الفصل الخامس والعشرون: الجهاد الروحي
ستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل الخامس والعشرون: الجهاد الروحي
الجهاد الروحي موضوعٌ هامٌ جداً في الحياة الدينية، فلا بُدّ منه. الإنسان لا يَلدُ قديساً، هو كائن ساقط. الطفل يتعلّم الشراهة أثناء الرضاعة، تظهر شراهته في الرضاعة ثم تنتقل الشراهة خلال الحياة الى مواد أخرى. وكلما نما المرء كلما ظهرت لديه أنواعٌ من الشراهة، شراهة في الطعام، شراهة في الدراسة، شراهة في اللعب، شراهة في الإيذاء، شراهة بحبّ المال، شراهة في حبّ المقتنيات، شراهة في طلب الرئاسة، فأنواع الشراهات لا يُعدّ ولا يُحصى، شراهة في تناول المخدرات، في تناول لفائف التبغ، في تناول القهوة والشاي والمسكرات، شراهة في إقتناء المجموعات، شراهة في مختلف الميادين الممكنة، شراهة في لعب القمار، كلّ هذا، كلّ ما ينصرف إليه الإنسان بكلّيته هي الشراهة. وليست الشراهة فقط في الطعام وفي جمع الثروات والأموال، كلّ شيء ينفق فيه نفسه هو نوعٌ من الشراهة، كلّ شيء يتعلّق فيه، تعلّق الأعماق هو نوع من الشراهة. فإذاً تنتقل الشراهة.
الطفل عدواني، فالأم تتخذ إحتياطات لئلا يعتدي على إخوته أو على سواه. في كلّ حياة الأطفال ألوان من العدوانية، هذه العدوانية تتحوّل في الحياة إلى العمل إلى الفضائل الى الصبر إلى الإنتاج، فهناك تحولات عديدة متنقّلة ولكن يبقى الإنسان ذا إستعدادات للعدوان. والإنسان طمّاع، وبسبب طفولته وضعفه يصير محباً للسلطة مترفّعاً متكبّراً، وهو أنانيٌ مطلق متمركزٌ على ذاته متعلّقٌ بذاته.
التّربية تبدّل الإنسان وتغيّر الإنسان ولذلك فالجهاد الروحي لا بدّ منه. التربية في المنزل تبدّل كثيراً من طباع الإنسان. الإنسان أناني لدرجة أنّه يمرّ في مرحلة لا يُريد أن يُفرغ ما في جوفه لأنّ هذا له، لذلك أمهات كثيرات يجدنَ صعوبات في تربية الطفل في مرحلة ما ويستعملنَ أساليب وتضطر بعض النّساء أن تستعمل الزيوت كزيت الخروع لتسهيل معدة الأطفال، فهذا الطمع الواضح، هذا البخل الواضح. منذ البداية الإنسان طفل، وهناك مساوئ عديدة تظهر في حياة الأطفال تتداركها الأم الذكية الحكيمة. ولكن الطفل ذو ميزات، لديه غضاضة خاصة ومرونة خاصة تجعله قادراً في السنة الأولى والسنة الثانية من العمر وما خلا ذلك أيضاً وإن خفّت هذه الميزات أن يبتلع أمّه وأهله. ولذلك فالتعليم بالسلوك هو أهمّ شيء. الأم المؤمنة الذكية الفهيمة تسلك أمام طفلها سلوكاً بريئاً سليماً طاهراً ليبتلعها إبتلاعاً جيّداً مفيداً. تعلّمه باكراً أن يقبل الإيقونات ويلمس الإيقونات. تعمّده باكراً لكي ينمو في الروح القدس لا في الأهواء والشهوات، وهنا ضلال الذين يؤخّرون المعمودية. فينمو الإنسان في أصله الآدمي بدلاً من أن ينمو في النعمة وفي المسيح. ولذلك فمعمودية الأطفال باكراً مهمّةٌ جداً جداً لينموا في الروح القدس. الذين يؤخرون المعمودية يرتكبون خطأ جسيماً جداً جداً. لا يجوز تأخير المعمودية لأيّ سبب كان من الأسباب، المعمودية الباكرة ضرورية جداً جداً. فكلّنا نعلم أن الأرثوذكس يعمّدون ويميرنون ويناولون في آن واحد.
والأم التقيّة تأخذ إبنها الى الكنيسة في كلّ المناسبات الممكنة ليتناول فيعيش في الرب وينمو في الرب بدلاً من أن تنمو غرائزه وميوله وأهوائه ورغباته الجّسدية ويعيش إنساناً جسدياً. المعمودية تُميت فيه الجسد لتحيا الروح، هذا ضلالٌ كبير تأخير المعمودية، يجب تعميد الأطفال باكراً. تعويدهم على شرب الماء المقدس على رؤية الإيقونات، على محبة المظاهر الدينية فيتعلّم الطفل من أمّه الأمور الدينية، يتعلّم منها الصليب يراها ترسم الصليب فيتعلّم هو أيضاً أن يرسم الصليب، ترسم له الصليب بإستمرار فيتعود على رسم الصليب، وهكذا ينشأ الطفل في الإيمان في الفضائل في الأمانة الصالحة.
تظهر أمامه دائماً بمظاهر متمدّنة راقية متديّنة بريئة طاهرة شريفة فيبتلعها، وهكذا تتكون في الطفل صورة أمّه المثالية، طبعاً الأب والأخوة كلّهم مهمّون ولكن الأم هي التي ترضع وهي التي تخدم الطفل في أيّامه الأولى، لا تعتني بجسده عناية فائقة، كلُّ شيءٍ بإعتدال، الحمّام واللباس وكل شيء بلباقة. الأم المؤمنة الحقيقية لا تخاف أثناء الحمل وأثناء الولادة، تعلم أن هذا يجري بعناية الله فتكون أثناء الحبل بفرح وغبطة وسعادة وتُعامل حسناً، ولا تخف مشاكل الولادة فهناك من يُخوّفونها وهناك كل الإحتياطات في المستشفيات وهي إحتياطات توافق مزاج النساء النواعم الجبانات المدلّلات. الحبل والولادة يحتاج الى نساء بطلات، يجب أن تكون الأم المسيحية أثناء الحبل والولادة بطلة من الأبطال وتعتبر الأمور كلّها تسير وفق مشيئة الله له المجد. ولا يُحاط الطفل بجنون العواطف، هذا مضرّ. أيضاً يجب أن يسود الإعتدال في كل شيءٍ، أن يُحمل الطفل بإستمرار، ألا يجب أن يترك الطفل هادئاً بنسبة جيدة لترتاح أعصابه؟ أعصاب الطفل لا تتحمّل هذا الجهد الذي نحمّله إيّاه، والجدّ والجدّة يزعجون الطفل بحنان غير موزون، حنان الأم هو الصحيح والأم عليها أن لا تسلّم الطفل لجدّيه ولعمّاته وخالاته وأعمامه وخواله إلا بإعتدال.
الأم هي التي تعرف كيف تمسك الأمور كما يجب أن تُمسك، هي التي تهتم بتربية الولد بالدرجة الأولى ولكن يجب أن يكون كل شيء بإعتدال، والإعتدال لا يعني أن الإنسان يكون موسوساً، الإعتدال هو أن يكون الإنسان هادئاً رابط الجأش، ولا يجوز إستعمال الإعتدال إستعمالاً سيئاً بإفراط، لا، فليكن كلّ شيء طبيعياً وعادياً، وهكذا يكون الإعتدال بالشيء الطبيعي المعتدل. الولد الذي ينشأُ هكذا يتعلّم شيئاً فشيئاً أن يكون متديّناً، يتعلّم بالنموذج باللطف بالمعاملة الحسنة لا بالتدليل المفرط، هذا مضرّ؛ ولا بالعنف المفرط، هذا مضرّ.
التربية الأميركية اليوم مضرّة جداً، إبن أربع سنوات يعلّمه المعلمون في المدرسة أن يشتكي على والديه للشرطة إن ضربوه أو أذوه، أيّ يعلّمون الولد أن يثور على الطاعة الوالدية، كيف ينمو هذا؟ تتولى الدولة تربيته ليخرج رصاصة في معمل السلاح الخاص بالدولة. الحنان الوالدي هو المهمّ، المعلّمون في المدارس لا يحلّون محلّ الوالدين مئة بالمئة. العواطف الوالدية هي المهمّة، والولد الذي ينشأ بين والديه صحيحاً هو الصحيح الحقيقي. لا شيء في الدنيا يحلّ محلّ الأم والأب، واليتيم الأبوين معذّب في هذه الدنيا. عواطف الأبوين والأخوة الموزونة المدروسة هي المهمّة[3]. ينشأ الطفل بين والديه وأخوته مسيحياً فيحطاطونه بالمودّة والمحبة ويقودونه يوم الأحد إلى القداس الإلهي، يعلّمونه الإنضباط والسيطرة على الذات والسيطرة على الفمّ والسيطرة على الأهواء.
الطفل كتلة أهواء يحب أن يلمس كل شيء ويضع يده على كل شيء ولو على النار. منْ يراقبه ليضبط شروداته كلها؟ الولد يمرّ في مرحلة يحبّ الإيذاء، غيّور حسود أناني بخيل طمّاع له عيوب عديدة، ولكن عيوبه على قدر سنّه، ولكن إن لم تضبطها الأم والبيت مَنْ يضبطها؟ مَنْ يعلّمه ضبط النفس وأهواء النفس وعيوب النفس والعيوب كلّها؟ مَنْ ينمّيه على حسب الأصول؟ الأهل؛ لذلك فالأم المسيحية هي المدرسة الحقيقية التي توقظ عند الطفل الحسنات مقابل السيئات، هي التي تجذّبه وتنمّيه إنساناً صحيحاً سليماً تقيّاً يسير يوماً ما في طريق الفضائل.
الأم هي الكنيسة الأولى التي تربّي الأطفال، فما دام الإنسان إذاً كتلة من الأهواء؟ فلا بدّ له من الجهاد الروحي. التربية في البيت مهمّة جداً وهي الأساس. الكهنة والمعلّمون يتابعون عمل الأم، فالمجاهد المسيحي عليه أن يُجاهد ضدّ الأهواء، والأهواء متعدّدة، مكسيموس المعترف قال الصورة الإلهية تكسّرت إلى ألف قطعة.
فإذاً مرآتنا تهشّمت في الأرض، علينا أن نجمع هذه الشظايا، هذا يتطلّب جهاد روحي. عندنا شرودات عديدة في النفس البشري، كيف نسيطر عليها بدون الجهاد الروحي؟ علينا أن نُجاهد ضدّ شهوات الجسد فلا نسمح للفم أن يكون عبداً للذّات الجسد فيصاب بالتخمة من الطعام والشراب، بل أن يكون معتدلاً في طعامه وشرابه، مُنظّماً بصورة جيدة، يُعطي جسده ما يلزمه ليقتات به ليقوم به قوته لا للتخمة المضرّة واللذّات الفانية المضرّة. عليه أن يقاوم عشق المقتنيات والطمع في المال والأشياء وكل شيء، أن يكون معتَدلاً في كل ذلك. وهناك الشهوات الجسدية، فالجسد للرب لا للزنى، هكذا يعلّمنا العهد الجديد. كيف يضبط نفسه والأهواء الشبابية؟ هذا يتطلب جهاداً روحياً متيناً. كيف يتدرّب عليه وقد ربِيَ في البيت تربية الفلتانين؟ هل المدرسة تعلّم الأولاد أن يضبطوا أنفسهم جنسياً؟ هذا شأن الوالدين لا شأن المدرسة، ونعرف ماذا يجري في المدارس وفي الجامعات. المدارس والجامعات اليوم بإسم الحياد الديني والطائفي والأخلاقي هي مدارس دُنيوية ليس عليها أيّ طابع أخلاقي. إستاذ الجامعة يعطي الدرس ويمشي غير مسؤول عن طلابه “دبروا حالكن”، هذا حال الجامعات. فإذاً البيت هو الأساس.
المسيحية تركّز على البيت وعلى الأم، فمنْ يربّي الفتاة على الحشمة في اللباس والعلاقات؟ البيت. الأخلاق إذاً تَلِدْ في البيت، ضبط النفس نأخذه عن الوالدين. وهناك العدوانية، العدوانية تظهر في الغيرة في المنافسات في الحسد في ميول عدوانية عديدة، أشكال العدوانية لا تُحصى ولا تُعدّ. يميل الإنسان الى الضرب الى الإيذاء، الإنسان غضوب وبسبب الغضب يرتكب الإيذاء، فالإنسان لا يلد محبّاً للآخرين، يلد أنانياً، التربية هي التي تجعله إجتماعياً وإنساناً منفتحاً على الآخرين. فإذا لم يتدرّب على الإنفتاح على الآخرين بصدرٍ رحبٍ وقلبٍ كبيرٍ يبقى في علاقاته مع الآخرين في توتر لاشعوري. علاقة الإنسان بالإنسان مبدئياً ليست علاقة عطف ومحبة، وخاصة في هذا الزمان الذي تشتدّ فيه الفردية عند الناس، فالإنفتاح على الآخرين مهمّة شاقّة جداً جداً جداً. اللاشعور ملوّث بعدوانية مبطّنة. عند المناسبات تظهر، إن لم تكن مناسبة تختفي. ولكن متى وقعت المناسبات ظهرت هذه العدوانية، ظهر هذا الكفر من الكراهية للآخرين. لماذا يكثر الطلاق اليوم؟ لأن محبة الزوجين ليست ناريّة. تتحرك العدوانية تتحرك الكراهية التي في الشعور فينتهي الأمر إلى الطلاق. لماذا تقع الحروب؟ بسبب الكراهية الأساسية. الكراهية مزروعة في اللاشعور، الجهاد الروحي يتطلّب أن ننزع الكراهية من اللاشعور وأن ننزع العدوانية والغيرة والحسد والطمع والبخل وكل العيوب من اللاشعور نفسه.
اللاشعور يُخفي دوافع لا تحصى إن لم تظهر في اليقظة ظهرت في الحلم. ولذلك يرى الإنسان في أحلامه أشياء يستفظعها. هذا كلّه من اللاشعور غير نظيف. الجهاد للطهارة يحتاج الى العمر برمّته، وليس من السهل أن يسيطر الإنسان على أهوائه الجسدية. هذا جهاد العمر برمته، والسيطرة على البخل ليست سهلة، والسيطرة على الغضب، فهذا جهاد العمر وهذا يتطلب قوّة ذاتية متينة يعني أن نتخلّص من الميوعة والتنبلة والكسل والإهمال والتواني والتراخي. وكيف يتطلّب جهاداً روحياً ضدّ هذه العيوب؟ ضدّ النسيان ضدّ الزهود ضدّ اللامبالاة ضدّ الفتور؟ بولس الرسول قال: “صلّوا بلا فتور بلا إنقطاع”، كيف هذا يكون ممكناً وأنا بلا يقظة بلا نباهة بلا إنتباه بلا حذر بلا وعي بلا نشاط؟ فإذاً الجهاد الروحي مسألة هامة جداً في الحياة الدينية.
هناك عيوب عديدة جداً علينا أن نحاربها وأن نسيطر عليها. هناك شرود الذهن، الذهن لا يستقرّ يبقى العقل متموّجاً مثل رمال الصحراء، ينتقل من فكرة الى فكرة ومن مكان الى مكان، والشطط وفقَ طبيعته. في الجهاد الروحي عليّ أن أسيطر على هذا الشطط وأن أحصر روحي في يسوع المسيح. هناك هموم الحياة ومشاغلها وظروفها، هناك العمل مع الآخرين وما يجري من إحتكاكات، فكلّما إلتقا إثنان كان الأمر دقيقاً جداً، يتجاذبان ويتدافعان يتحابان وينغِّص كل منهما عيش الآخر، يتحابان وينتقد كلّ منهما الآخر، يتحابان وعينا كل واحد منهما على الآخر ليلتقط ذنوبه وعيوبه ويوبّخه على معايبه. ولذلك إن إختلف المحبّان كان خلافهما قاسياً جداً جداً فيبينُ جيداً فعل التضاد، كيف إنتقلوا من الحبّ إلى الكراهية ومن الوفاء إلى الخيانة. ليس الإنسانُ قديساً، لا يتوهمنّ أحدٌ أنّه قدّيس. الكبت يؤدي إلى قداسة ظاهرية وسلام ظاهري وهدوء ظاهري، هذا لا يغشّني، ما يهمّني هو العمق الداخلي، العمق الداخلي لا يصير نظيفاً إلا بالجهاد الروحي. أن نسلك الحيط الحيط ونقول لله السترة هذا لا يحلّ المشكل، الذي يحلّ المشكل هو الجهاد الروحي.
المجاهدون هم الذين يفوزون بملكوت السماوات، والجهاد الروحي يعني الحرب الروحية ضدّ الرذائل. لا يستطيع إنسان في العالم أن يقول أنا بدون رذائل، هناك أناس يبدون في الظاهر هادئين وديعين مسالمين متجنبين للأزمة والضرر سالكين سلوكاً لا عيب فيه، إجتماعيين من الطراز الأول، ولكن إن وقع هؤلاء في ورطة هل يبقون هكذا؟ إن تحداهم أحد بعدوانٍ ما هل يبقون هكذا؟ هل تتحمّل الفتاة منطبقة عليها هذه الأوصاف أن يتعرّض أحد لسمعتها بدون أن تثور ثائرتها وتغضب؟ فإذاً المهمّ هو الجهاد الروحي.
تحت ستار الوداعة قد نخفي غضباً مكبوتاً، المهمّ هو أن نتعرّض للشتائم واللوم والنقد والضيقات والإضطهادات ونحن صامدون كالجبال غير مجروحين غير متأثرين، فليس المطلوب الهدوء الظاهري بل الهدوء الداخلي، أيّ أن يكون القلب صخراً في الملمّات فلا تهزّه شتائم الغير ولا إنتقاداتهم ولا تهزّه الضربات والشدائد والضيقات والنواكب، فيكون في وسط هذه الزوابع رابطاً الجأش صامداً صمود الرواسي لا تهزّه الرياح ولا تؤثّر عليه الظروف، لا يغشّه المديح ولا تزعجه الشتائم، ويفضّل الشتائم على المديح الباطل، المديح الباطل يجعله يتكبّر وينتفخ وهو ضدّ هذا. ولذلك فالجهاد الروحي مفروض علينا، لا يخدع أحد نفسه ويتوهّم أنه بارّ وقديس.
قبل لحظة الوفاة ليس من قديس حقيقي على وجه الأرض، والقديس الحقيقي هو التائب، وليس للتوبة زمان ومكان فالتوبة هي العمر برمّته، والتوبة عامة، التوبة عن الرذائل، علينا أن لا نخدع أنفسنا علينا أن نفتح عيوننا بيقظةٍ كبيرة جداً لنرى عيوبنا، وإن رأينا عيوبنا علينا أن لا ننهار، علينا أن نكون رجالاً أشدّاء نرى عيوبنا لنقوّم ذواتنا لا لننهار. المصيبة أن الإنسان بأسباب تتعلق بطفولته يحرص على إحترام الآخرين له وعلى حسن تقديرهم له، الطفل يهتم جداً بأن يكون أهله راضين عنه ومحبّين له، فننشأ معقّدين منذ الطفولة، نحرص على رأي الناس على إحترام الناس على حسن معاملة الناس على ملاطفات الناس، لدينا جوع الى ذلك. فإحترامنا لذاتنا وإحترام الغير لنا يؤثّر في سلوكنا، والصبايا على الأخصّ والنساء على الأعمّ حريصات جداً على أن يكون رأي الناس فيهن رأياً رائعاً، لا يتحمّلن الإحتقار أو النظرة الغير وديّة، يحرصن دائماً على رؤية الناس إليهنّ رؤية إعجاب. لست ضدّ ذلك مئة بالمئة ولكن الأفضل أن يتخلّص الإنسان من هذه العيوب أن يتعوّد أن يكون قوياً في ذاته لا قوياً برأي الآخرين، أن يكون مُرضياً لله أولاً ثم للآخرين.
في المسيحية كل شيء يجري أمام الله أولاً وأمام الناس ثانياً. الإنسان إذاً حريص على تقديره لنفسه وعلى تقدير الناس له، ولذلك ينكمش حين النقد وينجرح وقد يثور ويغضب وتقوم قيامته ويعادي ويكره ويحقد. فالجهاد الروحي ضروري في هذا الميدان ليتعلّم أن يرى ذاته كما هي، أن لا يضطرب إن رأى عيوبه، يجب أن يفرح حين يقف على عيوبه ليُصلحها، يرى البعيد ما لا يرى القريب، يرى الآخرون فيّ ما لا أراه أنا فيّ. قد لا تكون نظراتهم دائماً صحيحةً ولكن يجب أن نأخذ آراء الآخرين بعين الإعتبار لنستفيد منها. لا يجوز أن نأخذ كلام الآخرين كلّه برمّته مأخذ الرفض، علينا أن ننتبه إلى ذلك فقد يكون في كلامهم شيءٌ مفيد، قد تكون هناك آراء شيطانية ولكن علينا دائماً أن نكون ساهرين يقظين منتبهين لنستفيد من كل المبادرات، فالشيطان يحاربنا بالأهل والأصحاب والمعارف، بكلّ الناس؛ علينا هنا بالتمييز، نكون بحاجة إلى روح التمييز لنميّز الغضّ من الرخيص.
في آراء الناس أحياناً أمورٌ ثمينة نستطيع أن نستفيد منها، لا يجوز أن يكون موقفنا هو موقف الرفض دائماً. وهكذا تكون مهمّة الجهاد الروحي مهمّة شاقة، ثم ما تتطلب من يقظة وحذر وإنتباه وسهر وإستعداد حسن وقلب كبير جداً مفتوح جداً أرحب من السماوات ،كل هذا يتطلب جهاداً روحياً كبيراً. الجهاد ضدّ الأنانية ضدّ البخل ضدّ الغيرة ضدّ الحسد ضدّ الكبرياء ضدّ العجب بالذّات، هذا الأمر كلّه وابخ لا يخلو الإنسان منه، مسائل تستهلك الأمر ولكن نحن مضطرون الى ذلك لننقّي نفوسنا من هذه العيوب لنصير طاهرين، ولذلك الحياة الروحية جهاد. الصوم والصلاة والصدقة والسلوك الحسن والجهاد الروحي و.. وكلّ أشياء لا بدّ منها لبنيان الإنسان الروحي أي بنيان إنسان داخلي طاهر نقي جداً.
يبقى في الإنسان أمور خفيّة لا تظهر إلا في ظروف معيّنة. قد أكون غير عدواني الآن وقد تأتي ظروف أرى نفسي فيها عدوانياً، فليس المهمّ أن أكون غير عدواني وأنا مرتاح في غرفتي، المهمّ أن أكون غير عدواني وأنا في وسط المعمعات في وسط الظروف القاسية حينما يشنّ الناس عليّ الحروب والويلات والغضب والشتائم والمسبّات وأبقى صامداً جبلاً لا يتحرّك، حائطا لا يتأثّر بمسبّات الآخرين وشتائمهم. كيف نصل الى هذه الحالة بدون الجهاد الروحي؟ هذا مستحيل هذا مستحيل مستحيل. ولذلك الظروف قاسية للإنسان المجاهد روحياً، الشيطان يحاربنا بمليارات السُبُل والخبائث والمخادعات، علينا أن نكون يقظين لئلا نقع فريسة حبائله. فهذا يتطلّب إذاً جهوداً روحية واعية ولكن في كلّ ذلك يجب الإمتناع عن التطرّف. التطرّف أخو الميوعة والتواني والكسل والإهمال والتنبلة، يلتقي الضدّان في الضرر للإنسان. والشيطان قد يحاربنا بالتطرّف وقد يحاربنا بالميوعة والتواني والإهمال. كل ذلك أسلحة بيده، علينا أن ننتزع هذه الأسلحة من يده. الصلاة بلا إنقطاع بلا فتور، الصلاة المتواصلة جهاد روحي كبير لمّا الشيطان يثور جداً عندما نذكر إسم يسوع المسيح.[4]
Discussion about this post