اليوم التاسع من شهر شباط
تذكار أبينا المعظم القديس مارون
(السنكسار الماروني)
أشرقت أنواره على جبال قورش شمال سورية، فهدَت النفوس إلى الحق، يوم كانت البدع تعيث فساداً في تلك الأنحاء.
أبو الطائفة المارونية ورافع لواء إيمانها مدى الأجيال.
إن العلاّمة المؤرّخ الشهير تيودوريطوس أسقف قورش في كتابه ” تاريخ الرهبان والنساك”، يأتي على أعمال المتنسكين العظام، وفي طليعتهم “مارون الإلهي” كما يسميّه.
” لقد زيّن مارون، يقول المؤرّخ، طغمة القديسين المتوحشين بالله ومارس ضروب التقشفات والإماتات تحت جو السماء، دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها الا نادراً.
” وكان هناك هيكل وثنيّ قديم، فكّرسه مارون، كما يقول تيودوريطس، وخصصه بعبادة الإله الواحد، يحيي الليالي بذكر الله وإطالة الركوع والسجود والتأملات في الكمالات الإلهية، ثم ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وتعزية المصابين.
” كل هذا لم يكتفِ به مارون، يضيف المؤرخ، بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكاملة، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال فيكون جزاء المحارب على قياس عمله. وبمَا أنَّ الله غني كثير الإحسان إلى قديسيه منحه موهبة الشفاء فذاع صيته على الآفاق كلها فتقاطر إليه الناس من كل جانب. وكان جميعهم قد علموا أن ما اشتهر عنه من الفضائل والعجائب هو صحيح وبالحقيقة كانت الحمّى قد خمدت من ندى بركته والأبالسة قد أخذوا في الهرب والمرضى كلهم بَرئوا بدواء واحد هو صلاة القديس، لأن الأطباء جعلوا لكل داء دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواء شاف من جميع الأمراض”.
ولم يقتصر القديس مارون على شفاء أمراض الجسد بل كان يبرئ أيضاً أمراض النفس.
ويختتم الأسقف الكبير بقوله:” والحاصل أن القديس مارون أنمى بالتهذيب جملة نباتات للحكمة السماوية وغرس لله هذا البستان فأزهر في كل نواحي القورشية”.
اعتزل مارون الناسك الشهرة واختلى علة قمَّة جبل، فشهرته أعماله التقوية وانتشر عرف قداسته. والقديس يوحنا فم الذهب ذكره في منفاه وكتب إليه تلك الرسالة النفيسة تحت عدد 36، العاقبة بمَا كان بين الرجلين من محبة روحية واحترام وأخَّوة في المسيح قال:
” إلى مارون الكاهن الناسك. إنَّ رباطات المودة والصداقة التي تشدُّنا إليك، تمثلك نصب عينينا كأنك حاضر لدينا، لأن عيون المحبة تخرق من طبعها الأبعاد ولا يضعفها طول الزمان. وكنا نودُّ أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقَّة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنا نهدي إليك أطيب التحيات ونحب أن تكون على يقين من أننا لا نفتر عن ذكرك أينما كنَّا، لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنَّ انت ايضاً علينا بأنباء سلامتك، فإن أخبار صحتك تولينا، على البعد أجل سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا فتطيب نفسناً كثيراً، إذ نعلم أنك في عافية. وجلًّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا”. (في مجموعة مين للآباء اليونان مجلد 72 عمود 63).
ما انتشرت سمعة الكاهن مارون الناسك حتى تكاثر عدد الرهبان حوله فأقامهم أولاً في مناسك وصوامع على الطريقة الانفرادية، بحسب عادة تلك الأيام، ثم أنشأء ادياراً وسنَّ لهم قانونا وقام يرشدهم في طريق الكمال. وتعددت تلك الأديار المارونية ولا سيما في شمالي سورية، حتى أن تيودوريطس يغتبط بوجودها في أبرشيته.
وكانت وفاة مار مارون في السنة الأربع مئة والعشر.
مات القديس مارون متنسكاً عفيفاً، ولكنه لم يمت حتى رأينا أبناءه الروحيين المشرَّفين باسمه، ينتشرون الوفاً تحت كل كوكب. غير أن المارونية تركز كيانها في لبنان وفيه بسقت دوحتها وامتدت أغصانها إلى أنحاء الدنيا. وما زال أبناؤها، مغتربين ومقيمين، يستشفون كل حين، أباهم القديس مارون، صارخين إليه:
بـاسمك دعـينا يـا أبـانـا وعـلـيك وطّـدنـا رجـانـا كـن في الضيقات ملجانا وأختم بـالخير مسـعـانـا
Discussion about this post