الفصل الحادي عشر: الثالوث القدوس
وستعرفون الحق و الحق يحرركم
الفصل الحادي عشر: الثالوث القدوس
الثالوث القدوس إذاً هو أساس العقائد المسيحية لأننا نقول بالثالوث: “إستطعنا أن نقول أن أحد خادم الثالوث أي الإبن الرب يسوع المسيح قدّ تجسّد”، إيماننا بالثالوث هو أساس كلّ العقائد المسيحية، كلّ العقائد المسيحية مرتبطة بالثالوث القدوس قائمة عليه. قد يقول لي العقلانيون هذا لا يتّفق مع المنطق أمّا أنا فأقول لهم إنّ منطق البشر هو غير منطق الله، نحن نتكلم بالإلهيات لا نتكلم بالفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوجيا والجيولوجيا وباقي الأرضيات، هذا علم إلهي مرتبط بالوحي الإلهي، ونحن نؤمن بأن الكتاب المقدّس هو كتابٌ إلاهيٌ مُوحى به من الله، وقبل الدليل على أن المسيحية قد سبقتها اليهودية ومهّدت لها بمئات عديدة من السنين منذ إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وحتى المسيح بعد ذلك، لدينا دليل قوي وهو العهد القديم والنبوءات التي مهّدت للمسيحية، وصارت المسيحية مفهومة على أساس أنّها هي الوحي الأخير الذي أتى لنا به ربنا يسوع المسيح، وبعد مجيىء ربّنا يسوع المسيح أضحى كلُّ شيءٍ تاماً ليس من نقص.
مجيىء ربنا يسوع المسيح قد تمم كلّ الأشياء، ليس هناك من نقص ليأتي أحد بعده ويتمّمه، فكل الذين جائوا بعد الرب يسوع المسيح هم رسله ومعلّموه، فبعد يسوع المسيح صار كلّ الذين يظهرون على الشاشة رُسل له ومعلّمين يعلِّمون ما أتى به الوحي المسيحي، ومنْ شذّ عن ذلك كان هرطوقياً. آريوس ونسطوريوس وسواهم هراطقة، وآريوس كافر. إذاً نحن أمام ديانة جديدة قائمة بحدّ ذاتها، تجمع كلّ المستلزمات الضرورية لوجودها، ومنْ شاء المعرفة الإلهية أكثر فليراجع كتابي “الله في اللاهوت المسيحي”.
نكرر الله في اللاهوت المسيحي هو إلهٌ واحدٌ في ثلاثة أقانيم الأب والإبن والروح القدس. في الكتاب المقدّس أوصاف عديدة لله منها ما هو سلبي: الغير المعلوم الغير المنظور الغير المدرك الغير المقترب إليه الغير المدنوّ منه الغير المعلوم… وهناك صفات إيجابية: الله رحيمٌ غفورٌ جزيل الرحمة حنون رؤوف يحبّ البشر حكيم صالح لطيف. الألفاظ الإيجابية عديدة ولكن الله فوق كلّ هذه التعاريف، الله ليس صالحاً فقط بل هو فائق الصلاح وفائق الرحمة وفائق المحبة وفائق البرّ وفائق القداسة وفائق المجد وفائق الجوهر وفائق الطبيعة. في اللغة اليونانية نستعمل العبارةhyper الفائق، في كل الصفات هو فائق، فائق العدالة فائق كل شيىء فائق الحزن فائق اللطف فائق الرحمة فائق في كلّ ما يتخيّله المرء من صفات طول الآناة، لكنّه أبعد من ذلك، فوق طول الآناة بكثير، كل الأوصاف البشرية المحدودة. أما بالنسبة الى الله تصبح غير محدودة هو كامل بصورة غير محدودة صالح بصورة غير محدودة رحيم بصورة غير محدودة شفيع بصورة غير محدودة. كلّ صفاته فائقة، كلّ وصف وكلّ إحصاء وكلّ تحليل، له المجد والإكرام والسجود.
وإنما في المسيحية تظهر صفاتٌ خاصة كبيرة جداً وهي المحبة الفائقة التي جعلت الإبن الوحيد الرب يسوع المسيح يصير إنساناً يُصلب ويموت عنَّا ويغسل بدمه الطاهر خطايانا ويجدّد بنيتنا، هذه المحبة الفائقة كل وصف هي صفة مهمّة جداً لا تحدّ الله ولكنّها في الله فائقة كل الحدود والإعتبارات، ولذلك فمعرفتنا لله لا تتمّ بالتعاريف العقلية ولا بالمقولات الفلسفية الأرسطوية ولا بالتأمّلات الأفلاطونية، معرفتنا بالله تتمّ بالإتحاد أيّ بالمحبة، فالمحبة لما جاء في رسالة بولس إلى أفسس تفوق المعرفة، إنها أبعد مدى من المعرفة، المعرفة محدودة بحواسنا الجسدية وقواعدنا العقلية ومنطقنا البشري المريض المحدود، المحبة طاقة كبيرة، هي أكبر الطاقات في الإنسان، الحبّ يجرف الانسان برمته، ما من شيء في الانسان يجرفه برمته ويستولي عليه بكليته ويأخذ بمجامع قلبه بكلّيته ويجنّد كل طاقاته إلّا المحبة، إن وقع الانسان في العشق فكل قواه العقلية وسواها تتجنّد معاً وتتحد معاً لتلتصق بالمحبوب، يصبح عقله مدهوشاً، يصبح قلبه مأخوذاً تصبح إرادته متحدة، يصبح كيانه برمته ملتصقاً بالمحبوب. بالعقل لا نلتصق بالمحبوب بالمحبّة نلتصق بالمحبوب، لذلك فالمحبة هي السبيل الكبير لكي نعرف الله ونتحد بالله ونلتصق بالله.
طبعاً نحن محدودون والله غير محدود ولكن هو يلطف بنا، والمسيحية تؤمّن بالنعمة الإلهية الشارقة من جوهر الله والتي تحلّ بالمؤمنين وتوسّع طاقاتهم وتقوّيها إلى حدود كبيرة جداً، فنصبح بواسطة النعمة الإلهية قادرين على أن نلتصق بالله بقلوبنا، ويصبح الله حاضراً في القلب، قادراً في قلوبنا، يملىء قلوبنا من بهائه. طبعاً نحن لا نستطيع أن نحتمل الجوهر الإلهي ولكن نستطيع أن نحتمل بعض أشعة أنواره الإلهية، وهكذا نصل الى المعرفة الحقيقية لله. ولذلك الذين يتفذلكون ويحتجّون ويعترضون وينتقدون هم أناس ذوو عقول موضوعة في الثلاجات، لا قلب عندهم.
النقّاد همّ قوم عقلانيون، سيطر العقل المريض عليهم فأخضعوا كل شيىء لمقولاتهم العقلية المحدودة ،لا قلب لهم يتحرك وينبض.
الإلتصاق بالله لا يحتاج الى العقل فقط، يحتاج إلى القلب يحتاج إلى كلّ كيان الانسان عقلاً وقلباً. المحبة لا تقف عند حدود وعواطف محدودة، المحبة الإلهية تشمل الإنسان برمّته، فعقله يعشق وقلبه يعشق وكلّ كيانه يعلق في شبكة العشق الإلهي ويصبح إناءً للمجد الإلهي، يصبح محطة إلهية على الأرض، يتنشّق عبير الله، حواسه نفسها الجسدية تتجه نحو الله، كل الكيان يصبح لديه حواس روحية داخلية أقوى من الحواس الجسدية بما لا يقاس. هذه الحواس الروحية الداخلية كلّها تتجه نحو الله لتلتصق بالله. مَنْ لم يجرّب ذلك كان متفلسفاً متفذلكاً، ولذلك عاجزاً عن الدخول في سرّ المسيحية لأنّ عقولهم مثلّجة وقلبهم حجر، أصحاب القلوب الحجرية لا يلتفقون بالله ولا يقتربون منه، يريدون أن يكون الله حجراً مثلهم، باؤوا بالفشل، عليهم ان يغيّروا قلوبهم كما قال أرمياء النبي، أن يغيّروا كيانهم أن يعتمدوا بالروح القدس أن يحلّ فيهم الروح القدس. بدون الروح القدس معرفة الله عسيرة جداً، نحن بالله نعرف الله وبالله نسكن قرب الله، الأمور المسيحية ترتبط بالله جذرياً، كل شيء يجري في يسوع المسيح.
بولس الرسول إستعمل كلمة “في يسوع المسيح” عشرات المرات العديدة، كلّ شيء يجري في المسيح بالروح القدس، الإنسان عاجز بطاقاته الذاتية عن الوصول إلى الله، ولكن بالروح القدس نصل إلى الله ونلتصق بالله ويصبح الله حاضراً فينا ونصبح حاضرين له. النعمة الإلهية هي التي تصنع إرتباطنا بالله وإتحادنا بالله، هي التي تجعلنا نعيش عيشاً إلهياً، هي التي تنقش فينا الصورة الإلهية، هي التي تجعل منّا إناساً ذوي أشكال إلهية، إذا غلغل الله بنعمته في كلّ كياننا فنصبح متألّهين بالنعمة، هنا أهمية عقيدة الثالوث القدّوس وأهمية الديانة المسيحية.
اليهودية في القرون الأولى قبل الميلاد خافت من ذكر إسم الله يهوه فإستبدلته بكلمات أخرى بلفظة آرامية آدوناي رب مقام وسوى ذلك السموات. لذلك إنجيل متّى موجّه لليهود، لم ترد كلمة ملكوت الله إلا مرتين أو ثلاث مرات، بينما إستعمل متّى بإستمرار ملكوت السموات، أما مرقس ولوقا الذين كتبوا لليونانيين والرومانيين وقالوا ملكوت الله ومعهم وفي المحاكمة كذلك الإستعمالات كانت الطريقة العبرية فيخشون، أمّا نحن المسيحيين في يسوع المسيح صار الله قريباً منّا، وصرنا قريبين من الله، هنا أهمية المسيحية، الله أتى إلى البشر ليضمّهم إليه، أتى إلى البشر ليجمعهم به. المسيحية هي ديانة الإتصال الإلهي البشري، هذا مفقودٌ في اليهودية الله بعيد إلينا ومخيف وهائل، في المسيحية الله قريب. يوحنا فمّ الذهب قال: “المسيح أقرب إلينا من قرب الرأس من الجسد”. والقديس نيكولاوس كباسيلاس قال: “إن المسيح متحد بنا أكثر من إتحاد النفس بالجسد”، طبعاً لا يعني هذا أن الله يمتزج بنا جوهرياً إنما نعمته الإلهية نوره الإلهي يحلّ في القلوب، كما قال بولس في كورنثوس الثانية الفصل الرابع، الله الذي أمر أن تشرق من ظلمة نورٌ هو الذي أشرق في قلوبنا، في المسيحية الله يسكن في القلوب.
الفصل القاطع بين الله والناس هذا في اليهودية لا في المسيحية، لذلك كانت المسيحية من هذه الناحية ديانة جديدة جدّدت اليهودية تجديداً واسعاً جداً. الله يسوع المسيح تجسّد وأتى الأرض وعاش بيننا وأكل معنا وتصرّف معنا وعاش بيننا وسار بيننا، هذا ما لا تستطيع اليهودية أن تتصوره، لذلك فالغضب اليهودي على يسوع ورسله وعلى المسيحية غضب لا يمحوه مرور الزمان أبداً، فنبقى في نظر اليهود حتماً كافرين. ونحن لا نُبالي برأيهم لأننا نعرف أنهم كفروا بيسوع وتلاميذه وسيكفرون بنا إلى أبد الآبدين.
الديانتان لا تلتقيان إلاّ في العهد القديم، والعهد القديم بين أيديهم شيء وبين أيدينا شيءٌ آخر، يفهمونه حرفياً وعرقياً لمصلحة إمبراطوريتهم العالمية الشاملة، ومسيحهم المنتظر هو مسيحٌ ماديٌ أرضيٌ يملِّكهم الأرض، بينما مسيحنا سماوي مملكته سماوية تشمل الكون برمته ولا علاقة له بالملك الأرضي الفاني. هل يمكن أن يكون مسيح المسيحيين ملكاً أرضياً يتعاطى شؤون الأرض، وشؤون الأرض ملوّثة بالفساد والرجفة وإساءات الإستعمال، يسوع أبعد من ذلك بما لا يقاس أبداً.
عبثاً ينتظر اليهود مجيء مسيح أرضي في أورشليم يملكهم الأرض كلها. انتظارهم باطل. المسيح الحقيقي جاء، لم ولن يأتي بعده سوى المسحاء الكذبة والأنبياء الكذبة. كل شيء تم بمجيء المسيح. لم يبق بعده من مكان لرسول أو مسيح أو نبي سوى المسيح الدجال.
أنا لست عرقياً ولا أتحامل على البشر بل على العقائد الفاسدة. كل البشر خليقة الله التي علمنا يسوع أن نبذل أنفسنا في سبيلها أياً كان عرقها أو جنسها. في سفر التثنية علم موسى اليهود: “أحبب قريبك حبك لنفسك”. أما يسوع علمنا أن نبذل أنفسنا في سبيل الآخرين. تعليم موسى أناني أي أحب الغير حبي لنفسي. حبي لنفسي أناني ومن يستطيع بالطاقة الذاتية أن يخرج من ذاته ليحب الآخر. في المسيحية دم المسيح والروح القدس يصفان الشهداء لأجل الكنيسة والآخرين.
لمجده تعالى
Discussion about this post