رسالة رسولية
“أمكث معنا يا رب”
للسنة الإفخارستية
مقدّمة
1- “أبق معنا يا رب، فالمساء يقترب” (لوقا 24، 29).
هذه هي الدعوة التي وجّهها تلميذا عماوس ليسوع المسيح مساء يوم القيامة. فقد كان الحزن يعصر قلبيهما، ولم يفهما أن المسافر الغريب هو يسوع المسيح القائم من الموت. ومع ذلك فقد كان قلبهما “متّقدًا في داخلهما” بينما كان يفسّر لهما الكتب. واستطاع نورُ الكلمة أن يليّن قساوة القلب، فانفتح قلبهما وانفتحت “أعينهما”. ففي ظلام المساء وظلمة قلبهما، كان المسافر بمثابة قبس نور أحيا فيهما الرجاء والرغبة في النور الكامل. “أبق معنا”. وقَبِِلَ. بعد قليل سيختفي وجه يسوع، لكنه سيبقى تحت شكل الخبز المكسور الذي انفتحت أعيتهما أمامه.
2- صورة تلميذي عماوس تساعدنا في هذا السنة التي تركّز فيها الكنيسة على سر الإفخارستيا. فالمسافر الإلهي يرافقنا في طرق حياتنا المليئة بالأحزان والقلق وجميع أنواع الإحباطات، ويفسّر لنا الكتب في ضوء سرّ الله. وعندما يكتمل اللقاء، يتبع نورَ الكلمة النورُ المنبثق من “خبز الحياة”، الذي يحقق المسيح من خلاله وعدَه بأن يبقى معنا “طول الأيام إلى منتهى الدهر”.
3- إن “كسر الخيز”، كما كانت تدعوه الكنيسة الأولى، هو منذ البدء مركز حياة الكنيسة. فالمسيح يأوّن من خلاله سرَّ موته وقيامته. وفيه يُقبل المسيح، هو “الخبز النازل من السماء”، وفيه نُعطى عربون الحياة الأبدية، ونتذوّق الوليمة الأبديّة في أورشليم السماوية. وقد دعوت الكنيسة أكثر من مرّة الى التفكير في سرّ الإفخارستيا، لا سيما في رسالتي الأخيرة “الكنيسة من الإفخارستيا”، واضعًا نفسي فى خطّ من سبقني وفي ضوء تعليم الكنيسة الرسمي المتواصل. لا أريد أن أكرّر في هذا الرسالة ما سبق وقلته، إنما أقول أن تكريس سنة كاملة للتفكير في سرّ الإفخارستيا أمرٌ فيه الكثير من الفائدة.
4- تعلمون أن سنة الإفخارستيا تمتدّ من تشرين أول 2004 إلى تشرين أول 2005. وقد حملني على تحديد هذا التاريخ حدثان يقعان في بداية السنة وفي نهايتها. الحدث الأول هو المؤتمر القرباني التي سيُعقد في المكسيك من 10 – 17 تشرين أوّل عام 2004، واحتماع سينودس الأساقفة التي سيتم من 2 – 29 تشرين أول عام 2005 حول موضوع: ” الإفخارستيا نبع وقمّه رسالة الكنيسة”. هنالك حدث آخر ألهمني، وهو يوم الشباب العالمي الذي سيتم في كولونيا (ألمانيا) من 16 – 21 تشرين أول عام 2005. أريد أن تكون الإفخارستيا المحور الذي يهدي الشباب في صلاتهم وتفكيرهم. كانت هذه الفكرة تراودني منذ زمن طويل، وهي تشمل التطور الرعوي للخط الذي أعطيته للكنيسة في سنوات التحضير للإحتفال باليوبيل الكبير وما تلاه.
5- أودّ في هذا الرسالة أن اركّز على الاستمرار الراعوي لهذا الخط، كي يسهل على الجميع الوقوف على طبيعته الروحية. أما بخصوص التطبيقات العملية لهذه السنة، فأعهد بذلك الى الأساقفة الذين سيقومون بما يرونه مناسبًا، لا سيما وأنه سيكون من السهل على الأساقفة أن يروا أن موضوع الأفخارستيا، والذي يأتي بعد سنة المسبحة الوردية، لا يتعارض بأي شكل مع البرامج الراعوية التي وضعتها مختلف الأبرشيات، لا بل ستلقي عليها نورًا إضافيا وستساعد المؤمنين على تأسيس عملهم الروحي على سرّ الإفخارستيا. لذا، لا أطلب أن تتوقف الأبرشيات عن برامجها الراعوية، بل أن تطعّمها بسر الإفخارستيا. من هنا أعرض بعض الأفكار العامّة وأنا على يقين من أن شعب الله سيقبلها بطواعية ومحبة كبيرة.
القسم الأول:
في ضوء المجمع واليوبيل.
النظر الى المسيح
6- كنت قد رسمت للكنيسة قبل عشر سنوات الخطوط العامة للتحضير لليوبيل الكبير عام 2000. رأيت نعمة اليوبيل تقترب، ولم اعتقد يومًا ان مجرّد مرور الوقت سيحقّق تغييرات كبيرة. لا شك أنه حدثت أمور كثيرة إيجابية، لكن أمورًا أخرى مؤلمة حدثت اتّصفت بالعنف وسفك الدماء، وما زالت. لكني عندما صممّت على الاحتفال بسنة اليوبيل، كنت واثقًا – وما زلت – أني أعمل في سبيل خير البشرية على المدى البعيد. فالسيد المسيح موجود في قلب تاريخ البشرية كما هو موجود في قلب تاريخ الكنيسة. وكل شئ يتجدّد به. أكرّر هنا ما قاله البابا بولس السادس أن “المسيح هو قمة التاريخ البشري وفرح كل القلوب وملء جميع التطلعات”. وقد ساعد تعليم المجمع الفاتيكاني على تعميق فهم طبيعة الكنيسة، وفتح قلوب المؤمنين على فهم أفضل لأسرار الإيمان وللحقائق البشرية في نور المسيح. فالمسيح، كلمة الله، يكشف لنا سر الله وسر الإنسان معًا، وفيه يجد الإنسان الخلاص والكمال.
7- كنت قد تكلّمت عن هذا الموضوع في رسالتي الأولى (فادي الإنسان). وعدت إلى نفس التعليم في مناسبات أخرى. وكان اليوبيل المناسبة الفضلى للفت انتباه المؤمنين إلى هذه الحقيقة الأساسية. وكان التحضير لليوبيل ثالوثيا وكريستولوجيًا. ولا يمكن أن ننسى الإفخارستيا في خط التفكير هذا. أذكر ما قلته في رسالتي (الدخول في الألفية الثالثة): “ستكون سنة 2000 سنة إفخارستية. ففي سر الإفخارستيا، يستمر المخلص الذي تجسّد من مريم العذراء قبل ألفي سنة، في تقديم نفسه كنبع للحياة الإلهية”. وقد أعطى المؤتمر القرباني الذي أقيم في روما زخمًا خاصًّا لليوبيل. كما أذكّر أني عرضت على المؤمنين التأمل في يوم الرب كيوم المسيح القائم ويوم الكنيسة، ودعوت الجميع إلى وضع الإفخارستيا في وسط يوم الرب.
8- (التأمل في وجه المسيح مع مريم).
لخّصتُ رسالة اليوبيل الكبير في رسالتي “الدخول في الألفية الثالثة”. وقد عرضت في هذه الرسالة التأمل في وجه المسيح في إطار تربية كنيسة تقود إلى الأعالي، الى القداسة من خلال فنّ الصلاة. كيف أن يمكن أن تكون الإفخارستيا غائبة عن ذلك؟ كتبتُ آنذاك: “لقد تطوّرت الكنيسة في القرن العشرين، وخصوصًا بعد المجمع، في كيفية احتفالها بالأسرار المقدّسة، وخصوصًا سرّ الإفخارستيا. يجب الاستمرار في هذا الخط مع التركيز على الاحتفال بالإفخارستيا في يوم الرب، الذي هو يوم إيمان، يوم الرب القائم ويوم هبة الروح القدس وفصح أسبوعي حقيقي”. ثم دعوت، في نفس الخط، إلى تلاوة فرض الساعات الذي من خلاله تقدّس الكنيسة ساعات النهار، حسب إيقاع السنة الطقسية.
9- ثم عرضت فكرة التأمل في وجه المسيح مع مريم في رسالتي عن المسبحة الوردية وفي إعلان سنة الوردية. فهذا الصلاة العزيزة على قلوب المؤمنين لها طابع كتابي أصيل، وهي تتمحور حول اسم يسوع ووجهه، وفي التأمل في أسرار حياته من خلال صلاة “السلام عليك يا مريم”. والتكرار في المسبحة هو مدرسة محبة على مثال محبة مريم لابنها يسوع. وقد أردت التركيز على البعد الكتابي لهذه الصلاة فأضفت إليها أسرار النور. وهنا أيضًا كيف لا نضع الإفخارستيا في وسط أسرار النور؟
10- (من سنة المسبحة إلى سنة الإفخارستيا).
وفي وسط سنة المسبحة، أصدرت رسالتي “الكنيسة من الإفخارستيا” لأبيّن العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الإفخارستيا والكنيسة. وقد دعيت المؤمنين إلى الاحتقال بالسر الإفخارستي كما يجب، بما في ذلك التعبّد الإفخارستي خارج القداس. كما ركّزت على الروحانية الإفخارستية، وعرضت مريم العذراء على أنها “الإمرأة الإفخارستية” بامتياز. وفي هذا الخط تأتي سنة الإفخارستيا لتزيد من تركيزنا على التأمل في وجه المسيح، وهي، نوعًا ما، تتويج لكل ما سبق وقيل عن الموضوع نفسه. والآن أريد أن أعطى بعض الخطوط العريضة عن كيفية الإحتفال بهذه السنة.
القسم الثاني:
الإفخارستيا، سرّ من أسرار النور
“وكان يفسّر لهم ما جاء عنه في الكتب” (لوقا 24، 27).
11- يكشف لنا ظهور المسيح لتلميذي عماوس أول وجه من أجه السر الإفخارستي والذي ينبغي أن يتواجد دومًا في التعبّد الشعبي لهذا السر. الإفخارستيا، سرّ نور. ما هو معنى ذلك وما هي نتائجه على روحانية الحياة المسيحية؟ قال يسوع عن نفسه أنه “نور العالم”، وقد ظهر ذلك في لحظات كالتجلي والقيامة حيث سطع مجده الإلهي. بينما مجد المسيح مخفيٌّ في الإفخارستيا. سر الإفخارستيا هو “سر الإيمان” بامتياز. والمسيح، من خلال احتجابه في السر، يصبح سرّ نور، ويعطي نعمة تساعد المؤمن على الدخول في عمق الحياة الإلهية. ولهذا السبب نرى إيقونة الثالوث لروبليف تضع الإفخارستيا في وسط الإيقونة.
12- الإفخارستيا نور لأنه في كل احتفال بالقداس، يسبق الاحتفالُ بكلمة الله الاحتفال بالسر الإفخارستيّ، في وحدة المائدتين: مائدة الكلمة ومائدة الخبز. هذا ما يظهر في خطاب يسوع في الفصل السادس من إنجيل يوحنا: “جسدي طعام حقًا ودمي شراب حقًّا”. ونعلم أن هذه الكلام أبعد الكثيرين عنه، وحمل بطرس على أن يقول: “إلى من نذهب يا رب، وكلام الحياة الأبدية عندك”. وفي نص تلميذي عماوس، يُظهر لهما يسوع أنه كل ما قيل في الكتب يجد تمامه في شخصه هو. ونتيجة لذلك اتّقد قلب التلميذين وقضى على الحزن الذي كان يغمر قلبيهما وحثّهما على الطلب منه أن يبقى معهما : “إبق معنا يا رب”.
13- في الوثيقة المجمعية عن الليتورجيا المقدّسة، أراد الأساقفة أن تكون “مائدة كلمة الله” مفتوحة للمؤمنين. لذا طلبوا أن تُقرأ كلمة الله بلغة يفهمها الشعب. فعندما نقرأ الكتاب المقدس في الكنيسة، نسمع صوت المسيح نفسه يتكلّم. ثم طلب الأساقفة من المحتِفل بالقداس أن تكون العظة، وهي جزء أساسي من الاحتفال الليتورجي، تفسيرًا لكلمة الله وتتضمن تطبيقًا عمليًّا على حياة المؤمنين. لذا، من المستحسن، بعد صدور هذه النص بأربعين سنة، ان تراجع الجماعات نفسها لترى أين وصلت في هذه النقطة. لا يكفي أن تُعلن كلمة الله بلغة مفهموة وأن تتناول العظة كلمة الله، بل يجب أن تكون محضّرة بشكل جيّد، وأن تُسمع بانتباه وبصمت خاشع كي تؤثّر فعلاً في الحياة.
14- “عرفوه عند كسر الخبز”.
تجدر الملاحظة أن سماع كلمة الله هيّأ تلميذي عماوس لمعرفة المسيح على المائدة عندما كسر المسيح الخبز. فعندما تكون القلوب مضطرمةً، تتكلّم “العلامات” الخارجية. والإفخارستيا مجموعة من العلامات التي تحمل رسالة منيرة وزخمة. ومن خلال هذه العلامات ينكشف السرّ، نوعًا ما، أمام المؤمن. وكما ذكرت في رسالتي “الكنيسة من الإفخارستيا”، ينبغي الاّ نهمل أي بُعد من أبعاد هذا السر. هنالك ميلٌ لتحجيم سر الإفخارستيا إلى بُعد فردي يقتصر على الشخص وحده، بينما المفروض أن ينفتح الشخص نفسه على وُسع السرّ: “الإفخارستيا سرّ أكبر من أن يتعرضّ إلى تقليصات أو تحجيم”.
15- البُعد الأكثر وضوحًا في سرّ الإفخارستيا هو بلا شك بُعد الوليمة. فقد وُلدت الإفخارستيا يوم خميس الأسرار في إطار الاحتفال بوليمة. لذا فهي تحمل معنى المشاركة والوجود معًا: “خذوا كلوا، ثم أخذ الكأس… خذوا فاشربوا منها كلّكم”. هذه الكلمات تعبّر عن رغبة الله في أن يقيم علاقة معنا وفي أن نُنمي نحن هذه العلاقة بين بعضنا البعض. ومع ذلك لا يمكن أن ننسى بُعد “الذبيحة” في الإفخارستيا. فالمسيح يعيد فيه الذبيحة التي تمّت على الجلجلة. فهو المسيح القائم في السر، لكنه يحمل آثار الآلام. وهذا ما يعنيه الهتاف: “إننا نعلن موتك ونحتقل بقيامتك إلى أن تأتي يا رب”. وفي الوقت الذي تؤوّن فيه الإفخارستيا الماضي، ترنو بنا إلى المستقبل، إلى عودة المسيح في نهاية الأزمنة. وهذا البُعد الأخروي يعطي الإفخارستيا دينامية السير، وهي بدورها تعطي المسيرة المسيحية دُفعةً من الأمل.
16- “أنا معكم طوال الأيام”.
كل الأبعاد المذكورة سابقًا تجتمع في بعد أساسي يشكّل تحدّيًا قويًا لإيماننا، وهو بعد “الوجود الحقيقي” ليسوع المسيح في الإفخارستيا. فنحن نؤمن، كما آمنت الكنيسة من البداية، أن يسوع المسيح موجود حقًا تحت أعراض الخبز والخمر. وهو وجود حقيقي لا بمعنى أنه يستثني أشكال حضور المسيح الأخرى، لكن هذا الحضور يعبّر عن جوهر المسيح الإله. وهذا الحضور الحقيقي هو الذي يعطي باقي أبعاد الإفخارستيا (الوليمة ، ذكرى القيامة، استباق للدهر الآتي) معنى أسمى من مستوى الرموز. الإفخارستيا سر وحضور يتحقق من خلاله بشكل سامٍ وعد المسيح بأن يبقى معنا إلى الأبد.
17– “الاحتفال والسجود والتأمل”.
الإفخارستيا سر عظيم. سرّ يجب أولاً الاحتفال به. يجب أن يوضع القداس الإلهي في وسط الحياة المسيحية، كما يجب العمل على أن تحتفل كل جماعة بهذا السر بالشكل المناسب، حسب القوانين الموضوعة، وبمشاركة الشعب واشتراك باقي الخدمات الكنسية، وانتباه خاصّ للترتيل والموسيقى الليتورجية. يمكن على سبيل المثال، خلال هذه السنة المكرّسة للإفخارستيا، دراسة كتاب القداس الإلهي، أو دراسة طرق الدخول في سر الخلاص من خلال العلامات المقدّسة. وليُعن الرعاة بشرح رموز القداس ومعانيه كما كان يفعل أساقفة القرون الأولى للمعمّدين حديثًا.
18- من المناسب أيضًا، في القداس وفي التعبد الإفخارستي خارج القداس، التعبير عن الإيمان بحضور المسيح حقًا من خلال الكلام والصوت وحركات السجود المختلفة. وفي هذا المجال، ينبغي إعطاء مكان مناسب للصمت المتعبّد. باختصار، يجب على الرعاة والمؤمنين أن يتعاملوا مع الإفخارستيا بمنتهى الاحترام. إن وجود يسوع في بيت القربان يجب أن يجذب إليه القلوب المليئة بالمحبة التي تريد أن تبقى بقربه لتسمع خفقات قلبه: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب”. حبّذا لو شكّل التعبد الإفخارستي في هذه السنة اهتمامًا خاصًا من قِبَل المؤمنين في الجماعات الراعوية والرهبانية. لنسجد مطوّلاً ليسوع المسيح الحاضر في القربان الأقدس، مكفّرين بذلك عن الإهانات التي تلحق به في أكثر من مكان في العالم. ولنعمّق في سجودنا إيماننا الفردي والجماعي ولنستخدم النصوص الكثيرة المتوفرّو لدينا. حتى المسبحة الوردية، إن أخذناها في بعدها الخرستولوجي، يمكن أن تشّكل تأملاً في الإفخارستيا، على مثال مريم العذراء. لنحاول في هذه السنة أن نحتفل بشكل احتفالي بدورة عيد الجسد. فليُعلن في كل مكان الإيمان بالله الذي أحبنا وأصبح رفيق دربنا، ليُعلن في الشوارع وفي المدن وفي البيوت كتعبيبر لمحبتنا وشكرنا لهذا النبع اللامتناهي من النعم والبركات.
القسم الثالث:
الإفخارستيا، أساس وإظهار للشركة
19- “أمكثوا فيّ وأنا فيكم”.
دعا تلميذا عمواس المسيح ان يبقى “معهم”، وهو أجابهم بنعمة أكبر مما توقّعوا. اراد أن يبقى “فيهم” من خلال سرّ الإفخارستيا. إن قبول الإفخارستيا يعني الدخول في علاقة حميمة مع يسوع المسيح. “امكثوا فيّ وأنا فيكم”. وهذه العلاقة تسمح لنا، نوعًا ما، بتذوّق حياة السماء على الأرض. أليست هذه أكبر رغبة تسكن قلب الإنسان؟ أليس هذا هو قصد الله في عمل الخلاص؟ فقد وضع في قلب الإنسان “جوعًا” لسماع كلمته، ولن يسدّ هذا الجوع الاّ الاتحاد الكامل به. فالمناولة تُعطى لنا كي “تشبعنا” من الله على الأرض، في انتظار “الشبع الكامل” في الأبدية.
20- “خبز واحد وجسد واحد”.
بيد أن هذا الاتحاد الكامل الذي يتم من خلال الإفخارستيا، لا يمكن فهمه وعيشه جيّدًا الا في إطار الشركة الكنسيّة. وهذا ما ركّزتُ عليه أكثر من مرة في رسالتي (الكنيسة من الإفخارستيا). الكنيسة هي جسد المسيح، ونحن “نسير مع المسيح” بقدر ما نحن في علاقة “مع جسده”. ويؤمّن المسيح هذه العلاقة من خلال إفاضة نعمة الروح القدس عليها ومن خلال حضوره معها في سر القربان الأقدس. وفي الحقيقة فإن الخبز الإفخارستي الواحد هو الذي يجعل منا جسدًا واحدًا؛ فنحن “على كثرتنا، نشترك في الخبز الواحد”. يبني المسيح كنيسة، من خلال الإفخارستيا، كشركة، على مثال شركته الفريدة مع الآب، حسب ما جاء في صلاته الكهنوتية: “كما أنّك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، فليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أحببتني”.
21- فإن كانت الإفخارستيا تؤسّس الوحدة الكنسية، فهي في نفس الوقت تُظهر هذه الوحدة. الأفخارستيا إظهار للشركة. لهذا السبب تضع الكنيسة شروطًا للتقدم من سر الإفخارستيا بشكل كامل. والشروط الموضوعة هدفها حملنا على التفكير الجدي بمعنى قبولنا لسرّ الإفخارستيا. وأوّل معنى هو التركيبة الجيريركية للكنيسة، أي التمييز من مختلف الخدمات والمواهب، والتي يعبّر عنها في القداس ذكر اسم البابا والأسقف المحلّي. والمعنى الثاني هو الشركة بين الإخوة، التي تغذيها “روحانية الشركة”، والتي تحملنا على المزيد من الانفتاح المتبادل والمحبة والتفهّم والغفران.
22- (قلبٌ واحد ونفس واحدة).
كلّما احتفلنا بالقداس، كلّما دُعينا الى التشبه بشركة الكنيسة الأولى كما يصفها سفر أعمال الرسل. كنيسة تجتمع حول الرسل، بقوّة كلمة الله، وقادرة على المشاركة ليس فقط في الخيرات الروحية، بل في الخيرات المادية أيضًا. يدعونا الرب، في سنة الإفخارستيا هذا، إلى التقرّب أكثر من هذا المثال. لذا، فليتم الاحتفال بهذا المثال في القداس الذي يقيمه كل أسقف في كاتدرائيته، يحيط به الإكليروس ومختلف فئات الشعب. فنحن نجد هنا أسمى تعبير عن الكنيسة. ومع هذا، من المفضّل أيضًا إقامة مناسبات أخرى تعبر عن هذه الشركة، لا سيما في الرعايا.
23- (يوم الرب).
أودّ في هذه السنة التزامًا أعمق كي يتم الاحتقال بيوم الأحد كيوم الرب فعلاً. وأود أن يعود المؤمنون إلى ما كتبتُه في رسالتي “يوم الرب”. ففي يوم الرب يختبر المؤمنون ما عاشه الرسل يوم القيامة عندما وقف المسيح بينهم. وفي جماعة الرسل الصغيرة هذه، توجد بشكل مسبق جميع طبقات شعب الله المؤمن في كلّ زمان ومكان. وليُعنَ كهنة الرعايا في أن يكون الاحتفال بالقداس يوم الأحد، حيث يلتقي المؤمنون بقلب واحد، تعبيرًا عن الوحدة بين مختلف المجموعات والطبقات والحركات الرسولية.
القسم الرابع:
لإفخارستيا، مبدأ الرسالة وانطلاقتها
24- (فقاما من وقتهما).
قام تلميذا عماوس لوقتهما، بعد أن تعرّفا على يسوع، ليُعلنوا ما رأوه وسمعوه. عندما نختبر المسيح القائم ونتغذى من جسده ودمه، لا يمكن أن نحتفظ بهذا الفرح لأنفسنا فقط. فخبرة العيش مع المسيح في التعبد الإفخارستي تحمل المؤمن كما تحمل الكنيسة على واجب الشهادة والتبشير. هذا ما قلتُه في العظة بمناسبة اعلان سنة الإفخارستيا، مكرّرًا كلمات بولس الرسول: “كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون يموت الرب إلى أن يأتي”. فالرب يوحّد بين الوليمة والبشارة. الدخول في شركة مع المسيح من خلال ذكرى الفصح يعني في نفس الوقت الوعي لضرورة إعلان الحدث الذي يؤّونه هذا السر. هذا هو أيضًا معنى جملة الإرسال في نهاية القداس: التبشير بالسر وبالإنجيل في المجتمع.
25- والإفخارستيا لا تكتفي أن تكون المبدأ لهذه الرسالة، فهي تشكل انطلاقتَه أيضًا. هي نمط حياة يمرّ من المسيح إلى المؤمن وينتشر من خلال شهادة المؤمن، إلى المجتمع وإلى الثقافة نفسها. وكي يحصل ذلك، من الضروري أن يجوّن المؤمن، من خلال تأمله الشخصي والجماعي، القيم التي يعبّر عنها سرّ الإفخارستيا، والمواقف التي يوحي بها، وأنماط الحياة التي يتفرضها. لماذا لا يكون هذا التزامنا في سنة الإفخارستيا هذه؟
26- (الشكر)
عنصر أساسي في انطلاقة الرسالة هذه هو معنى كلمة “إفخارستيا”. الشكر. ففي يسوع، وفي ذبيحته، وفي ال “نعم” غير المشروطة التي قالها لأبيه السماوي، هنالك “نعم” و “شكر” و “آمين” البشرية بأكملها. ومن واجب الكنيسة أن تذكّر البشر بذلك. ومن الملحّ نشر ذلك في المجتمعات العلمانية حيث ينتشر نسيان الله والتركيز على الاستقلال التام للإنسان. إن تجسيد المشروع الإفخارستي في الحياة اليومية، في أوساط الحياة والعمل، في العائلة والمدرسة والمصنع، يعني قبل كل شئ أن الحقيقة البشرية لا معنى لها دون رجوع إلى الخالق. “الخليقة، دون الخالق، تختفي”. وهذه العودة الى الخالق التي تحملنا على شكره، وهذا معنى إفخارستي أصيل، على ما حبانا إياه وعلى ما نحن عليه، لا تضرّ بالإستقلالية المشروعة للحقائق الأرضية، بل تسمو بها إلى آفاق أوسع، وتضع لها حدودها. حبّذا لو التزم المؤمنون في سنة الإفخارستيا هذه بأن يشهدوا لحضور الله في العالم. لا نخف من الكلام عن الله وبأن نحمل رموز لإيماننا عاليًا. ف”ثقافة الإفخارستيا” تحثّ عن إقامة “ثقافة الحوار” وتعطيها قوّة وغذاءً. يخطئ من يظن أن التعبير الخارجي عن الإيمان يضرّ باستقلالية الأمور الزمنية أو أنه يحمل على اتخاذ مواقف تتسم بالتزمّت الديني. قد يكون قد حصل في الماضي مثل ذلك، وقد ذكرتُ ذلك أثناء الاحتفال باليوبيل الكبير، لكنه ذلك لا يؤذي “الأصول المسيحية”، بل مردّه تزمّت بعض المسيحيين. فمن يشكر على مثال المسيح بمكن أن يكون شهيدًا لا جلاّدًا.
27- (طريق التضامن)
ليست الإفخارستيا مجرّد تعبير عن الشركة في حياة الكنيسة، فهي أيضًا مشروع تضامن يشمل البشرية بأسرها. ففي الإحتفال الإفخارستي، تجدّد الكنيسة بشكل مستمر قناعتها بأنها “علامة ووسيلة” ليس فقط للإتحاد الحميم بالله، بل لوحدة الجنس البشري برمّته. كلّ قداس يقام، ولو كان ذلك بشكل خفيّ وفي أبعد مكان في العالم، يحمل علامة الشمولية. والمسيحي الذي يحتفل بالإفخارستيا يتعلّم منها أن يكون عامل شركة وسلام وتضامن في جميع ظروف حياته. وصورة عالمنا الممزّق كما يظهر في بداية هذه الألفية الثالثة، والموسوم بالحروب والإرهاب، يحدو بالمؤمنين على عيش الإفخارستيا كمدرسةٍ للسلام، فيه يتكوّن رجال ونساء يحملون مسؤوليات مختلفة في الحياة الاجتماية والثقافية والسياسية، ويصبحون مبشرين بالحوار والشركة.
28- (في خدمة الأصاغر).
هنالك نقطة أودّ التركيز عليها أيضًا، وعليها تعتمد المشاركة الصحيحة في سر الإفخارستيا التي تحتفل بها الجماعة. وهو الالتزام المنبثق من سرّ الإفخارستيا ببناء مجتمع أكثر عدلاً وأخوّة. فقد أظهر ربّنا في سرّ الإفخارستيا قوّة المحبة اللامحدودة، وقلب بذلك موازين القوى والسلطة التي تتحكم بالعلاقات بين بني البشر، وركّز على مقياس الخدمة. “من أراد أن يكون أوّلَكم فليكن آخركم وخادمًا لكم”. لذا، فليس من المصادفة أن إنجيل يوحنا لا يذكر نص تأسيس سر القربان، بل يذكر رتبة غسل الأرجل. فالمسيح يركع ليغسل أرجل تلاميذه، ويفسّر بذلك المعنى الواضح لسرّ الإفخارستيا. والقديس بولس يذكّر بكل قوّة أن أي احتفال بسر الفإخارستيا غير صحيح إن لم تظهر فيه بشكل واضح المحبة والتضامن مع الفقراء. لماذا لا نجعل من سنة الإفخارستيا هذه مناسبة لجميع الرعايا والأبرشيات للعمل بشكل حثيث وفعال لمحاربة نوع من أنواع الفقر في العالم؟ أفكّر على سبيل المثال بالجوع الذي ما زال يهدّد الملايين، وأفكر أيضًا ببعض الأمراض التي ما زالت تفتك ببعض الدول النامية، أفكّر بوِحدة الأشخاص المسنّين، أفكر بالعاطلين عن العمل، أفكرّ بمعاناة المهاجرين… وهذه الآلام تؤثر أيضًا، ولو بشكل أقل، في البلاد الغنية. لا مجال لخداع أنفسنا: فنحن سنُدان على المحبة وعلى العون الذي قدمناه لمن كان في عوز، وبالمحبة نُظهر أننا تلاميذ المسيح حقًّا. هذا هو المقياس لصحّة احتفالنا بسرّ الإفخارستيا.
خاتمة
29- “يا للوليمة المقدسة”.
تلد سنة الإفخارستيا من مشاعر الإندهاش في الكنيسة تجاه هذا السر العظيم. وهذا الاندهاش غزا قلبي وهو الذي ألهمني لكتابة رسالة “الكنيسة من الإفخارستيا”. أشعر أن أحدى نِعَم سنتى السابعة والعشرين على كرسي بطرس، هي أن احثّ الكنيسة على التأمل في هذا السر وتسبيحة والسجود له بشكل متميّز. ليت سنة الإفخارستيا تحمل الجميع على الوعي أن سر الإفحارستيا يشكل كنزًا لا مثيل له أُوكِِلَ إلى الكنيسة. لتكن دافعًا للإحتفال بهذا السر بشكل أفضل، بحيث تخرج منه حياة مسيحية غيّرتهْا المحبة. هذا هو الخط الذي ستسير فيه محتلف المبادرات التي سيقوم بها الأساقفة المحليون. وسيقدّم مجمع العبادة اقتراحات مفيدة في هذا المجال. لا أطلب مبادرات خارقة العادة، بل أن تقام جميع المبادرات بروح إفخارستية عميقة. فلو كانت ثمرة هذه السنة أن تكون الاحتفالات بيوم الرب وبالسجود الإفخارستي أكثر حرارة، لكان ذلك نعمة من الله. ومع هذا، يجب أن نفكّر ونخطّط لأمور كثيرة وسامية، لا أن نتكفي بما هو عادي، معتمدين في ذلك على نعمة الله التي تأتي لمساعدتنا.
30- أعهد بسنة الإفخارستيا إليكم، يا إخوتي في الأسقفية، وأنا على يقين من أنّكم ستقبلون دعوتي بغيرة رسولية أصيلة. وأنتم أيها الكهنة، الذين تحتفلون كلّ يوم بسر الإفخارستيا وتشهدون لمعجزة الحب التي يجترحها الله كل يوم على أيديكم، دعوا نعمة هذه السنة تصيب قلوبكم. احتفلوا بسر الإفخارستيا كل يوم، بنفس حماس وحرارة الاحتفال الأول بها، وامكثوا بطيبة خاطر أمام بيت القربان لتسجدوا لله الحاضر في السرّ. ولتكن سنة الإفخارستيا سنة تعمة لكم أنتم أيضًا، ايها الشمامسة وخدام الهكيل من قرّاء وشدايقة وخدام المناولة. كونوا واعين للنعمة المعطاة لكم لخدمة الإفخارستيا بشكل لائق. وأتوجه بشكل خاص إليكم، يا كهنة الغد، في المعاهد الإكليريكية. اختبروا عذوبة الاشتراك بالقداس الإلهي كل يوم، وخصوصًا المكوث في سجود فردي أمام بيت القربان. وأنتم أيها الرجال والنساء المكرسين والمكرسات، المدعوّين بحكم تكريسكم إلى التأمل المطوّل، اذكروا أن يسوع المسيح ينتظركم في القربان ليغمر قلبكم بنعمة صداقته الحميمة التي وحدها تعطي لحياتكم معنى كاملاً. وأنتم أيها المؤمنون، أعيدوا اكتشاف سر الإفخارستيا كنور وقوة لحياتكم اليومية في العالم، من خلال ممارسة عملكم اليومي في مختلف الظروف التي توجَدون فيها. اكتشفوا معنى الإفخارستيا خصوصًا في حياتكم الأسريّة. وأخيرًا، أملي كبيرُ فيكم أيها الشباب… أذكّركم بميعادنا في اليوم العشرين للشباب في كولونيا. فالموضوع الذي اخترته: “جئنا لنسجد له” يوحي لكم بالطريقة المناسبة لعيش هذه السنة الإفخارستية. وفي لقائكم بيسوع الحاضر في القربان الأقدس، احملوا قوة عمركم وأملكم وقدرتكم على المحبة.
31- أضع أمامكم مثال القديسين، فقد وجدوا في الأفخارستيا غذاءً في طريقهم إلى الكمال. كم مرّة ذرفوا الدموع في تعاملهم مع هذا السر العظيم؟ وكم مرّة شعروا بالسعادة الغامرة من خلال مكوثهم ساعات طويلة أمام القربان الأقدس. وفوق كل ذلك، لتساعدنا مريم العذراء التي جسّدت في حياتها كلها منطق الإفخارستيا، ” فالكنيسة التي تنظر الى مريم كما إلى مَثَل، مدعوّة إلى التشبّه بها في علاقتها بهذا السر العظيم”. فالخبز الإفخارستي الذي نقبله هو جسد ابنها الطاهر: “أيها الجسم الحقيقي، يا ابن مريم السلام…” ففي سنة النعمة هذه، نصلّي كي تعيش الكنيسة، بمعونة مريم العذراء، انطلاقةً جديدة لرسالتها، وتجد في الإفخارستيا أصل وقمة حياتها.
ولتصلكم جميعًا بركتي الرسولية، ولتحمل إليكم النعمة والفرح.
صدر عن الفاتيكان بتاريخ 7/10/2004، عيد سيدة الوردية المقدّسة، السنة السادسة والعشرين لحبريّتي.
يوحنا بولس الثاني
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post