الفصل الأول : نحن والحقيقة
وستعرفون الحق و الحق يحرركم
الفصل الأول: نحن والحقيقة
قال بولس الرسول في رسالته الثانية الى كورنثوس الفصل 13 الآية 8 قولاً رائعاً: “نحن لا نستطيع شيئاً ضدّ الحق نحن مع الحق”، هذا الموقف الأخلاقي رائع. الإنسان الشريف المستقيم الصادق يكون ضعيفاً أمام الحق، فيحني رأسه للحق ويعترف بالحقيقة صراحةً بلا خوف ولا جزع. الأمر يحتاج الى متانة خلقٍ في الإنسان، ومتانة الخلق بضاعة غير رائجة أحياناً ولا يستطيع الإنسان أن يأتي بها برخصٍ، تحتاج الى تربية جيدة. في رسالته الثانية الى تيموثاوس قال بولس نفسه أنّه ورث عبادة الله بضميرٍ طاهرٍ صالحٍ عن آبائه. إستعمل مراراً كلمة الضمير الصالح، الضمير الطاهر، الضمير الصالح والطاهر موضوع هام جداً جداً. إلتواء الضمير أساس كلّ الشعوب، إستقامة الضمير أساس الفضائل.
كان بولس الرسول فرّيسياً يهودياً متشدداً جداً جداً، محافظاً على تقاليد الآباء كما قال في غلاطية ومتطرفاً في يهوديته الفرّيسية أكثر من جميع أترابه، ولكن لما ظهر له المسيح وإعتلن له النور الحقيقي إنقلب رأساً على عقب وصار مسيحياً ذا ضميرٍ طاهرٍ صالحٍ مستقيمٍ لا يلتوي ولا يراوغ ولا يتملّغ ولا ينافق ولا ينحرف ولا يحابي الوجوه بل يعترف بالحقيقة جهاراً بلا خوف ولا لوم. بولس هو هو نفسه، الذي تغيّر فيه إيمانه. كان فرّيسياً متطرفاً فإنقلب إلى مسيحيٍ متطرف، لا أعني بها المغالاة المعتادة بل أعني بها صار مسيحياً مستقيماً مئة بالمئة. كان برمته لليهودية فصار برمته للمسيحية، كان إيمانه اليهودي ملء كيانه فصار إيمانه المسيحي ملء كيانه. هذا الرجل العظيم تربّى في بيت أبيه تربية الإستقامة، لا يخدع نفسه لا يكذب على ذاته لا يتملّص من الحقيقة لا يُخادع لا يُنافق بل يَجهر بالحق الذي يؤمن به. وجاءت المسيحية فصار مسيحياً مستقيماً مئة بالمئة، لا يَضعف الا
بسبب الضعف البشري، حين تخلّي النعمة الالهية عن المؤمن ليعبر في نيران التجارب ليصير ذهباً صافياً خالصاً من كل غشّ. فكان الله يتخلّى عنه أحيانا ليدخل أتّون الإمتحانات والتجارب والشرائر والضيقات فيخرج منها ظافراً.
الخلق القويم هو الذي يميّز الإنسان الحقيقي، الإنسان الحقيقيّ لا يراوغ لا يلتوي لا ينافق لا يكذب ولا يراوغ كالثعلب، يقول الحقيقة وهو نفسه الحقيقة لانّه غير مزوّر غير مزيّف، ليس له لونان ولا وجهان ولا قلبان، له وجه واحد وقلب واحد ولسان واحد وفكر واحد، هو منسجمٌ داخلياً، ليس فيه ظاهر وباطن كلّه شفّافية ووضوح. هذا الخلق ضروري لكي يهتدي الإنسان الى المسيحية، بدون هذا الخلق يكون الإنسان مسيحياً باللّسان لا بالقلب. يوحنا الإنجيلي قال بالمحبة بالعمل والحق لا باللسان. اللسان يتقلّب حسب أهواء الإنسان، إن كنت مستقيماً نطق لسانك بالصدق وإن كنت مراوغاً محتالاً منافقاً مزيفاً مزوراً تبرّم لسانك في ألف إتجاه وإتجاه، لا يستطيع ملقطٌ ان يُمسكه. اللسان عالم شرور لا تنتهي. وصفه يعقوب الرسول برسالته وصفاً جيداً: “يتقلّب كما تتقلب الأفكار، يُساير الناس نفاقاً، فهو معك ومعي ومعه ومعهم وكلّ ذلك رياق ونفاق وكذب”. أمّا الرجل المستقيم فيعترف بيسوع المسيح ولو على عود المشانق فلا خوف فيه فالمحبة الكاملة تطرد الخوف كما قال يوحنّا في رسالته الأولى.
الرب يسوع أتى في زمانٍ كل شيء في هذه الدنيا غريب عجيب، عندما ودّع مدن الجليل اي كفرناحون وبيت صيدا وكورازين نادى بالويلات لهنّ فقد جرت فيها عجائبه الكبرى، وربما معظم عجائبه جرت في هذه المدن الثلاث، ومع ذلك لم يَتُبْ الناس فهددهم بالويلات وبمصير أخطر من مصير سدوم وعمورة وصور وصيدا المدن اللواتي لو جرت فيهنّ عجائبه لتبنَ بالرماد والمسوح. كيف هذا؟ بعد مئات السنين الطويلة من انتشار اليهودية في فلسطين، إنتشار عبادة الإله الواحد الغير المنظور، ووجود العهد القديم بين أيدي الناس، ويكون الناس بهذه الدرجة من الكفر أردأ من سدوم وعمورة وصور وصيدا.
أمّا أورشليم فقد هدّدها يسوع، يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كمّ من مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها. أورشليم المدينة المقدسّة التي فيها هيكل الله تقتل الأنبياء وترجم المرسلين وتَصلب المسيح، ما هذا الكفر في البشر؟ المجلس اليهودي الأعلى إعترف بأن يسوع أقام أليعازر وأجرى عجائب فأكله الحسد وقرر القضاء على يسوع وقضى عليه. ويهوّذا الذي أخذ من يسوع السلطان للتبشير وشفاء الأمراض وطرد الشياطين وإقامة الموتى، خانه وباعه بثلاثين من الفضّة. الفرّيسيون علماء الدين أنكروا العجائب، وقالوا إنّ يسوع يطرد الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين. شاهدوا عجائبه التي لا تُحصى وأنكروا قوّتها ونسبوها الى بعلزبول. حاكموا الأكمه أي الأعمى منذ مولده فإعترف هو ووالداه بأنّه كان أعمى وأنّه الآن يُبصر وإعترف أمام المجلس اليهودي بان يسوع هو شفاه، وأنه لم يسمع منذ الدهر أن إنساناً شفى أعمى منذ مولده أيّ أكمه، ومع ذلك أصرّوا على الضلال وعلى إتهام يسوع. أقام المشلول الذي مضى على عجزه 38 سنة، فقامت قيامتهم عليه وأرادوا قتله لأنّه أجرى العجيبة يوم سبتٍ وصارت المحافظة على السبت أهمّ من شفاء إنسان مشلول مرتمي في الأرض منذ 38 عاماً.
هذا الشعب الذي آمن بالكتاب المقدّس وآمن بالإله الواحد وآمن برسالة موسى وبالأنبياء، وقرأ الأنبياء، قرأ أشعيا وأرميا وحذقيال وسواهم من الأنبياء، وطالع المزامير وصلّى المزامير، هذا الشعب نفسه هو شعب النفاق الذي صَلب المسيح وقتل وتسبَّبَ بقتل وإضطهاد الرسل والمسيحيين الأولين. أين تعاليم موسى؟ أين أشعيا؟ أين المزامير؟ ماذا كان يُصلّي اليهود في الهيكل وفي المجامع؟ أما كانوا يتلون شريعة موسى والمزامير؟ أما كانت المزامير كتاب الصلاة الممتاز؟ ومع ذلك هؤلاء الذين يتلون المزامير في الهيكل همّ الذين صلبوا يسوع. رئيس الكهنة قيّافا وسلفه حنّان أبو زوجته كانا يحتفلان في الهيكل بالصلوات، ويدخلان قدس الأقداس يوم عيد الغفران، هذان مع شعبهما ورفقائهما من رؤساء الكهنة دانوا يسوع ونادوا بصلبه وشجّعوا الشعب على المطالبة بصلبه. الشعب الذي استقبل يسوع يوم أحد الشعانين ونادى به ملكاً إبناً لداوود الملك، هو نفسه نادى يوم الجمعة العظيمة بصلب يسوع. هل كان جميع المنادين لذلك من الذين إستقبلوا يسوع؟ حسب إنجيل لوقا كان لدى صليب يسوع قومٌ عادوا يقرعون صدوره، ربما كانت هناك فئة من اليهود الآتين من المدن الرومانية خارج فلسطين أكثر شرفاً من يهود فلسطين، ربما بين هؤلاء أناسٌ أكثر شرفاً قرعوا صدورهم لما رأوا الآيات الجارية بسبب موت المسيح، تشققت الصخور
وأظلمت الشمس و…
هذه الآية قد تسمح بالظنّ أن هناك بعض الشرفاء الذين ما كانوا راضين عن عملية اليهود، وهناك النساء اللواتي تبعن يسوع من الجليل، حاملات الطيب ورفيقاتهنّ، وهناك سيدات المجتمع الأورشليمي اللواتي تبعن يسوع ليقدّمنا له الخلّ، فقال لهن: “يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ بل إبكين على أنفسكنّ وعلى أولادكن”، أيّ بتعبير آخر ما كل الجماهير كفرت بيسوع وبقي هناك بعض الأوفياء، وإن كان الرسل أنفسهم قد هربوا ولم يبقى عند صليب يسوع إلا أمُّهُ ويوحنا الحبيب وحاملات الطيب ورفيقاتهن. لا تخلو الدنيا من الصلاح ولكن هذا الذي وصفته يزعج الإنسان المستقيم، إذ يرى الناس يتهافتون نحو الشرّ بهذا التسرّع الغريب. عندما يرى الناس يقولون للحق شراً كما قال أشعيا النبي في عبارة ممتازة من الفصل الخامس والآية العشرين: “ويلٌ للقائلين للنور ظلمةٌ وللحق باطلٌ وللإثم بِرٌّ وللصدق كذباً”، عبارات من أروع ما يكون. هؤلاء موجودون في كل زمان ومكان يقولون للحقِّ باطلٌ وللباطل حقٌ للإثم برّاً وللبرِّ إثماً للصدق كذباً وللكذب صدقاً للظلمة نوراً وللنور ظلمة … هؤلاء موجودون في كل زمان ومكان ويا للأسف الشديد.
المصيبة في الإنسان هي عدم إستقامته، أهواؤه شهواته تسيطر عليه. ما الذي يمنع نور المسيح من أن يسطع تماماً؟ الرذائل، عيوب الإنسان، إنهماكه في الملذات الجسدية في الفساد والإنحلال، في الفلتان.
في 13 كانون الثاني 1950 زار المرحوم الأب جيللهGillet اللاذقية، فسررنا به كثيراً، وطُرح عليه السؤال الآتي: “ما سبب الإلحاد في أوروبا؟”، أجاب: “ليس هناك من إلحاد حقيقي بل هناك الفلتان، بسبب الفلتان يتظاهر الناس بالإلحاد”، العبارة مهمة جداً. شهوات الانسان، أهواء الانسان، جسديات الانسان، تسيطر عليه، فيركب رأسه ويطيش ويسير نحو جهنم كافراً بالدين وبالأخلاق وبالمبادىء وبالقيم. ولذلك فعدو الحقيقة الكبير هو الإنهماك في الحياة الأرضية الفاسدة، الإنهماك في الجسديات الملذات، هذا الذي سماه بولس في الفصل الاول والآية 16من رسالته الى تيطس “الكفر العملي”، هناك الكافرون فكرياً وهناك الكافرون عملياً.
الكافرون عملياً هم الكثرة الغالبة لا الكافرون فكرياً، الكافرون عملياً يغرقون في الإثم في الشهوات في الملذات في الخمر في الدعارة في الفساد في الإنحلال في الخلاعة في كلّ المآثم، فيسودّ ذهنهم ويُظلم، وتعود رؤية الله لديهم مستحيلة قبل التطهّر الكامل وخلع الإنسان العتيق وإرتداء الانسان الجديد، كما قال بولس في كولوسي: “الذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه”، عندما ترتدي المسيح فكيف تستطيع أن تنظر المسيح؟. وإذا عدنا الى رسائل بولس الرسول وجدنا الفساد في أيامه منتشراً بصورةٍ مخيفة جداً. فالإصحاح الأول من رومية وفي كورنثوس الأولى والثانية وفي افسس كولوسي وتيموثاوس صُور مظلمة للواقع البشري في ذلك الزمان. البشر غارقون في الوثنية والإنحلال والفساد والضمير المظلم والمفاسد الأخلاقية. قد تخلّى الله عن البشر بسبب إستسلامهم للأهواء والشهوات والفحشاء، والفصل الأول من رومية هائل جداً ففي العالم اليوناني والروماني كان الفساد هائلاً وعبادة الأوثان كانت كثيرة مليئة من الأصنام، وأيّ أصنام؟ أصنام لكلّ شيء، وكان آلهة مؤنثة للدعارة وللفساد، في الغرب وفي العالم الشرقي أيضاً، الإنحلال والفساد والإيباحيات، الإيباحيات منتشرة على نطاق واسع كانت، والغرق في وثنيات سخيفة وأشكال وثنية سخيفة جداً، وكيف يختلط الحامل بالنابل؟ ربنا يعرف. بدأ الإنحلال البشري. وكيف أشرق نور المسيح في هذا العالم المظلم؟ هو يعلم، أنا لا أعلم. يسوع نفسه في الفصل الثالث من إنجيل يوحنا وسوى ذلك عن القابعين في الظلام، ولا يريدون ان يُقبلوا الى النور لئلا تُوبّخ أعمالهم لأن كل ما يظهر للنور يصبح نوراً، ولكن
المظلمين لا يُقبلون إلى النور لئلا توبّخ أعمالهم. وبولس في أفسس طلب تشهير بأعمالهم، لكي يكون كل شيء واضحاً في النور، فما يظهر في النور يكون نوراً. في بولس الرسول حملات هائلة ضدّ الفساد والإنحلال الأخلاقي وفساد الضمير، والضمير المائت كلماته رائعة في أفسس ،كلام ممتاز. كيف كان الوثنيون غارقين في الظلمة والظلام؟ وكيف هداهم الله إلى الإيمان بيسوع المسيح؟ فأشرق لهم النور وقال في أفسس: “إستيقظ أيها النائم وقُمْ من الأموات فيضيء لك المسيح”. إستيقظ أيها النائم وقم من الأموات، مَنْ هم الأموات؟ يسوع قال لأحدهم: “دعْ الموتى يدفنون موتاهم” فالموت هو موت الخطيئة. فبولس قال في أفسس: “كنتم أموات في الخطايا والذلات”.
في وسط هذا الفساد العالمي الواسع ظهر نور المسيح فبدّد الظلام بنسبة كبيرة. ومع ذلك إستمر الظلام لأن البشر غير مستعدين دائماً للمغالبة، أيّ لكي يغلبوا أنفسهم، لكي يسيطروا على أهوائهم وشهواتهم رغباتهم وأفكارهم الشاردة وأفكارهم الشريرة ونياتهم القبيحة. فالمصيبة هي في الانسان وفي تربية الانسان. كيف نستطيع أن نقوّم الإنسان تقويماً مسيحياً صحيحاً؟ المسألة عسيرة ومستحيلة بدون النعمة الإلهية، النعمة الإلهية هي التي تساعدنا على الإستقامة. الانسان إنسانٌ بإيمانه، والإيمان المسيحي يبتلع الإنسان برمته، الإيمان المسيحي يتغلغل في أظافر اليد وأظافر الرجلين ويصبح الإنسان برمته إيماناً. وكما نقول في العامة “يُصبح شقفة واحدة”، ولكن شقفة واحدة من النور الإلهي الذي يشعّ في القلب ويشعّ في كل الكيان. هذه العملية مهمّة جداً ولكن تحتاج الى جهاد روحي كبير. فالإنسان بدون يسوع عبد لأهوائه وشهواته، عبد لمطامعه، عبد لبطنه. أشعيا وبولس إتهموا الناس بعبادة البطن، إلههم بطنهم، ويقولون لنأكل ونشرب لأننا غداً سنموت، لا يفكرون في الآخرة ولا يفكرون في المصير، همّهم بطنهم، الشراب والطعام والفسق وجمع الأموال. ويأتي طوفان الموت وهمّ لا يصبون لا يفكرون في الآخرة ولا يريدون ان يفكروا في الآخرة، لأن التفكير في الآخرة يكوي شهواتهم الفاسدة ورغباتهم الفاسدة وأهوائهم الساقطة. ولذلك فإستقبال المسيح يحتاج الى خلق قويم.
كيف نصنع هذا الخلق القويم؟ الأمر يحتاج الى أُمّهات صالحات يقوّمن الأطفال تقويماً حسناً بالنعمة الإلهية المعطاة لهنَّ. البيت هو الكنيسة الأولى، والأم هي الرسول الأول. في إنجيل لوقا عن صاحب الدعوة الى العشاء، فرفض صاحب الأراضي أن يلبّي الدعوة وكذلك صاحب الثيران الخمسة وكذلك المتزوج حديثاً، فهناك من يعبدون المال، وهؤلاء هم عبدة أوثان حسب بولس الرسول والرب يسوع نفسه: “لا تعبدوا ربين الله والمال”. وهناك الثيران الخمسة أي الحواس الخمسة، الذين حواسهم الخمسة تغرق في الإثم في الخطايا في الفسق في المناظر القبيحة في سمع الأغاني القبيحة في اللمس القبيح، تغرق في الخمر والطعام والملذات على طريقة أبيقور وبطنهم إلاههم. وهناك الغارقون في الشهوات الجسدية، في الفسق والخلاعة وكل المفاسد الجنسية، عبّاد الجنس عُبّاد المال، هؤلاء رفضوا الدعوة. ولذلك قال يسوع المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون. فإذاً ما الذي يؤخّر الناس عن تلبية دعوة يسوع؟ التعلّق بالجسد وبالدنيا، التعلّق بالجسد والدنيا هو عبادة أوثان بدلاً من عبادة الله، يعبد الانسان جسده ومقتنياته وأمواله، يبدّل الحقيقة ويزوّرها، ويضع الأمور خارج نصابها القانوني الحقيقي.
هذه القدرة لدى الانسان على الإلتواء هي سبب البلاء الكامل، يستعمل طاقاته في الشرّ، في خدمة إبليس فيصبح في مملكة إبليس، بدلاً من مملكة المسيح، يصير تحت نير إبليس بدلاً من أن يكون تحت نير المسيح، يختار جهنم ويلبط الفردوس، يدير ظهره ليسوع لكي يسمّر عينيه في الارض وملذاتها وخيراتها الباطلة. الانسان هو عدوّ نفسه هو الذي يجرف نفسه الى جهنم، وإن أصابته مصيبةٌ جعل الله مسؤولاً عن مصيبته بدلاً من أن يقول إن خطاياه سبب مصيبته، لا يتهمّ نفسه لأنه عاد فاقد الضمير ولذلك فالحياة الدينية تحتاج الى الضمير الطاهر، والضميرالطاهر يحتاج الى تربية منزلية إجتماعية طاهرة، بدون الضمير الطاهر كل شيء فاسد ونجِسْ. أمّا الانسان ذو الضمير الطاهر الصالح النيّر اللّماع البرّاق فلا يمدّ يده إلى الإثم ولا إلى شبه الإثم ولا يصنع شيئاً لا يؤمن به، كما قال بولس: “كل شيء ليس صادر عن اليقين هو خطيئة”، يتصرف حسب قناعته الوجدانية الطاهرة.
ولكن من أين نأتي بالضمير الطاهر؟ قبل أن ندوس الشهوات والأهواء والرغبات والجسدانيات والأرضيات والمفاسد جميعاً. فالإنسان يهرب من الجهاد الروحي، يهرب من مقاومة أهوائه وشهواته ومفاسده، ويحتجّ بمليارات الحجج الفارغة لكي يتملّص من يسوع المسيح، ولكن نور المسيح يبقى موجوداً في العالم بنسب مختلفة، فلا يخلو العالم من ضمائر طاهرة برّاقة كالشمس، نارية كالشمس تحرقه إن إرتكب ذلةً خفيفة. الضمير الحيّ يعمل مثل السيف القطّاع، لا يدع مجالاً لصاحبه للتملّص من الحقيقة ومن الفضيلة، يعترف بالحقيقة متى بانت له، لا يضيّع الوقت في الجدل الفارغ والمشاحنات الفارغة، متى بان النور إعترف بالنور. الأمر يحتاج الى شجاعة داخلية الى بطولة داخلية.
في النهاية الفضائل هي الإنسان، الإنسان بدون الفضائل ليس بإنسان، بل هو أدنى من الحيوان بكثير، الحيوان معتدل بالنسبة للإنسان الشرير، الحيوان أفضل بكثير، لا نستطيع ان نقارن الحيوان بالإنسان الشرير، الفرق كبير جداً، الحيوان مسكين بالنسبة للإنسان الشرير، الفرق كبيرٌ، إنسان سفّاح ضرّاب قتّال مؤذي، الحيوان أشرف منه، الحيوان يكذب؟ الكذاب الكبير هو الأنسان الذي لا ينطق بالصدق أبداً، هذا اللسان الخدّاع المكّار عقرب، الإنسان الذي لسانه يتحرك في آلاف الإتجاهات من الكذب والنفاق والدجل والضرر والأذى والذمّ والقدح والنميمة والإفتراء والوشاية والإتهام الباطل وإختراع التهم الباطلة ونهش الأعراض، هذا أخطر من العقارب، هذا أخطر من مليار عقربة، هذا عقربة طيّارة، العقربة تسير على الارض لا تصل الى الناس كل حين إلا نادراً ويتوقّاها الناس. ولكن كيف يستطيع الناس ان يتوقّوا اللسان الشيطاني، اللسان غير العفيف شيطانٌ متحرّك يجرح ويؤذي ويُؤلم، عقرب طيّار يعضّ الناس بدون حساب وبدون توبيخ ضمير وبدون دراية وبدون تمييز، وفي النتيجة يعضّ نفسه وينتحر روحياً.
اللسان جهنم، جهنم متحركة، هذا هو اللسان الفاسد، وأمّا اللسان الصالح فينطق بالصالحات ويبني الآخرين ويفيد الآخرين ويَعظْ ويعلم ويرشد الى الصالحات. من أين نأتي به؟ اللسان يعبّر عمّا في القلب، إن كان قلبك صالحاً كان لسانك صالحاً، واللسان يتكلّم من فضلة القلب، كما قال الرب يسوع: “وإن كان قلبك طافحاً بالصالحات نطق لسانك بالصالحات، وإن كان قلبك جهنماً من الأهواء الفاسدة والأفكار الفاسدة والشهوات الفاسدة والميول الفاسدة لا يصدر عنه الا الجهنميات”. والمراوغ يعرف كيف يحلّي لسانه ولكن نفاقاً وكذباً للخداع والمكر والأذى والضرر والإفساد والتخريب والتدمير، اللسان شرٌ كلّه إن لم تطهّره النعمة الإلهية، يحتاج الى مزيد من النعم الإلهية لكي يتطهّر، هو أداة طيّعة للشرور إلاّ إذا أنقذه يسوع من ذلك. يسوع قادر على ان يخرجه من جهنمه ويجعله ينطق بالصالحات، ينطق بالروح القدس الذي يبني النفوس. ولذلك الحقيقة غائبة بنسبة كبيرة لأن أهواء الناس ضدّ الحقّ، ولكن يوجد أناسٌ يعترفون بالحقيقة وتمنعهم أهوائهم من العيش في الحقيقة وبحسب الحقيقة.
الإنسان عالم المتقلبات والمتغيرات، ويا للأسف الشديد لا يقرّ له قرار، يتبدّل ويتغيّر بين لحظة وأخرى. منْ يستطيع أن يضبط
الإنسان؟ لا يستطيع ذلك إلاّ الذي خلقه. عظمة الانسان في هذه القدرة على التبدّل والتغيّر والتنوّع، ولكن ويا للأسف الشديد الأهواء تجعله يتغيّر ويتبدّل في طريق جهنم لا في طريق الرب. ومع ذلك فالانسان عزيزٌ على قلب الله. الإنسان رياح متحركة هوجاء في الصحارى الشاسعة لا نهاية لها، فهل يهدأ الرمل في صحراءٍ شاسعة تهبّ فيها الرياح والزوابع والإعصارات؟ هذا هو الإنسان. من يضبطه؟ الله وحده يضبطه، الله وحده يستطيع أن يلجمه لجماً كاملاً وأن يقيّده بالحديد من رأسه حتى قدميه، ولكن ما نوع هذا الحديد؟ هذا الحديد هو أنوار الروح القدس التي تصنع فيه الفضائل. هذا الروح القدس يقيّده تقيداً تاماً ويجعل له منحاً واحداً هو السير الى السماء، إلى الفردوس، الى الحياة الأبدية. لذلك شهوات الغنسان، جسدانيات الغنسان عثرة كبيرة في وجه إهتدائه الى يسوع المسيح. الناس الجسدانيون يعيشون خارج دائرة المسيح ودخولهم في دائرة المسيح، يتطلّب السيطرة على النفس روحياً بالروح القدس. الرب يسوع صريح، لا يستطيع أحد ان يُقبل إليه بدون الآب.
بولس صريح، هناك دعوة منذ الأزل، ويسوع إستعمل لفظة الدعوة كثيراً، هناك دعوة موجهة الى البشر لكي يُقبلوا إلى يسوع. ويبقى أن يفتح البشر قلوبهم ليسوع. ولكن هل من السهل أن يفتح المرء قلبه ليسوع وهو غارق في الموبيقات؟ اللّهم إرحمنا، الّلهم إرحم العالم أجمع، اللّهم أنقذنا جميعاً من الموبيقات، اللهم إلجم الناس أجمعين عن الشر ووجهّهم نحو الخير، اللّهم علّمنا جميعاً ان نسيطر على شهواتنا الجسدية وان نسيطر على البطن وان نسيطر على الأفكار وعلى العواطف الفاسدة، اللّهم أنعم علينا بالروح القدس لكي يسيّرنا في الطريق القويم ويمنحنا القدرة على الجهاد الروحي المرير لكي نصل إليك وننعم بالمجد الأبدي.
لديك، اللّهم إرحم البشر أجمعين، اللّهم إلطف بالناس أجمعين، اللهم إحفظنا جميعاً في الإيمان الصحيح، اللّهم إنشر معرفتك بين الناس، اللّهم إهدِ الناس أجمعين اليك لكي يعرفوك ويعبدوك بمخافة كل أيام حياتهم، اللّهم أزل المفاسد من الكرة الأرضية
والعبادات الشيطانية والمساوىء والظلم والعدوان وكل الآفات والعيوب والمخازي واجعل الأرض واحة سلام وأمان وفضيلة وعبادة حسنة، وأرفق بالناس وأرسل نورك إلى الكرة الارضية لينير كلّ الناس ويهديهم إلى الإيمان الحقيقي ويخلّصهم من حياتهم الفاسدة، اللّهم أشرق في قلوبنا وكُنْ نورنا وقائدنا وإحفظنا في طريق السلامة، اللّهم كُنْ معنا كل حين آمين آمين آمين.
لمجده تعالى
Discussion about this post