الفصل العشرون: الفضائل
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل العشرون: الفضائل
الإنسانُ كائنٌ أدبي لا يسير وفق طبيعة مرسومة كالحيوان، فالله خلق الحيوان كما هو. يستعمل العلماء لفظة غريزة، لا سيما هذه اللفظة لأنها مفهوم فلسفة يستعمله أهل الإختصاص لتفسير جهلهم بالأمور. الله خلق الحيوان هكذا، يتدبر أموره بنفسه بشكل طبيعي، أمّا الإنسان فيحتاج إلى الوالدين وإلى العلم والإكتساب، وهو كائن أدبي في مجتمع من البشر تربطهم ببعضهم علاقات متعددة بحسب درجات الحضارة والمدنية والثقافة.
فالمجتمع البدائي، بدائي في علاقاته البشرية وغير البشرية، ولكن بسبب الحضارة والمدنية والثقافة تشعّبت الأمور وظهرت الأمبراطوريات والدول الكبرى والقوانين والأنظمة، وظهرت المسيحية ديانةً مدّنت البشر أخلاقياً وكافحت المفاسد وعزّزت الفضائل وأتت بشبكة من الفضائل واسعة جداً جداً. وقبل الميلاد كان وضع المرأة سيئاً وكان وضع العبيد سيئاً وكان الشذوذ الجنسي قاعدة في بلاد الدنيا، وفي بعض المناطق كانت الإباحية قاعدةً أيضاً. جاءت المسيحية تُكافح تعدّد الزوجات والإباحية والجواري والزنى والطلاق والشذوذ الجنسي بكلّ أنواعه، وبيّنت الأخلاق على العضوية في جسد يسوع المسيح كما مرّ معنا المؤمنون جميعاً أعضاء في الجسد الواحد، يجمعهم في بعضهم بعضاً، الروح القدس الذي هو مقيمٌ فيهم وفي الجسد. من هنا تنتج علاقات مع الله ومع البشر مبنيّة على الحميمية والإنفتاح الكامل والشفافية المطلقة، لأنّ كل المؤمنين أعضاء بعضهم لبعض. وبهذا السبب البنّاء، الجسم كلّه متناسق ومتعاون ومتفاعل ومرصوص ومتصل بعضه ببعض بدون عوائق.
هذا تعليم جديد كلّياً فعلى البشر أنّ يحبّوا بعضهم بعضاً كما أحبهم المسيح، هذا شيء جديد حتى بالنسبة لليهودية نفسها، أن يبذل الإنسان نفسه من أجل الآخرين كما بذل المسيح نفسه من أجلنا بالموت والتضحية الكاملة بالبذل، هذا تعليم جديد جداً. ولذلك فالإنسان ككائن أدبي هو ذو علاقات مع ذاته وذو علاقات مع ربّه وذو علاقات مع العالم المادي والحيوان والنبات والبشر، فهذه العلاقات لا تنظّمها الطبيعة البشرية بحدّ ذاتها كما علاقات الحيوانات ووجودهم، هذه علاقات نظّمها البشر أولاً ثمّ جاءت اليهودية تنظّمها على أساس ديني، ثم جاء يسوع المسيح ينظّمها على أساس إلهي.
في العالم الآخر قامت علاقات على أسس إجتماعية ودينية ولكن ليس فيها وحيٌ، وإنّما الإنسان يفكّر في هذا الوجود ووصل الى الإيمان بوجود خالق، وعَبَده كثيرون بتصورات مختلفة وعبدوا الأصنام. ولكن جاءت اليهودية والمسيحية تضرب الوثنية في العمق وترفضها رفضاً باتاً وترفض أخلاقها ولذلك فالإنسان ذو علاقات:
أ- علاقته بالله: علاقة محبّة وشوق وصلاة وتضرّع وعبادة وسجود وركوع ومخافة وإبتهال وإحترام.
ب- علاقته بنفسه: عليه أن يهتمّ بروحه وبجسده وأن يمتنع عن الإنتحار وعن الإغرار بروحه وبجسده. يُضرّ جسده بتخمةٍ من الطعام والشراب، بإستعمال المخدرات والسجائر والخمر والسهر المفرط والجهد الجسدي المفرط والإجهاد العصبي وتناول الأطعمة الضارّة وإساءة إستعمال صحته وبالفوضى في الطعام والشراب واللباس، وكل شيء يجب أن يكون مرتباً ويسيء إلى جسده بالزنى والإنحراف الجنسي والمساوىء الجنسية المتعددة، عليه ان يستعمل جسده بطهارة وعفّة وقداسة وإن كان متزوجاً، كان عفيفاً أيضاً بدون إفراط وبدون إساءة إستعمال للزوج الآخر، كلُّ شيءٍ بإعتدال وبأدب وتهذيب وإحترام. طبعاً العناية بجسده لا تعني أبداً الترف والتخمة والكسل والتواني والراحة، يجب أن يكون ذا عمل في الطفولة في المدرسة، متى أنهى الدراسات ينصرف إلى المهنة، يعمل في المهنة بجدٍّ وإجتهاد دون إجهاد مفرط يسيء الى صحته، يعمل ولكنّه يرتاح أيضاً بدون كسل بدون ميوعة، يجب أن يكون نشيطاً في العمل وفي الإنتاج ليكسب ما يعيش به وما يتفضل به.
ج- علاقته بالناس: تقوم على المحبة والخِدْمة فالصراحة والشفافية والتعاون والبذل والتضحية والعناية ومعاملة الآخرين معاملة جيدة كأنّه يتعامل مع المسيح، ولهذه كلّها فروع لا تُحصى ولكن الإنسان ضعيف.
الإنسانُ كائنٌ حرّ ويستطيع أن يسيطر على ذاته وزوّده الله بطاقات كبيرة للتقوى والعلم والعمل والنجاح في الحياة بكلّ شيء، ولكن ويا للأسف الشديد الطبيعة البشرية الساقطة تنحرف عن الطريق القويم إلى طرقٍ ملتوية.
ففي الإنسان أهواء، هذه الأهواء تقوده إلى الهاوية إلا إذا سيطر عليها وحوّل طاقاتها إلى فضائل معاكسةٍ. الطفل يعشق الحليب والطعام ويكون أنانياً مطلقاً وبخيلاً مطلقاً وكلّ شيء له، ولا يشعر بحاجات الآخرين ولا بأحوالهم ومتمركزاً حول ذاته كما سبق فشرحنا. من هنا ينتج تعلّقه بالطعام والشراب، وإن فطمته أمّه قسراً بقي في اللاشعور جوعٌ متواصل قد يؤدّي إلى مساوىء بسبب ما يخلق من هوس، فقد يصبح مهووساً بالمخدرات بالخمر بالسجائر بالجنس، أنواع الهوس عديدة جداً لا تحصى. قد تنتقل إسراها إلى حبّ المقتنيات بصورة عامة إقتناء المال اقتناء المجموعات إقتناء اللباس إقتناء الدور والقصور، وقد يؤدّي ذلك إلى طمع في السلطة والرئاسة ويختلط بعوامل أخرى فيقلّد أباه وأمه في السلطة ويصبح محبّاً للتسلّط مثل أبيه وأمّه. تعقيدات الطفولة عديدة لا تحصى، وبسبب شعوره بالقصور بالنسبة للكبار قد يُصبح إنساناً متوحشاً في إبتغاء السلطة والنفوذ والتسلّط وقد يصبح بسبب ظروفه الخاصة أنانياً، وقد يصبح بخيلاً كبيراً جداً لا يتصدّق على فقير بقرش، وإنّ تصدّق بقرش منّن البشرية كلها بأفضاله السخيفة. هؤلاء موجودون في المجتمع وفي كل مجتمع،
هنالك الغيرة والحسد، الغيرة والحسد اليوم منتشران على نطاقٍ واسعٍ في العالم كلّه، الحضارة والمدنية والثقافة والنظام الإجتماعي في الأسرة وفي المدينة وفي الدولة يحول دون تنفيذ كلّ ما في النفس من غيرة وحسد. ولكن الغيرة والحسد موجودان في كلّ بيت وفي كلّ مجتمع وفي كلّ أسرة وفي كل مدينة وفي كل قرية وفي كلّ حيّ. الشكوى اليوم من الحسد والغيرة كبيرة جداّ، صار الناس يحسبون ألف حسابٍ للغيرة، وإن أصيبوا بحادث سيارة توهّموا أنه هناك حسوداً حسدهم، والتخوف من العين الحاسدة اليوم كثير جداً، فالناس قليقون جداً بسبب ما يسمونّه العين الحاسدة، ويشكون من الحسد في وسطهم العائلي وفي وسطهم الإجتماعي وفي أمكنة العمل.
الحسد والغيرة يحتلّان حيّزاً كبيراً من وجود البشر اليوم وان إنقلب الحسد والغيرة إلى منافسات، والمنافسات عند الغيرة تنقلب إلى عداوات والى كيد ومكايد ومؤامرات ومطاعن وإلى ذمّ وقدح والى وشايات وإفتراءات ومطاعن ونخذ موجع والى تُهم وسوى ذلك. ولذلك المكايد تتكائر جداً، قد لا تكون أحياناً دمويةً ولكنها موجودة وإن كانت غير معلنة، فهي قائمة في الخفاء في اللاشعور، وصار لاشعور الناس محشواً بالعداوات وصارت أحاديث الناس نقداً وتهشيماً وطعناً من الظهر ونميمة وشتائم.
إستغربتُ مرةً أحاديث في منطقة معينة، أحاديثهم العادية هي في الكلام عن أحوال بعضهم البعض، الغيرة والحسد واضحان، فلان عمّر، فلان إشترى، فلان كذا، فلان كذا، هذه أحاديثهم لأول وهلة منذ أوّل لقاء، لا يتحدّثون إلاّ بهذه الأخبار، وهذا واضح حسد وغيرة من الآخرين. والحسد والغيرة لا يخلوان من العداوة، مهما خفّ المعيار يبقى ذلك يدل عن شيء من الكراهية الصامتة. الوشايات كثيرة، الطعن من الظهر كثير جداً، ماذا يدور من الحديث في إجتماعات الناس؟ بما يتندّرون؟ بأخبار بعضهم بعضاً. وهل فيها المديح؟ لا، الشتائم. هل فيها فرح بالآخرين؟ نادراً. ماذا فيها إذاً؟ حسد وغيرة وطعن ونقد.
أين الإجتماعات التي تتحدث عن فضائل الآخرين وأعمالهم الحسنة؟ ماذا في مجالس الناس؟ هل فيها محبة؟ هل فيها أحاديث الأخوّة والوفاء والمعاملة الحسنة؟ هل يذكرون فيها حسنات الناس؟ ألا يوجد فيها مَنْ يحاول أن يشوّه حسنات الناس ويفسّرها بالمصلحة الشخصية وبحبّ الظهور وبألف سبب وسبب؟ فأين المحبة؟ المسيحية تعلّم أن يموت الإنسان شهيداً من أجل إيمانه بالمسيح وأن يموت شهيداً من أجل إخوته كما مات المسيح شهيداً من أجلنا. فإذاً هي تعلّم البذل، وإذا كانت تعلّم بذل الذات فكم بالأحرى يكون بذل المال والمقتنيات رخيصاً؟ الإنسان المسيحي هو عدوّ المال وإن كانت ثروته مليارات، يستعمل هذه الثروات الطائلة لكي يشغّل الناس ويفيد الناس، أمّا إن عبدها فهو عبدٌ لها، وعبادة المال هي عبادة الإنسان. فإذاً البخل والطمع وعبادة المال والمقتنيات والأشياء الدنيويّة كلّها عبادة الإنسان. أيُّ شيء يخترعه الإنسان ويتعلّق به هو عبادة إنسان. العبادة لله فقط والمحبة تتجلى في السخاء لا في البخل الذميم لا في التقدير لا في الانانية لا في البذخ والشراع. الإنسان برمّته ليسوع للكنيسة للشعب للبشر. فإذاً المحبة تغيّر الإنسان برمته ليصبح بذلاً وعطاءً لله وللمؤمنين وللاخوة وللناس أجمعين.
في قضية التصدّق، الصدقة حقّ لكل محتاج بدون تميز من أي نوع كان التمييز، هذه المحبة تقتضي أن نهتمّ بالآخرين أكثر من إهتمامي بنفسي وأن نفرح بنجاح الآخرين وأن نهتمّ بهم إهتماماً جديّاً، وأخدم مصالحهم وأهتمّ بما هو نافعٌ لهم. المحبة المسيحية هي حرب دائمة على الأنانية والفردية والإنكماشية والإنغلاق والتمركز على الذات. المسيحي المحبّ حقيقةً منفتح برمته منبسط برمته، قلبه أوسع من السماوات، لا ضيق افق عنده لا ضجر لا ملل لا كلل لا أستياء لا إحتقار لا تكبّر لا تجبّر. هو برمته سخاء، عطاء برمّته مثل دم المسيح المهرق، فهو مُهرقٌ بصورةٍ تامة. ولكن هل يمكن الوصول الى هذه الحالة بالقدرة البشرية؟ لا. الروح القدس الساكن فينا هو الذي يطوّرنا من حالة الأنانية المغلقة مئة بالمئة إلى حالة الإنفتاح الكامل والشفافية الكاملة والسخاء الكامل.
وهناك الكبرياء والعجرفة والعنجهية وشوفة الحال والإعتدال بالذات والزهو بالذات والإفتخار بالذات والترف والتعالي والإعجاب بالذات والإنتفاخ كالطاووس. إنها عيوب رهيبة جداً وهي ضدّ المحبة وضدّ الله، كيف تتكبّر وأنت مخلوق خلقك الله ولا تملك شيئاً إلا ما أعطاك إياه الله؟ هل إستطاع العلماء أن يخترعوا شيئاً من العدم؟ هم يتصرفون بهذه الخليقة التي أعطاهم إياها الله. لماذا يتكبر بعض العلماء؟ العلم ينفخ كما قال بولس الرسول، والمحبة تبني كما قال بولس الرسول. كيف نحارب الكبرياء وكيف نصير متواضعين أمام موت المسيح على الصليب؟ هل يحقّ للإنسان أن يتكبّر ويتعاظم ويتجبّر وينتفخ ويتباهى ويزهو كالطاووس وينتفخ كالجبل، هذه عيوب ملاصقة بالإنسان منذ طفولته، فالإنسان يريد أن يرتفع، ولكن الإرتفاع يكون في الرب لا بالإنتفاخ والتباهي والتعاظم على الآخرين والإنتفاخ عليهم وإحتقارهم. فالكبرياء عيبٌ كبير، منْ ينقذنا منه؟ مَنْ ينقذنا منها؟ إنها خطيئة الشيطان، فإذاً هي خطيئة كبيرة جداً. تكبّر آدم فسقط، إشتهى الأعالي الباطلة فسقط، فمنْ يشتهي عليه أن يشتهي ملكوت الله بتواضع وإحترام وسجود.
وهناك العُجْبُ بالذات، فالإنسان معجب بنفسه يتباهى ويفتخر ويتعاظم وهذا مرض يعود الى الطفولة. بعضهم مزهوٌّ الى حدٍّ لا يطاق، بعضهم عُنجهيٌّ كبيرٌ لا يطاق. الناس لا يستسيغون هؤلاء المعجبون بذاتهم، التي حين تدور أحاديثهم حول أنفسهم ويتباهون بأمجادهم وإلى أمجادهم الباطلة، لذلك التواضع هو الحلّ السليم.
هناك خطايا الفكر، وأفكارنا الشريرة تجول في كلّ الآفاق. أفكار يأتي بها الشيطان، أفكار نهدي بها أهوائنا وشهواتنا ورغباتنا ومساوئنا. وأفكارنا مرتبطة بحدّ كبير بأهوائنا، ونفكّر بحسب أهوائنا وأهوائنا ساقطة فتضطرب أفكارنا وتأخذ المنح الفاسدة، والشيطان يساعد على ذلك، وعلينا أن ننتبه وأن نصلي ضدّ الشيطان لكي يبعده الله عنا.
الغضب موجود في الطبيعة البشرية منذ البداية وهو مرضٌ عُضال لا نستطيع ان نتخلّص منه بسهولة. الغضب قد يكون للدفاع عن أنفسنا وقد يكون حنقاً على الآخرين، وقد نغضب من حَجر إرتطمت به رجلنا ونغضب على الحجر. يجب أن نحارب الغضب، كيف؟ نحوّله إلى فضائل نحوّله إلى العمل إلى الصبر إلى المحبة إلى إحتمال الآخرين، هناك إحتمالات عديدة لتحويل العيوب.
في الحضارة الغربية تطورت الأمور نحو علمانية الدولة والمدارس والجامعات، فخلت دنياها من التربية الدينية والأخلاقية، وصار العمل والعلم بدون وحي روحي. لذلك ضعف الشعور الديني لصالح بنية علمانية حوّلت المجتمع إلى معمل كبير بدون حضور الروح القدس في الحياة. لذلك أنشأ كاتب فرنسي كتاباً قال فيه: إن الغائب الأكبر في الغرب هو الروح القدس. واهتدى كاثوليكيٌ فرنسيٌ إلى الأرثوذوكسية، فترجم إليها من اليونانية والروسية واليوغسلافية كتاباً أرثوذكسياً. وكان يعلن أن الخلاص للغرب هو في الأرئوذكسية. ففي رومانيا مثلاً تحالف الأكليروس والحكم والشعب هو قوّة الكنيسة. الفصل بين الكنيسة من جهة وبين المجتمع والمدرسة والجامعة هو سبب غياب الله في الحياة اليومية للفرد في الغرب. صار الإنسان عبداً للدنيا لا لله. لذلك الطوفان قادم. والأزمة الأقتصادية الحالية ستكون بداية لأزمات اجتماعية وأدبية. الإنسان مسحوق وعبدٌ في معمل كبير لمصلحة المصارف والشركات وسواها.
Discussion about this post