الفصل التاسع والعشرون: التأمّل الروحي
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل التاسع والعشرون: التأمّل الروحي
في كتاب علم الأعصاب neurologie الصادر بالفرنسية في موسكو في العام 1955 إبّان الحكم اللاتيني، جاء في المقدمة أنّ الذي يميّز الإنسان من الحيوان هو الفكر. وكان الفيلسوف الفرنسي المشهور باسكال قد قال إن الإنسان قصبة لكنّه قصبة مفكّرةٌ، كان تابعاً للمذهب المعروف Jansenisme. ما كان هنا للبحث فيه ولكن اليونان هم الذين ركّزوا على الفكر. أمّا العهد القديم واللغات السامية إجمالاً تركّز على القلب والروح، والقلب يعني في النهاية الكائن البشري، وكلمة روح دخلت اليونانية عن طريق الترجمة السبعينية للعهد القديم، وهم يستعملون عادة كلمة نوس، نوس أي كما ترجمها إبن سينا وغيره: الذهن، وعرّفوها تعريفاً يونانياً. فالإنسان ذو روح وذو قلب، والقلب يلهج.
في المنظور الثالث والستين جاء: “إِنْ ذكرتك على فراشي لهجت بك في الأسحار لأنك كنت لي عوناً، وبظلِّ جناحيك أسرّ إلتصقت نفسي بك وإياي عضدت يمينك”، الذي ينام وهو يصلي يستيقظ الصبح وهو يصلّي.
الناسك الكبير أشعيا طالب الرهبان بأن يقضوا ساعتين قبل النوم في الصلاة لكي يستمر الصلاة في النوم، وهذا صحيح، مَنْ ينام وهو يصلّي يستيقظ وهو يصلّي، وإن صلّى كثيراً إستمر في الحلم مصلياً وتطهّر حلمه شيئاً فشيئاً من الصور الخنيثة والرديئة لتحلّ محلّه الصلوات. الإنسان إذاً يفكّر يَلْهجُ بالله يهزّ بالله قلبه المشغوف بالله أيّ بالعشق الإلهي يدفعه إلى تذكّر الله، ذِكْرُ الله أمرٌ هام في الحياة الروحية وفي كتابات النسّاك، فذِكْرُ الله يجب أن يرافق حياتنا كلّها. لا يكفي أن أكتب مجلّداً كبيراً في العقائد الإلهية لكي أكون إنساناً مشغوفاً بالله. هذه الكتابات مفيدة لي ولغيري ولكن المهمّ أن تستمرّ في حياتي الواقعية أيّ أن أبقى أتأمل هذه العقائد الإلهية، أن أذكر الله بإستمرار، أن أكون دائماً واقفاً في الجلجلة وأمام القبر الإلهي لأتذكر آلام الرب ودفنه وقيامته، أن أعيش مع المسيح في مختلف ظروف حياته المذكورة في الإنجيل.
القديس العظيم أبو اللاهوت غريغوريوس اللاهوتي كتب ما مفاده “بالأمس كنت أتمشّى مع المسيح على شاطىء بحيرة طبريا، بالأمس دخلت معه أورشليم، بالأمس صلبت معه، بالأمس دفنت معه واليوم أقوم معه”، فلا بدّ إذاً من أن ألتصق بحياة ربنا يسوع المسيح. وهذا لا يأتي إلا إذا كنت ألهج بذكره دائماً، أهزّ بذكره دائماً. فلا يكفي أن أُطالع الإنجيل مرةً، الإنجيل كتابٌ للمطالعة الدائمة، حياة يسوع المسيح موضوعة أمامنا للتأمّل الدائم لكي ننظر فيها دائماً لكي نتمسّى بالمسيح أمام عيوننا دائماً، المسيح يجب أن يكون في خاطرنا في قلبنا. المسيحية تركّز على المحبة على العشق الإلهي، محبتنا لله عشق.
يوحنا السلّمي قال: “نطرد عشقاً بعشق” أيّ بعشق الله نطرد عشق الجسد وعشق كل المنظورات. فهذا العشق لا يكون إلا بالهزيز، في العملية لدينا في الأدب العربي قصة قيس وليلى ونسميه ل قيس مجنون ليلى فأحبّ ليلى حتى صار مجنوناً بحبّ ليلى، وهل ليلى أعظم من يسوع المسيح؟ فإذاً في تراثنا المحلّي هنا قصة أيّ قصة قيس وليلى قصة شهيرة ومهمّة لأنها تعطينا صورة عن أهمية العشق، فالعشق يعني أن الإنسان يخرج من ذاته ليلتصق بمحبوبه. وفي المسيحية الأمر عينه، نلتصق عشقاً بيسوع المسيح، نخرج من ذاتنا لنحب يسوع المسيح. كيف كان يقضي قيس وقته؟ كان يلهج بليلى في الليل والنهار، غرامه ليلى. أين فكره؟ شارد عند ليلى، أين عواطفه؟ عند ليلى، بماذا كان يحلم؟ بليلى، ما مغنى حياته؟ ليلى، على حول أي شيء كان يدور نهاره فكرياً وعاطفياً ؟ حول ليلى. هذا هو الواقع الروحي للإنسان الروحاني أيّ فكره وقلبه وعواطفه وحواسه وقواه كلّها تتجلّد معاً، تدور حول ربنا يسوع المسيح، لا نقل أن هذا الأمر مستحيل فقصة قيس وليلى خير دليل.
لا أستشهد بالنسّاك والروحانيين أستشهد بواقع تاريخي معيّن معلوم وهو قيس وليلى وكلّنا نعرف قصة قيس وليلى وجنون قيس وليلى، وسمّي بمجنون ليلى بسبب حبّه المفرط لليلى، قيس يصبح مجنوناً في غرام ليلى، هل تستحق ليلى مثل هذا العشق أكثر من ربنا يسوع المسيح؟ في الحقيقة الفتور الديني مرض عُضال. نحتج بمليارات الحجج لنتخلص من واجباتنا الدينية. قيس يصبح مجنوناً بحبّ ليلى ونحن نتهرّب من أبسط الواجبات الدينية، لا نذهب الى القدّاس يوم الأحد بإستمرار، لا نحضر الصلوات بإستمرار، لا نطالع الإنجيل، لا نطالع الكتب الدينية. ماذا في يومنا من الإهتمامات الدينية؟ فليفحص كل واحد ضميره. خلال أربع وعشرين ساعة في الليل والنهار كم دقيقة نُعطي الرب يسوع من وقتنا؟ كل وقتنا يذهب خارج نطاق يسوع المسيح، كل شيء يجذبنا ما عدا يسوع المسيح، وبعد هذا وذاك نقول نحن مسيحيون نحن أرثوذكسيون، ما هذه الأرثوذكسية الفاشلة التافهة التي تتبرّأ مني لأني لم أسعى ليسوع المسيح أمام ناظري كل حين.
إن قرع طبلٌ أثار الأمر إهتمامي، يسمّر الناس عيونهم ساعات طوال يومياً الى التلفزيون والراديو والفيديو والإنترنت والكمبيوتر والتافهات والسخافات بدون ضجر. وإن قلنا لهم طالعوا الإنجيل إعتذروا بمليارات الإعتذارات. إن سألت أحدهم إقرأ لي آية من الإنجيل تهرّب، وإن قلت له إقرأ لي الجريدة تبرّأ، إقرأ لي المجلّة تبرّأ، أمّا قراءة الإنجيل فيتهرب حتى من قراءة آية واحدة، وهذا ما جرى معي حقيقةً. التهرّب من يسوع المسيح صار مرض عند المسيحيين، إن سألتهم أنت مسيحي قال نحن مسيحيون وحين الإمتحان يتهرّبون، هذا التهرّب شيطاني، يجب أن نتخلّص من هذا التهرّب. يبدو الناس في مثل هذه الحالات وكأنهم في ضجر من ربنا يسوع المسيح.
قبل سنوات عديدة عندما كنت محامياً في الأربعينات والخمسينات إتفق مراراً أن قضيتُ السهر مع الناس، فكانوا يسهرون بأحاديث متعدّدة الأشكال والألوان وكنتُ أنا دائماً أقضي الوقت في جولات متعدّدة في هذا الكون لأصل في النهاية الى الحديث الديني. حين كنت أطرق في نهاية السهرة إلى طرح الأمور الدينية كان يوجد بين الحاضرين من يَطلب إليّ أن أتابع الأحاديث الدنيوية وأن أترك الدين الآن جانباً، ثم تغير الحال فيما بعد وبخاصةً بعد العام 1966. في العام 1966 إنقلبت الأوضاع في اللاذقية وإهتدى الناس إلى الإيمان بحرارة فائقة. والصبر مفيد، الصابرون ينجحون في النهاية، ولكن ما أصعب الصبر حينما يكون الناس حجارة؟ ولكن ولله الحمد صاحبي وأنا طوّعنا الحجارة وسيرنا طيناً ليناً قابلاً للتأثّر الديني.
الإهتمامات الدينية ضرورية لكلّ إنسان وأنا لا أستطيع ان أصير رجل الله إلا إذا إرتديت الله، عليّ أن أرتدي الإنجيل أرتدي الكتاب المقدّس أن أرى ما فيه من عجائب وآيات أن أسمع الى ما جاء في الكتاب المقدّس من تأملات. لنقرأ مثلاً المزمورين 102 و103 ونرى هذا الكلام عن عجائب الله، “ما أعظم أعمالك يا رب كلّها بحكمة صنعت” هذا في المزمور 103 هذا عظيم جداً. في المزمور 102 آيات: “ باركي يا نفسي الرب يا جميع من في باطن إسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي جميع حسناته الذي يشفي أمراضك الذي يغفر ذنوبك الذي…”، هذا مزمور أيضاً مهم جداً، الله رحيم حنون شفوق لطيف عبارات كلّها ممتازة جيدة تذكرنا بالله وبأعمال الله وبعظائم الله. العذراء مريم عظّمت الله فقالت:الله صنع بي عظائم و إسمه قدوس ورحمته إلى جيل فجيل للذين يتقونه.
في الكتاب المقدس تعظيمات وتسبيحات عديدة. في المزامير التسبيح والحمد كبير جداً، موسى سبّح الله وأخته مريم سبّحت الله وكثيرون سبّحوا الله. بولس الرسول في رسائله أتى بتسابيح وشكر وتراتيل سفر الرؤية. سفر الرؤية رائع في ما فيه من تسابيح وتأييد الى الله. وبعض المفسّرين المعاصرين يعتبره كتاب ليتورجية، يفسّرونه على أساس أنه كتاب ليتورجية، وذلك بسبب ما فيه من تسابيح وتماجيد وأشكال من الصلوات الليتورجية.
في التأمل الروحي جزء لا يتجزأ من الحياة الروحية، الإنسان الروحاني المشغوف بربنا يسوع المسيح هل يقضي الليل والنهار نائماً؟ ماذا يعمل النسّاك في البراري؟ هل لديهم أعمال يدوية تشغلهم طوال الليل والنهار؟ لا، وإن قاموا بأعمال أما يسبّحون الله وهم يشتغلون بأيديهم؟ لماذا صاروا نسّاكاً، أليس لكي ينصرفوا إلى الله إنصرافاً كاملاً ويكونوا في الروحانيات مثل مجنون ليلى في الأرضيات؟ هؤلاء هم مجانين ونعرف من تاريخ الرهبان والنسّاك والقديسين أنهم كانوا مجانين بحبّ الله، وإستعمل بعضهم كلمات السكر، كان بعضهم سكارى بحبّ الله. وهناك قديسون نسميهم القديسون المتبالهون المجانين لأجل المسيح، كان المسيح محور حياتهم، كان يسوع الكلّ في الكلّ في حياتهم، كيف؟ بتذكر يسوع بإستمرار.
ولذلك الحياة الدينية تنتعش لتذكّر الله وأعمال الله وبفكر الله فمن الضروري أن يبقى ذكر الله في قلوبنا بإستمرار، لا يجوز أن ننقطع عن ذكر الله. قد يقول لي البعض: وأعمالنا ودراساتنا وجامعاتنا، هل هذا يمنع من ذكر الله؟ أنا لا أقول للناس أن ينصرفوا جميعاً الى البريّة، هذه دعوة إلهية لبعض الناس من الأبطال الروحيين، أمّا الإنسان العادي يستطيع ان يتعبّد لله في المعمل في المكتب في الدوائر في أعمال، ذكر الله لا يكلّفني متاعب جمّة، يكفي أن يقول في حال الإنشغال الباهظ: يا يسوع إرحمني يا يسوع، هناك أناس مزحومون بالأعمال الدنيوية، عندهم أعمال وأشغال يا لطيف، هناك أساتذة جامعات مستوعبين هناك الباحثون في معاهد الأبحاث والتنقيب، ولكن هذا كلّه لا يمنع من أن يكون ذكر الله حاضراً، هذا كلّه لا يمنع من أن أقول في قلبي يا يسوع إرحمني، وإن تعسّر يكفي أن أقول يا يسوع. أنا لا أعلّم الناس إختصار الصلوات ولكن أعرف أن هناك أناس مستهلكون في العمل، المخترعون مثلاً هم أناس مشغولون في الليل والنهار لكي ينجزوا الإختراع، ومع هذا يستطيعون ان يقولوا يا يسوع إرحمني، يستطيعون أن يكتفوا بكلمة يا يسوعي، هذا لا يتعارض مع الإنشغال في الإختراعات، هذا يسدي الحماس ويجدد الذاكرة ويجدّد النشاط.
يا يسوع إرحمني جملة تملأ القلب فرحاً وسروراً وبهجةً. المخترعون الكبار يحتاجون الى التسلية والتعزية والترويح عن النفس، عبارة يا يسوع إرحمني تنعشهم، يصابون بالإجهاد والكلال والملال والضجر والإرهاق والإجهاد، كلمة يا يسوع إرحمني تجدّد نشاطهم أكثر من إبر الفيتامنات، هؤلاء المجهودون هم المحتاجون أكثر من سواهم إلى إسم ربنا يسوع المسيح ليعزّيهم في ظروفهم القاسية من العمل والشدّة والضيق، الذين في المناجم هم المحتاجون أكثر من سواهم الى ذكر ربنا يسوع المسيح.
فلا شيء يمنع من أن ننصرف إلى ذكر الله بفرح وسرور وإغتباط بملء شخصي، يملأ الكيان برمته. ما الذي يمنع؟ الذي يمنع الكسل والفتور والضعف الديني والإنصراف عن الله إلى شؤون التفاهة. فالناس ويا للأسف الشديد يضيعون الوقت في التفاهات ويتنقلون من تفاهة الى تفاهة متوهمين أن ذلك يسلّيهم وفي النتيجة يفشلون ويصيرون في آواخر العمر إلى بؤس الشيخوخة بدون تعزية وتنتابهم الأمراض والأوجاع والخرف والشيخوخة البائسة وهم بلا تعزية وبينما المؤمنون يبقون متنعّمين في التعزيات الإلهية ولو بلغوا المئة من العمر، لا يأس عندهم ولا ضجر ولا ملل بل فرح في ربنا يسوع المسيح.
الأهواء الشبابية تؤدي بالناس إلى التلف، يهتمّ الناس بما هو زائل بما هو أرضي بما هو فانٍ، يهتمون بالطعام والشراب واللباس والمال والدُور والقصور والمناصب والمرابح والمكاسب، حلال حرام لا فرق عندهم، لا فرق عندهم ولكن تأتي الساعة الأخيرة ويخسرون أنفسهم. لا يمكن ان يدخل ملكوت السموات الذين يقضون العمر بدون توبة بدون رجوعٍ الى الله.
على الإنسان أن يتأمّل روحياً في هذا الوجود، يتأمل في ذاته في مصيره، أن يتسائل ويطرح على نفسه الأسئلة، من أين أتيت؟ إلى أين أذهب؟ لماذا أعيش؟ لماذا أنا موجود على وجه الأرض؟ ما معنى هذه الحياة؟ ما معنى هذا الوجود؟ هل الموت هو نهايتي؟ أليس من حياة بعد الموت؟ وما معنى هذه الحياة؟ وما نوع هذه الحياة؟ هل يسامحني الله بدون توبة؟ هل يمكن أن أدخل الحياة الأبدية وأنا قاسي القلب بلا توبة ولا ندامة، بلا خشوع ولا تقوى ولا عبادة؟ وهل يمكن أن أُفلت من عقاب الله إن قضيت العمر كلّه مستهتراً؟ أليس الله عادلاً؟ هل يمكن أن يُدخلني للفردوس وأنا عربيد؟ هذا مستحيل، الله عادل لا يتساوى عنده السكّير والعربيد وقطّاع الطرق والنسّاك والشهداء، هو رحيم ولكنّه عادل لا يساوي بين الظالم والمظلوم وإلا فقد صفةً هامة من صفاته ألا وهي العدل والإنصاف والنزاهة وعدم الإنحياز. فالله له المجد خلق هذا الكون الفسيح لكي أتخذ عِبراً منه فأمجّد الله على كل ما صنع، صنعك وصنع كلّ الأشياء لك، فكيف تنساه؟ كيف تدير ظهرك له؟.
في الفصل 10 والآية 30 من رسالة بولس إلى العبرانيين جاء: “الوقوع بين يديّ الله أمر هائل”. فلا يمكن أن يستهزأ المرء بالله ويُفلت من عقابه فالوقوع بين يديّ الله أمرٌ رهيبٌ مخيف. لا تنطح الصخور، لا تستطيع أن تخدع الله، لا تنطح الصخور، إن تورطت في صراع مع الله كنتَ الخاسر، لا يمكن ان تربح في المحاكماة مع الله، لا يمكن أن تربح في الصراع مع الله، ستكون فاشلاً. ولذلك قبل فوات الأوان على الإنسان انّ يفكر بعمقٍ كبير مستمر في مصيره.
لا تقل لي ثرواتي الضخمة علومي الضخمة تشغل بالي، كل هذا فارغ، علمك فارغ وأموالك فارغة ومناصبك فارغة إن كنت لا تحظى بيسوع المسيح، ولو كنت أعلم علماء التاريخ وأعلم من السابقين واللاحقين وكنت مُلحداً، فماذا تستفيد من علومك وفلسفتك؟ خسرت حياتك خسرت روحك خسرت الحياة الأبدية.
العلم في حدّ ذاته، المال في حد ذاته، المناصب في حدّ ذاتها، المجد العالمي في حدّ ذاته، الجمال في حد ذاته، كل شيء في حدّ ذاته لا يجديك نفعاً بدون عبادة الله، عبادة الله تعطي لكلّ شيء معناً. مات العلماء والملوك والرؤوساء والقادة العسكريون، ما بقي أحدٌ على وجه الأرض الكلّ ذهبوا كما يذهب الدخان في الهواء. ما قيمة الإنسان بعد أن تفارق جسده الروح؟ من يشتري الجسد؟ لا أحد يشتريه. ما قيمة الأجساد بعد الموت؟ لا قيمة لها. عندما نكون في الجسد ننتفخ ونفتخر لكلّ شيء، نفتّش الدنيا نطوف البر والبحر لنجد ريشة نفتخر بها. الطمع في الفخر مرض كل إنسان في العالم، كل إنسان في العالم لديه جوع ليفتخر، وفي النتيجة كل فخرٍ في العالم باطل ينتهي بالموت، الفخر الحقيقي هو ما قاله بولس الرسول: “أمّا أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا صلبتُ للعالم” هذا وحده فخر. وقال أيضاً مع أشعيا: ” من إفتخر فليفتخر بالرب”، الإفتخار بالرب فقط، الجوع الى الإفتخار، الجوع الى المفاخر والمدائح، هذا مرض عُضال موجود في كل إنسان ولكن نستطيع أن نتطهّر منه بالعبادة الحسنة بالإيمان الحار بربنا يسوع المسيح، ويجب أن نتطهّر منه لأنه مرض مضرّ ومؤذٍ وغير مفيد بل بالأحرى مضرّ روحياً، التواضع أفضل منه.
لستُ ضدّ الجدّية في الحياة ولكن أنا ضدّ الإفتخار بهذه الدنيا دون الإفتخار بربنا يسوع المسيح. قد يقول لي البعض إن كلامك قاسٍ، أين القساوة فيه؟ لا قساوة فيه لأن هو كلام الحقيقة، أنا أقول الحقيقة المجرّدة بدون غايات شخصية ولست متطرفاً إلا في الحق ولستُ عنيداً إلا في الحق، فإن قلت الحق هل أرجم؟ لا، سأقول الحق ما دمت حيّاً ولن أُداري أهواء الناس للباطل، أُداري الناس ليصيروا تلاميذ يسوع المسيح، إن كانوا يرفضون الرب يسوع المسيح فلا غاية لي فيهم.
الزمان علّمني الرفق، صرت على أبواب السابعة والثمانين من العمر، أنا اليوم في 2009/12/9 لم أعد قادراً على التشدّد. العمر يفرض عليّ الملاطفة والملاينة لأربح الناس، لأربح واحداً للمسيح، فلستُ بقاسٍ ولكنني أعرف انّ كلّ شيءٍ باطلٌ، أعرف ان نهاية الإنسان هي القبر، وإذا كانت نهايتي القبر فهمومي الجسدية كلّها باطلة إن لم يكن فيها مجد الرب، أنا لست من القائلين بنحر الجسد ولكن من القائلين بتمجيد الجسد، فالجسد يحتاج الى النعمة الإلهية يحتاج الى التقديس، وبولس الرسول نصحنا في هذا صراحةً في الفصل 6 من رسالته الثانية الى كورنثوس، علينا أن نطهّر النفس والجسد علينا أنّ نقدّس النفس والجسد بمخافة الله، فأنا لا أفصل بين الروح والجسد ولكن أطلب القداسة للروح والجسد أيّ يجب أن تكون تصرفاتي الجسدية نفسها مقدّسة، أن أستعمل جسدي إستعمالاً روحياً مقدساً ليمتلىء هو نفسه من النعمة الإلهية.
النور الذي أشرق من أجساد القديسين أشرق من أجسادهم المقدسة الممتلئة من الروح القدس. فلا فصل عندي بين الروح والجسد لأني أؤمن أن الإنسان شخصٌ واحدٌ في جوهرين هما الروح والجسد، والإثنان محتاجان الى القداسة والتألّه والإمتلاء من الروح القدس ومن النور الإلهي. وكيف يكون هذا وأنا لا أعيش مع الله؟ فيجب أن أكون مجنّداً في الحياة الروحية، والتجنيد يعني جمع الطاقات برمّتها ووضعها في حلبة الصراع، فأصارع الشرور والشياطين لصالح يسوع المسيح والمقابل هو الإمتلاء من الروح القدس، هذه هي غاية الحياة. أين المهرب؟ لا مهرب، إمّا أن تكون مع يسوع وتدخل الفردوس وإمّا أن تكون ضدّ يسوع وتذهب الى جهنم، ليس لديّ خياران، الخيار واحد، إمّا يسوع وإمّا جهنم. أليس هناك من خيار ثالث؟ كلا ليس هناك من خيار ثالث إمّا أن تكون مع يسوع وإمّا أن تكون ضدّ يسوع.
إن كنت مع يسوع أنت ترث الحياة الأبدية، وإن كنت ضدّ يسوع فمصيرك في جهنّم النار الى أبد الآبدين، عذاب لا نهاية له. فقبل كل شيء أجرى الحسابات الدقيقة وقرّر مصيرك. إن إخترت الحياة الدنيوية فنصيبك في جهنم وإن إخترت الحياة الروحية الملائكية فنصيبك في الفردوس مع يسوع. هل تدير ظهرك ليسوع لكي تستقبل الشيطان وترافقه إلى جهنم؟ أنت في الخيار إمّا يسوع وإمّا الشيطان، والخيار عسير جداً جداً.
شهواتنا ملذاتنا أموالنا أهلنا آباؤنا أخوتنا أملاكنا كتبنا مشاغلنا دورِنا عالمنا، كيف نستطيع أن نتخلّى عنهم؟ أنا لا أقول لك تخلّى عنهم، أقول لك إرفع رأسك إلى الله، إرفع عينيك الى الله. مع وجودك في هذا العالم بين الأهل والصحب والمعارف والمناصب والأموال والأعمال والأشغال دَعْ قلبك يكون مع يسوع، إجعل يسوع أن يدخل في أعمالك، قدّس أعمالك بذكر يسوع، قدّس دراساتك بذكر يسوع، قدّس يومك بذكر يسوع الدائم، لا تنقطع عن ذكر يسوع والتأمل في يسوع والتأمل في الإنجيل والكتاب المقدس ومطالعة كتب الأنبياء القديسين والتأمل في هذا الكون البديع لتمجّد الله وتسبّحه في كل حين، كلّما وقفت في غابة، على رأس جبل، كلّما وقفت على شاطىء البحر، كلّما وقفت في موقف جميل إشكرْ الله وسبّحْ الله الذي خلق هذا الكون البديع خلق هذا المنظر البحري الأزرق الرائع، خلق الجبال والتلال والغابات والصنوبر والأرز وأشكال الفاكهة وخلق لنا هذه الدنيا. ينابيع المياه، الأمطار، كل شيء في هذا الكون يمجّد الله ويدعوك أنت الى تمجيده.
لا تقلع عينيك في الأرض إرفعْ عينيك الى السماء، لا تُطمِرْ رأسك وعينيك في التراب والرمال إرفعْ رأسك الى فوق وأدّي الحمد والشكر والسبحَ الى الذي صنعك، الى الآب والابن والروح القدس، هذا التهليل هو الذي يعطي الحياة معناً حقيقياً. أنت ترى كل شيء إلى زوال وكل البشر إلى التراب وكلّ الأموال إلى الزوال ولا يبقى شيءٌ بدون زوال وسيأتي يوم الطوفان العظيم الذي تلتهم فيه هذه الأرض وتفنى. فلماذا تركض وراء التراب؟ وتقبّل التراب؟ وتتوهم أنّك أنت ملكت الدنيا والأرض؟ ما مَلَكَ الأرض أحدٌ، ملك السموات والأرض هو واحدٌ، هو الله، هو ملك الملوك وربّ الأرباب وسيّد السادة وكل رئاسة وسلطان. ولذلك على كلّ إنسان في العالم أن يؤدّي السجود لهذا الملك الذي وحده يَملك في السماء وعلى الأرض وفي كل مكان، الذي له وحده يجب السجود والإكرام والعبادة، وبه يليق كلُّ مجدٍ وإكرامٍ الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
فيا إبن آدم أنت من تراب والى التراب ستعود. لماذا ينتفخ التراب على الله؟ لماذا تترفّع؟ لماذا تنتفخ؟ لماذا تتباهى؟ عُدْ الى الله تائباً نادماً خاشعاً، وإجعل ذكر الله في قلبك كل حين، إلهجْ به في الليل والنهار.
أعود وأكرّر أنا لا أقول لكم يا بشر إقضوا نهاركم وليلكم في الكنيسة مصلّين، بيتك كنيسة معملك كنيسة مكتبك كنيسة دائرتك كنيسة مخزنك كنيسة. تستطيع ان تذكر الله في كل مكان. في المزمور 102 في نهايته “في كلِّ موضعٍ من مواضع سيادته باركي يا نفسي الرب”، فأين سيادته؟ سيادته في كل مكان، ففي كل مكان تستطيع أن تبارك الله وتسبّحه وتشكره. الله الذي أعطانا كلّ شيء أيّ شيءٍ لم نأخذه منه، هذه الأرض التي تعجّ بالبشر وتعج بالموجودات لإستعمال الإنسان، مَنْ خلقها؟ من أعطانا إيّاها؟ كل ما يستعمله البشر على وجه الأرض مَنْ أعطانا إيّاه؟ الله. أدوات العالم من أين هي؟ أموال الأغنياء من أين هي؟ الطعام والشراب واللباس من أين هما؟ هل حصلنا على شيء من العدم، نحن مخترعون نخترع من الأشياء التي أعطانا إياها الله، نزرع الحنطة نطحنها نصنع منها خبزاً، نأكل الخبز ونغتذي من الخبز، هذا كلّه من الله. نشرب الحليب، مَنْ خلق البقر والغنم والماعز وكلّ الحيوانات التي تدرّ لنا اللبن والحليب والجبن واللبنة؟ الله. فسبّح الله ومَجِّدْ الله في كل شيء وعلى كل شيء.
الشكر لله، يجب أن يكون هدف من أهداف حياتنا وأن يكون هذيذ من جملة الأمور التي نلهج بها. كلّ يوم نأكل، هل نشكر الله على الأكل؟ فمرض البشر الكبير هو أنّ عيونهم تنظر بدون بصيرة، عيونهم حائرة في هذا العالم، عيونهم مجنّدة في هذا العالم، أعطوا شيئاً من تجنّدكم ليسوع المسيح، أعطوا شيئاً من وقتكم ليسوع المسيح، إرفعوا أذهانكم من الأرض إلى السماء.
الإنسان ينتحر، نعم الإنسان ينتحر لأنّه يجعل عينيه في الأرض ولا يريد أن يبصر ما في السماء، والمطلوب روحياّ هو الإلتفات الى السماء، هو التغنّي بأمجاد الله، هو الترنيم والتسبيح والشكر والحمد للإله الذي صنعنا وجبلنا وأعطانا كل هذا الكون لنتمتّع به بشرف وطهارة وإستقامة، لا لكي نعبد أمور هذه الأرض، لكي لا نعبد المال والخمر والطعام والشراب واللذات الجسدية الفانية والمطامع التافهة. فكلّ ما يجري على الأرض يحتاج إلى التجديد في يسوع المسيح، لا يمكن أن نغيّب يسوع المسيح عن أيّ شيء في الأرض، يجب أن يكون حاضراً في كل شيء، في أعمالنا في دراساتنا في أهلنا في علاقاتنا بالناس، في علاقاتنا بالأهل والصحب، في العلاقات العائلية بين الزوج والزوجة والاولاد والاخوة، في كل شيء يجب أن يكون يسوع حاضراً، وبحضوره يُقدّسُ كل شيء، يقدّس الزوجين ويقدّس الأبناء والاخوة والأهل والأصحاب، ويجب أن نقرّب الأهل والأصحاب والناس أجمعين ذبائح روحيّة لله، فنصلّي من أجل كلّ إنسان في العالم لكي يكون ذبيحةً مقدسةً لله.
أنا ذكرت أن المسيحيين ممسوحون بالميرون، فهم كهنة يقدّمون أنفسهم والآخرين ذبائح، هذه الوظيفة الكهنوتية يجب أن نمارسها طول العمر، فنكرّس أنفسنا والآخرين وأهلنا وأصحابنا ومعارفنا لله، لكي يسكب الله روحه القدّوس في قلوب الناس أجمعين، لكي نجتمع جميعاً في الأرض كلّها على تمجيد الإله الذي صنعنا وخلقنا والذي منه نرجو أن ننال الحياة الأبدية، في المجد الأبدي حيث لا نوم ولا غفلة، بل يقظة دائمة في الأنوار الإلهية في السبح والحمد والشكر والتهليل لله العظيم صانع السماء والأرض والبحر وكلّ ما فيهما، الذي له تُسبِّح المكلائكة بغير فتور وله يسجدون له المجد والإكرام والسجود إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
Discussion about this post