اليوم السادس والعشرون من شهر حزيران المبارك
تذكار الطوباوي يعقوب الكبوشي
– حياته –
حول ولادته ونسبه
وُلد خليل (المكرّم “أبونا يعقوب”) في أوّل شباط سنة 1875، في بلدة غزير.
والده بطرس صالح الحدّاد، والدته شمس يواكيم الحدّاد، وهما والدان صالحان يتحلّيان بروح التقوى والفضائل المسيحيّة. يقول أبونا: علّمتني أمّي:
“إعمل كلّ شيء واحتمل كلّ شيء حبًّا لله”؛
“يا ابني في ساعات الشدّة، صلِّ بمسبحة أمّكَ “؛
“إيماني إيمان بطرس”.
وعلّمني أبي:
الواقعيّة، وصواب الرأي مع حبّ النكتة البريئة وشيءٍ من تصلّب الإرادة…
نشأته :
قبلَ خليل سرّ العماد في كنيسة سيّدة الحبشيّة في الحادي والعشرين من شهر شباط سنة 1875، ونشأ في بلدته غزير، يتعلّم في مدرسة الرعيّة مار فرنسيس، ثمّ انتقل إلى مدرسة القدّيس لويس المعروفة بمدرسة المزار، ليلتحق، فيما بعد، بمدرسة الحكمة في بيروت، متخرّجا منها سنة 1891. وكان طالبًا ذكيًّا متفوّقًا بارزاً في تقواه وتعبّده للعذراء مريم.
سافر إلى الإسكندريّة سنة 1892 مزاولاً التعليم، كي يُعين والديه على تربية إخوته، فكان معلّما ناجحا يغذّي طلاّبه بالفضيلة والمعرفة، وشابًّا تقيًّا عاكفا على العبادة والتأمّل في حياة المسيح. وهناك سمع صوت الدعوة ليهجر العالم ويحمل الصليب ويتبع المسيح. قال: “سأصير كاهنًا”.
عاد إلى غزير، وراح يجاهد بالسيرة والرّوح والصلاة ليقنع أباه بطرس بدعوته الرّهبانيّة الكبّوشيّة إلى أن تحقّقت له أمنيته، ودخل دير مار أنطونيوس خشباو للآباء الكبّوشيّين في 25 آب سنة 1893. يُذكَر أنّه قال حينها: “دخلت طيِّب وما بضهر إلاّ ميِّت”.
لبث في الطالبيّة الكبّوشيّة ثمانية أشهر عاملاً في جنينة الدير، متمثّلاً بيسوع فتى النّاصرة، مبديا الميل إلى الحياة الرّهبانيّة وما يترتّب عليها من فقر وعفّة وطاعة، مبرهنا عن دعوة صافية للترهّب، ممتلئا بحبّ الخدمة والصلاة.
مرحلة الابتداء
دخل مرحلة الابتداء الرّهبانيّ، وهو بعدُ في دير مار أنطونيوس خشباو، ليتعلّم طريق السلوك الرّهبانيّ وما تستلزمه الحياة الرّهبانيّة من فضائل وكمال. وفي السادس والعشرين من شهر آذار سنة 1894، ألبسه رئيس الدير ثوب الابتداء متّخذًا له اسم الأخ يعقوب.
سار الأخ يعقوب الحدّاد الكبّوشيّ طريق الابتداء بكلّ قناعة ومثاليّة، فكان قدوة صالحة في جميع تصرّفاته، مستسلما للعناية الإلهيّة، متجاوبا مع إرادة المسؤولين عنه بطاعةٍ وفرحٍ وأناةٍ ودماثة خُلقٍ، متمثّلاً بالقول الإلهيّ: “ما مِن أحدٍ يضع يده على المحراث، ثمّ يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله” (لو62:9). وكان، كلّما شعر بشدّة أو ضيق، يلجأ إلى الصليب، متمثّلاً بقداسة أبيه مار فرنسيس الأسيزيّ، ومستنيرًا بفضائله، فيزداد ارتياحًا إلى الحياة الرّهبانيّة، حياة الصليب والقداسة.
إقترع الرّهبان بالاجماع على أهليّة الأخ يعقوب قبل النّذور. وفي الرّابع والعشرين من شهر نيسان سنة 1895، أبرز النّذر البسيط؛ وبعد ثلاث سنوات، أبرز النّذر المؤبّد في اليوم الرابع والعشرين من نيسان سنة 1898.
كهنوته
إنتقل الأخ يعقوب إلى دير القريّة إتماما لدروسه الكهنوتيّة، التي كان قد بدأها في دير مار أنطونيوس خشباو، منتظرًا يوم سيامته كاهنا، تائقا إلى النّهار الذي يقدّم فيه الذبيحة الإلهيّة للمرّة الأولى: “أعطني، يا إلهي، أن أقدّم ولو ذبيحة واحدة، وبعد إذا شئتَ أن تأخذني إليكَ فأكون معزًّى ومسرورًا”.
إقتبل درجات الكهنوت شمّاسا رسائليا (1899)، وشمّاسا إنجيليا (1900)، وفي أوّل تشرين الثاني سنة 1901، رقّاه المونسنيور دوفال الدومينيكانيّ الفرنسيّ، القاصد الرّسوليّ في لبنان وسوريا، إلى درجة الكهنوت. وأقام قدّاسه الأوّل في كنيسة مار لويس في بيروت (باب ادريس).
شخَصَ إلى بلدته غزير ليحتفل بقدّاسه الثاني على مذبح دير مار فرنسيس، تعزيةً لوالدَيه وإخوته وأبناء بلدته.
رسول الشّعب
أقام “أبونا يعقوب” في دير بيروت، وراح يعمل بجدّ ونشاط وغيرة رسوليّة وثّابة، فنال إعجاب رئيسه لما رأى فيه من جهاد حيّ في خدمة الربّ، فوجّهه إلى أعمال الرّسالة، فشرع يُنشئ المدارس الابتدائيّة للصبيان والبنات في قرى لبنان منتقيا لها المعلّمين الصالحين الجديرين بهذه الرّسالة الشّريفة.
كان “أبونا يعقوب” يتعهّد بنفسه مدارسه، فيزورها مشيا على قدميه، متفقّدًا شؤونها، غير آبهٍ بالتعب والعناء والمشقّة. وكانت غيرته الأبويّة الرّسوليّة تدفعه إلى العناية بإعداد الأحداث للمناولة الأولى، فيشرف بنفسه على تعليمهم لقبول القربان الأقدس. وقد شهد معاصروه على أنّه كان يقيم المهرجانات الرّوحيّة والتطوافات المقدّسة بالقربان الأقدس أو بأيقونة العذراء، ويأخذ طلاّبه والثالثيّين في زيارات حجّ إلى معابد العذراء وبخاصّة معبد سيدة لبنان.
ومع المشاريع المدرسيّة أنشأ “أبونا يعقوب” “الرّهبانيّة الثّالثة” للرجال والنّساء، تيمّنًا بأبيه القدّيس فرنسيس الأسّيزي، ونشر مبادئها ونظامها في المدن والقرى سنة 1906. وكان يؤهّب أعضاءها بالرياضات الرّوحيّة، والوعظ، والإرشاد، ويزورهم مشيا من قرية إلى قرية، ليلتقي بالأعضاء ويحرّضهم على أن يكونوا المثال الصالح بالسيرة والسلوك والصلاة، وهذا ما أمّن للرّهبانيّة الثالثة الانتشار والديمومة والاستمرار. كان يريدهم رسلاً جددًا في كنيسة المسيح، وخميرةً في عجين المجتمعات اللّبنانيّة…
أمّا اليوم فما زالت هذه الرّهبانيّة الثّالثة تنتشر في ضياعنا ومدننا، يسهر عليها مؤسّسها بقداسته وصلواته، ويدير شؤونها نخبة من العلمانيّين، الذين عُرفوا بالتّقوى والصّلاة والوفاء، ويسهر عليها الإخوة الكبّوشيّون.
لم يقتصر الهمّ الرّسولي عند “أبونا يعقوب” الكبّوشيّ على بلاده وحسب، بل تعدّاه إلى فلسطين والشام وبغداد، وكانت جوارحه تحنّ إلى التبرّك بزيارة الأماكن المقدّسة في فرنسا وإيطاليا، فسهّل له رؤساؤه أمنيته وسافر إلى فرنسا، ثمّ الى روما حيث حظي بمقابلة قداسة الحبر الأعظم البابا بيوس العاشر سنة 1910.
سنة 1914، اشتعلت الحرب العالميّة الأولى، فاضطرّ رفاقه الكهنة الفرنسيّون إلى مغادرة لبنان، ففوّض إليه رئيسه الأب جيروم كلّ أمور الرّسالة، ومن ضمنها رعاية أديرة الرَاهبات الأوروبيّات، على الصعيدَين الرّوحيّ والمادّيّ. تعرّض “أبونا يعقوب” خلال تلك الحرب، لأهوال مميتة وأخطار شرّيرة، إلاّ أنّ يد الرّب كانت معه تردّ عنه المكايد والمخاطر وتنقذه من أيدي الشرّ.
رسول الرّحمة في مملكة الصليب
في غمرة أعماله المتواصلة وأتعابه الدّائمة، راود “أبونا يعقوب” حلم رفع صليب جبّار على إحدى التلال، لأنّه رأى ما دهى لبنان في الحرب الأولى من كوارث ومآسٍ، وقد مات عشرات الألوف من أبنائه جوعاً وشنقا ونفيا، دون أن يُقام الصليب على قبورهم، ليُصبح هذا المشروع مكانًا لتجمّع الثالثيّين، للصلاة على نيّة كلّ الذين ماتوا أثناء الحرب وللصلاة على نيّة المغتربين.
قد تحقق الحلم
في إطار تفتيشه عن مكان لرفع الصليب، لفتت أنظاره رابية في جلّ الديب، كانت تُدعى “تلّة الجنّ”، فاشتراها بعد طول عناء في 25 آب سنة 1919، وأقبل على تحقيق المشرروع متّكلاً على عناية الله وفلس الأرملة. إنتظر “أبونا يعقوب” زيارة الرّئيس العامّ للكبّوشيّين، الأب جوزف برسيستو، لوضع الحجر الأساسيّ ومباركته، وكان ذلك بتاريخ 19 كانون الثاني سنة 1921. وارتفع البناء، وانتهت الكنيسة أوّلاً، فكُرّست على اسم سيّدة البحر، وتمّ تدشينها في 3 أيّار سنة 1923 بوجود عدد كبير من الثالثيّين. وقد وُضعَ تمثال للسيّدة العذراء حاملة الطّفل يسوع، وعلى قدميها مركب مسافرين. وأخيرًا رُفع من الجهة الغربيّة للكنيسة صليب كبير، فتحقّق الحلم، حلم “أبونا يعقوب”.
كان مؤمنًا بأنّ الكاهن هو سفير الله على الأرض ووزيره. لذلك، وبعد التّدشين، استقبل في 4 تشرين الأوّل سنة 1926، أوّل كاهن وجده مهملاً ومتروكًا في أحد المستشفيات، لينهيَ حياته بكرامة في الصلاة والقداسة، وتبعه فيما بعد كهنة آخرون. ومرضى ومُقعَدون من أديان ومذاهب مختلفة. ولمّا ضاق بهم المكان، فتح لهم مراكز أخرى خاصّة بهم. يومها شعر أبونا يعقوب، في الصّميم، بالحاجة الماسّة إلى تأسيس جمعيّة رهبانيّة تُعنى خاصّةً بأولئك الكهنة والمرضى، فبدأ مشروعه الكبير، متّكلاً على العناية الإلهيّة، مع مجموعة صغيرة من الفتيات الثالثيّات، عهد بتنشئتهنّ إلى الراهبات الفرنسيسكانيّات اللونس لو سونيه، ليصبحن فيما بعد جمعيّة راهبات الصليب الفرنسيسكانيّات اللبنانيّات.
“أبونا يعقوب“ ورجال لبنان
إنّ أشغاله العمرانيّة الكثيرة جعلته على اتّصال بالحكومات المتسلسلة وبرجالات لبنان. وقد زار دير الصليب أكثر من شخصيّة مسؤولة، منهم:
الرّئيس اميل ادّه، الذي منحه وسام الاستحقاق اللبنانيّ ذا السعف (في 5 كانون الثاني 1938)؛ والرّئيس بشارة الخوري الذي منحه وسام الاستحقاق اللبنانيّ المذهّب (في 2 حزيران 1949)، وأتبعه (في 26 تشرين الثاني 1951) بوسام الأرز اللبنانيّ برتبة ضابط؛ والرّئيس كميل شمعون منحه لدى وفاته وسام الأرز المذهّب (في حزيران 1954). أمّا هو فكان يقول: “أنا وِسامي الصليب”.
ومثلما قدّره وكرّمه رؤساء الجمهوريّة، قدّره وساعده كبار الشخصيّات اللبنانيّة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر دولة الرئيس سامي الصّلح، والوزير حكمت جنبلاط، والمير مجيد إرسلان، والرئيس عمر الداعوق… هذا بالإضافة إلى شهرة عالميّة إذ كتبت عنه صحف إيطاليا وإسبانيا، وكلّها تغدق المديح والثناء على الأب المؤسّس ومشاريعه الإنسانيّة الخيّرة.
“أبونا يعقوب” واليوبيل الذهبيّ الكهنوتيّ
سنة 1951، بلغ “أبونا يعقوب” السنة الخمسين من ارتقائه إلى درجة الكهنوت المقدّس (1901)، وتحوّل في هذه السنة عينها دير الصليب من مأوى إلى مستشفى للأمراض العقليّة والنّفسيّة، إثر اعتراف الحكومة اللبنانيّة به رسميًّا، فكان الاحتفال اليوبيليّ مزدوجًا، مُنح خلاله وسام الأرز اللبنانيّ.
“أبونا يعقوب” يسلّم الأمانة
بعد هذا العمر الحافل بالجهاد المستمرّ، انتهى “أبونا يعقوب” إلى انحطاط جسديّ، غالَبَ فيه المرض وقلّة النظر. وعندما أنبأه صديقه الأب دوبري لاتور حقيقة وضعه الصحيّ، فرح وابتهج لأنّه ذاهب إلى لقاء أبيه السماويّ. ولمّا اشتدّ عليه المرض قال للرّئيسة العامّة الأم ماري عبدة المصلوب زغيب المهتمّة بمعالجته والعناية به: “لم يعد من لزوم أن تتعذّبي، يا ابنتي، لقد عملتِ كلّ واجباتك فاتركيني أذهب للقاء ربّي”. وقد اعتبر موته انتقالاً من غرفة إلى غرفة فقال: “إنّي سأنتقل إلى السّماء، ولا أزال أعاونكِ…فلا تخافي…أوصيكِ بالرَاهبات”.
بعض أقواله:
“لا سماءَ إلاّ بالصليب، روحي وقلبي في الصليب”.
“لبنان تكريمُ الصليب وديعةٌ
فلأنتَ كنتَ لحِفظِها المختارا
فارفعْ صليبَك فوقَ أرزِكَ فاخرا
فكفاك مجدا أن يكونَ شعارا”
صليبنا النتصر إفرحوا يا شعوب
قد علّمَ المصلوب سعادةَ البشر.
لا فخراً إلاّ بالصليب ينبوع نعمتنا العجيب.
ليتنا عندَ النهوض من النوم ننظُر إلى الصليب بدل المرآة.
*فرّحتَ قلبي يا أيها الصليبْ
صليبَ ربّي ومُنقذي العجيب.
*يا صليب الربّ يا حبيب القلب.
*كلّنا للصليبْ للعُلى للسّما
كلّنا للحبيب لأمّه مريما.
إنّ اكبر صليب هو الخوف من الصليب.
موضوع المحبّة اثنان: الله والقريب.
وفي الواقع الموضوعُ واحد: أي الله وصورتُه.
حبّ يسوع لنا صادقٌ.
لأنّه ليس من الذين يأتون واضعين العسل على الشفّة
والسمّ في القلب.
*الموتُ ولا العيشُ نصف مسيحي.
لا تُمسك الجريدة الرديئة إنّها تُسَوّدُ الأصابع،
وهكذا قراءتُها فهي تُسَوِّدُ عقول البشر وقلوبهم.
إنّ نشرَ الكتابة الجيّدة هو أهمُ عملٍ
وأنفعُه في الأيام الحاضرة.
الخطيئة هي عمل الإنسان
والإنسان عمل الله
أحبِبْ عمل الله
واكرَه عملَ الإنسان.
أكبر جُرْم في عصرِنا هوَ الإبتعاد عن القربان.
إزرعوا برشاناً تحصدوا قدّيسين.
“أنموا واكثروا” ملأت الأرض بشراً
وهذا هو جسدي “ملأت الأرضَ يسوعا
صنعَ القربان ليمكُث معنا.
تأكل الخبز فيقودُكَ إلى القبر،
تأكل جسد الربّ فيعطيكَ الحياة…
“إنّ سعادة الإنسان ليست في المال الذي يملكه بل في الخير الذي يصنعه.
الذهب ثمين، والوقت ثمين به نشتري الأبديّة.
والوقت لا عوَضَ له، كالماء الخارج من العين، لا يعودُ إليها.”
Discussion about this post