أو مع من يؤاخي نفسهم الصالحة، لأن الصحبة المؤتلفة بحب الرب تفيد كثيراً، كما حكى القديس السلّمي عن رهبان دير التوبة: أنه كان بينهم مؤاخاة مؤتلفة على رضاء الرب. وكان كل منهم، بإختيار يخصّه، ينبّه صاحبه إلى التيقظ الشريف فعله. وقد جاء في البستان عن أحد الآباء، أنه رأى رؤيا، وهي أنه أبصر جماعة من الرهبان مجتمعين، يتكلّمون كلاماً روحياً، وملائكة روحانيين مختلطة بهم. ولما إبتدأوا أن يتكلموا كلاماً بطالاً، غابت الملائكة واختلط بهم خنازير كانت تتمرّغ بينهم. ومضمون هذه الأخبار أن المخالطة الروحية تفيد وتوافق الرهبان كثيراً والمخاطبة البطالة تضرّ كثيراً. إذاً جيد يصنع الراهب الذي يهرب من حيث يكون الكلام البطال ويصحب أهل الورع الوادّين الكلام الروحي، لأن الصحبة بالكلام الروحي تفيد بعض الأحيان أكثر من قراءة الكتب.
– لكن بقدر ما هي مفيدة، بقدر ذلك يلزمها التحفظ والحرص. فأول كل شيء إحترص ألا تدين المتكلمين الكلام البطال، ثانياً إحذر الدالة لئلا يتم فيك ما قاله الرسول في بعض المتتلمذين له: أنهم إفتتحوا أمورهم بالروح وختموها بالجسد. أي إحرص لئلا تبتدئ مع البعض من إخوتك بمحبة روحية وتنتهي إلى محبة ألمية. والدواء المفيد الحفظ من هذا الخطر، بالوجه الأقرب، هو ألاّ تطوّل تنزهك وخطابك مع من تأتلف معه وتصحبه الصحبة الروحية. لأن إكثار الكلام يضر، ولو كان روحياً، كما هو مشهور عند الآباء. أما الكلام الصالح القليل فنفعه وثيق وبعيد من الخطر.
– ومع هذا كله فللرئيس أن يراقب رهبانه جميعاً ويفرز صحبتهم الخصوصية وقت التنزه ليرى هل هي على رضاء الرب. وله أن يمنع كل ائتلاف لا يرضاه. ومن كان ممنوعاً من الصحبة الخصوصية، ولا يهوى الإجتماع مع الجماعة ولا الجلوس في القلاية، فليتنزه منفرداً وحده داخل الدير لا خارجه. وليجتهد على التفكر الروحي، إذ الإنفراد يساعد على ذلك. والغرض بالتنزه خارج القلاية، إنما هو كما سبقنا وقلنا، لنفلت من الكسل والنوم بعد الأكل، ونعتق عقلنا من الأفكار الرجسة المضرة. وليكن هذا التنزه مقدار نصف ساعة أو أكثر قليلاً، فإن ذلك كافياً لزوال إنتفاخ الجوف من ثقل الغذاء. وللرئيس، إذا شاء، أن يسمح به نحو ساعة واحدة.
Discussion about this post