الإرشاد الرسولي
رعـاة القطيع
Pastores gregis
أصدره بعد السينودس
قداسة البابا يوحنا بولس الثاني
عـن الأسـقـف
خـادم إنجيـل يسـوع المسيـح
مـن أجـل رجـاء العــالم
حاضرة الفاتيكان
2003
“مدخل”
1- إن رعاة القطيع يعرفون، أنه في تتميم خدمتهم كأساقفة، يستطيعون أن يتّكلوا على نعمة إلهيّة خاصّة. في كتاب الحبريِّات الرومانيّ، في أثناء صلاة السيامة الاحتفاليّة، يردّد الأسقفُ الأوّلُ المانحُ السيامة، بعد استدعاء حلول الروح القدس الذي يوجّه ويقود، العبارات التي نجدها منذ القِدَم في نصّ «التقليد الرسوليّ»: «أيها الآب المطلع على دخائل القلوب، هب لهذا الخادم الذي اخترته لمقام الأسقفية أن يرعى قطيعك المقدّس ويوقّر كهنوتك العظيم» (1). وهكذا ما زالت تُتمَّم إرادة الربّ يسوع، الراعي الأزليّ الذي أرسل الرسل، كما كان هو نفسه قد أرسله الآب (را يو 20: 21)، والذي أراد أن يكون خلفاؤهم، أي الأساقفة، رعاةً في كنيسته
إلى منتهى الدهر (2).
إن صورة الراعي الصالح، العزيزة على الإيقونوغرافيّا المسيحيّة الأولى، كانت ماثلة أمام ذهن الأساقفة الوافدين من العالم أجمع ليلتئموا، من 30 أيلول حتى 27 تشرين الأول 2001، في الجمعيّة العموميّة العاشرة العاديّة لسينودس الأساقفة. لقد فكّروا معي، بالقرب من ضريح الرسول بطرس، في صورة الأسقف خادم إنجيل يسوع المسيح من أجل رجاء العالم. لقد اتفق رأيهم وأقرّوا أن صورة يسوع الراعي الصالح هي الصورة المفضّلة التي يجب العودة إليها على الدوام. لأنه لا يمكن أحداً أن يعتبر نفسه راعياً جديراً بهذا الاسم «إلاّ إذا جعلته المحبّة واحداً مع المسيح»(3). ذلك هو السبب الجوهريّ الذي بموجبه «الصورة المثاليّة للأسقف، الذي ما زالت الكنيسة تعتمد عليه، هي صورة الراعي المتمثّل بالمسيح في قداسة الحياة والمتفاني بسخاء من أجل الكنيسة الموكولة إليه، حاملاً في قلبه، في الوقت عينه، الاهتمام بجميع الكنائس المنتشرة في الأرض كلّها» (را 2 كو 11: 28) (4).
الجمعية العاشرة لسينودس الأساقفة
2- يمكننا إذاً أن نشكر الذي أعطانا مرّة أخرى بأن نعقد جمعيّة لسينودس الأساقفة، وأن نختبر، في هذه المناسبة، بكل عمقٍ معنى: كون – الكنيسة. إن هذه الجمعيّة العاشرة العموميّة والعاديّة لسينودس الأساقفة التي نحتفل بها في مطلع الألفيّة المسيحية الثالثة، وفي ضوء اليوبيل الكبير للعام 2000، قد انعقدت بعد سلسلة طويلة من الجمعيّات: الجمعيّات الخاصّة التي جمع ما بينها استشرافُ التبشير بالإنجيل في مختلف الأقطار: من أفريقيا إلى أميركا، إلى آسيا وأوقيانيا وأوروبا؛ والجمعيّات العاديّة، كُرِّس آخرها للتفكير في الغنى الوافر الذي تشكّله في الكنيسة الدعوات المختلفة التي أثارها الروح القدس، وسَط شعب الله. من هذا المنظار كمّل الانتباهُ، الذي خُصّت به خدمة الأساقفة، إطار كنسيّة الشركة والرسالة الواجب التفكير بها على الدوام.
من هذا القبيل، إن أعمال السينودس عادت في مراجعها، على الدوام، إلى العقيدة عن الأسقفيّة وعن خدمة الأساقفة التي عرضها المجمع الفاتيكاني الثاني، بالأخصّ في الفصل الثالث من الدستور العقائديّ في الكنيسة «نور الأمم» وفي القرار حول مهمّة الأساقفة الراعويّة «إن السيّد المسيح». بشأن العقيدة البهيّة التي تكرّر وتوسّع المبادئَ اللاهوتيّة والقانونيّة التقليديّة، استطاع سلفي البابا بولس السادس أن يقول بحقٍّ: «من البديهيّ أن المجمع ذكّر بالسلطة الأسقفيّة الإلهيّة المنشإ، وأكّد دورها المتعذِّر استبدالُه، وأظهر قدراتها الراعويّة على صعيد التعليم والتقديس والإدارة، وكرّم امتدادها إلى الكنيسة جمعاء بواسطة الشركة الجماعيّة، وحدّد مكانتها في تراتبيّة السلطة، وقوّى مشاركتها المسؤوليّة الأخويّة مع الأساقفة الآخرين في ما يخصّ حاجات الكنيسة الشاملة والخاصّة، ووثَّق ارتباطها مع رأس الكنيسة، المركز المكوِّن للجماعة الأسقفيّة، في روح من الوحدة الخاضعة ومن التعاون المتضامن» (5) .
في الوقت عينه، ووفقاً لما نصّ عنه الموضوع المقترح، درس آباء السينودس خدمتهم في ضوء الرجاء اللاهوتيّ. فتبيّن لهم للحال أن تلك المهمّة ترتبط بنوعٍ خاصّ، برسالة الراعي التي هي، قبل كل شيء، في الكنيسة، رسالةً تحمل شهادة فصحيّة وإسكاتولوجيّة.
رجاءٌ مبنيٌّ على المسيح
3- إعلان الرجاء للعالم، هو، في الواقع، مهمّة كلّ أسقف، انطلاقاً من التبشير بإنجيل يسوع المسيح، «ليس فقط الرجاء الخاصّ بالحقائق الراهنة، بل قبل كلّ شيء وبالأخصّ الرجاء الإسكاتولوجيّ الذي يصبو إلى غنى مجد الله (را أف 1: 18)، الرجاء الذي يفوق كلَّ ما أمكن أن يخطر على قلب بشر (را 1كو 2: 9)، والذي لا يمكن أن تقابل به آلام الدهر الحاضر (را روم 8: 18)»(6). إن استشراف الرجاء اللاهوتيّ مع ذلك الذي من الإيمان والمحبّة، يجب أن يسم خدمة الأسقف الراعويّة بأكملها.
وإليه تعود بالأخص الرسالة بأن يكون نبيًّا، شاهداً وخادماً للرجاء. من واجبه أن يثير الثقة ويعلن أمام أيٍّ كان أسباب الرجاء المسيحيّ (را 1بط 3: 15). إن الأسقف هو نبيّ وشاهد وخادم لمثل ذلك الرجاء، بالأخصّ حيث يتفاقم ضغط ثقافة حضوريّة، تقصي جانباً كلَّ انفتاح على التسامي. فحيث ينعدم الرجاء، يُعاد النظر في الإيمان نفسه. حتى المحبّة تضعف بانعدام تلك الفضيلة. لأن الرجاء، بالأخصّ في أيام كفرٍ ولامبالاةٍ متناميَين، يُصبح سنداً حقيقيًّا للإيمان وحافزاً ثميناً للمحبّة. إنه يستمدُّ قوّته من يقين إرادة الله الخلاصيّة الشاملة (را 1تيم 2: 4)، ومن حضور الربّ يسوع الدائم، هو عمانوئيل الذي يبقى على الدوام معنا حتى منتهى الدهر (را متى 28: 20).
إن الأسقف لقادرٌ أن يحفظ في ذاته الرجاءَ حيّاً بفضل النور والعزاء اللذين يأتيانه من الإنجيل فقط (را روم 15: 4)، ويعود بدوره فيحافظ عليهما في أولئك الذين عُهد بهم إلى عطفه الراعويّ. فعليه إذاً أن يتتلمذ للعذراء مريم، أمِّ الرجاء، التي آمنت بأنه سيتمُّ ما قيل لها من قبَل الربّ (را لو 1: 45). وإذ يرتكز الأسقف على كلمة الله ويثبت في الرجاء، كأنما إلى مرساةٍ أمينةٍ وراسخة تنفذ إلى السماوات (را عب 6: 18-20)، فإنه، وسط الكنيسة، حارس يقظ، ونبيّ شجاع، وشاهد ثقة وخادمٌ بفضله «لا يكون بعدُ موت؛ ولا نَوحٌ، ولا عويل، ولا حزنٌ» (رؤ 21: 4).
الرجاء إزاء إخفاق الآمال
4- الكلُّ يذكرٌ أن جلسات سينودس الأساقفة انعقدت في أيام مأسويّة للغاية. ففي قلب آباء السينودس كان ما زال يتردّد صدى أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 الرهيبة، مع ما واكبها من ضحايا بريئة لا عدَّ لها، فظهرت في العالم أوضاعُ حيرةٍ جديدة في غاية الخطورة، وأوضاعُ خوفٍ على الحضارة البشريّة نفسها وعلى العيش المشترك السلميّ بين الدول. فظهرت حينئذٍ آفاقٌ جديدة تنذر بالحرب والموت، فتبيّن، مع ما هنالك من أوضاع نزاعاتٍِ قائمة، أنه من الملحّ والضروريّ التوسّل إلى أمير السلام، كي ينفتح قلب البشر مجدَّداً على المصالحة والتضامن والسلام(7).
وفيما كانت الجمعيّة السينودسيّة تصعّد صلاتها، رفعت أيضاً صوتها كي تدين كلَّ نوعِ عنفٍ، فتظهر جذوره الممتدَّة بعيداً في خطيئة الإنسان. أمام إخفاق الآمال البشريّة التي تدّعي، بارتكازها على الإيديولوجيّات الماديّة والحضوريّة، وعلى إيديولوجيّات مرتبطة بالاقتصاد، أنه بإمكانها أن تعيش كلَّ شيءٍ بمقياس النفع وعلاقات القوّة أو السوق، عاد آباءُ السينودس فأكّدوا اقتناعهم أن وحدهما نورُ القائم من بين الأموات ونفحُ الروح القدس يساعدان الإنسان على إرساءِ آماله على الرجاء الذي لا يخيّب. لذلك فإنهم أعلنوا: «لا يمكن أن يهوّل علينا مختلف أشكال نكران الله الحيّ التي تسعى، بشتّى أنواع المداجاة، لتقويض الرجاءِ المسيحيّ أو تحريفه أو الهزءِ به. إنّا نعترف بفرح الروح، قائلين: المسيح حقّاً قام. لقد فتح، بإنسانيّته الممجَّدة، أفقَ الحياة الجديدة لجميع الناس الذين يرضون بأن يرتدّوا»(8).
يجب أن يكون نوعاً ما قويّاً الاقتناعُ بهذا الاعتراف بالإيمان كي يزيد، يوماً بعد يوم، ثباتَ رجاءِ أسقفٍ ما، فيحمله على التأكيد الواثق بأن الله، بصلاحه الرحيم، لن يتردّد أبداً عن شقِّ طرقِ خلاصٍ واقتراحها على حريّة كلِّ إنسان. هو الرجاءُ يشجّع الأسقف على أن يميّز، في الإطار الذي يمارس فيه خدمته، علاماتِ الحياة القادرةَ على محاربة البذور المضرّة والقتّالة. هو الرجاءُ أيضاً يسانده عندما يحوّل حتى النزاعاتِ إلى فرصِ نموٍّ، حاملاً الناس على الانفتاح على المصالحة. هو أيضاً الرجاءُ بيسوعَ الراعي الصالح، يعطيه قلباً مملؤاً عطفاً، يحثّه على الانحناء نحو الرجال والنساء الذين ألمَّ بهم الألم، كي يضمّد جراحهم، فيما يأمل أنه بالإمكان إيجاد النعجة الضائعة. بهذه الطريقة، يكون الأسقفُ، دائماً أكثر، علامةً للمسيح مضيئة، وراعيَ الكنيسة وعريسَها. وإذ يتصرّف كأبٍ وأخٍ وصديقٍ لكل إنسان، فلسوف يكون إلى جانب كل واحد صورة حيّة للمسيح رجائنا، الذي فيه تكتمل كلُّ وعود الله والذي به تبلغُ ملءَ كمالها جميعُ آمال الخليقة(9).
خدّام الإنجيل من أجل رجاء العالم
5- ها إني إذاً أستعدّ لأقدّم هذا الإرشاد الرسوليّ، الذي أعيد فيه تراث التفكير الناضج في أثناء الجمعيّة العموميّة العاديّة العاشرة لسينودس الأساقفة، انطلاقاً من الخطوط الأولى حتى أداة العمل، ومداخلات آباء السينودس في أثناء الاجتماع حول التقريرين، في تقديمهما وخلاصتهما، وما نجم من غنىً في التفكير والخبرة الراعويّة في الحلقات المصغّرة والاقتراحات التي رُفعت إليّ في ختام أعمال السينودس كي أتمكّن من أن أقدّم للكنيسة جمعاء، وثيقة خاصّة حول موضوع السينودس: الأسقف خادم إنجيل يسوع المسيح، من أجل رجاء العالم(10). أوجّه إذاً تحيّة أخويّة وقبلة سلام إلى جميع الأساقفة الذين هم في شركة مع هذا الكرسيّ، الذي عُهد به أولاً إلى بطرس كي يكون ضامناً للوحدة ويرئس المحبّة، كما يعترف الجميعُ بذلك(11).
أيها الإخوة المحترمون الأعزاء، أوجّه إليكم من جديد الدعوة التي وجّهتُها إلى الكنيسة كلّها، في مطلع الألفيّة الجديدة: تقدّم إلى العمق! بل وأكثر من ذلك، إنَّ المسيح نفسه هو الذي يردّدها لخلفاء الرسل الذين، من فمه بالذات، قد سمعوا هذه الدعوة، وإذ وثقوا به انطلقوا للرسالة على طريق العالم: تقدّم إلى العمق (لو 5: 4). في ضوء دعوة الربّ الملحّة تلك «يمكننا أن نعيد قراءة المهمّات الثلاث التي عهدت بها إلينا الكنيسة: مهمّات التعليم والتقديس والإدارة […]. تقدّم إلى التعليم! [فأناشدك] «أنِ اكرز بالكلمة – نقول مع الرسول -، واعكف على ذلك في وقته وغير وقته؛ حاججْ ووبّخْ وعِظْ بكلِّ أناة، وبجميع أساليب التعليم» (2 تيم 4: 2). تقدّم إلى التقديس! إن الشباك التي نحن مدعوّون إلى رميها ما بين الناس هي قبل كل شيء الأسرار: فنحن موزّعوها الأولون ومنظّموها وباعثوها وحُماتها […]. إنها تشكل نوعاً من شبكة خلاصيّة تحرّر من الشرّ وتقود إلى ملءِ الحياة. تقدَّم إلى الإدارة! لقد عُهد إلينا، بصفتنا رعاةً وآباءً حقيقيين، يساندنا الكهنة والمعاونون الآخرون، رسالة تجميع وإنعاش أسرة القطيع الكبير كلّه، بحيثُ يحيا الجميع ويعملون في شركة محبة […]. مهما كانت صعوبةُ تلك الرسالة وطابعُها الأليم، فلا يجب أن ييأس أحد. مع بطرس والتلاميذ الأولين، نجدّد نحن أيضاً بثقة اعترافنا الصادق بالإيمان، قائلين: يا ربّ، “بكلمتك ألقي الشباك” (لو 5: 5)! بكلمتك، أيها المسيح، نريد أن نخدم الإنجيل من أجل رجاءِ العالم»(12).
هكذا، فيما يحيا الأساقفة حياة رجالِ رجاءٍ يعكسون في خدمتهم ذاتها كنسيّة الشركة والرسالة، يصبحون بالحقيقة ينبوعَ رجاءٍ لقطيعهم. إنّا نعلم أن العالم بحاجة إلى «رجاء لا يُخزي» (روم 5: 5). ونعلم أن ذاك الرجاءَ هو المسيح. إنّا نعرف ولذلك نعلن الرجاءَ النابعَ من الصليب.
السلام عليك، ايها الصليب، الرجاءُ الوحيد! علَّ هذا السلام الذي تردّد صداه في قاعة السينودس في أثناء أعمال الجمعيّة العموميّة العاشرة لسينودس الأساقفة، يتردّد دوماً على شفاهنا لأن الصليب هو سرُّ حياة وموت! لقد أصبح الصليب للكنيسة «شجرة الحياة». فلذلك نعلن أن الحياة قد تغلّبت على الموت.
في هذا الإعلان، سبقنا رتلٌ من الرعاة القديسين كانوا، وسط الكنيسة، علاماتٍ للراعي الصالح فصيحة. لذلك، نحمد على الدوام الله الأزليّ الكليَّ القدرة، ونرفع إليه الشكر، لأنه، وفقاً لما نرتّل في الليتورجيّا الإلهيّة، يشجّعنا بالمثَل الذي أعطونا إياه، وينيرنا بتعاليمهم، ويسهر علينا بصلواتهم (13). وكما قلتُ في ختام أعمال السينودس، إن وجه كلٍّ من أولئك الأساقفة القدّيسين، منذ أوائل حياة الكنيسة حتى اليوم، لأشبه بقطعة توضع في نوعٍ من الفسيفساء السريّة، يؤلّف مجموعها وجهَ المسيح الراعي الصالح. هذا هو الوجه الذي علينا أن نثبّته ونتأمل فيه كي نضحي على الدوام أكثر خدّام الإنجيل من أجل رجاء العالم، جاعلين بذلك من أنفسنا أيضاً مثالاً للقطيع الذي عهد به إلينا راعي الرعاة.
فيما نتأمل وجه معلّمنا وربِّنا، في الساعة التي «أحبَّ خاصَّته إلى الغاية»، نحن جميعاً، على مثال الرسول بطرس، نسمح بأن يغسل أرجلنا كي يكون لنا نصيبٌ معه (را يو 13: 1-9). وبالقدرة التي تأتينا منه في الكنيسة المقدَّسة، في إزاء كهنتنا وشمامستنا، وإزاء جميع أشخاص الحياة المكرّسة والمؤمنين العلمانيّين الأعزاء، نردّد بصوت عال: «أيّاً كنّا، فليتّكل رجاؤكم علينا: فإن كنّا صالحين فنحن خدّام، وإن كنّا أشراراً فنحن خدّام. ولكن إن كنّا خدّاماً صالحين وأمناء، فنحن حينئذٍ خدّام حقيقيون»(14). خدّام الإنجيل من أجل رجاء العالم.
“الفصل الأول”
سرّ الأسقف وخدمته
«… واختار منهم اثني عشر» (لو 6: 13)
6- في حياته على هذه الأرض، أعلن الربُّ يسوعُ إنجيل الملكوت وحقَّقه في شخصه، وكشف عن سرّه لجميع البشر(15). ودعا رجالاً ونساءً إلى اتّباعه، ومن بين التلاميذ اختار اثني عشر كي «يكونوا معه» (مر 3: 14). ويحدّد الإنجيل بحسب لوقا أن يسوع قام بهذا الاختيار بعد ليلة قضاها في الصلاة على الجبل (را لو 6: 12). ومن جهته، يظهر الإنجيل بحسب مرقس أنه يعطي عمل يسوع هذا طابع عملٍ مطلق، عملٍ تأسيسيّ يمنح هويّة للذين اختارهم: وأقام منهم اثني عشر (مر 3: 14). لقد كُشف بذلك سرُّ اختيار الاثني عشر: إنه عمل محبّة، أراده يسوع حرّاً، بالاتحاد التام مع الآب والروح القدس.
إن الرسالة التي عهد بها يسوع إلى الرسل يجب أن تدوم حتى منتهى الدهر (را متى 28: 20)، لأن الإنجيل الذي أوكل إليهم أن يبلّغوه هو حياة الكنيسة في كلّ زمن. فهم، لذلك، قد اهتمّوا بأن يؤمّنوا لأنفسهم خلفاء، بحيث يُعلن التقليد الرسوليّ ويحافظ عليه مدى القرون، على حدِّ ما صرّح به القديس إيريناوس(16).
إن فيض الروح القدس الخاصَّ الذي غمر به الرسلَ الربُّ القائم من بين الأموات (را أع 1: 5، 8؛ 2: 4؛ يو 20: 22-23) نقلوه هم إلى معاونيهم بفعل وضع الأيدي (را 1 تيم 4: 14؛ 2 تيم 1: 6). وبدورهم، نقله أولئك إلى آخرين بفضل العمل نفسه، وهؤلاء إلى غيرهم أيضاً. بهذه الطريقة، وصلت إلينا موهبة الروح الأولى بوضع الأيدي، أي بالسيامة الأسقفية التي تمنح كمال سرّ الكهنوت، الكهنوت الأعظم، كمال الخدمة المقدّسة. وهكذا، بواسطة الأساقفة والكهنة معاونيهم، ما زال الربُّ يسوعُ المسيح حاضراً وسط المؤمنين، فيما هو جالسٌ إلى يمين الله الآب. إنه، في كلِّ زمان ومكان، يعظ بكلمة الله جميعَ الأمم، ويمنح أسرار الإيمان للمؤمنين، وفي الوقت عينه يقود شعب العهد الجديد في مسيرته شطرَ السعادة الخالدة. لا يترك الراعي الصالح قطيعه، بل إنه يحفظه ويحامي عنه على الدوام، بفضل أولئك الذين يعملون عوضاً منه، في ممارسة المهامّ التي تنطوي عليها الخدمة الراعويّة، بمشاركتهم الكائنيّة في حياته ورسالته وبتأمينهم، بطريقة سامية وظاهرة، مهمّة المعلّم والكاهن والراعي، وقد أقيموا نوّاباً له وسفراء (17).
الأساس الثالوثيّ للخدمة الأسقفية
7- إن البعد المسيحانيّ للخدمة الراعويّة، من حيثُ عمقُها، يساعدنا على فهم الأساس الثالوثيّ للخدمة نفسها. حياة المسيح ثالوثيّة. إنه الابنُ الأزليُّ والوحيد للآب، ومسيحُ الروح القدس، الذي أُرسل إلى العالم؛ إنه الذي، مع الآب، يرسل الروح إلى الكنيسة. ذاك البعد الثالوثي الذي يظهر في كلّ كيان المسيح وعمله يصنع أيضاً كيان الأسقف وعمله. لذلك أراد آباءُ السينودس حقّاً أن يرسموا حياة الأسقف وخدمته على ضوء الكنسيّة الثالوثيّة التي عُرضت في عقيدة المجمع الفاتيكاني الثاني.
إن تقليداً عريقاً في القِدَم يُظهر الأسقف وكأنه صورةٌ للآب الذي هو، على حدِّ ما كتب إغناطيوس الأنطاكيّ، الأسقفُ غيرُ المنظور، أُسقفُ الجميع: كلُّ أسقف، من ثمَّ، يقوم مقام أبي يسوع المسيح، بحيث إنه، بفضل ذلك الدور عينه، يجب أن يحترمه الجميع (18). بالارتباط مع تلك الهيكليّة الرمزيّة، لا يمكن أن يحتلّ الكرسيَّ الأسقفيَّ إلاّ الأسقف، لأن الكرسيّ يذكّر بسلطة الله الأبويّة، بخاصّةٍ في تقليد الكنيسة الشرقيّة. من تلك الهيكليّة عينها ينجم واجبُ كلِّ أسقف بأن يهتمّ بشعب الله المقدّس بمحبّة أبويّة، وبأن يقوده، على طريق الخلاص، مع الكهنة – معاوني الأسقف في خدمته – ومع الشمامسة (19). وبالمقابل، على المؤمنين أن يحبّوا الأساقفة، كما يذكّر بذلك نصٌّ قديم، فإنهم، بالنسبة إليهم، من بعد الله، كآباءٍ وأمهات (20). لذلك، وفقاً لعادةٍ متداولة في بعض الثقافات، تُقبَّل يدُ الأسقف وكأنها يدُ أبٍ مملوءٍ حبّاً ويمنح الحياة.
إن المسيح هو إيقونةُ الآب الأصليّة واعتلانُ حضوره الرحيم ما بين البشر. ويصبح الأسقف، في الكنيسة الموكولة إليه، بتصرّفه في شخص المسيح نفسه وباسمه، علامةً حيّة للربّ يسوع، وراعياً للكنيسة وعريساً، ومعلّماً لها وحبراً (21). لدينا هنا مصدرُ الخدمة الراعويّة: إن الوظائف الثلاث أو مهامّ التعليم والتقديس وإدارة شعب الله يجب أن تمارس، على ما ورد في تصميم العظة التي يقترحها كتاب الحبريّات الرومانيّ، وفقاً للميزات الخاصّة بالراعي الصالح، وهي المحبّة ومعرفة القطيع والاهتمام بالجميع، وأعمال الرحمة المقدَّمة للفقراء وعابري السبيل والمعدومين، والبحث عن الخراف الضالّة كي تُعاد إلى الحظيرة الواحدة.
أخيراً، إن مسحة الروح القدس التي تماثل الأسقفَ بالمسيح، تجعله قادراً على أن يكون امتداداً حيّاً لسرّه لفائدة الكنيسة. وبسببٍ من هذه الميزة الثلاثيّة الكيانيّة، يتكرّس كلُّ أسقفٍ في خدمته، فيسهر بمحبّة على القطيع كلّه الذي أقامه الروحُ القدس في وسطه كي يرعى كنيسة الله: باسم الآب الذي يجعل صورته حاضرة؛ وباسم يسوع المسيح ابنه، الذي يقيمه معلماً وكاهناً وراعياً؛ وباسم الروح القدس الذي يعطي الكنيسة الحياة والذي، بقدرته، يسند الضعف البشريّ (22).
طابع الخدمة الأسقفيّة الجماعيّ
8- «وأقام منهم اثني عشر» (مر 3: 14). بهذا التذكير المقتبس من الإنجيل، يقدّم الدستور العقائدي «نور الأمم» العقيدة الخاصّة بالطابع الجماعيّ الذي تميّز به فريق الاثني عشر الذين أقيموا «في شكل هيئة أو جماعة ثابتة، جعل على رأسها بطرس الذي اختاره من بينهم»(23). بالطريقة عينها، وبمجرّد أن أسقف رومة هو خليفة الطوباويّ بطرس نفسه، وأن جميعَ الأساقفة، في مجملهم، هم خلفاءُ الرسل، فالحبرُ الرومانيُّ والأساقفةُ هم على اتحاد في ما بينهم على شكل جماعة(24).
ترتكز الوحدة الجماعيّة بين الأساقفة، في آنٍ معاً، على السيامة الأسقفية وعلى الشركة الرئاسيّة؛ فهي تطال إذاً في عمقه كيان كلِّ أسقف وتندرج في هيكليّة الكنيسة مثلما أرادها يسوعُ المسيح. ويجدُ الأسقف نفسه في ملءِ الخدمة الأسقفيّة، بفضل التكريس الأسقفيّ وبواسطة الشركة الرئاسيّة مع رأس الهيئة وأعضائها، أي مع الجماعة التي تفترض دائماً وجودَ رئيسها. وهكذا يكون الأسقف عضواً في الجماعة الأسقفية(25)؛ لذلك فإن المهامَّ الثلاث التي يتقبّلها الأسقف بالسيامة – مهامّ التعليم والتقديس والإدارة – يجب أن تمارس في الشركة الرئاسيّة، حتى إذا كان ذلك بطريقةٍ مختلفة، بسبب غائيّتها المباشرة المختلفة(26).
هذا ما يشكل ما يسمّى «المودّة الجماعيّة»، أو الجماعيّة المحبّة التي تولّد اهتمام الأساقفة بالكنائس الأخرى الخاصّة وبالكنيسة الجامعة (27). إذا كان علينا إذاً أن نقول إن الأسقف لا يكون أبداً وحدَه لأنه على الدوام متحدٌ في الآب بالابن في الروح القدس، علينا أيضاً أن نضيف أنه لا يكون أبداً وحده، لأنه متّحد كذلك، على الدوام وباستمرار، مع إخوته في الأسقفية ومع ذاك الذي اختاره الربُّ خليفةً لبطرس.
إن مثل تلك المودّة الجماعيّة إنما تتحقّق ويعبّر عنها على عدّة مستويات وبمختلف الطرق، بما فيها الصعيد المؤسَّساتيّ، كسينودس الأساقفة مثلاً، والمجامع الخاصّة ومجالس الأساقفة والكوريا الرومانيّة، وزيارات الأعتاب الرومانيّة (ad limina)، والتعاون الرساليّ، إلخ. لكن المودّة الجماعيّة لا تتحقّق ولا يعبَّر عنها بالكمال إلاّ في العمل الجماعيّ بمعناه الحصريّ، أي في عمل جميع الأساقفة مع رأسهم، الذي يمارسون معه السلطة الكاملة والمطلقة على الكنيسة كلّها (28).
إن المسيح نفسه أراد هذه الطبيعة الجماعيّة للخدمة الرسوليّة. إن المودّة الجماعيّة أو الجماعيّة الوجدانيّة (collegialitas affectiva) موجودة إذاً بين الأساقفة بشكل الشركة الأسقفية، لكنها لا تبدو كشركة عمليّة (collegialitas effectiva) إلاّ في بعض الأعمال. إن مختلف الأساليب في جعل الجماعيّة الوجدانيّة جماعيّةً عمليّة هي من صنع بشريّ، لكنها تجسّم، على مختلف الصعُد، ما يتطلّبه الله بأن يعبَّر عن الأسقفيّة بطريقة جماعيّة (29). في المجامع المسكونيّة، تمارس سلطة الجماعة المطلقة على الكنيسة كلّها بطريقة رسميّة (30).
يعطي البعدُ الجماعيُّ للأسقفيّة طابعها الشموليّ. وهكذا يمكن أن نقابل بين الكنيسة الواحدة والجامعة، غير المجتزأة إذاً، والأسقفيّة الواحدة غير المجتزأة، والجامعة إذاً. إن مبدأ تلك الوحدة وأساسها، أكانت وحدة الكنيسة أم وحدة هيئة الأساقفة، هما الحبر الرومانيّ. وكما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني، «بمقدار ما تتألّف تلك الهيئة من أعضاءٍ عديدين، فإنها تعبّر عن تنوع شعب الله وشموله؛ وبمقدار ما تتجمع تحت رأس واحد، فإنها تعبّر عن وحدة قطيع المسيح» (31). لذلك «إن وحدة الهيئة الأسقفية هي أحد العناصر التي تتألف منها وحدة الكنيسة» (32).
الكنيسة الجامعة ليست مجموع الكنائس الخاصّة، ولا اتحاد تلك الكنائس، ولا حصيلة شركتهم، لأنها بالفعل، في سرّها الجوهريّ، وفقاً لتعابير آباء الكنيسة الأولى والليتورجيّا، تسبق إنشاء تلك الكنائس نفسها (33). في ضوء تلك العقيدة، يمكن أن نضيف أن علاقة الباطنيّة المتبادلة القائمة بين الكنيسة الجامعة والكنيسة الخاصّة والتي تجعل أن الكنائس الخاصّة «تتكوّن على صورة الكنيسة الجامعة، [الكنائس الخاصّة] التي فيها وانطلاقاً منها توجد الكنيسة الكاثوليكيّة، الواحدة الوحيدة» (34)، تلك العلاقة نجدها في العلاقة بين الهيئة الأسقفية في كاملها والأسقف بمفرده. لذلك «يجب ألاّ تُعتبر الهيئة الأسقفية كمجموعة أساقفة عُهدت إليهم الكنائس الخاصّة، ولا كحصيلة لشركتهم، لكن، بصفتها عنصراً جوهريًّا من عناصر الكنيسة الجامعة، فإنها حقيقة تسبق مهمّة ترؤس كنيسة خاصة» (35).
يمكننا أن نفهم بطريقة أفضل تلك الموازاة بين الكنيسة الجامعة وهيئة الأساقفة على ضوء ما يؤكدّ المجمع: «كان الرسل نواةَ إسرائيل الجديد، وفي الوقت عينه أصل السلطة الرئاسيّة المقدَّسة» (36). هيكليّة الكنيسة كانت محتواةً في الرسل، ليس بالنظر إليهم كلٍّ بمفرده، لكن كهيئة تتألّف منهم في شموليتها وفي وحدتها، وكذلك هي أيضاً هيكليّة هيئة الأساقفة خلفائهم، التي هي علامة تلك الشموليّة وتلك الوحدة (37).
هكذا، إن «سلطة الهيئة الأسقفية على الكنيسة كلّها لا تتألّف من مجموع سلطات يمارسها الأساقفة بمفردهم في
كنائسهم الخاصّة؛ إنها حقيقة سابقة يشارك فيها الأساقفة الذين لا يمكنهم أن يعملوا للكنيسة كلّها إلاّ جماعيّاً» (38). يشارك الأساقفة مباشرةً بتضامنٍ في سلطان التعليم والإدارة هذا بمجرّد كونهم أعضاء الهيئة الأسقفية، التي فيها تقيم حقّاً الهيئة الرسولية(39).
كما أن الكنيسة الجامعة هي واحدةٌ وغير مجتزأة، كذلك الهيئة الأسقفية هي «موضوع لاهوتيّ لا يمكن تجزئته»؛ والسلطة المطلقة الكاملة الشاملة، التي تعني الهيئة، هي واحدةٌ ولا يمكن تجزئتها، كما الحبر الرومانيّ شخصيّاً. وبالتحديد، لأن الهيئة الأسقفيّة هي واقعٌ سابقُ العهد لمهمّة رئيس كنيسة خاصّة، فالعديد من الأساقفة ليسوا على رأس كنيسة خاصّة، مع أنهم يمارسون مهمّاتٍ أسقفيّة حقّاً (40). كلُّ أسقف، فيما يزال متحداً مع جميع إخوته في الأسقفيّة ومع الحبر الرومانيّ، يمثّل المسيحَ رأسَ الكنيسة وراعيَها: ليس فقط بطريقة شخصيّة ومعيّنة عندما توكل إليه مهمّة رعاية كنيسة خاصّة، لكن أيضاً عندما يُسهم مع الأسقف الأبرشيّ في إدارة كنيسته (41)، أو عندما يشارك في مهمّة الحبر الرومانيّ، الراعي الشامل، في إدارة الكنيسة الجامعة. لقد عرفت الكنيسة، في مراحل تاريخها، علاوةً على الشكل الخاصّ برئاسة كنيسة خاصّة، أشكالاً أخرى لممارسة الخدمة الأسقفيّة من مثل أسقفٍ مساعد أو ممثّلٍ للحبر الرومانيّ في دوائر الكرسيّ الرسوليّ أو في البعثات البابويّة؛ إنها تتقبّل ذلك الإرث وتمارس اليوم مثل تلك الأشكال، وفقاً لأنظمة القانون وعندما تدعو الحاجة إلى ذلك (42).
طابع الخدمة الأسقفيّة الرسوليّ والوحدويّ
9- يعلمنا الإنجيل بحسب لوقا (6: 13) أن يسوع سمّى الاثني عشر رسلاً، ونقرأ أيضاً في الإنجيل بحسب مرقس أن يسوع أقام منهم اثني عشر «كي يرسلهم للكرازة» (3: 14). فهذا يعني أن اختيار الاثني عشر وإقامتهم رسلاً لهما هدفٌ هو الرسالة. هذه البعثة الأولى (را متى 10: 5؛ مر 6: 7؛ لو 9: 1-2) تجد ملئَها في الرسالة التي عهد بها يسوعُ إليهم بعد القيامة، ساعة صعوده إلى السماء. إنها كلماتٌ تحفظ كلَّ واقعيّتها: «لقد دُفِعَ إلىَّ كلُّ سُلطانٍ في السَّماءِ وعلى الأرض، فاذهَبوا، وتَلمِذوا جميعَ الأُممِ، وعَمِّدوهم باسْمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القدس، وعَلِّموهم أَنْ يَحْفظوا جَميعَ ما أوصيتُكم به، وها أَناذا مَعَكم كلَّ الأَيَّامِ الى انقِضاءِ الدَّهْر» (متى 28: 18-20). هذه البعثة الرسوليّة ثبّتها رسميّاً حلول الروح القدس يوم العنصرة.
في نصّ الإنجيل بحسب متى الذي أوردته أعلاه، يمكن أن يُنظر إلى مجموع الخدمة الراعويّة متمحورةً حول المهمّة الثلاثيّة في التعليم والتقديس والإدارة. ونرى فيها انعكاساً للبعد الثلاثيّ لخدمة المسيح ورسالته. فبصفتنا مسيحيّين، وبطريقة جديدة مميّزة بصفتنا كهنةً، نشارك في رسالة معلّمنا الذي هو نبيٌّ وكاهنٌ وملك، وندعى إلى أن نشهد له شهادةً خاصة في الكنيسة وفي العالم.
هذه الوظائف الثلاث والسلطات المناطة بها تظهر، على صعيد العمل، الخدمة الراعوية التي يُعهد بها الى كلّ أسقف، ساعة سيامته الأسقفية. إن محبة المسيح نفسها التي يُشارك فيها في السيادة، تتفعّل في إعلان إنجيل الرجاء لجميع الأمم (لو 4: 16-19)، وفي منح الأسرار لجميع الذين يتقبّلون الخلاص، وفي قيادة الشعب المقدَّس نحو الحياة الأبديّة. إنها مهمّات وثيقة الارتباط بعضها ببعض، تشرح واحدتُها الأخرى، ويشترط بعضُها الآخر وينيره (43).
لذلك عندما يعلّم الأسقف، فإنه في الوقت عينه يقدّس شعب الله ويقوده؛ وعندما يقدّس، فهو يعلّم أيضاً ويدبّر؛ وعندما يدبّر، فهو يعلّم ويقدّس. والقديس أوغسطينُس يحدّد مجمل هذه الخدمة الأسقفيّة بمهمّة المحبّة (44). وهذا يؤكد لنا أن الكنيسة لن يُعوزها أبداً محبّة يسوعَ المسيح الراعويّة.
«… ودعا الذين أرادهم» (مر 3: 13)
10- جمعٌ غفير كان يتبع يسوعَ عندما قرّر أن يصعد إلى الجبل ويدعو إليه الرسل. كان التلاميذ كثراً، لكنه اختار منهم اثني عشر فقط لمهمّة الرسالة المحدّدة (را مر 3: 13-19). غالباً ما سمعنا في قاعة السينودس هتاف القديس أوغسطينس: «بالنسبة إليكم أنا أسقف، ومعكم أنا مسيحيّ» (45).
إن الأسقف، بصفته هبة الروح للكنيسة، هو قبل كلّ شيء وكمثل كلِّ مسيحيّ، ابن الكنيسة وأحد أعضائها: فلقد تقبّل من هذه الأم القديسة موهبة الحياة الإلهيّة بواسطة سرّ المعموديّة وأول تعليم للإيمان. ويتقاسم مع المؤمنين الآخرين، كرامة البنوّة الإلهيّة التي لا مثيل لها، تلك البنوّة التي يجب أن يعيشها في الشركة وفي روح من العرفان الأخويّ. إلاّ أن الأسقف، هو أيضاً، بالنسبة إلى المؤمنين، بفضل كمال سرّ الكهنوت، المعلّم والمقدّس والراعي الذي عُهد إليه أن يعمل باسم المسيح وفي شخصه.
إن لدينا هنا بالطبع علاقتين لا تتجاوران وحسب، بل هما، على العكس من ذلك، في علاقة متبادلة وحميمة، تلازم الواحدة الأخرى، لأنهما كلاهما ينبعان من غنى المسيح، الكاهن الأوحد والأعظم. يصبح الأسقف «أباً» لأنه بالتحديد كليّاً «ابنُ» الكنيسة. إنّا نجد هنا العلاقة بين كهنوت المؤمنين المشترك وكهنوت الخدمة: طريقتان اثنتان للاشتراك في كهنوت المسيح الأوحد، الذي يتلاقى فيه البعدان، ويتّحدان في ذبيحة الصليب السامية.
وهذا ينعكس على العلاقة القائمة في الكنيسة بين الكهنوت المشترك وكهنوت الخدمة. إن تلازم أحدهما للآخر (46)، مع أنهما يختلفان جوهريًّا، يخلق تبادلاً يكوّن بتناغمٍ بنيةَ حياة الكنيسة، بصفتها مكاناً يتحقّق فيه في التاريخ الخلاص الذي أتمّه المسيح. إن مثل هذا التبادل نجده في شخص الأسقف نفسه، الذي هو معمّدٌ ولا يزال، ولكنه أقيم في الكهنوت الأعظم. حقيقة الأسقف هذه الأعمقُ غوراً هي أساس «كينونته في وسط» المؤمنين الآخرين وكينونته «إزاءَهم».
في نصِّ رائع، يذكّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني بذلك، قائلاً: «ولئن كان الجميعُ في الكنيسة لا يسلكونَ السبيلَ عينها فإنَّ الجميع، مع ذلك، مَدعُوّون الى القَداسةِ، وقد نالوا ايماناً يجعلُهم متساوين في بِرّ الله (2 بط 1: 1). وإن يكن البعضُ منهم قد أُقيمُوا، بإرادةِ المسيح، مُعلِّمين، وخداَّماً للأسرار، ورعاةً لأجلِ خير الآخرين، فإنَّ الجميع، مع ذلك، مُتساوون حقّاً في الكرامة وفي النَشَاطِ المُشتَرَك بين جميع المؤمنين في بُنيان جسدِ المسيح؛ لأنَّ الفارقَ نفسَه الذي جَعلَه الربُّ بين الخَدَمة المُكرّسِين وسائر شعب الله يحتمل في ذاته الاتحاد بمَا أنَّ الرعاةَ وسائرَ المؤمنين مُرتبطُون بعضُهم ببعض بِشَركة العلاقات: فرُعاةُ الكنيسة النَّاهِجُون على مِثالِ الربّ هم في خدمة بعضِهم بعضاً وفي خِدمةِ سائرِ المؤمنين؛ وهؤلاء، من جِهتِهم، يؤازرون الرعاةَ والمُعلِّمين مؤازرةً سخية» (47).
إن الخدمة الراعويّة التي تمنحها السيامة، والتي تقيم الأسقف «إزاء» المؤمنين الآخرين، يعبَّر عنها في «الكينونة من أجل» المؤمنين الآخرين التي لا تحرمها من «الكينونة معهم». ويطبّق هذا أيضاً على تقديس الأسقف الشخصيّ الذي يجب أن ينشُدَه ويحقّقه من خلال ممارسة خدمته، كما على طريقته القيام بخدمته نفسها، في كلِّ المهامّ التي يكرّس ذاته لها.
إن التبادل القائم بين كهنوت المؤمنين المشترك وكهنوت الخدمة، والذي يتحقّق في الخدمة الأسقفيّة نفسها، يظهر في نوع من «الدائريّة» بين شكلي الكهنوت: دائريّة بين شهادة إيمان جميع المؤمنين وشهادة إيمان الأسقف الأصيل من خلال أعماله في السلطة؛ دائريّة بين حياة القداسة عند المؤمنين ووسائل التقديس التي يوفّرها لهم الأسقف؛ وأخيراً دائريّة بين مسؤوليّة الأسقف الشخصيّة بالنسبة إلى الكنيسة التي عُهد بها إليه ومشاركة جميع المؤمنين في المسؤوليّة بالنسبة إلى خير تلك الكنيسة عينها.
“الفصل الثاني”
حياة الأسقف الروحيّة
«… وأقام منهم اثني عشر ليكونوا معه» (مر 3: 14)
11- إن يسوع، بدافع من المحبّة التي بها يقيم بحريّةٍ الاثني عشرَ رسلاً، يدعوهم إلى مقاسمة حياته نفسها. تلك المقاسمة التي هي شركة معه في الروح والنيّة، هي إذاً أيضاً واجب تفرضه المشاركة في رسالته نفسها. يجب ألاّ تقتصر مهامُّ الأسقف على وظيفةٍ محض تنظيميّة. ولتحاشي ذلك الخطر بالضبط، شدّدت الوثائق التحضيريّة للسينودس ومداخلات الآباء الكثيرة في خلال الجمعيّة السينودسيّة على ما تتضمّنه، في حياة الأسقف الشخصيّة وفي ممارسة الخدمة الموكولة إليه، حقيقةُ الأسقفيّة بصفتها ملءَ سرّ الكهنوت، في أسسه اللاهوتيّة والمسيحانيّة والخاصّة بالروح القدس.
التقديس الموضوعيّ الذي يحقّقه عملُ المسيح في السرّ مع منح الروح يجب أن يتوافق والتقديس الشخصيّ الذي يُدعى فيه الأسقف، بمؤازرة النعمة، إلى التقدّم الدائم والزائد من خلال ممارسة خدمته. إن التبدّل الكينونيّ الذي يتمّ بالسيامة تماثلاً بالمسيح، يتطلّب أسلوبَ حياةٍ يعبِّر عن واقع «السكنى معه». وبالتالي، ولمرّات عديدة في قاعة السينودس، تمّ الإلحاح على المحبّة الراعويّة، التي هي ثمرةٌ أكان للطابع الذي يمنحه السرّ أم للنعمة المختصّة به. لقد قيل إن المحبة هي كالنفس لخدمة الأسقف: فهو يلتزم ديناميّة «وجود من أجل» راعويّ («pro-existentia» pastorale)، منها ينطلق ليحيا، كالمسيح الراعي الصالح، من أجل الآب ومن أجل الآخرين، واهباً ذاته كلَّ يوم.
إن الأسقف مدعوٌّ، بالأخص في ممارسة خدمته، مقتدياً بمحبّة الراعي الصالح، إلى أن يقدّس ذاته ويقدّس الآخرين، متخذاً كمبدإ توحيد لعمله التأملَ في وجه المسيح وإعلانَ إنجيل الخلاص (48). وبالتالي، إن روحانيّته لا يوجّهها ولا ينشّطها سرَّا المعموديّة والتثبيت فحسب، بل السيامةُ الأسقفيّة نفسُها التي تلزمه أن يحيا، في الإيمان والرجاء والمحبّة، خدمته كمبشّر بالإنجيل، ومترئس الليتورجيّا وقائد للجماعة. إن روحانيّة الأسقف عليها أن تكون أيضاً روحانيّة كنسيّة، لأن كلَّ شيءٍ في حياته يصبو إلى تشييد الكنيسة المقدّسة بمحبّة.
يتطلّب ذلك من الأسقف موقفَ خدمةٍ يتّسم بقوة النفس والشجاعة الرسوليّة وباستسلام واثقٍ لعمل الروح الداخلي. وعليه أن يجهد إذاً في تبنّي نمطِ حياةٍ يماثل إخلاءَ الذات (kénosis) عند المسيح الخادم الفقير المتواضع، بحيث إن ممارسة الخدمة الراعويّة تعكس فيه تماسكه بيسوع، خادمِ الله، فيقوده إلى أن يكون مثله قريباً من الجميع، من الأكبر إلى الأصغر. وفي النهاية، ومرّةً أخرى، بنوعٍ من التبادل، تقدِّس الأسقفَ الخدمةُ الأمينة والمملؤةُ محبّةً؛ وعلى الصعيد الشخصيّ تجعله على الدوام أكثر مطابقةً لغنى القداسة الكينونيّ الذي وضعه السرُّ فيه.
إلاّ أن قداسة الأسقف الشخصيّة لا تتوقف أبداً عند مستوىً محضِ شخصيّ، لأنها، في فعّاليّتها، تفيض دائماً على المؤمنين الذين عُهد بهم إلى عطفه الراعويّ. في ممارسة المحبّة، بصفتها جزءاً من الخدمة الراعويّة الممنوحة، يصبح الأسقف علامةَ المسيح ويحصلُ على السلطة الأدبيّة التي تحتاج إليها ممارسةُ السلطة القضائيّة، كي تتمكن من التأثير بفعّاليّة على البيئة الاجتماعيّة. إن المهمّة الأسقفيّة، إذا لم ترتكز على شهادة القداسة، الظاهرة في المحبة الراعويّة والتواضع وبساطة الحياة، تتقلّص في النهاية إلى دورٍ محضِ وظيفيّ وتفقد حتماً من مصداقيّتها لدى الإكليروس والمؤمنين.
الدعوة إلى القداسة في كنيسة عصرنا
12- هناك صورة بيبليّة تصلح تماماً كي تلقي ضؤاً على صورة الأسقف بصفته صديق الله وراعياً وقائداً لشعبه. ألا وهي صورة موسى. بالتطلّع إليه، يستطيع الأسقف أن يستوحي من كيانه ومن عمله راعيّا اختاره الربُّ وانتدبه، متقدّماً بشجاعة شعبه في مسيرته نحو أرض الميعاد، وشارحاً بأمانة كلامَ الله الحيّ وشريعتَه، وسيطاً للعهد، حارّاً وواثقاً في تشفّعه من أجل شعبه. وعلى مثال موسى الذي، بعد لقائه الربَّ في الجبل المقدّس، عاد وسط شعبه بهيَّ الطلعة (را تك 34: 29-30)، هكذا لن يستطيع الأسقف أن يحمل، وسط إخوته علامات كونه أباً وأخاً وصديقاً إلاّ إذا دخل الغمامة المظلمة والمضيئة لسرّ الآب والابن والروح القدس. وإذ يستنير بنور الثالوث، يصبح علامة صلاح الله الرحيم، وصورة حيّة لمحبة الابن، ورجلاً شفّافاً للروح، مكرَّسًا ومنتدبًا كي يقود شعب الله، على دروب الزمن، في حجّه نحو الأبديّة.
أوضح آباء السينودس أهميّة الالتزام الروحيّ في الحياة، في خدمة الأسقف ومسيرته. ولقد أضفيتُ بنفسي هذه الأوليّة بالتناسق مع متطلّبات الكنيسة ونداءات الروح القدس التي ذكّرَت الجميع، في السنوات الأخيرة، بأولويّة النعمة، والحاجة الواسعة الانتشار إلى الروحانيّة، والإلحاح في شهادة القداسة.
الدعوة إلى الروحانيّة تنجم عن المرجع إلى عمل الروح القدس في تاريخ الخلاص. فحضور الروح ناشط وحيويّ، نبويّ ورساليّ. وموهبة كمال الروح القدس التي يُمنحُها الأسقف بالسيامة الأسقفيّة تشكل دعوة غالية وملحّة كي يُعضد عمله في الشركة الكنسيّة والرسالة الشاملة.
إن المجمع السينودسيّ، وقد احتُفل به بعد يوبيل العام 2000 الكبير، تبنّى منذ البدء مشروع حياة القداسة الذي أشرتُ إليه بنفسي للكنيسة جمعاء: «إن الرؤية التي يجب أن تلتزمها كلُّ المسيرة الراعويّة هي رؤية القداسة… حالما ينتهي اليوبيل، تعود الطريق إلى ما كانت عليه، إلاّ أن عرض القداسة يبقى أكثر من أيّ وقت مضى أمراً من أمور العمل الراعويّ الملحّة»(49). إن القبول المتحمّس والسخيّ الذي قوبل به ندائي كي تعطى الدعوة إلى القداسة مكان الصدارة، ذلك كان الجوّ الذي تمّت فيه أعمال السينودس، والمناخ الذي وحّد نوعًا ما مداخلات الآباء وأفكارهم. كانوا يشعرون بأنه يتردّد في قلوبهم تحذير القديس غريغوريوس النازينزيّ: «أولاً أن نتنقَّى، وثانياً أن ننقّي؛ أولاً أن ننقاد لتثقيف الحكمة، ولاحقاً أن نثقّف؛ أولاً أن نصبح نوراً، ثم أن ننير؛ أولاً أن نقترب من الله، ثم أن نقود إليه الآخرين؛ أولاً أن نكون قدّيسين، ثم أن نقدّس الآخرين» (50).
لهذا السبب تردّدت مراراً دعوة الجمعيّة السينودسيّة إلى إيضاح الميزة «الأسقفيّة» بشأن قداسة الأسقف. إنها دوماً قداسة تُعاش مع الشعب ومن أجل الشعب، في شركة تصبح حافزاً وبناءً متبادلاً في المحبّة. فالأمر هنا ليس قضايا ثانويّة أو هامشيّة. إنه بالتحديد حياة الأسقف الروحيّة التي توفّر خصب عمله الراعويّ. ألا يكمن أساسُ كل راعويّة ناجعة في التأمل المثابر في سرّ المسيح، في التأمل الشغف في وجهه وفي الاقتداء السخيّ بحياة الراعي الصالح؟ إذا كان من الصحيح أنّا نعيش في عصر من التحرّك الدائم وحتى غالباً في عصر من التشاغل، متسبّبين بسهولة بخطر «العمل من أجل العمل»، على الأسقف حينئذٍ أن يكون الأول فيظهر، بمثل حياته، أنه من الواجب إعادة الأولويّة إلى «الكيان» قبل «العمل»، بل أكثر من ذلك أيضاً أولويّة النعمة، التي هي من حيث الرؤية المسيحيّة للحياة، مبدأٌ جوهريٌّ من أجل «برمجة» الخدمة الراعويّة(51).
مسيرة الأسقف الروحيّة
13- لا يمكن الأسقف أن يعتبر نفسه حقّاً خادماً للشركة والرجاء من أجل شعب الله المقدَّس إلاّ عندما يسير في حضرة الربّ. لأنه لا يمكن أن يكون المرءُ في خدمة البشر من دون أن يكون أولاً «خادماً لله». ولا يمكن أن يكون خادماً لله إذا لم يكن أولاً «رجل الله». لذلك قلتُ في عظة افتتاح السينودس: «يجب أن يكون الراعي “رجلَ الله”؛ حياته وخدمته تودعان كليّاً في حمى السيادة الإلهيّة؛ وتقتبسان النور والعزم من سرّ الله الفائق السموّ» (52).
إن الدعوة إلى القداسة، في ما يخصّ الأسقف، ملازمةٌ الحدثَ السرّيَّ نفسَه، مصدرَ خدمته، أي السيامة الأسقفيّة. إن إفخولوجي سيرايبون القديم العهد يورد، بالعبارات التالية، الاستدعاءَ الطقسيّ للتكريس: «يا إله الحقّ، إجعل من خادمك أسقفاً حيّاً، أسقفاً قدّيساً، من سلالة الرسل القديسين» (53). إلاّ أن «الأسقف مدعوٌّ إلى متابعة طريق التقديس الذاتيّ بأكثر عزماً حتى بلوغ ملءِ قامة المسيح، الإنسان الكامل» (54)، لأن السيامة الأسقفيةّ لا تفيض كمال الفضائل.
إن الطابع المسيحانيّ والثالوثيّ المرتبط بسرّ الأسقف وخدمته يتطلّب مسيرة قداسة، تعني التقدّم تدريجاً نحو نضجٍ روحيّ ورسوليّ دائم التعمّق، يتّسم بأولويّة المحبّة الراعويّة. مسيرة يعيشها بالتأكيد مع شعبه، في خطّة هي في الوقت عينه شخصيّة وجماعيّة، مثلما هي حياة الكنيسة بالذات. إلاّ أن الأسقف، في تلك المسيرة، في شركةٍ حميمة مع المسيح وفي انقيادٍ للروح يقظ، يصبح شاهداً ومثالاً وداعيةً ومنعشاً. وهذا ما يعبّر عنه ايضاً الدستور القانونيّ: «على الأسقفِ الأبرشيِّ، وهو يَذكرُ أنّه مُلْزم بواجبِ إعطاء مثَلِ القداسةِ في المحبّةِ والتواضعِ وبساطةِ العيش، أن يبذلَ كلَّ جهدٍ لتعزيزِ قداسةِ المؤمنين بحسَبِ دعوةِ كلٍّ منهم، وعليه، بما أنّه الموزِّعُ الرئيسُ لأسرارِ الله، أَن يَسعى ليجعلَ المؤمنين الموكولين الى عنايته يَنمونَ في النعمةِ بإقامةِ الأسرارِ ويُدركونَ بعمقٍ السرَّ الفصحيَّ، ويعيشون منه» (55).
إن مسيرة الأسقف الروحيّة، كمسيرة كلّ مؤمن مسيحيّ، تتأصّل حقّاً في نعمة المعموديّة والتثبيت السريّة. وتلك النعمة تربطه بجميع المؤمنين، لأن «جميعَ المؤمنين بالمسيح، ايّاً كانت حالُهم أو رتبتهم، مدعوّون إلى ملءِ الحياة المسيحيّة وكمال المحبّة» (56)، على حدّ ما يذكّر بذلك المجمع الفاتيكانيُّ الثاني. إن تأكيد القديس أوغسطينس المعروفَ جيّداً، والمفعمَ واقعيّةً وحكمةً فائقةَ الطبيعة، يجد ملءَ معناه في هذه الحال: «ما أنا هو من أجلكم يرهبني، لكن ما أنا هو معكم يعزّيني: لأن، من أجلكم أنا أسقف، ومعكم أنا مسيحيّ. اللقب الأول هو لقب مهمّة، والثاني لقب نعمة. ذلك يدلّ على الخطر، وهذا على الخلاص» (57). إلاّ أن المهمّة، بفضل المحبّة الراعويّة، تصبح خدمة والخطر يتحوّل إلى مناسبة نموّ ونضج. إن الخدمة الأسقفيّة ليست مصدر قداسة للآخرين وحسب، ولكنها فعلاً سبب تقديس لمن يدع محبة الله تخترق قلبه وحياته.
ولقد اختصر آباء السينودس بعض متطلّبات تلك المسيرة. فذكّروا أولاً بالطابع العماديّ والميرونيّ الذي، منذ مطلع الوجود المسيحيّ، يؤهل، بواسطة الفضائل اللاهوتيّة، للإيمان بالله والرجاء فيه ومحبته. إن الروحَ القدس، من جهته، يمنح مواهبه، مسهّلاً النموّ في الخير بممارسة الفضائل الأدبيّة التي تعطي الحياة الروحيّة أيضاً قواماً إنسانيّاً (58). يتشارك الأسقف، نظير كلّ مسيحيّ، بفضل المعموديّة التي نالها، في الروحانيّة المتأصّلة في الاندماج بالمسيح والتي تظهر في اتّباع يسوع وفقاً للإنجيل. فهو لذلك يشارك في دعوة جميع المؤمنين إلى القداسة. وعليه إذاً أن ينمّي حياة صلاة وإيمان عميق ويضع في الله كلّ ثقته، شاهداً للإنجيل، في طاعة منقادة لكل ما يوحي به إليه الروح، ومؤمّناً عبادةً خاصّة بنويّة للعذراء مريم، معلّمة الحياة الروحيّة الكاملة (59).
على روحانيّة الأسقف أن تكون إذاً روحانيّة شركة يعيشها بالتناغم مع جميع المعمَّدين الآخرين، أبناءً معه للآب السماويّ الواحد، وللأم الواحدة على الأرض، الكنيسة المقدّسة. وعلى غرار جميع المؤمنين بالمسيح، يحتاج الأسقف إلى أن يرعى حياته الروحيّة، متغذّياً من كلمة الإنجيل الحيّة الناجعة، ومن خبز حياة الإفخارستيّا المقدّسة، غذاء الحياة الأبديّة. وبسبب الضعف البشريّ، يُدعى الأسقف ايضاً إلى ارتياد سرّ التوبة، في فترات منتظمة، كي يحصل على موهبة الرحمة التي أصبح هو أيضاً خادماً لها. كلُّ أسقف، إذ يعي، هو وكهنته، ضعفه البشريّ وخطاياه، يعيش قبل كلّ شيء لذاته سرَّ المصالحة، كواجبٍ عميق وكنعمةٍ ينتظرها على الدوام بطريقة جديدة، كي تعطي زخماً متجدّداً لالتزامه القداسة في ممارسة خدمته. بفعله هذا، يعبّر الأسقف أيضاً بوضوح عن سرّ الكنيسة التي هي في ذاتها قدّيسة، ولكن تتألف في الوقت عينه من خطأة بحاجة إلى الغفران.
على غرار جميع الكهنة، وبالتأكيد في شركة خاصة مع كهنة المجلس الأبرشيّ، يجهد الأسقف في سلوك طريق قداسة مميّزة. إنه، في الواقع، مدعوٌّ إلى قداسة من منطلق جديد تنجم عن الرتبة المقدّسة. لذلك يعيش الأسقف من الإيمان والرجاء والمحبّة بصفته خادماً لكلمة الربّ وللتقديس ولتقدّم شعب الله الروحيّ. عليه أن يكون قدّيساً لأن من واجبه أن يخدم الكنيسة معلّماً ومقدّساً وقائداً. وبهذه الصفة عليه أيضاً أن يحبّ الكنيسة بعمقٍ وبقوّة. كلُّ أسقف يتماثل بالمسيح كي يحبّ الكنيسة حبَّ المسيح العريس لها، ولكي يكون، في الكنيسة، خادماً لوحدتها، أي كي يجعل من الكنيسة «الشعب الواحد لوحدة الآب والابن والروح القدس» (60).
إن روحانيّة الأسقف الخاصّة، على ما أشار إلى ذلك مراراً آباءُ السينودس، تغتني لاحقاً من فيض النعمة الملازمة لملء الكهنوت الذي يُمنحُه وقت السيامة. وبصفته راعي القطيع وخادم إنجيل يسوع المسيح في الرجاء، على الأسقف أن يعكس ويظهر في ذاته، نوعاً ما، شخص المسيح نفسه، الراعي الأعظم. في كتاب الحبريّات الرومانيّ، يذكَّر صراحةً بهذا الالتزام: «خذ التاج؛ ليضىء فيك بهاءُ القداسة، كي تستحقَّ أن تنال تاج المجد الذي لا يفنى، عندما يظهر رأس الرعاة» (61).
لذلك، إن الأسقف بحاجة دائمة إلى نعمة الله التي تقوّي وتحسّن طبيعته البشريّة. يمكنه أن يؤكد مع الرسول بولس: «إنما كفايتنا من الله الذي قدّرنا أن نكون خدّاماً لعهد جديد» (2 كو 3: 5-6). يجب إذاً الإشارة إلى ذلك: إن الخدمة الرسوليّة هي للأسقف مصدر روحانيّة، فعليه أن يستقي منها الموارد الروحيّة التي تنمّي قداسته وتمكنه من اكتشاف عمل الروج القدس في شعب الله الموكول إلى اهتمامه الراعويّ (62).
إن مسيرة الأسقف الروحيّة تتلاقى، في هذه الرؤية، مع المحبّة الراعويّة نفسها التي يجب أن تُعتبر بحقٍّ كروح لرسالته، كما هي ايضاً لرسالة الكاهن والشمّاس الإنجيليّ. فالقضيّة ليست فقط قضيّة وجود بل أيضاً قضيّة وجود من أجل، أي حياةٍ تستوحي المثال الأعظم المتمثّل بالمسيح الربّ، حياةٍ، بالتالي، تُبذل كليّاً في عبادة الآب وفي خدمة الإخوة. في هذا الشأن، يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني بكلّ حقٍّ، أن الرعاة، على مثال المسيح، يجب عليهم أن يتمّوا بقداسة واهتمام، بتواضع وقوّة، خدمتهم التي «إذا مورست، على هذا النحو، تصبح لهم أيضاً وسيلة للقداسة سامية» (63). لا يمكن أيّ أسقف أن يجهل أن قمة القداسة هي المسيح المصلوب، في تقدمته المطلقة لأبيه ولإخوته في الروح القدس. لذلك فالتماثل بالمسيح والمشاركة في آلامه (را 1بط 4: 13) تصبح طريق قداسة الأسقف الملوكيّة وسط شعبه.
مريم، أمُّ الرجاء ومعلّمة الحياة الروحيّة
14-إن حضور العذراء مريم كأمّ، أمِّ الرجاء ورجائنا، كما تضرع إليها الكنيسة سوف تكون أيضاً سنداً لحياة الأسقف الروحيّة. فعليه إذاً أن يغذّي نحو مريم عبادة حقيقيّة وبنويّة، مع الشعور بأنه مدعوٌّ إلى أن يتبنّى جوابها للملاك: «فليكن لي بحسب قولك!»، وإلى أن يحيا ويحقّق كلَّ يوم بادرةَ يسوع الذي عهد بمريمَ الواقفةِ عند الصليب إلى التلميذ، وبالتلميذ الذي كان يحبّه إلى مريم (را يو 19: 26-27). بالطريقة عينها، يُدعى الأسقف إلى أن يعكس ذاته في الصلاة الشاملة والمثابرة التي صلاّها تلاميذ الابن ورسله مع أمّه قبل العنصرة. في إيقونة الكنيسة الناشئة هذه يعبَّر عن الرباط الوثيق الذي يجمع بين مريمَ وخلفاءِ الرسل (را أع 1: 14).
إن القدّيسة والدة الإله سوف تكون إذاً للأسقف المعلّمةَ في الإصغاء والتتميم السريع لكلمة الله، بفعل كونه تلميذاً أميناً للمعلّم الأوحد، بالثبات في الإيمان، بالرجاء الواثق وبالمحبّة الحارّة. وعلى مثال مريم، «ذاكرةِ» تجسّد الكلمة في الجماعة المسيحيّة الأولى، يكون الأسقف الحارس والوسيط لتقليد الكنيسة الحيّ، في الشركة مع جميع الأساقفة الآخرين، بالاتحاد مع خليفة بطرس وتحت سلطته.
ويعبَّر عن عبادة الأسقف المريميّة الراسخة بلجوءٍ مستمرٍّ إلى الليتورجيّا، حيث للعذراء حضورٌ خاصٌّ في الاحتفال بأسرار الخلاص، وحيث هي للكنيسة كلِّها مثالٌ كاملٌ في الاصغاء والصلاة، في التقدمة والأمومة الروحيّة. ومن مهامّ الأسقف العملُ على أن تظهر الليتورجيّا دائماً وكأنها «”شكلٌ مثاليّ”، ومصدرُ وحي، ومرجعٌ ثابت وهدفٌ سامٍ» (64)، لتقوى شعب الله المريميّة. ولمّا كان هذا المبدأ ثابتاً، فالأسقف هو أيضاً يغذّي تقواه المريميّة الشخصيّة والجماعيّة، بالتمارين التقويّة التي توافق عليها الكنيسة وتوصي بها، بالأخصّ بتلاوة ذلك المختصر للإنجيل، أعني به الورديّة. وإذ يكون قد اختبر هذه الصلاة المرتكزة على التأمل في أحداث حياة المسيح الخلاصيّة، التي شاركت فيها أمّه عن كثب، فكلُّ أسقف مدعوٌّ إلى أن يكون أولَ الدعاة النِشاط إليها (65).
تفويض الأمر إلى الكلمة
15- أشارت جمعيّة سينودس الأساقفة إلى بعض الوسائل الضروريّة لتغذية الحياة الروحيّة وإنمائها (66). من بينها، نجد في المقام الأول قراءَة كلمة الله والتأمل فيها. على كلّ أسقف أن يكل أمره دائماً وأن يشعر أنه موكولٌ «إلى الله وكلمة نعمته، هو القادرَ أن يبني وأن يؤتي البشر الميراث مع جميع القدّيسين» (أع 20: 32). لذلك، قبل أن يكون الأسقف ناقلاً للكلمة مع كهنته وكمثل كلِّ مؤمن، بل بالأحرى كالكنيسة نفسها (67)، عليه أن يكون مصغيًا للكلمة. عليه أن يكون وكأنه «داخل» الكلمة، كي تحافظ عليه وتغذّيه، كما في حشا الأمّ. ومع القديس إغناطيوس الأنطاكي، يردّد الأسقف، قائلاً: «إني ألجأ إلى الإنجيل كما إلى جسد يسوع المسيح» (68). وليتذكّرنَّ إذاً كلُّ أسقف، على الدوام، كأنه موجّه إليه، تنبيهَ القديس إيرونيموس الذي ردّده المجمع الفاتيكانيّ الثاني: «جهلُ الكتاب هو حقّاً جهل للمسيح» (69). لا أولويّة للقداسة بدون إصغاءٍ لكلمة الله، الدليل إلى القداسة وغذائها.
تفويض الأمر إلى كلمة الله والحفاظ عليها، على مثال العذراء مريم التي كانت عذراءَ مصغية (70)، يتطلّبان الاستخدام عمليّاً لبعض الوسائل التي لم ينِ التقليدُ واختبارُ الكنيسة الروحيّ يقترحها. فالمطلوب قبل الكلّ القراءَة الشخصيّة والمتواترة، وكذلك دراسة الكتاب المقدس باعتناءٍ ومثابرة. فعبثاً يكون الأسقف واعظاً للكلمة في الخارج، إذا لم يصغ إليها أولاً في الداخل (71). بدون تواصل متواتر مع الكتاب المقدّس، يصبح الأسقف خادماً للرجاء غير موثوق به، إذا صحّ التعبير، كما يذكّر بذلك القديس بولس، أنّا نملك «الرجاءَ بالصبر وبالشجاعة التي يؤمّنها الكتاب» (روم 15: 4). ويصحُّ إذاً على الدوام ما كتبه أوريجينُس: «تلكما هما نشاط الأسقف: أن يتعلّم منه تعالى بتلاوة الكتب وأن يتأمل فيها في غالب الأحيان، أو أن يعلّم الشعب. لكن ليعلّمنَّ ما يكون قد تعلّمه من الله» (72).
ذكّر السينودس بأهميّة القراءة والتأمل في كلمة الله في حياة الرعاة وفي عملهم نفسه في خدمة الجماعة. وعلى حدِّ ما كتبتُ في الرسالة الرسوليّة «في مطلع الألفيّة الجديدة»، «إنه من الضروريّ أن يصبح الإصغاء إلى الكلمة لقاءً حيويّاً، وفقاً للتقليد القديم والدائم الواقعيّة القائل بأن القراءة الإلهيّة تسمح، بالاقتباس من النصّ البيبليّ كلمة الحياة التي تخاطب وتوجّه وتصنّع الوجود» (73). في أوقات التأمل والقراءة، يتفتّح القلب، الذي سبق وتقبّل الكلمة، على التأمل في عمل الله، وبالتالي على ارتداد أفكاره وحياته إلى الربّ، ارتدادٍ مشفوعٍ بتوسّل الغفران ونعمة الله.
الغذاءُ من الإفخارستيّا
16- مثلما أنَّ السرَّ الفصحيَّ هو في قلب حياة الراعي الصالح ورسالته كذلك الإفخارستيّا هي في قلب حياة ورسالة الأسقف، بل وكلِّ كاهن.
بالاحتفال اليوميّ بالقداس الإلهيّ، يقدّم الأسقف ذاته مع المسيح. وعندما يقام ذلك الاحتفال في الكاتدرائيّة أو في الكنائس الأخرى، مع مساهمة المؤمنين ومشاركتهم الحيّة، يظهر الأسقف أمام أعين الجميع ما هو عليه، أي كاهناً وحبراً، لأنه يعمل بشخص المسيح وبقدرة روحه، وكاهناً قدّيساً مدعوّاً إلى الاحتفال بأسرار المذبح المقدَّسة، وكالذي يبشّر ويشرح بالوعظ (74).
ويعبّر الأسقف أيضاً عن حبّه للإفخارستيّا المقدَّسة، عندما، في أثناء النهار، يكرّس بعضاً من وقته لا يُستهان به، في عبادة القربان الأقدس. هناك، يفتح الأسقف نفسَه للربّ كي يملأَها راعي الخراف الأكبر بالمحبّة الفائضة على الصليب ويماثلها بذاته، هو الذي أهْرَق دمه وقدّم حياته من أجلها. ونحوَه أيضاً يصعّد صلاته متابعاً التوسّل من أجل الخراف التي عُهد بها إليه.
الصلاة وليتورجيّا الساعات
17- أشار آباءُ السينودس إلى وسيلة ثانية هي الصلاة، بالأخصّ تلك التي ترتفع نحو الربّ بإقامة ليتورجيّا الساعات، التي هي بالتحديد ودائماً صلاة الجماعة المسيحيّة باسم المسيح وبفعلٍ من الروح.
الصلاة بحدّ ذاتها هي من واجبات الأسقف الخاصّة ومن واجبات «أولئك الذين نالوا موهبة الدعوة إلى حياة تكرّس خاصّة […]: من طبيعة تلك الدعوة أن تجعلهم أكثر جهوزيّة للاختبار التأمليّ» (75). ولا يغربنَّ عن بال الأسقف ذاته أنه خليفة أولئك الرسل الذين أقامهم المسيح قبل كلِّ شيء «ليكونوا معه» (مر 3: 14)، والذين في مطلع رسالتهم أعلنوا رسميّاً ما هو منهج حياة: «وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة» (أع 6: 4). ولن ينجحَ الأسقفُ إذاً في أن يكون معلّمَ صلاةٍ للمؤمنين إلاّ إذا استطاع الاتكالَ على خبرته الشخصيّة في الحوار مع الله. عليه أن يكون قادراً على التحدّث مع الله في كل وقت مردّداً قول صاحب المزامير: «إني أرجو كلمتك» (مز 119 [118]: 114). ففي الصلاة يستطيع حقّاً أن ينهل الرجاءَ الواجبَ إيصاله إلى المؤمنين.
الصلاة هي، في الواقع، المكان المفضّل حيث يعبَّر عن الرجاء وحيث يغذَّى، لأنها «تفسِّر الرجاء» (76)، على حدّ تعبير القديس توما الأكوينيّ.
صلاة الأسقف الشخصيّة يجب أن تكون بالأخصّ صلاةً «رسوليّة» من الطراز الرفيع، أي أن يقدّمها للآب، متوسلاً من أجل احتياجات الشعب الموكول إليه. هذا هو، في كتاب الحبريّات الرومانيّ، الالتزامُ الأخيرُ الذي يتعهّده المنتخَب للأسقفيّة، قبل المباشرة بوضع الأيدي: «هل تريد أن تتوسّل بدون انقطاع إلى الله من أجل الشعب المقدَّس وتؤدّي بطريقة لا عيبَ فيها مهمّة الكاهن الأعظم والراعي؟» (77). يصلّي الأسقف، بنوع خاصّ، من أجل قداسة كهنته، من أجل الدعوات للخدمة الكهنوتيّة والحياة المكرَّسة، كي يتعزّز على الدوام في الكنيسة الالتزام الرساليّ والرسوليّ.
في ما يخصّ ليتورجيّا الساعات الموضوعة لتكريس وتوجيه مجرى النهار كلّه بتسبيح الله، كيف لنا ألاّ نتذكّر عبارات المجمع الرائعة؟ «فالكهنةُ وغيرُهم منَ الذين انتُدِبوا بدعوةٍ من الكنيسة، أو المُؤمنونَ مُصَلِّين مع الكاهنِ بصورةٍ مُقرّرةٍ، عِندمَا يؤدُّون هذا النشيدَ المَدائحيَّ العجيبَ تأديةً صَحيحةً يَكونُ صوتُهم في الحَقيقة صوتَ العَروسِ نَفسِها تُخاطبُ العريسَ، أو قُلْ صلاةَ المَسيحِ معَ جَسدِه الى الآب. وهكذا فَجميعُ الذين يقومون بِهذِهِ المُهمّةِ يُنجزُون ما تَفرضُه الكنيسةُ ويَشتركُونَ في الشّرف الأسمَى الذي لَعروسِ المَسيحِ، لأنّهم بتأديتهم المَدائِح الإلهيّةَ يقفونَ أمامَ عرش اللهِ باسم الأمِّ الكَنيسة» (78). في كتابته عن صلاة الفرض الإلهيّ، أكدّ سلفي البابا بولس السادس أنها «صلاة الكنيسة المحليّة»، فيها يعبَّر عن «طبيعة الكنيسة المصلّية الحقيقيّة» (79). في تكريس الزمن الذي تحقّقه ليتورجيّا الساعات، يتأمن التسبيح الدائم الذي يسبق ويصوّر الليتورجيّا السماويّة، ويكوّن رباط وحدة مع الملائكة والقديسين الذين يمجّدون اسم الله أزليّاً. وكلّما ازداد الأسقف اندماجاً في الحيويّة الإسكاتولوجيّة النابعة من صلاة المزامير، كلّما ظهر واكتمل كإنسان رجاء. في المزامير يتردّد صوت العروس التي تخاطب العريس.
كلُّ أسقف يصلّي إذاً مع شعبه ويصلّي من أجل شعبه. لكنّ صلاة أبنائه المؤمنين والكهنة والشمامسة الإنجيليّين والمنضوين إلى الحياة المكرّسة والعلمانيّين من كلِّ الأعمار هي أيضاً تؤثّر فيه وتساعده. فالأسقف، في وسطهم، مربٍّ ومعزّزٌ للصلاة. وهو، ليس فقط ينقل ما تأمّله، لكنه يشرّع أمام المسيحيّين طريق التأمل نفسَها. الشعار الشهير «منحُ الآخرين ما تأملناه» يصبح إذاً «منحُ الآخرين التأمل».
طريق المشورات الإنجيلية والتطويبات
18- لقد عرض الربُّ طريقَ المشورات الإنجيليّة على جميع تلاميذه، وبالأخص على الذين يريدون، حتى في حياتهم على الأرض، أن يتّبعوه عن كثب على غرار الرسل. فضلاً عن أن المشورات هي هبة الثالوث للكنيسة، فهي عند المؤمن شعاع من حياة الثالوث (80). وهي بالأخصّ كذلك للأسقف الذي، بصفته خليفةَ الرسل، مدعوٌ الى اتّباع المسيح على طريق كمال المحبّة. فهو لذاك يكرّس مثلما يسوع مكرَّس. وحياته، أمام الكنيسة والعالم، هي خضوع جذريّ له وشفافيّة كاملة عنه. في حياة الأسقف يجب أن تسطع حياة يسوع، وبالتالي طاعته للآب حتى الموت، بل موت الصليب (را في 2: 8)، ومحبته الطاهرة والعذريّة، وفقرهُ الذي هو حريّة مطلقة بالنسبة إلى الخيرات الأرضيّة. وهكذا، يستطيع الأساقفة، بمثَلهم أن يقودوا، ليس فقط من دُعوا في الكنيسة إلى اتّباع المسيح في الحياة المكرّسة، بل ايضاً الكهنة الذين تعرض عليهم القداسة في جذريّتها، وفقاً لروح المشورات الإنجيليّة. على كل حال، إن مثل تلك الجذريّة تلزم المؤمنين جميعهم، حتى العلمانيّين، بما أنها «مقتضىً أساسيّ لا بديل منه ينجم من دعوة المسيح إلى اتّباعه والاقتداء به، بداعي ما يحقّقه الروح القدس فينا من شركة حياة وثيقة معه» (81).
في النهاية، يجب أن يتمكن المؤمنون من أن يتأمّلوا، في وجه الأسقف، الصفاتِ التي هي هبةٌ من النعمة والتي تشكّل في التطويبات صورةً ذاتيّةً للمسيح: وجهَ الفقر والوداعة والشغف بالعدالة؛ وجهَ الآب الرحيم والرجل المسالم وصانع السلام؛ وجهَ طهارة من يتطلّع دائماً وفقط نحو الله. يجب أن يتمكن المؤمنون أيضاً من أن يروا في أسقفهم وجهَ ذاك الذي يعيش مجدَّداً عطفَ يسوع نحو المعذّبين، وأحياناً كما حصل ذلك في التاريخ ويحصل أيضاً في ايامنا، الوجهَ المفعمَ قوةً وفرحاً داخليًّا وجهَ الذي يُضطهد بسبب حقيقة الإنجيل.
فضيلة الطاعة
19- فيما يحمل الأسقف في ذاته مظاهرَ يسوع تلك الكليّة الإنسانيّة، يصبح هكذا المثالَ والمعزّز لروحانيّة شركةٍ تصبو، مع انتباهٍ يقظ، إلى بناء الكنيسة، بحيث كلُّ شيء، كلاماً وفعلاً، يتمّ تحت علامة الخضوع البنويّ، في المسيح وفي الروح، لتدبير الآب المملوء حبّاً. وبصفته معلّمَ قداسة وخادماً لتقديس شعبه، يُدعى الأسقف إلى تتميم إرادة الآب بأمانة. طاعة الأسقف يجب أن تعاش باتخاذه مثالاً – ولا يمكن أن يكون غير ذلك! – طاعة المسيح عينَها، الذي أكدّ مراراً أنه لم ينزل من السماء ليعمل إرادته بل إرادة الذي أرسله (را يو 6: 38؛ 8: 29؛ في 2: 7-8).
إن الأسقف، باتباعه خطى المسيح، يخضع للإنجيل ولتقليد الكنيسة، ويعرف أن يقرأ علاماتِ الأزمنة، ويميّز صوت الروح القدس في الخدمة البطرسيّة وفي الجماعيّة الأسقفيّة. في الإرشاد الرسوليّ «أعطيكم رعاة» أوضحت الطابع الرسوليّ والجماعيّ والراعويّ الذي يميّز الطاعة الكهنوتيّة (82). بالطبع، تلك الميزات نجدها، بطريقة أشدَّ وقعاً أيضاً، في طاعة الأسقف.
إن كمال سرّ الرتبة الذي ناله الأسقف يضعه في علاقة خاصة مع خليفة بطرس، ومع أعضاء الهيئة الأسقفيّة ومع كنيسته الخاصة. عليه أن يشعر بأنه ملتزم بأن يعيش بقوّة تلك العلاقات مع البابا ومع إخوته الأساقفة في رباط وثيق من الوحدة والتعاون، متمّماً هكذا التدبير الإلهي الذي أراد أن يوحّد الرسل حول بطرس بعرًى لا تنفصم. وبفعل الرتبة التي قُبلت، تعزّز شركةُ الأسقف هذه الرئاسيّة مع الحبر الأعظم قدرته على أن يجعل حاضراً يسوعَ المسيح، رأسَ الكنيسة كلّها غيرَ المنظور.
لا يسعنا ألاّ نضيف أيضاً إلى مظهر الطاعة الرسوليّ المظهرَ الجماعيّ، بمعنى أن الأسقفيّة هي بطبيعتها «واحدة لا تتجزأ» (83). بفعل هذا الطابع الجماعيّ، يُدعى الأسقف إلى أن يعيش طاعته بالتغلّب على كل محاولةِ تفرّدٍ، وأن يولي عنايته، في مجمل رسالة الهيئة الأسقفيّة، الاهتمامَ بخير الكنيسة جمعاء.
وبصفة الأسقف مثالاً للإصغاء، عليه بالتالي أن يتنبّه فيعرف، بالصلاة والتمييز، مشيئة الله من خلال ما يقول الروحُ للكنيسة. وبممارسة سلطته بطريقة إنجيليّة، يعرف أن يفعّل الحوار مع معاونيه والمؤمنين كي ينمّي، بطريقة ناجعة، التفاهم المتبادل (84). وسيسمح له ذلك بأن يظهر، على الصعيد الراعويّ، كرامة ومسؤوليّة كلّ عضوٍ من شعب الله، ميسِّراً بطريقة متّزنة وصافية روح المبادرة عند كلّ فرد. لأنه من الواجب مساعدة المؤمنين على التقدّم نحو طاعة مسؤولة تجعلهم نشطاءَ على الصعيد الرعويّ (85). وبهذا الشأن، ما زالت واقعيّةً نصيحة القديس إغناطيوس الأنطاكيّ لبوليكربُس، حيث قال: «لا يُعملنَّ شيءٌ بدون رأيك، وأنت لا تعملنَّ شيئاً بدون الله» (86).
روح الفقر وممارسته عند الأسقف
20- علامةً للتوافق الجماعيّ، كرّر آباءُ السينودس الدعوة التي كنتُ قد أطلقتُها في أثناء ليتورجيّا افتتاح السينودس، كي تُعتبر تطويبة الفقر الإنجيليّة كأحد الشروط الضروريّة لتحقيق خدمة أسقفيّة خصبة، في الحالة الراهنة. وفي هذه المناسبة أيضاً، وسط جمعيّة الأساقفة، ارتسمت، نوعًا ما، صورةُ المسيح الربّ الذي «أتمّ عمل الفداء في الفقر والاضطهاد»، والذي يدعو الكنيسة أيضاً، وفي الطليعة رعاتَها، «فيلتزمون ذلك السبيل عينه كي يمنحوا البشر ثمار الخلاص» (87).
لذلك على الأسقف أن يكون رجلاً فقيراً، إذا أراد أن يكون شاهداً حقيقيّاً وخادماً لإنجيل الرجاء. هذا مفروض من أجل الشهادة الواجب تأديتها للمسيح الفقير؛ وكذلك من أجل اهتمام الكنيسة بالفقراء، فتخصّهم باختيار تفضيليّ. إن قرار الأسقف بأن يعيش خدمته في الفقر يسهم بفعّاليّة في جعل الكنيسة «بيت الفقراء».
علاوة على ذلك، إن مثل هذا القرار يحرّر الأسقف داخليّاً في ما يخصّ ممارسة خدمته ويسمح له، بطريقة ناجعة، توفير ثمار الخلاص. يجب أن تمارس السلطة الأسقفيّة بسخاءٍ لا يكلّ وبمجانيّة لا تنصدع. وهذا يقتضي من قبل الأسقف ثقةً كاملةً بعناية الآب السماويّ، وشركةً سخيّةً في الخيرات، ونمطَ حياةٍ قنوعاً، وسعياً إلى الارتداد الشخصيّ دائماً. ذلك هو سبيله الوحيد كي يستطيع المشاركة في هموم وآلام شعب الله الذي عليه ليس فقط أن يقودَه ويغذّيه بل أن يتضامن معه فيقاسمه قضاياه ويُسهم في إذكاءِ رجائه.
لن يتمّم الأسقف ذلك بفعّالية إلاّ إذا كانت حياته بسيطةً قنوعةً، وفي الوقت عينه نشيطةً وسخيّة، وإذا لم يهمّش من يُعتبرون حُثالة مجتمعنا بل يضعهم في قلب الجماعة المسيحيّة (88). وكأنما بغفلة منه، سوف ينمّي «ابتكار المحبّة» التي تبيّن القدرة على عيش المقاسمة الأخويّة أكثر من فعّالية توزيع المساعدات. لأنه، في كنيسة الرسل، على حدّ ما يشهد بذلك سفر أعمال الرسل، كان فقر البعض يثير تضامن الآخرين، فينجم عن ذلك ما يُدهش: أنه «لم يكن فيهم محتاج» (4: 34). إن العالم مدينٌ للكنيسة بهذه النبؤة، وقد اجتاحته قضايا الجوع واللامساواة بين الشعوب. في ذلك البعد من التقاسم والبساطة، يدير الأسقف خيرات الكنيسة «بطيبة أبي الأسرة» ويسهر فتُستخدَم وفقاً لأهداف الكنيسة الخاصّة: عبادة الله، أوَد الخدّام، أعمال الرسالة، مبادرات المحبّة نحو الفقراء.
قيّم الفقراء، ذلك كان دائماً لقبُ رعاة الكنيسة، ويجب أن يكون فعلاً اليوم أيضاً، فيكون حاضراً وناطقاً إعلانُ إنجيل يسوع المسيح، كأساسٍ لرجاء الجميع ولكن بالأخصّ لأولئك الذين لا ينتظرون إلاّ من الله وحده حياةً أكثر كرامة ومستقبلاً أفضل. يجب على الكنيسة والكنائس، وقد حفزها مثالُ الرعاة، أن تضع موضع العمل «الخيار التفضيليّ من أجل الفقراء»، الذي قدّمته برنامجاً للألفيّة الثالثة (89).
مع العفّة في خدمة الكنيسة التي تعكس طهارة المسيح
21- «خذ هذا الخاتم، عربون الأمانة: إحفظ في طهارة الإيمان عروس الله، الكنيسة المقدّسة». بهذه الكلمات التي يعلنها كتاب الحبريّات الرومانيّ (90)، يُدعى الأسقف إلى أن يعيَ الالتزام الذي يتعهّده بأن يعكس في ذاته محبّة المسيح البتوليّة لجميع مؤمنيه. إنه مدعوٌّ قبل كلِّ شيء إلى أن يقيم بين المؤمنين علاقاتٍ متبادلةً يوحيها الاحترام والتقدير اللائقان بأسرةٍ حيث يزهر الحبّ، وفقاً لما يحرّض عليه الرسول بطرس: «لأجل محبّة أخويّة لا رئاءَ فيها، أحبّوا بفضُكم بعضاً محبّةً قلبيّةً حارّة، ولاسيّما وقد وُلدتم ثانيةً لا من زرع فاسد بل من زرع غيرِ فاسد، بكلمة الله الحيّة الخالدة» (1 بط 1: 22-23).
وفيما الأسقف، بمثله وأقواله، يحرّض المسيحيّين كي يقدّموا ذواتهم ذبيحةً حيّةً مقدّسةً تليق بالله (را روم 12: 1)، فهو يذكّر الجميع «أن هيئة هذا العالم في زوال» (1 كو 7: 31)، وأنه من واجبهم إذاً أن يحيَوا «في انتظار الرجاء السعيد»، في التجلّي المجيد للمسيح (را تي 2: 13). ويظهر الأسقفُ بالأخصّ باهتمامه الراعويّ عطفاً أبويّاً لجميع الذين اعتنقوا الحياة الرهبانيّة بالتزام المشورات الإنجيليّة والذين يقدّمون للكنيسة خدمتهم الغالية. وكذلك يساند ويشجّع الكهنة الذين، وقد دعتهم النعمة الإلهيّة، اضطلعوا بحريّةٍ بالتزام العزوبيّة من أجل ملكوت السماوات، متذكّراً هو نفسه ومذكّراً إياهم بالأسباب الإنجيليّة والروحيّة لهذا الاختيار المتّسم بالأهميّة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لخدمة شعب الله. تشكل شهادة الحبّ العفيف للكنيسة ولعالم اليوم، من جهة نوعاً من العلاج الروحيّ للبشريّة، ومن جهة أخرى رفضاً لعبادة الغريزة الجنسيّة.
في الإطار الاجتماعيّ الراهن، على الأسقف أن يكون أقرب ما أمكن من قطيعه، وقبل كلِّ شيء من كهنته، متنبّهاً كأبٍ لمشاكلهم الزهديّة والروحيّة، موفّراً لهم ما يلزم من عونٍ كي يثبّت أمانتهم لدعوتهم ولمتطلّبات قداسةِ حياةٍ مثاليّة في ممارسة خدمتهم. وفي حال مخالفات خطيرة، وأكثر من ذلك، في حال جرائم تطال شهادة الإنجيل نفسَها، بالأخصّ من قبَل خدّام الكنيسة، على الأسقف أن يظهر قويّاً وحازماً، عادلاً وهادئاً. عليه أن يتدخّل بسرعة، وفقاً للأنظمة القانونيّة المرعيّة الإجراء أكان للتأديب ولخير الخادم المكرَّس الروحي أم لتعويض الشكّ وإحقاق الحقّ، وأيضاً في ما يخصّ حماية الضحايا وتوفير العون لهم.
إن الأسقف، بكلامه وعمله الساهر والأبويّ، يتمّم الواجب بأن يقدّم للعالم حقيقة كنيسة مقدّسة وعفيفة، في خدّامها ومؤمنيها. بمثل هذا التصرّف يتقدّم الراعي شعبه، كما فعل المسيح العريس الذي قدّم ذاته من أجلنا وترك للجميع مثال حبّ صافٍ عذريّ، وبالتالي خصبٍ وشامل.
منعشُ روحانيّةِ شركةٍ ورسالةٍ
22- في الرسالة الرسوليّة «في مطلع الألفيّة الجديدة»، أظهرت ضرورة «أن نجعل من الكنيسة بيت الشركة ومدرستها» (91). كان لهذه الفكرة صدًى عظيم فردّدتها الجمعيّة السينودسيّة. بالطبع، وفي الطليعة، إنه من واجب الأسقف، في مسيرته الروحيّة أن يضطلع بإذكاء وإنعاش روحانيّة الشركة، فيجهد بدون كلل كي يجعل منها أحد مبادىءِ التربية الأساسيّة في كل الأمكنة: في الرعايا، في المنظمات الكاثوليكيّة، في الحركات الكنسيّة، في المدارس الكاثوليكيّة، في جماعات الشباب. وبالأخصّ، يعود إلى الأسقف أن يجهد فتظهر وتترسّخ روحانيّة الشركة حيث يربّي كهنة المستقبل، أي في الإكليريكيّات، وكذلك في دور الابتداء الرهبانيّة، والأديار، وفي معاهد وكليّات اللاهوت.
ولقد بيّنتُ ولخّصتُ في تلك الرسالة الرسوليّة عينها النقاط البارزة في إذكاء روحانيّة الشركة. يكفي أن نضيف هنا أن على الأسقف أن يشجّعها داخل مجلس كهنة الرعايا، وما بين الشمامسة الإنجيليّين والرهبان والراهبات. وذلك بالحوار، في اللقاءات الخاصّة، وأيضاً في اللقاءات الجماعيّة. ولذلك لن يألو جهداً في أن يوفّر في كنيسته الخاصّة أوقاتاً ملائمة يُتَهيَّأُ فيها الإصغاءُ الحسن «لما يقول الروحُ للكنائس» (رؤ 2: 7، 11، إلخ). تلك هي، مثلاً، الرياضات والتمارين الروحيّة وأيام الرجوع إلى الذات، يُضاف إليها أيضاً الاستخدام الفطن لوسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة، إذا ما توخّي من ذلك منفعة أعظم.
إنماءُ روحانيّة شركة، يعني أيضاً، بالنسبة إلى الأسقف، إنماءَ الشركة مع الحبر الرومانيّ ومع سائر إخوته الأساقفة، بالأخصّ ضمن المجلس الأسقفيّ الواحد في المقاطعة الكنسيّة الواحدة. حتى في مثل هذا الوضع، وبالأخص في سبيل تخطي خطر العزلة واليأس أمام اتساع القضايا وعدم تناسبها، على الأسقف أن يلجأ بكل طيبة خاطر، علاوة على الصلاة، إلى الصداقة والشركة الأخويّة مع إخوته في الأسقفيّة.
يعبّر دائماً عن الشركة، في مصدرها ومثالها الثالوثيّ، في الرسالة. فالرسالة هي ثمرة الشركة ونتيجتها المنطقيّة. بالانفتاح على آفاق الرسالة وطوارئها تُنمَّى فعّاليّة الشركة، وتؤمّن شهادة الوحدة كي يؤمن العالم، وتتوسّع رحاب المحبّة كي يبلغ الجميعُ الشركة الثالوثيّة، التي منها جاءوا وإليها هم صائرون. وكلّما ازدادت الشركة شدّة، تيسّرت الرسالة، بالأخصّ إذا رافقها فقرُ المحبّة: ففيه تكمن القدرة على الاقتراب من كل إنسان وجماعة وثقافة بقدرة الصليبِ وحدَها، الصليبِ الرجاءِ الأوحد والشهادة المطلقة لمحبّة الله، والتي تتجلّى أيضاً كمحبّةِ أخوّةٍ شاملة.
مسيرة طريق يوميّة
- إن الواقعيّة الروحيّة تحثّ على الاعتراف بأن الأسقف مدعوٌّ إلى أن يحيا دعوته إلى القداسة في إطار مصاعب خارجيّة وداخليّة، في إطار ضعف شخصيّ وخارجيّ، ومستجدّات يوميّة وقضايا شخصيّة ومؤسّساتيّة. ذلك هو الواقع المستمرّ في حياة الرعاة، الذي يشير إليه القديس غريغوريوس الكبير عندما يكتشف بألم ويعلن: «لكن، منذ وضعتُ على كاهلي، بمحبّة، الحِمل الراعويّ، لم تعد نفسي قادرةً على أن تحافظ على الخلوة الدائمة، فيما يتنازعها هذا الكمُّ من الهموم. لأنّي أضطرُّ تارةً إلى أن أتفحّص نزاعات الكنائس، وأخرى نزاعات الأديار؛ وفي الغالب أن أُصدر حكماً بشأن حياة الأفراد وتصرّفاتهم […]. فكيف يمكن نفسي المجزَّأة الممزَّقة أن تعود إلى ذاتها كي تستجمع قواها من أجل الوعظ، فلا تهملُ خدمة الكلمة؟ […] وهكذا على الرقيب أن يحيا، في آن معاً، في الأعالي ومع أخذ الحذر» (92).
في مناهضة القوى المتباعدة التي تسعى لصَدع وحدة الأسقف الداخليّة، عليه أن يوفّر لذاته أسلوب حياة هادىء، يؤمّن التوازن الذهنيّ والنفسانيّ والعاطفيّ، يجعله أهلاً للانفتاح على استقبال الأشخاص وتساؤلاتهم في إطار من المشاركة الحقيقيّة في مختلف الأوضاع الفرحة أو الحزينة. ويشكّل اعتناءُ الأسقف بصحته، في مختلف أبعادها، عمل محبّة تجاه المؤمنين وضماناً لانفتاح أعظم واستعداد أكبر لتقبّل إيحاءات الروح. وفي هذا الموضوع، تتبادر إلى الذهن إرشادات القديس شارل بورّومي، الراعي اللامع، في خطابه أمام أعضاء سينودسه الأخير: «إنك مسؤول عن نفوس؟ فلا داعيَ أن تهمل الاهتمام بذاتك، وألاّ يبقى لك شيءٌ من ذاتك لذاتك، بحجّة أنك تتفانى بسخاءٍ في سبيل الآخرين. عليك أن تتذكّر النفوس التي أنت رئيسُها دون أن تنسى ذاتك» (93).
على الأسقف إذاً أن يُعنى فيحقّق بتوازنٍ التزاماته العديدة، منسّقاً ما بينها: الاحتفال بالأسرار الإلهيّة والصلاة الفرديّة، الدراسة الشخصيّة والمناهج الراعويّة، الخلوة والراحة الحقّة. وفيما تلك العناصر تساند الأسقف في حياته الداخليّة، يحصل على سلام القلب باختباره عمق الشركة مع الثالوث الذي اختاره وكرّسه. وبنعمته تعالى، يستطيع أن يؤمّن كلّ يوم خدمته، متنبّهاً لحاجات الكنيسة والعالم، باعتباره شاهداً للرجاء.
تثقّف الأسقف الدائم
24- إن الجمعيّة السينودسيّة قد ذكّرت أيضاً بضرورة تثقّف الأسقف الدائم، لعلاقته الوثيقة بالتزامه السَّير بدون كلل على طريق القداسة، عائشاً روحانيّةً مرتكزةً على المسيح وكنيسته. إن التثقّف الدائم الضروريّ لجميع المؤمنين، كما أشارت الى ذلك السينودسات السابقة وذكّرت به الإرشادات الرسوليّة: العلمانيون المؤمنون بالمسيح وأعطيكم رعاة والحياة المكرّسة، يجب أن يُعتبر أيضاً ضرورةً ملحّة للأسقف الحامل على كتفيه في الكنيسة مسؤوليّة تقدّم الجميع والسَّير في الوفاق.
وكما أن التثقّف الدائم ضروريٌّ للكهنة وللمكرَّسين، فهو للأسقف ايضاً من مستلزمات دعوته ورسالته الجوهريّة. فبفضله، يمكنه أن يميّز النداءات الجديدة التي من خلالها يحدّد اللهُ ويؤوّن النداءَ الأول. الرسولُ بطرسُ نفسُه، بعد «اتبعني!» اللقاء الأول مع المسيح (را متى 4: 19)، سمعَ الناهضَ من بين الأموات يردّد له الدعوة ذاتها، قبل أن يغادر الأرض، ويعلن له المصاعبَ ومضايقَ خدمته العتيدة، مضيفاً: «أنتَ، اتبعني!» (يو 21: 22). «فهناك إذاً «اتبعني!» يرافق حياة الرسول ورسالته. إنه «اتبعني!» يؤكّد النداء وواجب الأمانة حتى الموت، «اتبعني!» يمكن أن يعني اتّباعاً للمسيح بعطاء الذات الكامل في الاستشهاد» (94). إن الأمر بالطبع لا يقتصر فقط على استطلاع مناسبٍ تتطلّبه معرفةٌ واقعيّةٌ لوضع الكنيسة والعالم تسمح للراعي بأن يندمج في الزمن الراهن بروحٍ منفتحٍ وقلبٍ رحيم. إلى جانب هذا السبب الداعي إلى تثقّفٍ دائم هناك دواعٍ أنثروبولوجيّة تنجم عن أن الحياة نفسها هي مسيرة مستديمة نحو النضج؛ هناك دواعٍ لاهوتيّة وثيقة الارتباط بجذور السرّ: فالأسقف عليه «أن يصون بمحبة يقظة «السرّ» الذي يحمله في ذاته لخير الكنيسة والبشريّة» (95).
أما «التجديد» (aggiornamento) الدوريّ، بالأخصّ بشأن بعض المواضيع الوافرة الأهميّة، فهو يتطلّب متّسعاً من الوقت للإصغاء والشركة والحوار مع أشخاص خبراء – أساقفة، كهنة، رهبان، راهبات، علمانيّين – يتمّ معهم تبادل خبراتٍ راعويّة، ومعارف عقيديّة، وموارد روحانيّة لا بدَّ أن توفّر ثراءً شخصيّاً حقيقيّاً. لذلك نوّه آباءُ السينودس بالمنفعة الناجمة عن دروس خاصّة في التثقيف، من مثل اللقاءات السنويّة التي يحبّذها «مجمع الأساقفة» أو «مجمع تبشير الشعوب» لخدمة الأساقفة الحديثي السيامة. وأعرب الآباء أيضاً عن أمنيتهم بأن تؤمّن للأساقفة دروس تثقيفٍ مختصرة أو أيام دراساتٍ وتجديد، وتمارين روحيّة، تنظّمها وتحضّرها السينودسات البطريركيّة والمجالس الأسقفيّة الدوليّة والإقليميّة والمجامع الأسقفيّة القاريّة.
من اللائق أن تأخذ رئاسةُ المجلس الأسقفيّ على عاتقها تأمينَ تحضير وتحقيق مثل هذه المناهج للتثقيف الدائم وأن تشجّع الأساقفة على المشاركة في هذه الدروس فتتحقّق بذلك شركة أعظم ما بين الأساقفة، وفعّاليّة راعويّة أفضل في مختلف الأبرشيّات (96).
من الواضح، على كلّ حال، أنه مثلما حياة الكنيسة هي في تطوّر كذلك أساليب عمل الأسقف ومبادراته الراعويّة وأشكال خدمته. فيتحتّم أيضاً، من هذا القبيل، أن تنظَّم الأمور وفقاً لما ترتّبه «مجموعة الحقّ القانونيّ»، وما تمليه التحدّيات الحديثة والتزامات الكنيسة الجديدة في المجتمع. في هذا الإطار، اقترحت الجمعيّة السنودسيّة أن يُعاد النظر في الدليل «وجه الكنيسة» الذي وضعه مجمع الأساقفة في 22 شباط 1973، فيتوافقَ ومتطلَّباتِ الأزمنة التي تبدّلت، والمستحدثات التي طرأت في الكنيسة وفي الحياة الراعويّة (97).
مثال الأساقفة القدّيسين
25- إن الأساقفة، في حياتهم وفي خدمتهم، في مسيرتهم الروحيّة وفي جهدهم لتكييف عملهم الرسوليّ ومستلزماتِ الرسالة، يشجّعهم على الدوام مثالُ الرعاة القديسين. لقد اقترحتُ بذاتي، في عظة الاحتفال الإفخارستيّ في ختام السينودس، مثال الرعاة القديسين الذين أُعلنت قداستهم في القرن الماضي، شهادةً لنعمة الروح التي لا ولن تبارح الكنيسة أبداً (98).
إن تاريخ الكنيسة، منذ عهد الرسل، يعرف عدداً من الرعاة لا يُستهان به، باستطاعة عقيدتهم وقداستهم أن ينيرا ويقودا مسيرة أساقفة الألفيّة الثالثة الروحيّة. إن الشهادات المجيدة التي أدّاها رعاة القرون الأولى للمسيحيّة العظام، ومؤسّسو الكنائس الخاصّة، والمعترفون بالإيمان والشهداء، الذين في أزمنة الاضطهاد، بذلوا حياتهم من أجل المسيح، تبقى نقاطَ مرجعيّةٍ ساطعةً يمكن أساقفة عصرنا أن يتطلّعوا إليها كي يستقوا منها دلائل ومنشّطاتٍ في خدمتهم الإنجيل.
إن العديد منهم، بالأخصّ، تميّزوا بمثالهم في ممارسة فضيلة الرجاء، في الأزمنة العصيبة، عندما ساندوا شعبهم، وأعادوا بناءً كنائسهم بعد حقبات الاضطهاد والكوارث، وشادوا الدورَ لاستقبال الحجّاج والفقراء، وأنشأوا مشافي لعلاج المرضى والمسنّين. والعديدُ من الأساقفة الآخرين كانوا قادةً مستنيرين شقّوا سبلاً جديدة لشعبهم. ففي الأزمنة الصعبة، واجهوا تحدّيات الوقت الراهن بأجوبةٍ إيجابيّة خلاّقة جاعلين نظرهم إلى المسيح رجائنا الذي صُلبَ وقام من بين الأموات.
في مطلع الألفيّة الثالثة، هناك بعدُ مثلُ أولئك الرعاة الذين لديهم تاريخٌ يخبرونا عنه، تاريخٌ يحييه إيمانٌ متأصّلٌ كليّاً في الصليب. إنهم رعاة يعرفون أن يتقبّلوا التطلّعات الإنسانيّة، ويتحمّلوا مسؤوليّتها، وينقّوها ويفسّروها على ضوء الإنجيل، فلذلك إنَّ لديهم أيضاً تاريخاً يشيدونه مع كلِّ الشعب الموكول إليهم.
على كلِّ كنيسة خاصّة إذاً أن تكرّم أساقفتها القدّيسين، ذاكرةً ايضاً الرعاة الذين، بقداسة حياتهم وتعاليمهم النيّرة أورثوا الشعب ميراثاً خاصّاً من الإعجاب والحنان. إنهم الرقباء الروحيّون الذين، من السماء، يقودون مسيرة الكنيسة في طريق حجّها الزمنيّ. ولهذا السبب ايضاً، وبغية الحفاظ حيّةً على ذكرى أمانة الأساقفة العظام في ممارسة خدمتهم، أوصت الجمعيّة السينودسيّة بأن تعمد الكنائسُ الخاصّة أو المجالسُ الأسقفيّة، حسب الظروف، إلى إطلاع المؤمنين على شخصهم بواسطة سَير حياةٍ موضوعيّة حديثة، وإذا لزم الأمر إلى فحص ملاءمة مباشرة إعلان قداستهم (99).
إن شهادة حياةٍ روحيّة ورسوليّة كاملةِ الإنجاز تبقى، حتى في أيامنا، برهاناً قاطعاً لقدرة الإنجيل على تبديل الأشخاص والجماعات، بإدخالها في العالم وفي التاريخ قداسة الله بالذات. وهذا ما يسبّب الرجاء، بالأخصّ للأجيال الطالعة التي تنتظر من الكنيسة اقتراحات منشّطة تستوحي منها التزامًا لتجديد المجتمع الراهن في المسيح.
“الفصل الثالث”
معلّمُ الإيمان ورسولُ الكلمة
«إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل…»
(مر 16: 15)
26- أوكل يسوع القائم من بين الأموات إلى رسله بأن يذهبوا إلى جميع الأمم كي «يتلمذوهم»، معلّمين إيّاهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به. فإلى الكنيسة، جماعة تلاميذ الربّ الذي صُلب وقام، عُهدت إذاً رسميّاً مهمّة الكرازة بالإنجيل للخليقة كلّها. إنها مهمّة تدوم حتى منتهى الدهر. بدءاً من تلك البداية الأولى، لا يمكن بعدئذٍ أن تفكّر بكنيسة تخلو من تلك الرسالة التبشيريّة. ولقد بيّن الرسول بولس أنه وعى ذلك عندما سجّل ذلك التصريح المعروف جدّاً: «إن التبشير بالإنجيل ليس لي موضوعَ فخر: إنّ ذلك ضرورةٌ موضوعةٌ عليَّ، والويل لي إن لم أبشّر!» (1 كو 9: 16).
إذا كان واجب التبشير بالإنجيل من خصائص الكنيسة كلّها وكلٍّ من أبنائها، فهو بالأحرى من خصائص الأساقفة، الذين يتعهّدون، يوم سيامتهم التي تضمّهم إلى السلالة الرسوليّة، بأن يلتزموا، على الأخصّ، بالتبشير بالإنجيل، «داعين البشر بقوّة الروح إلى الإيمان، أو مثبّتين إيّاهم في الإيمان الحيّ» (100).
إن نشاط الأسقف التبشيريّ الهادف إلى حمل البشر على الإيمان وإلى ترسيخهم فيه لهو من أبرز مظاهر أبوّته. إنه بإمكانه إذاً أن يردّد مع القديس بولس: «لأنه، وإن يكن لكم ربواتٌ من المعلمين في المسيح، فليس لكم آباءٌ كثيرون: إذ إني أنا قد ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيـل» (1 كو 4: 15). لمن المؤكّد أنه، بتلك القوّة التي تولّد الحياة الجديدة بحسب الروح، تظهر الخدمة الأسقفيّة للعالم بمثابة علامة رجاءٍ للشعوب ولكل إنسان.
ولقد صدق آباءُ السينودس عندما ذكّروا بأن البشارة بالمسيح تحتلّ على الدوام المكانة الأولى، وأن الأسقف هو أول مبشّر بالإنجيل، بالكلام وبشهادة الحياة. عليه أن يعيَ التحدّيات الكامنة في الوقت الراهن وأن تكون له شجاعة مناهضتها. إن الأساقفة، بصفتهم خدّامَ الحقيقة، عليهم أن يلتزموا هذا الواجب بقوّة وثقة (101).
المسيح في قلب الإنجيل والإنسان
27- احتلّ موضوع الكرازة بالإنجيل الصدارة في مداخلات آباء السينودس فأكدوا مراراً وبشتّى الطرق أن النقطة المركزيّة الحيّة للكرازة بالإنجيل هي المسيح الذي صلب وقام من بين الأموات لخلاص جميع البشر(102).
المسيح هو قلب التبشير بالإنجيل الذي «يتمحور منهاجه، بالنتيجة، حول المسيح نفسه الذي علينا أن نعرفه ونحبّه ونقتدي به كي نحيا فيه حياة الثالوث ونحوّل معه التاريخ حتى اكتماله في أورشليم السماويّة. إنه منهاج لا يبدّله تحوّل الأزمان والثقافات، حتى إذا أخذ هو بعين الاعتبار الزمن والثقافة في سبيل حوار حقيقيّ وتواصل ناجع. هذا المنهاج الدائم هو منهاجنا للألفيّة الثالثة» (103).
من المسيح، قلبِ الإنجيل، تتفرّع جميعُ حقائق الإيمان الأخرى ويشعّ كذلك الرجاءُ لجميع البشر. لأن المسيح هو النور الذي ينير كلَّ إنسان؛ وكلَّ من يُولد من جديد فيه يحصل على بواكير الروح التي تجعله قادراً على إتمام شريعة المحبّة الجديدة (104).
لذلك، وبحكم مهمّة الأسقف الرسوليّة ذاتها، فإنه يؤهَّل لأن يولج شعبه إلى قلب سرّ الإيمان، حيث يلتقي شخصَ يسوعَ المسيح الحيّ. بهذا يتوصّل المؤمنون إلى أن يفهموا أن مصدرَ كلِّ اختبارٍ مسيحيّ ومركزَ مرجعيّته الذي لا يزول هو فصح يسوعَ غالبِ الخطيئةَ والموت (105).
الكرازة بموت الربّ وقيامته تتضمّن «الكرازة النبويّة بالعالَم الآخر، الذي يدعى إليه الإنسان دعوةً راسخةً نهائيّة، عالم هو، في آنٍ معاً، في استمرارٍ وفي عدم استمرارٍ مع الوضع الراهن: ما بعد الزمن والتاريخ، ما بعد حقيقة هذا العالم الذي صورته إلى زوال […] إذاً، يشمل التبشير بالإنجيل أيضاً، التبشير بالرجاء في الوعود التي قطعها الله في العهد الجديد بيسوعَ المسيح» (106).
الأسقف يصغي إلى الكلمة ويحفظها
28- شرح المجمع الفاتيكانيُّ الثاني أن رسالة التعليم الخاصّة بالأساقفة تقوم على صون الإيمان بقداسة وعلى إعلانه بشجاعة، وفقاً للخطة التي رسمها تقليد الكنيسة (107). من هذه النظرة، يظهر في كلّ غناه ما يوحي به الطقس الرومانيّ للسيامة الأسقفيّة، عندما يوضع على رأس الأسقف المنتخب كتاب الإنجيل مفتوحاً. هذه الحركة تريد أن تعبّر من جهة عن أن كلمة الله تتخلّل وتصون خدمة الأسقف، وتعني من جهة أخرى أن حياته يجب أن تخضع كليّاً لكلمة الله فيعكف يوميّاً إلى التبشير بالإنجيل بكلّ أناة ورسوخ عقيدة (را 2 تيم 4: 2). وغالباً ما ذكّر آباءُ السينودس، هم أيضاً، أن الأسقف هو الذي يسهر بحبٍّ على كلمة الله ويدافع عنها بشجاعة شاهداً لرسالتها الخلاصيّة. إن معنى وديعة التعليم الأسقفيّ تنجم عن طبيعة ما يجب أن يُحفظ، أعني وديعة الإيمان.
في كلا العهدين من الكتاب المقدَّس وفي التقليد نرى أن السيّد المسيح قد عهد إلى كنيسته بالوديعة الواحدة للوحي الإلهيّ الذي هو مرآة «تتأمل فيه، هي ذاتُها، اللهَ الذي من لدنه تنال كلَّ شيء، في مسيرة حجّها على الأرض، إلى أن تتمكن من رؤيته وجهاً لوجهٍ كما هو» (108). هذا ما جرى على مرّ القرون حتى أيامنا هذه: بتقبّل الكلمة الدائمة التجدّد والنفع، خلال الأزمان المتعاقبة، أصغت الجماعات المختلفة بخضوعٍ إلى صوت الروح القدس، عاملةً على إحيائه وتنشيطه في واقع مختلف الحقبات التاريخيّة. بذلك الكلمةُ المتناقَلة، أي التقليد، بوعيٍ دائمِ الازدياد، أصبحت، كلمةَ الحياة؛ وفي الوقت عينه تحقّقت تدريجاً مهمّةُ إعلانها والحفاظ عليها، بقيادة روح الحقّ وأزره، بصفتها تناقلاً متواصلاً لكلّ كيان الكنيسة وكلّ ما تؤمن به (109).
إن التقليد النابعَ من الرسل يتقدّم في حياة الكنيسة، على حدّ ما علّم المجمع الفاتيكانيّ الثاني. بالطريقة عينها، ينمو ويتطوّر فهم الأشياء والكلمات المتناقَلة بحيث ينشأ انسجامٌ فريدٌ من العواطف بين الأساقفة والمؤمنين بفضل الحفاظ على الإيمان المتناقَل وتطبيقه والمجاهرة به (110). في نشدان الأمانة للروح المتكلّم داخل الكنيسة، يلتقي إذاً المؤمنون والرعاة ويقيمون روابط إيمان وثيقة تشكّل البرهة الأولى لحاسة الإيمان (sensus fidei). فمن المستحسن، في هذا الشأن أن نردّد عبارات المجمع: «إن جماعة المؤمنين الذين نالوا مسحة القدّوس (را يو 2: 20، 27) لا يمكن أن تضلَّ في الإيمان؛ وتظهر هذه الخاصّة التي تتميّز بها، بواسطة حاسّة الإيمان الفائقة الطبيعة التي يتمتّع بها الشعب بأسره عندما يُجمع رأيه، “من الأساقفة إلى آخر المؤمنين”، على قضيّة إيمانيّة أو أدبيّة» (111).
لذلك، إن حياة الكنيسة والحياة في الكنيسة هما، بالنسبة إلى كلّ أسقف، الشرطُ الذي لا يمكن الاستغناءُ عنه في ممارسته رسالة التعليم. ويجد الأسقف هوّيّته ومكانه في وسط جماعة تلاميذ الربّ، حيث نال موهبة الحياة الإلهيّة والتعليم الأوّل في الإيمان. كلُّ أسقف، بخاصّة عندما يمارس، من كرسيّه الأسقفيّ أمام جماعة المؤمنين، مهمّة المعلّم في الكنيسة يجب أن يتمكّن فيردّد مع القديس أوغسطينس: «من الموقع الذي نحتلّه، نحن معلمّوكم؛ لكن، بالنسبة إلى المعلّم الأوحد، نحن معكم رفاق صفٍّ في المدرسة الواحدة» (112). في الكنيسة، مدرسة الله الحيّ، الأساقفة والمؤمنون هم جميعاً رفاق الصف الواحد وجميعهم بحاجة إلى أن يعلّمهم الروح.
كثيرة، في الحقيقة، هي الأماكن التي منها يعطي الروحُ تعليمه الداخليّ: أولاً قلبُ كلّ إنسان، ثم حياة مختلف الكنائس الخاصّة، حيث يظهر ويعتلن العديدُ من حاجات الأشخاص والجماعات الكنسيّة المختلفة، التي يعبَّر عنها بألفاظٍ معهودة، وأخرى بألفاظٍ متنوّعة وجديدة.
يتكلّم الروحُ ايضاً عندما يُثير في الكنيسة أنواعاً مختلفة من المواهب والخدَمات. فلهذا السبب أيضاُ، غالباً ما سُمع، في قاعة السينودس، أصواتٌ تحضُّ الأساقفة على اللقاءِ المباشر والاتصال الشخصيّ مع المؤمنين الذين يعيشون في الجماعات التي عُهد بها إلى اهتمامهم الراعويّ، على مثال الراعي الصالح الذي يعرف نعاجه ويدعو كلَّ واحدة باسمها. إن لقاء الأسقف المتواتر أولاً مع كهنته ثمَّ مع الشمامسة الإنجيليّين والأشخاص المكرَّسين وجمعيّاتهم ومع المؤمنين العلمانيّين، فرادى أو في جماعات مختلفة العناصر، يتّسم بأهميّة كبرى لممارسة خدمة ناجعة وسط شعب الله.
خدمة الكلمة الحقيقيّة والمميّزة
29- بالسيامة الأسقفيّة، نال كلُّ أسقف الرسالة الأساسيّة بأن يعلن الكلمة بطريقة مميّزة. فإن كلَّ اسقف، بفضل السيامة المقدَّسة، هو معلّمٌ حقيقيٌّ يعظ الشعب الموكولَ إليه بالإيمان الذي يجب عليه أن يلتزمه وأن يكيّف به أخلاقه. وهذا يعني أن الأساقفة يتّشحون بسلطة المسيح نفسها. ولهذا السبب الأساسيّ، «إن الأساقفة، إذا ما علّموا وهم على الشركة مع الحبر الرومانيّ، فإنَّ من حقّهم على الجميع الاحترامَ اللائقَ بشهود الحقيقة الإلهيّة الكاثوليكيّة؛ وعلى المؤمنين أن يتوافقوا والرأيَ الذي عبَّر عنه أسقفهم، باسم المسيح، في ما يتعلّق بالإيمان والآداب، وأن يلتزموه بخضوعٍ من الذهن دينيّ» (113). في هذه الخدمة للحقيقة، يقف كلُّ أسقف إزاءَ الجماعة، بمعنى أنه لخدمة الجماعة، التي يوجِّه إليها اهتمامه الراعويّ، والتي من أجلها يرفع نحو الله صلاته بإلحاح.
ما سمعه كلُّ اسقف وتقبَّله من قلب الكنيسة، يردّه إذاً إلى إخوته الواجب عليه أن يهتمّ بهم كالراعي الصالح. وفيه تبلغ حاسّةُ الإيمان كمالها. من هذا القبيل، يعلّم المجمع الفاتيكانيُّ الثاني «أن شعب الله، بقوّةِ حاسَّةِ الإيمان هذه التي يُوقظُها روحُ الحقيقةِ ويسندُها، وبقيادةِ السُّلطةِ المعلّمة المقدّسةِ التي يتسلَّمُ منها، بخضوعٍ وأمانةٍ، لا كلامَ الناس بل كلامَ الله حقّاً (1 تيم 2: 13)، يتمسّك تمسكاً ثابتاً بالإيمان الذي سُلِّمَ للقديسين دفعةً واحدة (يهو 3)؛ ويمكِِّنُه استواءُ حكمِه من فهمه فهماً أعمقَ، ومن وضعه في حياته موضعَ العمل على وجهٍ أكمل» (114). إنها إذاً كلمةٌ لم تعد، وسط الجماعة وإزاءَها، فقط كلمة الأسقف بصفته الشخصيّة، بل كلمة الراعي الذي يثبّت الإيمان ويؤلّب حول سرّ الله ويولّد إلى الحياة.
إن المؤمنين يحتاجون إلى كلمة أسقفهم وأن يثبَّت إيمانهم وينقّى. إن الجمعيّة السينودسيّة، من جهتها، اشارت إلى تلك الحاجة، وأظهرت بعض الميادين المحدَّدة حيث يُستشعر به بنوعٍ خاصّ. أحدُ تلك الميادين هو البشارة الأولى (الكيرغما) الدائمةُ الضرورة لإثارة طاعة الإيمان، والتي نحن بأمسِّ الحاجة إليها في الوضع الراهن الموسوم بلامبالاة العديد من المؤمنين وجهلهم للدين (115). في ميدان التعليم المسيحيّ أيضاً من الواضح أن الأسقف هو المعلّم بكل معنى الكلمة. إن دورَ القدّيسين والأساقفة العظام القاطع، الذين يُرجَع بإعجابٍ حتى اليوم إلى نصوصهم في التعليم المسيحيّ، يشجّع على التنويه بأنه من واجب الأسقف على الدوام أن يتولّى الإدارة العليا للتعليم المسيحيّ. في مهمّته هذه، عليه ألاّ يغفل الرجوع إلى التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة».
ما كتبته في الإرشاد الرسوليّ «معلّمو التعليم المسيحيّ» ما زال صالحاً: «أنتم [الأساقفة] عُهد إليكم برسالة خاصة في كنائسكم: إنكم المسؤولون الأولون فيها عن التعليم المسيحيّ» (116). لذلك إنه من واجب كلّ أسقفٍ أن يؤمّن في كنيسته الخاصّة الأولويّة الفعليّة لتعليم مسيحيّ ناشط فاعل. وعليه شخصيّاً أن يمارس اهتمامه، بواسطة مداخلاتٍ مباشرة، فيثير وينمّي عشقاً للتعليم المسيحيّ حقيقيّاً (117).
على كلّ أسقف يعي مسؤوليّته في ميدان تناقل الإيمان والتربية على الإيمان أن يجهد في أن يتحلّى بمثل هذه العناية أولئك المدعوّون أيضاً إلى نقل الإيمان، بداعي دعوتهم ورسالتهم. أعني بهم الكهنة والشمامسة الإنجيليّين والمؤمنين المكرَّسين، والآباء والأمهات في الأسر، والعاملين في الرعايا وبنوع خاصّ معلّمي التعليم المسيحيّ، وكذلك أيضاً أساتذة اللاهوت والعلوم الكنسيّة ومعلّمي الديانة الكاثوليكيّة (118). لذلك على الأسقف أن يهتمّ بتثقيفهم الأول والمستديم.
تلبيةً لهذا الواجب أيضاً يُستحسن بخاصّةٍ إجراءُ حوارٍ مفتوح وتعاونٌ مع اللاهوتيّين الذين يعود إليهم التعمّق بأسلوبٍ مناسب في الغنى الذي لا يُسبر غورُه الخاصّ بسرّ المسيح. لن يتوانى الأساقفة عن أن يُسدوا إليهم وإلى المؤسّسات المدرسيّة والأكاديميّة حيث يعملون، تشجيعهم ومساندتهم، كي يتمّوا عملهم في خدمة شعب الله، في الأمانة للتقليد وفي التنبّه لأحداث التاريح البارزة (119). وحيث تدعو الحاجة، على الأساقفة أن يصونوا بحزمٍ وحدة الإيمان وتمامه، فيحكمون بسلطانٍ في ما يتلاءَم، أو لا، وكلمةَ الله (120).
ولفت آباءُ السينودس أيضاً نظر الأساقفة إلى مسؤوليّتهم التعليميّة على صعيد الآداب. إن النظم التي تقترحها الكنيسة إنما تعكس الوصايا الإلهيّة التي تختصرها وتتوّجها وصيّة المحبّة الإنجيليّة. إن الهدف الذي يتوق إليه كلُّ تدبير إلهيّ هو خير الإنسان الأعظم. وما تزال وصيّة سفر تثنية الاشتراع تحتفظ حتى اليوم بكلّ قيمتها: «في كلِّ الطريق الذي أوصاكم به الربُّ إلهكُم تسيرون، لكي تحيَوا وتصيبوا خيراً وتُطيلوا أيامكم على الأرض التي سترثونها» (5: 33). علاوةً على ذلك، يجب ألاّ يغفل عن الذهن أن الوصايا العشر متأصّلة في طبيعة الإنسان نفسها، ومن ثمّ فإن القيمَ التي تدافع عنها لها مدلولٌ شامل. ويصحُّ ذلك بالأخصّ في ما يتعلّق بالحياة البشريّة – الواجب الذَّودُ عنها من الحَمْل حتى النهاية بموتٍ طبيعيّ -، وبحريّة الأشخاص والشعوب، وبالعدالة الاجتماعيّة والهيكليّات الآيلة إلى تفعيلها (121).
الخدمة الأسقفيّة في سبيل انثقاف الإنجيل
30- إن تبشير الثقافة وانثقاف الإنجيل يشكّلان جزءاً لا يتجزَّأ من التبشير الجديد بالإنجيل ويكوّنان إذاً مهمَّة خاصة من المسؤوليّة الأسقفيّة. لقد عاد السينودس وردّد، في هذا الشأن، بعضاً من عباراتي السابقة، حين قال: «إن إيماناً لا يصبح ثقافةً هو إيمانٌ لم يُقبل كليّاً، ولم يفكّر فيه بالكامل، ولم يُعَش بأمانة» (122).
إنها في الحقيقة مهمّةٌ قديمةٌ ودائمةُ التجدّد، تعود في جذورها إلى سرّ التجسّد نفسه، وفي سببها إلى قدرة الإنجيل الذاتيّة في أن يتأصّل في كلّ ثقافة ويكوّنها ويطوّرها، منقّياً وفاتحاً إيّاها على ملءِ الحقيقة والحياة التي تحقّقت في المسيح يسوع. لقد احتلَّ هذا الموضوع حيّزاً كبيراً من الاهتمام في السينودسات القاريّة، وقد نجم عنها ملاحظاتٌ ثمينة. ولقد كرّستُ له بعض الوقت في ظروف عديدة.
لذلك، على كلّ أسقف، بعد أن ينظر في القيَم الثقافيّة الموجودة في المنطقة حيث تعيش كنيسته الخاصّة، أن يبذل ما أمكن كي يعلن الإنجيل بأكمله فيكوّن قلوب البشر
وأخلاق الشعوب. في مهمّة التبشير بالإنجيل هذه، يمكن أن يجد الأسقف عوناً ثميناً في مساهمة اللاهوتيّين، وكذلك في مساهمة الخبراء الموكول إليهم إظهارُ تراث الأبرشيّة الثقافيّ والفنيّ والتاريخيّ، التراث الذي يعني على السواء التبشير القديم بالإنجيل أو الجديد والذي يشكّل أداة راعويّة ناجعة (123).
من أجل إعلان الإنجيل في «المحافل الجديدة» ولتناقل الإيمان تبدو وسائل التواصل الاجتماعيّ أيضاً رفيعة الأهميّة، وقد أعارها آباءُ السينودس اهتمامهم فشجّعوا الأساقفة على تعاون أكبر بين المجالس الأسقفية، أكان على الصعيد الوطنيّ أم الدوليّ، من أجل عمل أنجع في هذا الميدان الحسّاس والرفيع من الحياة الاجتماعيّة (124).
في الحقيقة، من الأهميّة الكبرى، بشأن إعلان الإنجيل، أن يُهتمَّ، علاوةً على صحّة التعليم (الأرثوذكسيّة)، بأن يزوَّد ذلك الإعلان بطابعٍ ناجز يؤمّن الإصغاءَ إليه وقبوله. وهذا يشمل بالطبع الجهد بأن يوفَّر، بخاصّة في الإكليريكيّات، الوقتُ المناسبُ لتنشئة المتقدّمين إلى الكهنوت على استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ، بحيث يكون المبشّرون من المعلنين والمبلِّغين الصالحين.
الوعظ بالكلام والمثال
31- إن خدمة الأسقف كمبشّرٍ بالإنجيل وحافظٍ للإيمان في شعب الله، يتبيّن وصفُه ناقصاً إذا لم نُشِر إلى واجب التناسق الشخصيّ: فتعليمه يجد امتداده في شهادةِ ومثالِ حياةِ إيمانٍ أصيلة. إذا الأسقف، الذي يعلّم الكلمة المسموعة في الجماعة، بسلطان يمارسه باسم يسوع المسيح (125)، لم يكن عائشاً ما يعلّم، فلسوف يعطي الجماعة نفسَها بشارة مناقضة.
وهكذا يبدو جليّاً أن كلَّ نشاطات الأسقف يجب أن تهدف إلى التبشير بالإنجيل «قوّة الله لخلاص كلّ مؤمن» (روم 1: 16). ومهمّته الأساسيّة هي أن يساعد شعب الله على أن يولي كلمة الوحي طاعة الإيمان (را روم 1: 5) ويلتزم كليّاً تعليم المسيح. يمكن القول إنّ في الأسقف تتّحد الرسالة والحياة بحيث يتعذّر اعتبارهما من بعدُ متميّزتَين: نحن، الأساقفة، نكوّن رسالتنا. وإذا لم نتمّمها فلن نكون ما نحنُ. بشهادة إيماننا تُصبح حياتنا علامة منظورة لحضور المسيح في جماعاتنا.
تصبح شهادة الحياة، بالنسبة إلى الأسقف بمثابة عنوان سلطة جديد يُضاف الى اللقب الموضوعيّ الذي منحته إياه السيامة. وهكذا فإن السلطة القضائيّة تدعمها السلطة الأدبيّة. وكلتاهما ضروريّتان. فمن الأولى ينجم الواجب الموضوعيّ بتأييد المؤمنين تعليمَ الأسقف الأصيل؛ وتساعدهم الثانية على إيلاء ثقتهم للبشارة. ويطيب لي أن أكرّر في هذا الشأن ما كتبه أسقف عظيم من أساقفة الكنيسة القديمة، هو القدّيس إيلاريون أسقف بواتييه: «إن الطوباويّ الرسول بولس، إذ رسم الصورة المثلى لأسقفٍ عتيد، وخلق حقّاً بتوجيهاته خدمةً جديدة من أجل الكنيسة، علّم بهذه العبارات ما يُشبه ملخَّصاً للفضائل المجتمعة في هذا الرجل: “ليكن عنده على الدوام كلامٌ يتوافق وتعليم الإيمان، كي يكون قادراً على التحريض وفقاً للعقيدة الصحيحة وعلى إفحام المناقضين”. […] لأن الكاهن الصالح والنافع ليس وليد عصاً (سحريّة) […] لأن الإنسان الفاضل لن ينفع إلاّ نفسه إذا لم يكن عالِماً، والعالِم تعوزه السلطة في تعليمه إذا لم يكن نزيهاً فاضلاً» (126).
والرسول بولس أيضاً يحدّد بهذه العبارات الخطّة الواجبَ اتّباعُها: «واجعل لهم نفسك، في كل شيء، مثالاً للأعمال الصالحة: مبدياً في التعليم خلوصاً ووقاراً وكلاماً صحيحاً منَّزهاً عن كل لوم، لكي يخزى المضادُّ إذ لا يكون له مجالٌ للطعن فينا» (تي 2: 7 – 8).
“الفصل الرابع”
خادم نعمة الكهنوت الأعلى
«الى المقدَّسين في المسيح يسوع،
المدعوّين ليكونوا قدّيسين»
(1 كور 1: 2)
32- فيما أستعدّ للحديث عن واحدة من أولى مهامّ الأسقف وأهمّها، أعني خدمة التقديس، أفكّر في ما وجَّهه الرسول بولس إلى المؤمنين في كورنتس، راغباً في أن يضع نُصبَ أعينهم سرَّ دعوتهم: «إلى المقدَّسين في المسيح يسوع، المدعوّين ليكونوا قدّيسين مع جميع الذين يدعون، في كلّ مكان، باسم ربنا يسوعَ المسيح» (1 كور 1: 2). تقديس المسيحيّ يتمُّ في ماء المعموديّة، ويثبّته سرّا التثبيت والمصالحة، وتغذّيه الإفخارستيّا، الخيرُ الأثمن في الكنيسة، السرُّ الذي به تُشاد الكنيسة على الدوام كشعبٍ لله، وكجسدٍ للمسيح وهيكلٍ للروح القدس (127).
الأسقف هو خادم ذلك التقديس الذي يفيض في حياة الكنيسة، بخاصةٍ بواسطة الليتورجيّا المقدَّسة. لقد قيل عن الليتورجيّا، بالأخص عن الاحتفال الإفخارستيّ، بأنها قمةُ حياة الكنيسة ومصدرها (128). إن هذا التأكيد يجد نوعاً ما صدًى في خدمة الأسقف الليتورجيّة، التي تبدو وكأنها اللحظة المركزيّة لنشاطه الساعي لتقديس شعب الله.
من هنا تظهر بجلاءٍ أهميّة الحياة الليتورجيّة في الكنيسة الخاصّة، حيث يمارس الأسقف خدمة التقديس بإعلانه كلمة الله والتبشير بها، قائداً الصلاة من أجل شعبه ومع شعبه ومترئساً الاحتفال بالأسرار. لهذا السبب يخصّ الدستورُ العقائديُّ «نور الأمم» الأسقف بلقب جميل مقتبسٍ من صلاة السيامة الأسقفية بحسب الطقس البيزنطيّ، ألا وهو «موزّعُ نعمة الكهنوت الأعلى، ولاسيّما في الإفخارستيّا التي يقرّبها هو نفسه أو يكفل تقريبها، والتي منها تجري في الكنيسة بلا انقطاع الحياة والنموّ» (129).
ثمة رباط علاقة وثيقة بين خدمة التقديس والخدمتَين الأخرَيين، خدمة الكلمة وخدمة الإدارة. فالوعظ يُسهم في الاشتراك في الحياة الإلهيّة التي تنهل من طاولة الكلمة والإفخارستيّا المزدوجة. هذه الحياة الإلهيّة تنمو وتظهر في كيان المؤمنين اليوميّ، لأنهم جميعاً مدعوّون إلى التعبير، في تصرّفهم عمّا تقبّلوه في الإيمان (130). إن خدمة الإدارة، على مثال خدمة يسوع الراعي الصالح، يعبّر عنها بمهمّات وأعمال تهدف إلى إظهار كمال الحياة في المحبّة، وسط جماعة المؤمنين، لمجد الثالوث الأقدس وشهادةً لحضوره الودود في العالم.
نتيجةً لذلك، كلُّ أسقف، فيما يمارس خدمة التقديس، يفعّل ما تهدف إليه خدمة التعليم، وفي الوقت عينه، ينهل النعمة للقيام بخدمة الإدارة، مكيّفاً تصرّفه وفق تصرّف المسيح الكاهن الأعظم، بحيث يُسهم كلُّ شيءٍ في بناءِ الكنيسة وفي مجد الثالوث الأقدس.
مصدر حياة الكنيسة الخاصّة وقمّتها
33- يمارس الأسقف خدمة التقديس بالاحتفال بالإفخارستيّا وبالأسرار الأخرى، بالحمد الإلهيّ في ليتورجيّا الساعات، وبترؤس الطقوس المقدّسة الأخرى وأيضاً بتعزيز الحياة الليتورجيّة والتقوى الشعبيّة الأصيلة. من بين كلّ الاحتفالات التي يرئسها الأسقف، تتّسم بأهميّة خاصّة تلك التي تظهر خصوصيّة الخدمة الأسقفيّة باعتبارها ملءَ الكهنوت. ويتمّ ذلك بمنح سرّ التثبيت، والرسامات المقدّسة، والاحتفال الرسميّ بالإفخارستيّا إذ يحيط بالأسقف مجلسه والخدَمة الآخرون – مثلاً في ليتورجيّا قدّاس الميرون -، وبتكريس الكنائس والمذابح، وبتكريس العذارى وبغيرها من الرتب الهامّة في حياة الكنيسة الخاصّة. في تلك الاحتفالات، يبدو الأسقف علناً كأبٍ وراعٍ للمؤمنين، و«الكاهن الأعظم» لشعبه (عب 10: 21)، والمصلّي ومعلّم الصلاة، الذي يتوسّل من أجل إخوته، والذي مع الشعب نفسه يضرع إلى الله ويشكره، مركّزاً على أولويّة الله ومجده.
في تلك الأوقات المختلفة، تتدفّق النعمة الإلهيّة كأنما من ينبوع، مفعِمةً كلَّ حياة أبناءِ الله خلال مسيرتهم الأرضيّة، موجهةً إيّاها نحو القمة والكمال في الوطن السعيد. لذلك تُعتبر خدمة التقديس وقتاً أساسيّاً لإذكاء الرجاء المسيحيّ. فالأسقف، بالتبشير بالكلمة، لا يعلن مواعيد الله ويرسم سبُل المستقبل فحسب، بل إنه يشجّع شعب الله في حجّه على الأرض، ومن خلال الاحتفال بالأسرار، عربون المجد الآتي، يُذيقُه مسبّقاً مصيره النهائيّ، في شركة مع العذراء مريم والقديسين، متيقِّناً يقيناً لا يتزعزع من انتصار المسيح الناجز على الخطيئة والموت، ومن مجيئه في المجد.
أهميّة الكنيسة الكاتدرائيّة
34- مع أن الأسقف يمارس خدمة التقديس في الأبرشيّة كلّها، إلاّ أن النقطة المركزيّة هي الكاتدرائيّة، التي هي بمثابة الكنيسة–الأم ونقطة تلاقي الكنيسة الخاصّة.
الكاتدرائيّة هي، في الواقع، المكانُ الذي للأسقف فيه كرسيّه، الذي من أعلاه يعلّم الشعب وينمّيه بالوعظ، وحيث يرئس أهمَّ احتفالات السنة الليتورجيّة والأسرار. عندما يكون الأسقف جالساً في كرسيّه يظهر لجماعة المؤمنين كمن يرئس في بيت الله الآب؛ لذلك، كما سبق وذكّرتُ بذلك، وحدَه الأسقف، وفقاً لتقليد عريقٍ في القدَم خاصٍّ بالشرق والغرب معاً، يستطيع الجلوس في الكرسيّ الأسقفيّ. وبحقٍّ، إن وجود هذا الكرسيّ يجعل من الكنيسة الكاتدرائيّة المحورَ المكانيَّ والروحيَّ لوحدة وشركة المجلس الأبرشيّ وجميع شعب لله المقدَّس.
لا يمكن أن نغفلَ في هذا الشأن تعليمَ المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن أسمى التقدير الذي يجب أن يكنّه الجميع للحياة الليتورجيّة في الأبرشيّة حولَ الأسقُف ولا سيَّما في الكنيسةِ الكاتدرائيّة: لِيقتنعوا أنَّ أهمَّ مظهرٍ للكنيسةِ هو في الاشتِراكِ الكامل والفعّال لِشعبِ الله المُقدّس كلّه في هذه الاحتفالات الليتورجيّة نفسها، ولا سيَّما في الإفخارستيّا الواحدة، والصلاة الواحدة، حولَ المذبح الواحد حيثُ يترأس الأسقف وحولهُ كهنتُه ومعاونوه» (131). في الكاتدرائيّة، حيث الوقتُ الأقوى في حياة الكنيسة، يتمّ أيضاً العملُ الأسمى والأقدس من خدمة الأسقف التقديسيّة، التي تشمل في الوقت عينه، على غرار الليتورجيّا نفسها التي يرئس، تقديسَ الأشخاص وكذلك عبادةَ الله ومجدَه.
يشكّل بعضُ الاحتفالات الخاصّة ظروفاً مميّزة لظهور سرّ الكنيسة. من بينها، أذكر الليتورجيّا السنويّة لقداس الميرون الذي يجب اعتباره «من أهمّ مظاهر كمال كهنوت الأسقف وعلامةً لاتحاد الكهنة الوثيق معه» (132). في أثناء ذلك الاحتفال يُبارك زيتُ المرضى وزيتُ الموعوظين، وفي الوقت عينه الميرونُ المقدَّس، العلامةُ الأسراريّة للخلاص والحياة الكاملة لجميع الذين وُلدوا من جديد بالماء والروح القدس. ومن الليتورجيّات الأكثر احتفالاً يجب أن نعتبر بالتأكيد تلك التي تخصّ منح الرتب المقدّسة: إن المكان الخاصّ والطبيعيّ لهذه الرتب هي الكنيسة الكاتدرائيّة (133). يُضاف إلى ذلك مناسباتٌ أخرى من مثل ذكرى تكريس الكاتدرائيّة وعيد شفعاء الأبرشيّة القدّيسين. إن تلك المناسبات وغيرَها طبقاً للروزنامة الليتورجيّة الخاصّة بكل أبرشيّة تشكّل ظروفاً ثمينةً لشدّ أواصر الشركة مع الكهنة والمكرَّسين والمؤمنين العلمانيّين، وإذكاء الغيرة الرسوليّة لدى جميع أعضاء الكنيسة الخاصّة. لذلك يُظهر كتاب مراسم الأساقفة أهميّة الكنيسة الكاتدرائيّة والاحتفالات التي تجري فيها، لخير كلّ الكنيسة الخاصّة ومثالها (134).
الأسقف، مسؤولاً عن الليتورجيّا
باعتبارها تربيةً على الإيمان
35- أراد آباءُ السينودس أن يُلفتوا النظر، في الظروف الراهنة، إلى أهميّة خدمة التقديس التي تمارس في الليتورجيّا، المفروضِ أن تتمَّ بطريقة تؤدّي بها فعّاليّتَها التعليميّة والتربويّة (135). يتطلّب ذلك أن تكون الاحتفالاتُ الليتورجيّة حقّاً ظهوراً للسرّ. يجب أن تعبّر بوضوح عن طبيعة العبادة الإلهيّة وتعكس المعنى الأصيل للكنيسة المصلّية والمحتفلة بالأسرار الإلهيّة. إذا ما اشترك الجميعُ حسناً بالاحتفالات، وفقاً للخدَمات المختلفة، فلسوف تتألّق بكرامتها وجمالها.
لقد أردتُ، أنا بذاتي، في ممارسة خدمتي، أن أعطي الأولويّة للاحتفالات الليتورجيّة، أكان في رومة أم في أسفاري الرسوليّة إلى مختلف القارّات والبلدان. أردت، بإظهاري بهاءَ جمال وكرامة الليتورجيّا المسيحيّة، في جميع تعابيرها، أن أعزّز المعنى الأصيل لتقديس اسم الله، كي أهذّب شعور المؤمنين الدينيّ وأفتحه على التسامي.
أحرّض إذاً إخوتي الأساقفة، بصفتهم معلّمي الإيمان وشركاءَ في كهنوت المسيح الأعظم، أن يجتهدوا بكلِّ ما أوتوا من قوّة في التعزيز الأصيل لليتورجيّا. يتطلّب ذلك، وفقاً لطريقة الاحتفال، الإعلانَ الواضحَ للحقيقة الموحى بها، ونقلَ الحياة الإلهيّة بأمانة، والتعبيرَ، بدون لَبْسٍ، عن طبيعة الكنيسة الحقيقيّة. ليعِ الجميعُ وعياً كاملاً أهميّة الاحتفالات بأسرار الإيمان الكاثوليكي. لا تتناقل حقيقة الإيمان والحياة المسيحيّة بالكلام فقط، بل أيضاً بالعلامات الأسراريّة وبمجمل الطقوس الليتورجيّة. إنّا نعرف جيّداً في هذا الشأن المثل القديم الذي يوثّق عرى شريعة الإيمان بشريعة الصلاة (136).
ليكن إذاً كلُّ أسقف مثالاً في فنّ رئاسة الاحتفالات، واعياً أنه يمارس الأسرار. ليتزوّد بحياة لاهوتيّة عميقة، تلهم تصرّفه في جميع اتصالاته بشعب الله المقدَّس. ليكن قادراً على ان ينقل المعنى الفائقَ الطبيعة للكلمات والصلوات والطقوس، بحيث يجذب جميع المؤمنين إلى الاشتراك في الأسرار المقدّسة. علاوةً على ذلك، يجب أن يجتهدَ الأسقف، بفضل تعزيزٍ ملموسٍ ومناسبٍ للراعويّة الليتورجيّة في الأبرشيّة، فيكتسب الخدَمة والشعب فهماً واختباراً أصيلين لليتورجيّا، فينقاد المؤمنون إلى مشاركةٍ كاملةٍ، واعيةٍ، فاعلةٍ ومثمرة في الأسرار المقدّسة، وفقاً لما تمنّاه المجمع الفاتيكاني الثاني (137).
هكذا تصبح الاحتفالاتُ الليتورجيّة، وبخاصّة تلكَ التي يرئسها الأسقف في كاتدرائيّته، إعلاناً وضّاءً لإيمان الكنيسة، وأوقاتاً مميَّزة يقدّمُ فيها الراعي للمؤمنين سرَّ المسيح، ويساعدُهم على الولوج فيه تدريجاً، فيختبرونه بفرحٍ ويشهدون له في ما بعد بأعمال الرحمة (را غلا 5: 6).
نظراً لأهميّة التناقل الصحيح للإيمان في ليتورجيّا الكنيسة المقدَّسة، لن يغفل الأسقف عن السهر باعتناء، من أجل خير المؤمنين، فيحافظ الجميعُ على الدوام وفي كل مكان على الأنظمة الليتورجيّة المرعيّة الإجراء. فيفرُض ذلك ممَّا يُفرض أن يُعمد بحزمٍ وفي الوقت المناسب إلى تصحيح وقمع التجاوزات وإلى إلغاء ما هو تعسّفيّ في ميدان الليتورجيّا. وعلى الأسقف نفسه أن يتنبّه أيضاً، بقدر ما يعود ذلك إليه، أو بالتعاون مع المجالس الأسقفيّة واللجان الليتورجيّة المختصّة، كي تُحترم كرامةُ الأعمال الليتورجيّة وحقيقتُها في ما يُتناقل بالإذاعة والتلفزة.
المكانة المركزيّة ليوم الربّ وللسنة الليتورجيّة
36- إن حياة الأسقف وخدمته يجب أن يكونا مشبعَين من حضور الربّ في سرّه. أن يعزَّز في الأبرشيّة الاقتناعُ من مكانة الليتورجيّا المركزيّة، على الأصعدة الروحيّة والتعليم المسيحيّ والراعويّة، فذلك يرتبط في القسم الأكبر منه بالمثال الذي يعطيه الأسقف.
إن الاحتفال بسرّ المسيح الفصحيّ في يوم الربّ أو يوم الأحد يحتلّ وسَط تلك الخدمة. وكما ردّدت ذلك مراراً، وحتى منذ عهد قريب، يجب علينا، كي نعطي زخماً للهويّة المسيحيّة في أيامنا، أن نعيد المكانة المركزيّة للاحتفال بيوم الربّ، وبه للاحتفال بالإفخارستيّا. يومُ الأحد هو يومٌ يجب أن يُستشعر به «كيومٍ خاصّ بالإيمان، يوم الربّ القائم من بين الأموات، يوم موهبة الروح، يوم فصح حقيقيّ أسبوعيّ» (138).
يوم الأحد الذي هو أيضاً يومُ الكنيسة، يمكن أن يمثّل فيه حضورُ الأسقف مترئساً الإفخارستيّا في كاتدرائيّته أو في كنائس الأبرشيّة، علامةً مثاليّةً للأمانة لسرّ القيامة وسبباً لرجاء شعب الله في حجّه، أحداً بعد أحد، إلى اليوم الذي لا يغيب، يومِ الفصح الأزلي (139).
خلال السنة الليتورجيّة، تعيش الكنيسة مجدَّداً مجمل سرِّ المسيح، من تجسّد الربّ وميلاده حتى الصعود، فيوم العنصرة والانتظار في الرجاء مجيءَ الربّ الممجَّد (140). بالطبع، يولي الأسقفُ اهتماماً خاصاً الاستعدادَ للثلاثيّة الفصحيّة والاحتفالَ بها، باعتبارها قلب السنة الليتورجيّة كلّها، مع سهرانيّة الفصح الاحتفاليّة وامتدادها على خمسينَ الزمن الفصحيّ.
يمكن أن يُستفادَ من السنة الليتورجيّة، بإيقاعها الدوريّ، لوضع برنامج راعويّ يشكل حياة الأبرشيّة حول سرّ المسيح، في انتظار مجيئه بمجد. في مسيرة الإيمان هذه، تسند الكنيسة ذكرى العذراءِ مريم التي، «وقد تمجّدت جسماً ونفساً، […] تلمع كعلامة رجاءٍ أكيد وعزاءٍ أمام شعب الله في مسيرته» (141). إنه رجاءٌ يغتذي أيضاً «بذكرى الشهداء وسائر القدّيسين الذين، إذا ارتقوا إلى الكمال بنعمة الله المتنوّعة وتمّ لهم نيلُ الخلاص، يُنشدون لله في السماوات نشيد الحمد الكامل ويشفعون فينا» (142).
الأسقف، خادم الاحتفال الإفخارستيّ
37- في قلب مهمّة التقديس التي يضطلع بها الأسقف، توجد الإفخارستيّا التي يقدّمها هو نفسه أو يعهد بتقديمها، والتي فيها تظهر بالأخصّ مهمتُّه كـ«موزّعٍ» أو خادمٍ لنعمة الكهنوت الأعلى (143)
يُسهم الأسقف في بناءِ الكنيسة، سرِّ الشركة والرسالة، بالأخص عندما يرئس الجماعة الإفخارستيّة.لأن الإفخارستيّا هي المبدأ الجوهريّ لحياة ليس فقط المؤمنين العاديّين بل للجماعة نفسها في المسيح. فالمؤمنون، وقد جمَعهم التبشير بالإنجيل، يشكلّون جماعاتٍ تكون كنيسة المسيح حاضرةً حقّاً فيها، وهذا يظهر بوضوحٍ خاصٍّ في الاحتفال بالذبيحة الإفخارستيّة (144). إنّا نعرف تعليم المجمع في هذا الشأن: «في كلّ جماعة تلتئم حول المذبح برئاسة الأسقف المقدّسة، يتجلّى رمز المحبّة و”وحدة الجسد السرّيّ التي لا خلاصَ خارجاً عنها” (را توما الأكوينيّ، الخلاصة اللاهوتيّة، 3، س 73، آ. 3)». لأن «الاشتراك في جسد المسيح ودمه لا مفعولَ له آخر سوى أن يحوّلنا إلى ما نتناوله» (145).
وعن الاحتفال الإفخارستيّ الذي هو «مصدرُ وقمّةُ كلّ البشارة بالإنجيل» (146)، ينجم أيضاً كلُّ التزام الكنيسة الرسوليّ، كي يظهر للآخرين، بشهادة الحياة، السرُّ المعيوشُ في الإيمان.
من بين كلِّ مهامّ خدمة الأسقف الراعويّة، يبدو أن مهمّة الاحتفال بالإفخارستيّا هي الأكثر إلحاحاً وأهميّة. ويعود إليه أيضاً، كإحدى مهامّه الأساسيّة، أن يسهرَ فيتمكّنَ المؤمنون من التقرّب من مائدة الربّ، بالأخصّ يومَ الأحد. فيومُ الأحد، كما ذكّرت بذلك، هو اليومُ الذي تعي فيه الكنيسة، جماعةُ وأسرةُ أبناء الله، هوّيتها المسيحيّة الخاصّة، حولَ كهنتها (147).
إلاّ أنه يحدث في بعض المناطق، إمّا لنقصٍ في الكهنة وإمّا لأسبابٍ أخرى خطيرة ومستديمة، عدمُ التمكن من تأمين الاحتفال الإفخارستيّ بطريقة عاديّة. وهذا ما يعزّز واجبَ الأسقف، بصفته أبا الأسرة وخادمَ النعمة، بأن يتنبّه على الدوام فيميّز الحاجات الفعليّة وخطورة الظروف، فيعمدُ إلى توزيعٍ حكيمٍ لأعضاءِ مجلس الكهنة بحيث لا تُحرم الجماعاتُ طويلاً من الاحتفال الإفخارستيّ، حتّى في مثل تلك الأوضاع الطارئة.
عندما لا تتوفّر إقامةُ القدّاس، على الأسقف أن يسعى فيتأمّن للجماعة، على الأقلّ أيام الآحاد والأعياد، احتفالٌ خاصّ، فيما يترقّب المؤمنون كمالَ اللقاءِ مع المسيح في الاحتفال بالسرّ الفصحيّ. في هذه الحال، يمكن أن ينعم المؤمنون، برئاسة خدَمةٍ مسؤولين، بعطيّة الوعظ وتناول الإفخارستيّا، بفضل الاحتفالات الجماعيّة أيامَ الآحاد المنصوص عنها مسبَّقاً، في غياب الكاهن (148).
الأسقف، مسؤولاً عن التنشئة المسيحيّة
38- نظراً للظروف الراهنة التي تعيشها الكنيسة والعالم، في الكنائس الفتيّة كما في البدان حيث المسيحيّة مترسِّخة منذ قرون، يظهر أنها من تدبير إلهيّ عودةُ التقليد العظيم، تقليد نظام التنشئة المسيحيّة، بخاصّة للبالغين. فكان ذلك، من قبَل المجمع الفاتيكانيّ الثاني (149)، تدبيرٌ واعٍ أراد أن يقدّم سبيلاً للقاء المسيح والكنيسة للعديد من الرجال والنساء الذين حلّت عليهم نعمة الروح فرغبوا في الولوج في شركة مع سرّ الخلاص في المسيح، الذي مات وقام من أجلنا.
بفضل مسيرة التنشئة المسيحيّة، يولَجُ الموعوظون تدريجاً إلى معرفة سرّ المسيح والكنيسة، بالقياس مع مصدر الحياة الطبيعيّة وتطوّرها ونموّها. فالمؤمنون المولودون جديداً بالمعموديّة والمشاركون في الكهنوت الملوكيّ، يقوّيهم سرُّ التثبيت الذي يمنحه الأسقف أصلاً، ويتقبّلون هكذا بفيضٍ خاصٍّ مواهبَ الروح. وإذ يتناولون الإفخارستيّا في ما بعد، يتغذّون من خبز الحياة الأبديّة وينخرطون كليّاً في الكنيسة، جسد المسيح السرّيّ. وهكذا، «يتقبّل المؤمنون، بأسرار التنشئة المسيحيّة تلك، بازدياد متصاعد، ثرواتِ الحياة الإلهيّة ويتقدّمون نحو كمال المحبّة» (150).
بعد الأخذ بعين الاعتبار الظروفَ الراهنة، يطبّق الأساقفة إرشادات «رتبة تنشئة البالغين المسيحيّة». ويأخذون على أنفسهم بأن تجهَّز في كلِّ أبرشيّة البنيات والعناصر الراعويّة الضروريّة كي يؤمَّن، بأفضلِ الطرق وأنجعِها، تطبيقُ التنظيمات والقاعدة الليتورجيّة والتعليميّة والراعويّة للتنشئة المسيحيّة، فتتلاءَم وحاجاتِ الوقت الراهن. إن مسيرة التنشئة المسيحيّة تتطلّب حضور الأسقف الأبرشيّ وخدمته بالأخصّ في المرحلة النهائيّة من الخطة، في أثناء منح أسرار المعموديّة والتثبيت والإفخارستيّا، الذي يتمّ عادةً خلال سهرانيّة الفصح؛ وسبب ذلك هو طبيعة الانخراط التدريجيّ بحدّ ذاتها في سرّ المسيح والكنيسة، السرّ الذي يحيا ويعمل في كلّ كنيسةٍ خاصّة.
ويعود إلى الأسقف أيضاً أن ينظم، وفقاً لقوانين الكنيسة ما يختصّ بالتنشئة المسيحيّة التي تعطى للأولاد الصغار وللذين هم في مرحلة الدراسة، فيضع ما يختصّ بالتحضير للتعليم المسيحيّ اللائق وبالتزامهم التدريجيّ في حياة الجماعة. وعلى الأسقف أيضاً أن يسهر فتتمَّ المسيراتُ المرتقبة العائدة إلى الموعوظيّة أو إلى إعادة التنشئة المسيحيّة وتقوية خطاها، أو إلى تقرّب المؤمنين الذين ابتعدوا يوماً عن حياة الإيمان العاديّة والجماعيّة، أن تتمّ وفقاً للنظم التي تفرضها الكنيسة وبالتناغم الكامل مع حياة جماعات الرعايا في الأبرشيّة.
وأخيراً، في ما يختصّ بسرّ التثبيت، يُعنى الأسقف بأن يمنحه عادةً هو نفسه، لأنه هو الخادم الأصيل لهذا السرّ. إن حضوره في جماعة الرعيّة حيث جرنُ المعموديّة ومائدةُ الإفخارستيّا، إذاً في المكان الطبيعيّ العادي لمسيرة التنشئة المسيحيّة، يذكّر فعلاً بسرّ العنصرة ويبدو في غاية المنفعة لشدّ أواصر الشركة الكنسيّة بين الراعي والمؤمنين.
مسؤوليّة الأسقف في نظام التوبة
39- أولى آباءُ السينودس، في مداخلاتهم، عنايةً خاصّة لنظام التوبة، وشدّدوا على أهميّته وذكّروا بالاهتمام الخاصّ الذي يجب على الأساقفة، بصفتهم خلفاءَ الرسل، أن يولوه لراعويّة سرّ التوبة ونظامه. ولقد استمعتُ إليهم بكل سرور يؤكدون ما هو اقتناعي العميق، أعني أنه من الواجب إيلاءُ الاهتمام الراعويّ الأعظم بسرّ الكنيسة هذا، مصدر المصالحة والسلام والفرح لنا جميعاً المحتاجين إلى رحمة الربّ وإلى الشفاء من جراحات الخطيئة.
يعود إلى الأسقف، بصفته المسؤولَ الأولَ عن نظام التوبة في كنيسته الخاصّة، قبل كلّ شيء مهمّةُ الدعوة والتبشير بالارتداد والتوبة. من واجبه أن يعلن، بكل حريّة إنجيليّة، حضور الخطيئة المؤسف والهدّام في حياة البشر وفي تاريخ الجماعات. في الوقت عينه يجب أن يبشّر بالسرّ الذي لا يُسبر غورُه، سرّ الرحمة التي منحناها الله على الصليب وفي قيامة ابنه يسوعَ المسيح، وكذلك بفيض الروح لغفران الخطايا. تلك البُشرى، التي هي أيضاً دعوةٌ إلى المصالحة ونداءٌ للرجاء يتضمّنها قلبُ الإنجيل. إنها بشرى الرسل الأولى يوم العنصرة، بشرى يتجلّى فيها المعنى نفسه لنعمة الخلاص التي تمنحها الأسرار.
وبالطرق المناسبة يكون الأسقفُ الخادمَ المثاليَّ لسرِّ التوبة، لاجئاً إليه هو نفسه بمواظبة وأمانة. ولن ينيَ عن تحريض كهنته فيكنّوا لخدمة المصالحة أعظم تقدير وقد مُنحوها في الرسامة الكهنوتيّة؛ ويحضّهم على ممارستها بسخاءٍ وبروحٍ فائقِ الطبيعة، مقتدين بالآب الذي يتقبّل أولئك العائدين إلى البيت الأبويّ، وبالمسيح الراعي الصالح الذي يحمل على منكبيه الخروف الضال (151).
وتمتدُّ مسؤوليّة الأسقف أيضاً إلى واجب التيقّظ فلا يُلجأ إلى الحلّة الجماعيّة خارجاً عمّا ينصّه القانون. في هذا الشأن، أشرتُ، في رسالتي التلقائيّة «الرحمة الإلهيّة» إلى أنَّ من واجب الأساقفة التذكير بالنظام المرعيّ والقاضي بأن الاعتراف الفرديّ والكامل والحلّة يشكلان الطريقة العاديّة التي بواسطتها يتصالح المؤمنُ المقترفُ خطيئةً مميتة مع الله والكنيسة. وحدَه عائقٌ طبيعيّ أو أدبيّ يعفي من هذه الطريقة العاديّة، فيمكن في هذا الحال أن يُحصل على المصالحة بسبلٍ أخرى. ولن ينيَ الأسقفُ من تذكير المسؤولين عن النفوس، بفعل مهمّتهم، بواجب تمكين المؤمنين من اللجوء إلى الاعتراف الفرديّ (152). وعليه أيضاً التحقّق من أن المؤمنين ينعمون، فعلاً، بأعظم التسهيلات للتمكن من الاعتراف.
وفيما نتأمل على ضوء التقليد وتعليم الكنيسة الرباط الوثيق القائم بين سرّ المصالحة والاشتراك في الإفخارستيّا، نرى، في هذه الأيام، أنه من الضرورة بمكان تنشئة ضمير المؤمنين كي يشتركوا في المائدة الإفخارستيّة بكرامة وبطريقة مثمرة، فلا يتقدّمون منها إلاّ في حالة النعمة (153).
علاوةً على ذلك، من النافع التذكير بأنه تعود للأسقف مهمّةُ وضع نظامٍ، بطريقة لائقة وباختيارٍ فطنٍ لخدَمةٍ ملائمين، يختصّ برتبة التعزيم وإقامة الصلوات لنيل الشفاء، مع مراعاة الوثائق الحديثة الصادرة عن الكرسيّ الرسوليّ (154).
الانتباه حيال التقوى الشعبيّة
40- ذكّر آباء السينودس بالأهميّة التي تتّسم بها التقوى الشعبيّة في تناقل الإيمان وتطوّره. فهي، على حدّ ما قال سلفي بولس السادس، غنيّةٌ بالقيَم الخاصّة بالعلاقات مع الله ومع إخوتنا (155)، بحيث تشكل ثروةَ روحانيّةٍ حقيقيّة لحياة الجماعات المسيحيّة.
في عصرنا أيضاً، حيث يُلاحظ تعطشٌ مشتَّت إلى روحانيّة، غالباً ما يحمل العديدَ من الأشخاص إلى الانتماء إلى بدع دينيّة أو إلى أشكالٍ أخرى من التروحُن المبهم، يُدعى الأساقفة إلى تمييز وتعزيز قيَم التقوى الشعبيّة الحقيقيّة وأشكالها.
ما كُتب في الإرشاد الرسوليّ «البشارة بالإنجيل» ما زال واقعيّاً: «يجب على المحبّة الراعويّة أن تمليَ على جميع الذين أوكل إليهم السيّدُ رئاسة جماعاتٍ كنسيّة أنظمةَ التصرّف حيال هذا الواقع الغنيّ والمهدَّد على السواء. يجب، قبل كل شيء، الشعورُ به ومعرفةُ استشراف أبعاده الداخليّة وقيَمه الثابتة، والاستعدادُ لمساعدته على تخطّي أخطار انحرافه. هذا التديّن الشعبيّ يستطيع، إذا ما وُجّه حسناً، أن يكون أكثر فأكثر لحشودنا الشعبيّة لقاءً حقيقيّاً مع الله في يسوعَ المسيح» (156).
يليق إذاً أن يوجَّه ذلك التديّن فتنقَّى، إذا لزم الأمر، أشكال التعبير عنه وفقاً لمبادىء الإيمان والحياة المسيحيّة. بفضل التقوى الشعبيّة، يجب أن ينقاد المؤمنون إلى اللقاء الشخصيّ مع المسيح، إلى الشركة مع الطوباويّة العذراءِ مريم ومع القديسين، ولاسيّما بالإصغاء إلى كلام الله، باللجوء إلى الصلاة، بالاشتراك في الحياة الأسراريّة، بشهادة المحبّة وأعمال الرحمة (157).
من أجل تفكير أوسع حول هذه القضيّة، ومن أجل الاطلاع على مجموعة غنيّة من الاقتراحات اللاهوتيّة والراعويّة والروحيّة، يسرّني أن أحيل إلى الوثائق الصادرة عن الكرسيّ الرسوليّ، حيث يذكّر بأن جميع مظاهر التقوى الشعبيّة هي، في الأبرشيّة، تحت مسؤوليّة الأسقف. فإليه يعود أمرُ تنظيمها وتشجيعها في مهمّة مساعدتها المؤمنين على الحياة المسيحيّة، وتنقيتها عند الضرورة، وبثّ روح الإنجيل فيها (158).
تعزيز القداسة من أجل جميع المؤمنين
41- إن قداسة شعب الله التي عُهد بها إلى خدمة الأسقف التقديسيّة، هي عطيّة من النعمة الإلهيّة وتجلٍّ لأوليّة الله في حياة الكنيسة. لأجل ذلك، يجب على الأسقف، في ممارسة خدمته، أن يعزّز بدون كلل راعويّة للقداسة حقيقيّة وتربيةً على القداسة فعليّة، بحيثُ يتحقّق المنهج الذي يقترحه الفصل الخامس من الدستور العقائدي «في الكنيسة نور الأمم» الخاصّ بالدعوة الشاملة إلى القداسة.
لقد أردتُ أنا بنفسي أن أقترح مثل هذا المنهج للكنيسة جمعاء في مطلع الألفيّة الثالثة، كأولويّة راعويّة وكثمرة لليوبيل الكبير للتجسّد (159). فالقداسة هي، اليوم أيضاً، علامة الأزمنة، وبرهانٌ لحقيقة المسيحيّة التي تسطع في أعضائها الأفضلين، سواء أولئك الذين رٌفعوا، وهم كثُر، إلى إكرام الهياكل، أم أولئك الذين، وهم أكثرُ عدداً، قد أخصبوا بخفاءٍ، وما زالوا، تاريخَ البشر بالقداسة اليوميّة الوديعة الفرِحَة. اليوم أيضاً لا يخلو العالم من شهاداتٍ ثمينةٍ لأنواعِ قداسة، فرديّة وجماعيّة، هي للجميع، حتى للأجيال الجديدة، علامةُ رجاء. لإظهار شهادة القداسة، أحرّض إذاً إخوتي الأساقفة على أن يجنوا ويبيّنوا علامات القداسة والفضائل البطوليّة التي تتجلّى، حتى اليوم، ولاسيّما في ما يخصّ المؤمنين العلمانيّين أبناءِ أبرشيّاتهم، وبالأخصّ الأزواج المسيحيّين. وحيث ما يرون ذلك مناسباً بالحقيقة أشجّعهم على تعزيز دعاوى إعلان قداستهم (160). فلقد يصبح ذلك للجميع علامةَ رجاء، ولشعب الله في مسيرته، مصدرَ تشجيع عندما يشهدون، أمام العالم، لحضور النعمة الدائم في نسيج الوقائع البشريّة.
“الفصل الخامس”
إدارة الأسقف الراعويّة
«فإني أعطيكم قدرة…» (يو 13: 15)
- لدى البحث في واجب الأساقفة أن يقودوا أسرة الله وأن يعتنوا بقطيع الربّ يسوع اعتياديّاً ويوميّاً، شرح المجمع الفاتيكانيّ الثاني أن، في ممارسة الأسقفة خدمتهم كآباءٍ ورعاةٍ وسط مؤمنيهم، عليهم أن يتصرّفوا تصرّف «من يخدم»، واضعين على الدوام نصب أعينهم مثال الراعي الصالح الذي أتى لا ليُخدَم بل ليخدُم ويبذل حياته فداءً عن الجماعة (را متى 20: 28؛ مر 10: 45؛ لو 22: 26-27؛ يو 10: 11) (161).
صورةُ يسوعَ هذه، المثال الأسمى للأسقف، تجد لها تعبيراً بليغاً في غسل الأرجل الوارد في الإنجيل بحسب يوحنا: «وقَبْلَ عيدِ الفصحِ. إذ كان يسوعُ يَعلَمُ أنّ ساعتَه قد أتَتْ ليَنتَقِلَ من هذا العالم إلى أبيه، وإذ كان قد أَحبَّ خاصّتَه الذين في العالَم – بلغ به حبُّه لهم حدَّه الأَقْصى. فإنّه في أثناءِ العشاءِ، […] نهضَ عن العَشاءِ، وخَلعَ عنهُ رداءَه، وأخذَ مِنديلاً ائتزرَ به، وصَبَّ ماءً في مِغْسَلٍ وطَفِقَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذِ ويمسحها بالمِنديلِ الذي كان مؤتزِراً به […] ولمّا غسلَ أقدامَهم وأخذ رداءَه وعادَ فَاتَّكأ قال لهم: “[…] لقد جعلتُ لكم من نفسي قُدوةً لكي تصنعوا كما صنعتُ بكم” (13: 1-15).
نتأمل حينئذٍ يسوعَ الذي كأنه، بإتمامه هذا العمل، يعطينا مفتاحاً لفهم كيانه نفسِه ورسالته وحياته وموته. نتأمل أيضاً في حبّ يسوع الذي عبّر عنه بأعمال وحركات حسيّة. نتأمل في يسوع الذي اتّخذ كليّاً وضعَ العبد بجذريّةٍ قصوى (را في 2: 7). هو، المعلّم والسيّد الذي نال كلَّ شيء من يدَي أبيه، أحبَّنا إلى الغاية، فأسلَم ذاته بالكليّة إلى أيدي البشر، متقبّلاً منهم كلَّ ما يصنعون به. عملُ يسوع هذا عمل حبٍّ أتمّه في إطار تأسيس الإفخارستيّا وفي وضوح رؤية الآلام والموت. إنه عملٌ يتجلّى به معنى التجسّد، بل وأكثر من ذلك، يوحي جوهرَ الله نفسَه. الله محبّة، وهو لذلك اتّخذ وضعَ عبدٍ: وضَع الله نفسه في خدمة الإنسان كي يجلبَ الإنسانَ إلى ملءِ الشركة معه.
إذا كان المعلّم والربّ على هذا المثال، فإن معنى خدمة وكيان ذاك الذي دُعي، مثلَ الاثني عشر، إلى الولوج في أعظم ألفةٍ مع يسوع، لا يمكنهما أن يقوما إلاّ على جهوزيّة كاملة وغير مشروطة تجاه الآخرين، سواءٌ أكانوا من أبناء الحظيرة أم لم ينتسبوا إليها بعد (را يو 10: 16).
سلطة الخدمة الراعويّة الأسقفيّة
43- يُرسَل الأسقف باسم المسيح راعياً كي يعتني بقسمٍ معيَّن من شعب الله. بمساعدة الإنجيل والإفخارستيّا، عليه أن ينمّي الرعيّة كواقع شركة في الروح القدس (162). فينجم عن ذلك أن الأسقف يمثّل ويسوس الكنيسة التي عُهد بها إليه، بما يلزم من سلطان كي يمارس الخدمة الراعويّة التي منحه إياها السرّ، ويشترك مع المسيح في التكريس والرسالة (163). بموجب ذلك، «ولمّا كان الأساقفة يرعون الكنائس الخاصّة كنّواب ومنتدَبين للمسيح، فإنَّهم يتدبَّرون أمرها بإرشاداتِهم وتشجيعاتهم ومُثُلهم، ولكن بسُلطتِهم أيضاً، وبمُزاولةِ سُلطانهم المقدس الذي لا يسوغ لهم استعمالُه إلاّ بقصدِ بُنيان رعيتِهم في الحقيقة والقداسة، ذاكرين أنَّ الأكبر عليه أن يكون كالأصغر، وأنَّ من يأمر عليه أن يكون كالعبد (لو 22: 26-27)» (164).
هذا المقطع من أعمال المجمع يشكل خلاصةً رائعة للعقيدة الكاثوليكيّة بشأن إدارة الأسقف الراعويّة. ولقد ورد لاحقاً في رتبة السيامة الأسقفيّة: «الأسقفيّة ليست شرفاً، بل خدمة لأن دور الأسقف هو أكثر في الخدمة منه في التسلّط، على حدّ ما أوصى به يسوع معلّمنا» (165). نجد هنا المبدأ الأساسيّ الذي بموجبه تهدف السلطة في الكنيسة، وفقاً لما يؤكّده القديس بولس، إلى بناء شعب الله لا إلى خرابه (را 2 كو 10: 8). إن بناءَ قطيع المسيح في الحقّ والقداسة يفرض أن يتحلّى الأسقف، مثلما أشير إلى ذلك مرات عديدة في السينودس، ببعض الصفات، منها حياة مثاليّة، والقدرة على إرساء علاقاتٍ أصيلة وبنّاءَة مع الناس، والأهليّة لبثّ وتطوير التعاون والصلاح والصبر والتفاهم والشفقة إزاء مصائب النفس والجسد، والتسامح والغفران. فالأمر يقضي بأن يعبَّر أحسنَ تعبير ممكن عن المثال الأسمى، يسوع الراعي الصالح.
إن سلطان الأسقف هو سلطانٌ حقيقيّ، لكن ينيره نورُ الراعي الصالح وينطبق على مثاله. وهذا السلطان، إذ يمارس باسم المسيح، هو سلطان خاصّ، عاديّ، مباشر، مع أن ممارسته تخضع، في النهاية، للسلطة الكنسيّة العليا؛ ويمكن هذه السلطة أن تقيّده ببعض القيود نظراً لفائدة الكنيسة أو المؤمنين. وللأساقفة، بقوة هذا السلطان، الحقّ المقدّس، وعليهم الواجب أمام الله أن يسنّوا القوانين لرعاياهم، وأن يُجروا الأحكام، وينظّموا كلَّ ما يتعلّق بحسن سير العبادة والرسالة» (166). فالأسقف إذاً يقلَّد، بفعل المهمّة التي أوكلت إليه، سلطةً قانونيّة موضوعيّة تهدف إلى التعبير بأفعال سلطة يُتمّ بها خدمة الإدارة التي منحه إيّاها السرّ.
إلاّ أنه من المناسب التذكير، في هذه الحال أيضاً، بأن سلطان الأسقف لا فعاليّة راعويّة له إلاّ إذا استند إلى سلطة أدبيّة تنبع من قداسة حياته. هذه القداسة هي التي تؤهّل النفوس كي تتقبّل الإنجيل الذي يبشّر به في كنيسته وكذلك الأنظمة التي يسنّها لفائدة شعب الله. لذلك كان القديس أمبروسيوس يحذّر قائلاً: «عند الكهنة لا يُبحثُ عن أيّ شيء مبتذَل، عن أيّ شيء مشترك مع الجماعة غير الرفيعة في تطلّعاتها وعوائدها وأخلاقها. إن الكرامة الكهنوتيّة تطالب لذاتها بكرامةٍ تنأى عن الصخَب، وبحياةٍ زاهدة وسلطان خاصّ» (167).
لا يُمكن أن تُتَخيَّل ممارسةُ السلطة في الكنيسة كعمل لا شخصيّ أو إداريّ بحت، لأنها بالفعل سلطةٌ تنبع من الشهادة. في كلِّ ما يقوله الأسقف أو يعمله يجب أن تتجلّى سلطة قول المسيح وعمله. وإذا ما صدَف أن نقصت السلطة الناجمة عن قداسة حياة الأسقف، أعني شهادته للإيمان والرجاء والمحبة، فإنه ليصعب على شعب الله أن يرى في سلطته ظهورَ حضور الله الفاعل في كنيسته.
بإرادةٍ ربّانيّة، إن الأساقفة، خدَمةَ رسوليّة الكنيسة، إذ يلبسون من العلاء قدرة روح الآب الذي يدبّر ويقود، هم خلفاءُ الرسل، ليس فقط في السلطان والقدرة المقدّسة، بل ايضاً في شكل الحياة الرسوليّة، في ما يتكبّدونه من آلامٍ في سبيل التبشير بالإنجيل ونشره، في الاهتمام المملوءِ حناناً ورحمة تجاه المؤمنين المعهود بهم إليهم، في الذّود عن الضعفاء، في ما يُبدونه من عناية مستمرّة إزاءَ شعب الله.
في أثناء أعمال السينودس، أعيد إلى الذاكرة أن ممارسة السلطة في الكنيسة، ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، غالباً ما ظهرت صعبة. وعلى الرغم من أن بعضاً من تلك الصعاب الأكثر عنفاً تظهر وكأنّها قد ذُلّلت، إلاّ أن الحالة ما زالت قائمة. فالقضيّة إذاً هي أن نعرف كيف الممارسة الضروريّة للسلطة يمكن أن يحسن فهمها وتقبّلها وإتمامها. جواب أول نجده في الطبيعة نفسها للسلطة الكنسيّة: إنها – ومن الواجب أن تظهر هكذا بما أمكن من الوضوح – مشاركة في رسالة المسيح، يجب أن تُعاش وتمارس في التواضع ومع تضحية وبروح الخدمة. إن تعزيز سلطان الأسقف لا يعني أن تعطى أهميّة لما هو خارجيّ، بل أن يُتعمَّق في المعنى اللاهوتيّ والروحيّ والخلقيّ لخدمته، المرتكز على موهبة الرسوليّة. ما قيل في قاعة السينودس بالنسبة إلى رواية غسل الأرجل والرباط الذي أقيم في هذا الإطار بين صورة العبد وصورة الراعي، يجعلنا نفهم أن الأسقفيّة هي حقّاً كرامة عندما تكون خدمة. كلُّ أسقفٍ إذاً يجب أن يطبّق على ذاته كلام يسوع: «تَعلَمون أنّ الذين يُعَدُّون أراكِنَةَ الأُمم يَسودونَهم، وأنَّ عُظَماءَهم يَتَسلَّطُونَ عليهم. وأمّا فيكم فليسَ الأمرُ هكذا. بل مَن أرادَ أن يكونَ فيكم كبيراً فليكُنْ لكم خادماً، ومن أراد أن يكونَ الأوّلَ فليكُنْ للجميعِ عبداً. فإنّ ابنَ البشرِ لم يأتِ ليُخدَمَ بل ليَخدُمَ ويَبذُلَ نفسه فداءً عن كثيرين» (مر 10: 42-45). وفيما يتذكّر كلماتِ يسوع تلك، يسوس الأسقف بقلب الخادم الوديع والراعي المملوءِ حبّاً، الذي يقود قطيعه وهو يَنشد مجدَ الله وخلاصَ النفوس (را لو 22: 26-27). إن إسلوب إدارة الأسقف، إذا ما عاشها على هذا النحو، تبدو حقيقةً فريدةً في العالم.
لقد سبق وأتينا على ذكر نصّ الدستور «نور الأمم» حيث ورد أن الأساقفة بصفتهم نوّاباً ومنتدَبين للمسيح، يرعون الكنائس الخاصّة المنوطة بهم «بإرشاداتهم وتوصياتهم ومثُلهم» (168). لا تناقض هنا مع العبارات التي تلي، عندما يضيف المجمع الفاتيكاني الثاني قائلاً إن الأساقفة يرعون، والحقُّ يُقال، «بإرشاداتهم وتوصياتهم ومثُلهم، ولكن بسلطتهم ايضاً، وبمزاولة سلطانهم المقدّس» (169). المقصودُ هو «السلطان المقدّس» الذي يأخذ جذوره في السلطة الأدبيّة التي يتّسم الأسقف بها بفضل قداسة حياته. فهي التي تسهّل تقبّل كلِّ عمل إدارته وتجعله ناجعاً.
أسلوب الإدارة الراعويّ والشركة الأبرشيّة
44- إن الشركة الكنسيّة المعاشة تقود الأسقف الى أسلوب راعويّ يزداد انفتاحاً على تعاون الجميع. هناك نوعٌ من الدائريّة بين القرارات التي يُدعى الأسقف إلى اتخاذها، واضعاً مسؤوليّته الشخصيّة في تصرّف خير الكنيسة الموكولة إليه، وبين المساهمة التي يمكن أن يقدّمها له المؤمنون عن طريق هيئات الاستشارة غير المباشرة، كالسينودس الأبرشيّ، ومجلس الكهنة، والمجلس الأبرشيّ، والمجلس الراعويّ (170).
لم يغرب عن بال آباءِ السينودس أن يستذكروا طرق ممارسة الإدارة الأسقفيّة، التي بفضلها ينتظم العمل الراعويّ في الأبرشيّة (171). لأن الكنيسة الخاصّة لا تحيل فقط إلى الخدمة الأسقفيّة المثلّثة المهامّ، بل ايضاً إلى وظيفة شعب الله الثلاثيّة، أعني النبويّة والكهنوتيّة والملكيّة. جميع المؤمنين، بسبب معموديتهم، يشاركون بطريقة خاصّة في خدمة المسيح الثلاثيّة. إن مساواتهم الحقيقيّة في الكرامة وفي العمل تقضي بأنهم مدعوّون جميعهم إلى المساهمة في بناء جسد المسيح، وبالتالي إلى تفعيل الرسالة التي عهد بها الله إلى الكنيسة في العالم، كلٌّ بحسب وضعه وواجباته (172).
كلُّ نوع من التفرقة ما بين المؤمنين، وفقاً لمواهبهم ووظائفهم أو خِدَمهم، تخضع لخدمة سائر أعضاء شعب الله. إن التمييز الكيانيّ والوظيفيّ الذي يضع الأسقف «إزاء» سائر المؤمنين، نظراً لكمال سرّ الكهنوت الذي ناله، يُفهم ككائن من أجل المؤمنين الآخرين، لا يفصله في شيءٍ عن كونه معهم.
الكنيسة شركة لها هيكليّتها، وهي تتحقّق في تنسيق المواهب المختلفة والمهامّ والخِدَم. إنها منظمة للبلوغ إلى الهدف المشترك الذي هو الخلاص. فالأسقف مسؤولٌ عن تحقيق هذه الوحدة في التنوّع، مسهّلاً، كما قيل في الجمعيّة السينودسيّة، توحيدَ قوى مختلف العاملين بحيث يتمكن الجميع من أن يسيروا معاً في طريق الإيمان والرسالة المشترك للجميع (173).
لكن، علاوةً على ذلك، يجب أن نضيف أن خدمة الأسقف لا يمكن، بأيّ شكلٍ كان، أن تقتصر على دور المنسّق البسيط. إن الخدمة الأسقفيّة تفترض، بطبيعتها، حقاً وواجباً في الإدارة واضحَين ولا رجوع عنهما، يشملان أيضاً وجهاً قضائيّاً. الرعاة هم شهودٌ علنيّون، وسلطانُهم على الشهادة للإيمان يبلغ كماله في السلطة القضائيّة: لا يُدعى الأسقف فقط إلى أن يشهد للإيمان بل أيضاً إلى أن يقوّم وينظّم التعابير عن الإيمان الصادرة عن المؤمنين الموكولين إلى عنايته الراعويّة. عليه أن يجهد، بإتمامه تلك المهمّة، في أن يبعث رضى مؤمنيه، لكن، في النهاية، عليه أن يتعلّم تحمّل مسؤوليّة القرارات الضروريّة التي تتوافق وضميرَه الراعويّ، المنشغلِ، فوق كلِّ شيء، بدينونة الله العتيدة.
إن الشركة الكنسيّة، في طابعها العضويّ، تحمّل الأسقف المسؤوليّة الشخصيّة، لكنها تفترض أيضاً مساهمة جميع طبقات المؤمنين بصفتهم مشاركين في مسؤوليّة فائدة الكنيسة الخاصّة التي تتألّف منهم ايضاً. إن ما يضمن أصالة هذه الشركة العضويّة هو عملُ الروح؛ فهو الذي يعمل أكان في مسؤوليّة الأسقف الشخصيّة أم في مساهمة المؤمنين في تلك المسؤوليّة. هو الروحُ القدس، في الواقع، الذي بترسيخه مساواة جميع المؤمنين بالمعموديّة، وفي الوقت عينه بتوزيعه على كلّ واحد تنويع المواهب والخدَمات، الروحُ القدس إذاً هو القادر على أن يفعّل الشركة بطريقة ناجعة. هذه المبادىء تعتبر ركيزة لعقد السينودسات الأبرشيّة. لقد حدّد وُجهتها القانونيّة، الواردَ وصفُها في القوانين 460-468 من مجموعة الحقّ القانونيّ، المذكّرة الخاصّة بالدوائر (instruction interdicastérielle) الصادرة في 19 آذار 1997 (174). إن الجمعيّات الأبرشيّة الأخرى التي يتوجّب على الأسقف أن يرئسها دون أن يتخلّى البتّة عن مسؤوليّته المميّزة، عليها أن تخضع هي أيضاً لتلك النظم في جوهرها.
إذا كان كلُّ مسيحيّ يتقبّل بالمعموديّة محبة الله من خلال فيض الروح القدس، فالأسقف – طبقاً لما ذكَّرَت بذلك بحقٍّ الجمعيّة السينودسيّة – يقبل في قلبه، بواسطة سرّ الكهنوت، محبّة المسيح الراعويّة. تلك المحبّة الراعويّة تهدف إلى خلق الشركة (175). قبل أن يُترجم الأسقفُ محبّةَ الشركة هذه إلى خطوط أعمال، عليه أن يجهد في جعلها حاضرةً في قلبه وفي قلب الكنيسة بالتزامه سيرةً روحيّةً أصيلة.
لما كانت الشركةُ التعبيرَ عن جوهر الكنيسة، فمن الطبيعيّ أن تتوق روحانيّة الشركة إلى الظهور على المستوى الشخصيّ كما على المستوى الجماعيّ، مسبّبةً أشكالاً دائمةَ التجدّد من المشاركة والمسؤوليّة المشتركة، وسط مختلف طبقات المؤمنين. على الأسقف إذاً أن يجهد في أن يخلق في كنيسته الخاصّة قوامَ شركةٍ ومساهمةٍ يسهّل الإصغاءَ إلى الروح الذي يحيا ويتكلّم في المؤمنين، فيحملهم لاحقاً على أن يفعّلوا ما يقترحه ذلك الروحُ عينه لفائدة الكنيسة الحقيقيّة.
ترابطات الكنيسة الخاصّة
45- أعرب آباء السينودس في العديد من مداخلاتهم عن حياة الأبرشيّة في مختلف مظاهرها وأوقاتها المتنوّعة، فهكذا وجّه الآباءُ انتباهاً حقّاً لكوريا الأبرشيّة، تلك البنية التي تسمح للأسقف بأن يظهر محبّته الراعويّة في مختلف أشكالها (167).
وذكّروا بالأخصّ بأنه من اللائق إناطة الإدارة الاقتصاديّة في الأبرشيّة باشخاص يتمتّعون ليس فقط بالنزاهة بل ايضاً بالكفاءة، بحيث تقدَّم مثلاً يُحتذى في الشفافيّة لجميع المؤسَّسات الأخرى الكنسيّة المشابهة. إذا كانت روحانيّة الشركة حيّة في الأبرشيّة لا يمكن إلاّ أن يخصّص انتباهٌ تفضيليّ للرعايا والجماعات الأكثر فقراً؛ وعلاوةً على ذلك يُعمل كلُّ ما يمكن كي يكرّس جزءٌ من وفر الأبرشيّة الاقتصاديّ لدعم الكنائس المعدومة، ولاسيّما في مناطق الرسالة والهجرة (177).
ولكن رأى آباءُ السينودس أنه من الواجب تركيز انتباههم على الخورنيّة، متذكّرين أن الأسقف هو المسؤول الأول عن هذه الجماعة، التي لها دورٌ يسمو كلَّ الجماعات الأخرى الحاضرة في الأبرشيّة؛ فللخورنيّة إذاً يجب على الأسقف أن يكرّس اهتمامه (178)، لأنها – طبقاً لما أكّد العديدون – لا تزال النواة الأساسيّة لحياة الكنيسة اليوميّة.
الزيارة الراعويّة
46- ممّا سبق رؤيته تظهر بوضوح أهميّة الزيارة الراعويّة، وقت النعمة الأصيل والبرهة الخاصّة بل الفريدة، حيث يلتقي الأسقفُ المؤمنين ويحاورهم (179). إن الأسقف برتولوميو دوس مرتيريس* الذي أعلنتُ طوباويّته بضعة أيام بعد ختام السينودس يحدّد، في مؤلّفه الكلاسيكيّ «مهماز الرعاة»** الذي قدَّره كثيراً القديس شارل بورومي نفسه، أن الزيارة الراعويّة لأشبه بروح الإدارة الأسقفيّة، ويصفها بحقٍّ كامتدادٍ لحضور الأسقف الروحيّ بين مؤمنيه (180).
عندما يقوم الأسقف بزيارة راعويّة في خورنيّة ما، تاركاً لمندوبين أمرَ تفحّص القضايا ذات الطابع الإداريّ، عليه أن يفضّل هو اللقاءَ مع الأشخاص، بدءاً بخوري الرعيّة والكهنة الآخرين! إنه الوقت الذي يمارس فيه عن كثب، من أجل شعبه، خدمة التعليم والتقديس والإدارة الراعويّة فيطّلع مباشرةً على قلق الأشخاص واهتماماتهم، على أفراحهم وآمالهم، منتهزاً الفرصة كي يوجّه للجميع دعوةً إلى الرجاء. هنا، بالأخصّ، يتّصل الأسقف مباشرةً بالفقراء والمسنّين والمرضى. عندما تتمّ الزيارة الراعويّة على هذا النحو، تظهر على حقيقتها، أي علامةً لحضور الربّ الذي يزور شعبه في السلام.
الأسقف ومجلس كهنته
47- كان من الصائب أن يصف القرار المجمعيّ «مهمّة الأساقفة الراعويّة» الكنيسة الخاصّة بأنها «جماعة من المؤمنين وُكل أمر رعايتها إلى أسقف يرعاها بالتعاون مع مجلس كهنته» (181). لأنه في الواقع هناك شركة أسراريّة بين الأسقف والكهنة من جرّاء كهنوت الخدمة والكهنوت الإيررخيّ الذي هو مشاركة في كهنوت المسيح الأوحد، حتى إذا كان ذلك، من ثمَّ، على مستوياتٍ مختلفة، بسبب وحدة الخدمة الكنسيّة الكهنوتيّة ووحدة المهمّة الرسوليّة.
إن الكهنة، ولاسيّما الخوارنة، هم إذاً المعاونون الأقربون للأسقف في خدمته. لذلك كرّر آباء السينودس التوصيات والدعوات التي سبق ووردت في الوثائق المجمعيّة وتكرّرت، منذ عهد قريب، في الإرشاد الرسوليّ «أعطيكم رعاة» (182)، داعيةً إلى السهر بالأخص على نوعيّة العلاقات بين الأسقف وكهنته. فيسعى الأسقف، على الدوام، إلى التصرّف مع كهنته كأبٍ وأخٍ يحبّهم ويصغي إليهم ويستقبلهم ويؤدّبهم ويشجعهم، ويذكي تعاونهم، وبقدر الإمكان، يتفانى من أجل هنائهم الإنسانيّ والروحيّ والخدماتيّ والاقتصاديّ (183).
وتتجلّى المودّة المميَّزة التي يحيط بها الأسقف كهنته بالمرافقة الأبويّة والأخلاقيّة التي يخصّهم بها خلال المراحل الأساسيّة من حياتهم الخدماتيّة، منذ الخطوات الأولى من خدمتهم الرعويّة. ولا يزال تثقيف الكهنة المستديم من المسائل الأساسيّة؛ فهو يمثّل للجميع «دعوةً في الدعوة»، لأنه يهدف، في أبعاده المختلفة المتكاملة، إلى مساعدة الكاهن كي يكون ويعمل ككاهن على مثال يسوع.
من بين واجبات كلّ أسقف أبرشيّ، تتصدّر المكانةَ الأولى العنايةُ الروحيّة بمجلس كهنته: «إن وضعَ الكاهن يديه، يوم رسامته الكهنوتيّة، بين يدي الأسقف مجاهراً له «بالاحترام البنويّ والطاعة» يمكن أن يظهر، لأول وهلة، أنه فعلٌ أحاديّ المعنى. لكن، بالحقيقة، إنه يلزمهما كليهما معاً: الكاهن والأسقف. يختار الكاهن الجديد أن يعهد بنفسه إلى الأسقف، والأسقف، من جهته، يلتزم المحافظة على هاتين اليدين» (184).
أودُ أن أضيف هنا أنّه بإمكان الكاهن، في مناسبتين أخرَيين، أن يتوقّع بديهيّاً من قبل أسقفه تعبيراً منه عن قربى مميّزة. الأولى عندما تُعهد إليه خدمته الرعائيّة، إما لأن ذلك يحصل لأول مرّة، في حال كاهنٍ مرسومٍ حديثاً، وإمّا عند حصول تبديل خدمة أو عندما تعهد إليه ولاية رعائيّة جديدة. إن إيكال مهمّة رعائيّة هو، بالنسبة إلى الأسقف نفسه، لحظة مسؤوليّة معبّرة تجاه واحد من كهنته. نجد عند القديس إيرونيمس كلمات يمكن أن تطبّق على الوضع الراهن: «إن العلاقة نفسَها التي كانت قائمة بين هارون وأبنائه نعرف أنها قائمة بين الأسقف وكهنته. واحدٌ هو الربّ وواحدٌ هو الهيكل: فلتكن كذلك وحدةٌ في الخدمة![…] أليست حكمة الابن مفخرةً للأب؟ ليبتهجنَّ الأسقف نفسه بما أعطي من حَدْسٍ صالح ليختار مثل هؤلاء الكهنة للمسيح!» (185).
أما المناسبة الأخرى فتعني الوقت الذي يغادر فيه كاهنٌ عمليّاً، لتقدّمه في السنّ، رعايةَ جماعةٍ أو مهامَّ مسؤوليّة مباشرة. في هذه الظروف وفي ظروف مماثلة، من واجب الأسقف العملُ بحيث يشعر الكاهن، من جهة، بامتنان الكنيسة الخاصّة لما تعهَّد من مهامَّ رسوليّة حتى حينه، ومن جهة أخرى بأن يشعر بالتقدير المميَّز لموقعه الجديد داخل مجلس الكهنة الأبرشيّ: لأنه يحتفظ، وبشكل متزايد، بالقدرة على الإسهام في بناء الكنيسة، بشهادته المثاليّة بصلاة أكثر مثابرةً وباستعدادٍ سخيّ لوضع ما اكتسب من خبرة في خدمة إخوته في الكهنوت الحديثي العهد. والكهنة الذين يضطرّهم مرضٌ عضال، أو أيّ شكلٍ آخر من الضعف المستديم، إلى التخلّي أيضاً عن الخدمة، يُعرب لهم الأسقف عن حضوره الأخويّ بالقرب منهم، مساعداً إياهم في الحفاظ حيّاً على اليقين «بأنهم لا يزالون أعضاء ناشطة في بنيانِ الكنيسة، وخصوصاً بقوة اتحادهم بيسوع المسيح المتألم وبذاك الجمهور الكبير من الإخوة والأخوات في الكنيسة الذين يشاركون الربَّ في آلامه» (186).
وعلى الأسقف أيضاً أن يرافق بالصلاة والعطف الفعّال الكهنة الذين، لسببٍ ما، أعادوا النظر في دعوتهم وفي أمانتهم لنداء الربّ، والذين قصروا بأي شكل في تتميم واجباتهم (187).
ولن يغفل أخيراً عن تفحّص علامات الفضائل البطوليّة التي من المحتمل أن تكون قد ظهرت في صفوف الكهنة الأبرشيّين، فيعمل على الاعتراف بها علناً، عندما يرى ذلك مناسباً، ويقوم بالإجراءات الضروريّة للمباشرة بدعوى إعلان قداستهم (188).
تثقيف المستعدّين للكهنوت
48- أولى آباءُ السينودس اهتماماً خاصّاً، لدى تعمّقهم في موضوع الخدمة الكهنوتيّة، بتثقيف المستعدّين للكهنوت، الذي يجري في الإكليريكيّة (189). إن تثقيف الكهنة، مع ما يتطلّب من صلاة وتفانٍ ومصاعب، يشكل للأسقف اهتماماً من الدرجة الأولى. في هذا الشأن، عكف آباءُ السينودس على التفكير بالأمر، لعلمهم تماماً أن الإكليريكيّة هي للأبرشيّة من أثمن الخيرات، وذكّروا بضرورة الإكليريكيّة الكبرى المسلَّم بها، دون أن يغفلوا مع ذلك الأهميّة التي تتّسم بها الإكليريكيّة الصغرى هي ايضاً، بتوفيرها تناقل القيمَ المسيحيّة، بالتطلّع إلى الحياة على خطى المسيح (190).
على كلّ أسقف إذاً أن يُبدي اهتمامه فيختار قبل كلّ شيء بعناية فائقة مربّي كهنة المستقبل، ويحدّد أفضل السبل وأنسبها ليتهيّئوا التهيئة الضروريّة كي يتمّوا خدمتهم في إطارٍ بمثل تلك الأهميّة للحياة المسيحيّة. ولن يغفل الأسقف عن أن يزور الإكليريكيّة مراراً حتى عندما تضطرّه الظروف إلى أن يختار مع أساقفة آخرين إنشاءَ إكليريكيّة مشتركة بين الأبرشيّات، وهو أمرٌ غالباً ما تمليه الضرورة ويعود بالنفع الجزيل (191). ومن الأمور التي لا يمكن الأسقف أن يهملها هي المعرفة الشخصيّة والعميقة للمرشَحين للخدمة الكهنوتيّة في كنيسته الخاصّة. فعلى أساس تلك الاتصالات المباشرة يتعهّد بأن تنشأ في الإكليريكيات شخصياتٌ ناضجة ومتّزنة، قادرة على أن تقيم علاقات بشريّة ورعائيّة متينة، حسنةُ التأهيل على الصعيد اللاهوتيّ، تتمتّع بحياة روحيّة راسخة وتحبّ الكنيسة. ويجتهد أيضاً في أن يعزّز ويثير مبادراتٍ اقتصاديّةَ الطابع كي يساند ويساعد الشبّان المرشّحين للخدمة.
إلاّ أنه من الواضح أن القوّة التي تبعت الدعوات وتنشّئها هي قبل كلّ شيء الصلاة. فالدعوات بحاجة إلى شبكة واسعة الانتشار من الضارعين أمام «ربّ الحصاد». وكلّما جوبهت قضيّة الدعوات بإطار من الصلاة، كلّما ساعدت الصلاة المرشّح على الإصغاء إلى صوت الذي يدعوه.
عند منح الرتب المقدّسة، على كلّ أسقف أن يُجري الاقتراعات المنصوص عنها (192). وإنه إذ يعي، بهذا الشأن، مسؤوليته الخطيرة في منح سرّ الكهنوت فلا يقبلنَّ الأسقف في أبرشيّته مرشّحين قادمين من أبرشيّة أخرى أو من جماعة رهبانيّة (193)، إلاّ بعد تفحّص دقيق واستشارة واسعة، وفقاً لما يحدّده الشرع.
الأسقف والشمامسة الإنجيليّون الدائمون
49-إن الأساقفة، بصفتهم موزعي الرتب المقدّسة، مسؤولون مباشرة عن الشمامسة الإنجيليّن الدائمين الذين تعتبرهم الجمعية السنودسية عطايا من الله حقيقية للتبشير بالإنجيل، وتثقيف الجماعة وتعزيز خدمة المحبة في الأسرة الإلهية (194).
لذلك، على كلّ أسقف ان يشمل بعنايته تلك الدعوات، لكونه هو نفسه المسؤول الأعلى عن تمييزها وتنشئتها. ومع أنه عادةً عليه ان يمارس تلك المسؤوليّة بواسطة مساعدين ثقة، يحرصون على العمل طبقاً لإرشادات الكرسيً الرسوليّ (195)، إلاّ أنه يسعى، قدر الإمكان، للتعرّف شخصياّ على المستعدّين للشموسيّة. وبعد رسامتهم يكون لهم اباً حقيقياً، مشجّعاً إيّاهم على التحلّي بالمحبة نحو جسد الربّ ودمه، اللذين تكرّسوا لخدمتهما، ونحو الكنيسة المقدّسة التي ارتضوا خدمتها؛ ويحضّ المتزوجين منهم على ان يعيشوا حياةً عيلية مثاليّة.
اعتناء الأسقف بأفراد الحياة المكرَّسة
50- إن الإرشاد الرسوليّ «الحياة المكرَّسة» الصادر بعد السينودس أظهر بجلاءٍ اهميّة الحياة المكرًّسة لخدمة الأسقف. وبالعودة الى ذلك النصّ خلال السينودس الأخير، ذكّر الآباء أنّه، في الكنيسة – الشركة، يجب على الأسقف ان يحبّذ ويعزّز الدعوة المميًّزة ورسالة الحياة المكرَّسة التي تخصّ بطريقةٍ راسخةٍ ثابتةٍ حياة الكنيسة (196). في الكنيسة الخاصّة ايضاً، تؤدّي الحياة المكرَّسة واجبَ حضورٍ ورسالةٍ مثاليّة. وعليه إذاً أن يتفحّص بإعتناء هل وُجد، بين الأشخاص المكرَّسين العاملين في الأبرشيّة، شهاداتُ ممارسة بطوليّة للفضائل، فيباشر، إذا ما رأى ذلك مناسباً، دعوى إعلان القداسة.
وفي اهتمامه المتنبّه بجميع أشكال الحياة المكرّسة، اهتماماً يعبَّر عنه أكان بالتشجيع أم باليقظة، على الأسقف ان يحتفظ للحياة التأمليّة بمكانة خاصّة. وعلى المكرَّسين، بدورهم، ان يتقبَّلوا بطيبة خاطر إرشادات الأسقف الراعوية ساعين الى شركة كاملة مع حياة ورسالة الكنيسة الخاصّة حيث يقيمون. لأن الأسقف هو المسؤول عن النشاط الرسوليّ في أبرشيّته: فعلى المكرَّسين أن يُسهموا معه، بحيث يُغنون، بحضورهم وخدمَتهم، الشركة الكنسيّة. وفي هذا الشأن، تؤخذ بعين الاعتبار الوثيقة «العلاقات المتبادلة» Mutuae Relationes وما ينصّ عنه الشرعُ المرعيُّ الإجراء.
ولقد أوعز بأن يُعار اهتمامٌ خاصٌّ الى المؤسَّسات الخاضعة للسلطة الأبرشيّة، ولاسيّما تلك التى تواجه صعوبات خطيرة: فعلى الأسقف ان يوليَها اهتماماً ابويّاً. اخيراً، في مسار الموافقة على مؤسَّساتٍ جديدة تنشأ في الأبرشيّة، يُعنى الأسقف بأن يتصرّف وفاقاً الى ما أشير إليه وحُدد في الإرشاد «الحياة المكرَّسة»، وفي توجيهات دوائر الكرسيّ الرسوليّ المختصّة (197).
مكانة المؤمنين العلمانيّين في اهتمام الأسقف الراعويّ
51- يجب ان تتجلّى قدرة المعموديّة الرسوليّة عند المؤمنين العلمانيّين الذين يشكّلون معظم شعب الله. إنهم، لذلك، بحاجة الى مساندة وتشجيع وعون أساقفتهم الذين، من واجبهم، أن يحضّوهم، على ممارسة رسالتهم، وفقاً لطابعهم العلمانيّ الخاصّ، غارفين من نعمة سرّي المعمودية والتثبيت. في سبيل ذلك، من الضروريّ ان يعزّز الأساقفة مساراتٍ خاصة للتنشئة تسمح للعلمانيّين بأن يتعهّدوا مسؤولياتٍ في الكنيسة ضمن هيكلّيات مشاركة ابرشيّة ورعويّة، دون إغفال مختلف مهامّ الإنعاش الليتورجيّ، والتعليم المسيحيّ، وتعليم الديانة الكاثوليكيّة في المدارس، إلخ.
ويعود بالأخص الى العلمانييّن- من الواجب تشجيعهم في هذا الاتّجاه – بأن يبشّروا الثقافات بالإنجيل ، بأن يُدخلوا قوة الإنجيل في وقائع الأسرة والعمل ووسائل الإعلام والرياضة والوقت الحرّ وبأن يُنعشوا مسيحيّاً النظام الاجتماعيّ والحياة العامّة والوطنيةّ والدوليّة. وبفضل موقع المؤمنين العلمانيّين في العالم، فإنهم قادرون على ان يمارسوا تأثيراً عظيماً على محيطهم، ويؤمّنوا للعديد من الرجال والنساء توسّعاً لأبعاد الرجاء وآفاقه. من جهة آخرى، بالتزام المؤمنين العلمانيّين اختيارَهم الحياة ضمن الوقائع الزمنيّة، فإنهم يُدعون، وفقاً للطريقة التي تتناسب وطابعَهم العلمانيَّ المميَّز، الى ان يؤدّوا حساباً عن رجائهم (را 1بط 3: 15)، في ميادين عملهم الخاصّة، منمّين في القلوب «انتظار ارضٍ جديدة» (198). أما الأساقفة فيجب ان يتقرَّبوا من المؤمنين العلمانيّين الذين، بالتزامهم كليّاً قضايا العالم المعقّدة، يواجهون بالأخص الشكَّ والآلام، وأن يساندوهم كي يكونوا مسيحيّين يرجون الرجاءَ العظيم، متأصلين بمتانةٍ في اليقين بان الربَّ حاضرٌ على الدوام الى جانب أبنائه.
من الواجب ايضاً التنويه بأهمّية رسالة المنظمات العلمانيّة، أكانت تلك التى كانت تؤدّيها الرسالة ذات التقليد الأقدم ام تلك التى تحقّقها المنظمات الكنسيّة الجديدة. كلُّ تلك الوقائع التنظيميّة تثري الكنيسة، لكنها ما زالت تعوزها خدمة التمييز الذي هو من خصائص الأسقف الذي تقوم رسالته الراعويّة على تأمين التكامل بين الحركات المتعدّدة الإيحاءات، ساهراً على تطوّرها، وعلى تنشئة منعشيها اللاهوتيّة والروحيّة، وعلى إدخال وقائع جديدة في الجماعة الأبرشيّة وفي الرعايا، دون التخلّي عنها (199). ويجهد الأسقف ايضاً ويعمل بحيث تساند المنظمات العلمانيّة راعويّة الدعوات في الأبرشيّة، ميسِّراً قبول جميع الدعوات، ولاسيّما تلك التى تتوجّه الى الخدمة الكهنوتيّة وإلى الحياة المكرَّسة والالتزام الرسوليّ (200).
عناية الأسقف بالأسرة
52- ارتفع العديد من أصوات آباء السينودس لصالح الأسرة المدعوّة حقّاً «الكنيسة البيتيّة»، الفسحة المشرَّعة لحضور الربّ يسوع، هيكل الحياة. إنها تبدو، وقد تأسّست على سرّ الزواج، كجماعةٍ ذاتِ أهميّة أساسيّة، لأن فيها يعيش الزوجان وأولادهما دعوتهم ويتكمّلون في المحبة. الأسرة المسيحيّة – كما اشار إلى ذلك السينودس – هي جماعة رسوليّة منفتحة على الرسالة (201).
من خصائص الأسقف ان يعمل بحيث تسانَد، في المجتمع المدنيّ، وتصان قيَم الزواج بواسطة خياراتٍ سياسيّة واقتصاديّة عادلة. علاوةً على ذلكَ، لن يألوَ الأسقفُ جهداً، داخل الجماعة المسيحيّة، في تشجيع استعداد الخطّاب للزواج، وفي مرافقة الأزواج الجُدد، وفي تنشئة جماعاتِ أسرٍ تساند الرعويّة العيليّة، وتكون بالأخصّ قادرةً على مساعدة الأُسر الواقعة في صعوبة. إن قربَ الأسقف من الأزواج وأولادهم لهو سندٌ أكيدٌ لهم، حتى من خلال مبادراتٍ متنوّعة الأشكال ذاتِ طابَع أبرشيّ.
ولمّا فحص آباءُ السينودس مهامَّ الأسرة نفسها التربويّة، اعترفوا بالإجماع بقيمة المدارس الكاثوليكيّة في التنشئة التامّة للأجيال الصاعدة وفي انثقاف الإيمان وفي الحوار بين الثقافات المختلفة. فمن الضروريّ إذاً أن يساند الأسقف ويعزّز عمل المدارس الكاثوليكيّة، فيوفّر لها التأسيس بحيث لا وجودَ لها، ويضغط على المؤسَّسات المدنّية، بقدر ما يستطيع إلى ذلك سبيلاً، كي تعزَّز حرّية تعليم فعّلية داخل البلد (202).
الشباب أولويّة راعويّة من اجل المستقبل
53- على الأسقف، الراعي والأب للجماعة المسيحيّة، أن يُعنى عناية خاصّة بإعلان البشرى للشباب وبمرافقتهم الروحيّة. لا بدَّ لخدمة رجاءٍ من أن تبني المستقبل مع اولئك الذين عُهد المستقبل إليهم – وبخاصّة الشباب – . إن الشباب يترقّبون فجر عالم جديد، بصفتهم «رقباءَ الصباح». إن اختيار الأيام العالميّة للشباب، التي يشجّعها الأساقفة بطيبة خاطر، تظهر لنا كم هم عديدون الشباب الجاهزون للتطوّع في خدمة الكنيسة والعالم، شرط أن تعرض عليهم مسوؤليّة حقيقيّة أو أن ينشَّأوا تنشئة مسيحيّة ناجزة.
من هذا المنطلق، وقد جعلتُ نفسي معبّراً عن فكر آباء السينودس، أوجّه نداءً خاصّاً الى افراد الحياة المكرّسة من مختلف المؤسّسات المنخرطين في ميدان تنشئة وتربية الأولاد والمراهقين والشباب كي لا تثبّطَ عزيمتَهم المصاعبُ الراهنة، ولا يتخلَّوا عن عملهم الجدير بالثناء، بل يكثّفوه، ساعين على الدوام كي يطوّروا مؤهلاتهم (203).
ومن خلال علاقة شخصيّة مع رعاتهم ومنشّئيهم، يُحَثُّ الشباب على النموّ في المحبّة، ويربَّون على حياة سخيّة جاهزة لخدمة الآخر، ولاسيّما الفقراء والمرضى. وهكذا يسهل عليهم الحديث ايضاً عن سائر الفضائل المسيحيّة، وبالأخصّ العفّة. وفي هذه المسيرة يتمكّنون من فهم أن الحياة «جميلة» عندما توهب، على مثالِ يسوع. ويمكنهم هكذا ان يحقّقوا خياراتٍ مسؤولة ونهائيّة، إمّا في الزواج، وإمّا في الحياة المقدَّسة او الحياة المكرَّسة.
راعويَّة الدعوات
54- إن تعزيز ثقافةٍ للدعوات في معناها الأوسع لهو أمرٌ جازم: فالجدير بأن يربّى الشباب على اكتشاف الحياة نفسها كدعوة. على الأسقف إذاً ان يوجِّه نداءً إلى الأُسَر والجماعات الرعائيّة والمؤسَّسات التربويّة، كي تساعد الأولاد والشباب على ما يخططه الله لحياتهم، وعلى تقبّل النداءِ الى القداسة الذي يوجّهه الله، بطريقة فريدة، الى كلّ واحد (204).
في هذا الصدَد، من المهمّ جدّاً ترسيخُ بُعدِ كلّ العمل الراعويّ الخاص بالدعوة. لذلك على الأسقف ان يُعنى فتوكلَ راعويّة الشباب والدعوات الى كهنةٍ واشخاصٍ قادرين على نقل المحبّة للمسيح، بثقةٍ وبمثال حياتهم. فيأخذون على عاتقهم مرافقة الشباب من خلال علاقة صداقة شخصيّة، وإذا كان بالإمكان، من خلال إرشادٍ روحيّ كي يساعدوهم على تقبّل علامات نداءِ الربّ والبحث عن القدرة على تلبية النداء في نعمة الأسرار وفي حياة الصلاة التي هي، قبل كلّ شيء إصغاء الى كلام الله.
تلك هي بعض الميادين التي يمارس فيها الأسقف خدمة الإدارة ويعبّر بها، للقسم من شعب الله الموكول إليه، عن المحبّة الراعويّة التي تنعشه. وأحد أشكال هذه المحبّة المميَّز هو الشفقة، على مثال يسوع، الكاهن الأعظم، الذي عرف ان يرثي للضعف البشريّ، لأنه هو نفسُه قد جُرّب في كلّ شيءٍ على مثالنا، حتى إذا كان، على خلافنا، لم يجرَّب في الخطيئة (را عب 4: 16). تلك الشفقة مرتبطة على الدوام بالمسؤوليّة الني مُنِحَها الأسقف امام الله والكنيسة. وهكذا فإنّه يتمّم المواعيد والالتزامات التي اخذها على نفسه يوم السيامة الأسقفيّة، عندما وافق بحريّةٍ على طلب الكنيسة بأن يعتني، بمحبّة ابويّة، بشعب الله المقدّس، وان يقوده في سبيل الخلاص؛ وبأن يكون على الدوام مرحِّباً رحيماً، باسم الربّ، تجاه الفقراء والمرضى وجميع المحتاجين إلى مؤاساة ومساعدة، وايضاً بأن يذهب، كراعٍ صالحٍ في طلب الخراف الضالّة فيردّها إلى حظيرة المسيح (205).
“الفصل السادس”
في شركة الكنائس
«الاهتمام بجميع الكنائس» (2 كو11: 28)
55- في رسالة إلى المسيحيّين الكورنثييّن، يذكّر الرسول بولس بكلّ ما تحمّل من أجل الإنجيل: «كثيراً ما كنتُ في الأسفارِ في أخطارِ السيُّولِ، وفي أخطارِ اللُّصوص؛ في أخطارٍ من أُمَّتي، وأخطارٍ منَ الأمم؛ وأخطارٍ في المدينةِ، وأخطارٍ في البرِيَّةِ، وأخطارٍ في البحرِ، وأخطارٍ بين الإخوةِ الكذَبة! وفي التَّعبِ والكدِّ، [عرضةً] للأسْهارِ الكثيرةِ، للجوعِ والعَطشِ، للأصوامِ الكثيرةِ، للبرْدِ والعُرْي! وما عَدا هذه، ما يَتراكمُ عليَّ كلَّ يومٍ، والاهتمامُ بجميعِ الكنائس!» (2 كو 11: 26–28). والخاتمة التي يؤول إليها هي تساؤلٌ شغِفٌ: «فَمن يَضعُفُ ولا أضعُفَ أنا! مَنْ يعْثُرُ ولا أَحتَرِقَ أنـا!» (2 كو11: 29). ذلك هو التساؤل عينُه الذي ينعش ضمير كلّ أسقف، بصفته عضواً في الهيئة الأسقفيّة.
ويذكّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني بذلك، صراحةً، عندما يؤكد أن جميع الأساقفة “ملتزمون”، من حيث هم أعضاءٌ في الهيئة الأسقفيّة وخلفاءُ شرعيّون للرسل، بقوّة فعل المسيح وأمره، أن يشملوا باهتمامهم الكنيسة الجامعة: «ذلك بأن جميع الأساقفة ملتزمون بأن يُعزِّزوا ويخدموا وحدةَ الإيمان والنِّظام العام لمجموع الكنيسة، وان يُنشّئوا المؤمنين على حبِّ جسدِ المسيح السري كله، ولاسيَّمَا اعضائه الفقراء، والمتألّمين، والمضطهدين من اجل البرّ (متى5: 10)؛ وعليهم اخيراً ان يعززوا النشاط العام في مجموع الكنيسة ولاسيَّما ما يهدف منه الى إنماء الايمان والكشف عن نور الحقيقة الكاملة للناس طرَّا. ولا جرم انهم، إذا هم أحسنوا تدبيرَ كنيستهم الخاصة كجزءٍ من الكنيسة الجامعة، يُسهمون إسهاماً فعَّالاً في خير الجسد السري كله الذي هو ايضاً جسد الكنائس» (206).
هكذا يتبيَّن أن كلَّ أسقف هو في تواصل، في وقتٍ واحد، مع كنيسته الخاصّة ومع الكنيسة الجامعة. لأن الأسقف نفسَه، وهو المبدأ الظاهر لكنيسته الخاصّة وأساس وحدتها، وهو ايضاً الرباط الظاهر للشركة الكنسيّة بين كنيسته الخاصّة والكنيسة الجامعة. بالتالي، إن جميع الأسافقة المقيمين في كنائسهم الخاصّة المنتشرة في العالم، والذين ما زالوا على شركة إيرَرخيّة مع رئيس الهيئة الأسقفيّة ومع الهيئة نفسها، يؤدّون لجماعيّة الكنيسة متانتها وتعبيرها، وفي الوقت عينه يولون كنائسهم الخاصّة طابع الجماعيّة هذا. وهكذا، إن كلّ أسقف هو كنقطة تواصل بين كنيسته الخاصّة والكنيسة الجامعة، وشهادةً ظاهرة لحضور كنيسة المسيح الواحدة في كنيسته الخاصّة. في شركة الكنائس، يمثِّل الأسقف إذاً كنيسته الخاصّة، وفيها يمثّل شركة الكنائس. بالخدمة الأسقفيّة تشارك أجزاء الكنيسة (portiones Ecclesiae) في كامل الواحدة – المقدسّة، فيما هذه، وبواسطة تلك الخدمة عينها، تكون حاضرةً في جزء الكنيسة (207).
إن البعد الشامل للخدمة الأسقفية يظهر كليّاً ويتفاعل عندما يعمل جميع الأساقفة كهيئة، في شركة إيرَرخيّة مع الحبر الرومانيّ. إنهم يشكلون خلافة جماعة الرسل، أكانوا مجتمعين رسميّاً في مجمع مسكونيّ ام موّزعين في أنحاء العالم، شرط ان يكونوا دوماً في شركة إيرَرخيّة مع الحبر الرومانيّ (208). لكن هناك ايضاً أشكال اخرى يتعاون بها جميعُ الأساقفة ما بينهم ومع الحبر الرومانيّ لخير الكنيسة كلّها (in bonum totius Ecclesiae)، ويتمُّ ذلك كي يبشَّر بالإنجيل في الأرض كلّها وايضاً كي تجابَه كلّ القضايا التي تحدق بمختلف الكنائس الخاصّة. في الوقت عينه، إن ممارسة خدمة خليفة بطرس لخير الكنيسة كلّها وخير كلّ كنيسة خاصّة، وكذلك إن عمل الهيئة بحدّ ذاتها يشكلان مساعدة ناجعة كي تصان، في الكنائس الخاصّة الموكولة الى اهتمام الأساقفة الأبرشيّين الراعوّي، وحدةُ الإيمان والنظام المشترك في الكنيسة كلّها. في كرسيّ بطرس، يجد الأساقفة فرديّاً او متّحدين في ما بينهم كهيئة، المبدأ الدائم والظاهر وكذلك أساس وحدة الإيمان والشركة (209).
الأسقف الأبرشيّ في علاقته مع السلطة العليا
56- يعلّم المجمع الفاتيكانيُّ الثاني ان «الأساقفة في خِلافتهم للرُّسلِ، يتمتَّعون، في الأبرشِيّاتِ المُسنَدةِ إليهم، بكامل السلطَّةِ العاديَّةِ والخَاصَّةِ والمُباشرةِ التى تُوليهم إيّاها رُتَبهم وتَقتَضِيها مُزاولةُ مُهمَّتهم الراعويَّة، هذا باستثناء ما يختصُّ به سُلطانُ الحَبرِ الرُّومانيِّ دائماً في شتَّى الأمورِ وما تقتَضِيه مَسؤوليَّتُه من الاحتِفاظِ لنَفسِهِ ببعض القضايا أو من الاحتفاظ بها لِسُلطة أُخرى» (210).
في قاعة السينودس، أثار احدُهم قضيّة إمكانيّة دراسة العلاقات بين الأسقف والسلطة العليا، على ضوء مبدإ التراتبيّة (principe de subsidiarité) ، ولاسيّما في ما يخصّ علاقات الأسقف مع الكوريا الرومانيّة، ومع التمنّي بأن تتمّ تلك العلاقات، في خطّ إكليزيولوجيّا الشركة، مع احترام صلاحيّات كلّ شخص، أي بتفعيلٍ أعظم للامركزيّة. وطُلب أيضاً أن تُدرس إمكانيّة تطبيق هذا المبدإ على حياة الكنيسة، مع الحفاظ، على كلّ حال، على أنّ المبدأ الجوهريّ لممارسة السلطة الأسقفيّة هي شركة مختلف الأساقفة الإيرَرخيّة مع الحبر الرومانيّ ومع الهيئة الأسقفيّة.
من المعلوم ان مبدأ التراتبيّة قد صاغه سلفي البابا بيوس الحادي عشر للمجتمع المدنيّ (211). إلاّ ان المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الذي لم يستخدم ابداً عبارة «تراتبيّة»subsidiarité))، قد شجّع التقاسم بين مؤسّسات الكنيسة، طارحاً، حول لاهوت الأسقفيّة، تفكيراً جديداً اخذ يؤتي ثماره في التطبيق العمليّ لمبدإ الجماعيّة في الشركة الكنسيّة. أما بشأن ممارسة السلطة الأسقفيّة، فلقد رأى آباءُ السينودس أن مفهوم التراتبيّة يشوبه الالتباس والغموض، وشدّدوا على ضرورة إجراء دراسة لاهوتيّة معمّقة حول طبيعة السلطة الأسقفيّة، على ضوءِ مبدإ الشركة (212).
في أثناء الجمعيّة السينودسيّة، دار الحديث مراراً حول مبدإ الشركة (213). إنها الشركة العضويّة التي تستوحي صورة جسد المسيح التي تحدَّث عنها الرسول بولس عندما يشير الى الأدوار المتكاملة القائمة بين اعضاء الجسد الواحد (را 1كو 12: 12–13).
كي يكون اللجوءُ الى مبدإ الشركة صحيحاً وناجحاً يجب إذاً الارتكازُ على نقاطِ مرجعيةٍ لا مناصَ منها. قبل كل شيء، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الأسقف الأبرشيّ، في الكنيسة الخاصّة، يملك كلّ السلطة العاديّة، الخاصّة والمباشرة والضروريّة للقيام بمهامّ خدمته الراعويّة. إنّه يملك إذاً ميداناً خاصّاً ليمارس تلك السلطة ممارسةً مستقلّةً، ميداناّ يعترف به ويحميه الشرعُ العام (214). من جهة اخرى، إن سلطان الأسقف يتواجد والسلطانَ الأعلى للحبر الرومانيّ، وهو سلطانٌ أسقفيٌّ أيضاً، عاديٌّ ومباشَرٌ يمارسه على جميع الكنائس وجماعاتها، وعلى جميع الرعاة والمؤمنين (215).
ومن النقاط الثابثة الواجبِ استذكارُها، ان وحدة الكنيسة متأصّلة في وحدة للهيئة الأسقفيّة؛ ولكي تكون هذه واحدة يجب ان يكون رأسٌ للهيئة. وعلى غرار ذلك، كي تكون الكنيسة واحدةً، يجب ان تكون كنيسةٌ على رأس الكنائس، وهي كنيسةُ رومة، التي أسقفُها، خليفةُ بطرس، هو رأسُ الهيئة (216). إذاً، «كي تكون كلُّ كنيسة خاصّة كنيسةً بالكليّة، اي حضوراً خاصّاً للكنيسة الجامعة مع كلّ عناصرها الجوهريّة، وتتكوّن بالتالي على صورة الكنيسة الجامعة، يجب ان تتواجد فيها سلطةُ الكنيسة العليا [… ] كعنصرٍ خاصّ. إن أوّلويّةَ أسقفِ رومة والهيئةَ الأسقفيّة هما عنصران يخصّان الكنيسة الجامعة، “وليسا عنصرين متفرّعين من خصوصيّة الكنائس”، مع انهما من العناصر الداخليّة لكلّ كنيسة خاصّة. إن مبدأَ تواجد خدمة خليفة بطرس في كلّ كنيسة خاصّة ينجم بالضرورة من ذلك العنصر الداخليّ المتبادل الأساسيّ القائم بين الكنيسة الجامعة والكنيسة الخاصّة” (217).
إن كنيسة المسيح، بسبب جامعيّتها، تتحقّق كليّاً في كلّ كنيسة خاصة، وهذه تحصل على جميع الوسائل الطبيعيّة والفائقة الطبيعة كي تكمّل رسالتها، التي عهد بها الله الى الكنيسة كي تتمَّها في العالم. بين تلك الوسائل، نجد ايضاً سلطة الأسقف العاديّة، الخاصّة والمباشرة التي تتطلّبها ممارسةُ خدمته الراعويّة، ممارسةً تخضع، على كلّ حال، للشرائع العامة ولما يُحفظ شرعاً او بقرار من الحبر الأعظم، للسلطة العليا او لسلطة اخرى كنسيّة (218).
إن القدرة على الإدارة، التي تشمل أيضاً ممارسة السلطة التعليميّة الأصيلة (219) والتي تعود جوهريّاً إلى الأسقف في ابرشيّته، تقع في قلب حقيقة الكنيسة السريّة، بحيث إنَّا نجد الكنيسةَ الجامعة في الكنيسة الخاصّة؛ وهذه تؤمّن حضور السلطة العليا، أي الحبرالرومانيّ وهيئة الأساقفة مع سلطتهم العليا، الكاملة، العاديّة والمباشرة على جميع المؤمنين وجميع الرعاة (220).
يجب ان نؤكد، وفقاً لتعليم المجمع الفاتيكانيّ الثاني، أن مهمّة التعليم ومهمّة الإدارة – وبالتالي السلطة المطابقة لهما – يمارسهما، في الكنيسة الخاصّة، من حيث طبيعتهما، كلُّ اسقف ابرشيّ يكون في الشركة الايرَرخيّة مع رأس الهيئة نفسها (221). إن ذلك لا يُضعف، بل على العكس، يُعزّز السلطة الأسقفيّة، بمعنى أن روابط الشركة الايرَرخيّة التي تربط الأساقفة بالكرسيّ الرسوليّ تتطلّب تنسيقاً ضروريّاً بين مسؤوليّة الأسقف الأبرشيّ والسلطة العليا، تمليه طبيعة الكنيسة نفسُها. هو الشرعُ الإلهيُّ نفسه الذي يفرض حدوداً لممارسة هذه وتلك. لذلك، ان سلطة الأساقفة «لا تلغيها السلطة العليا الجامعة؛ بل إنها على خلاف ذلك، ترسّخها وتعزّزها وتحميها، إذ إن الروح القدس يكفل، بغير زوال، ديمومة صيغة الحكم التي أقرّها المسيح الربُّ في كنيسته» (222).
كان البابا بولس السادس على حقّ عندما صرّح، لدى افتتاحه الدورة الثالثة من المجمع الفاتيكانيّ قائلاً: « مثلما أنتم بحاجة، ايّها الإخوة في الأسقفيّة الأجلاّء، المنتشرون في الأرض، إلى محورٍ كي تعطوا متانةً وصورةً لجامعيّة الكنيسة الحقيقيّة، وإلى مبدإ وحدةٍ في الإيمان والشركة، كما يتوفّر لكم ذلك بالطبع في كرسيّ بطرس، كذلك نحن أنفسنا نحتاج لأن تكونوا دوماً بالقرب مناً كي تعطوا على الدوام وجهَ الكرسيّ الرسوليّ مزيداً من الجمال وواقعاً بشريّاً وتاريخيّاً، وتحافظوا على التوافق في الإيمان، وتقدموا مثالاً على تتميم واجباته وتشجّعوه في مَحنه» (223).
إن حقيقة الشركة، التي هي في أساس جميع العلاقات بين الكنائس (224)، والتي ظهرت جليًّا في اثناء النقاش في السينودس، هي ايضاً علاقة تبادل بين الحبر الرومانيّ والأساقفة. فإذا كان على الأسقف، كي يعبّر كليّاً عن مهمّته نفسها ويُرسي جامعيّة كنيسته، ان يمارس سلطته الإداريّة، في الشركة الإيرَرخِيّة مع الحبر الرومانيّ ومع الهيئة الأسقفيّة، فالحبر الرومانيّ، وهو رأس الهيئة، يعمل دائماً، في ممارسته خدمة الراعي الأعلى للكنيسة، في الشركة مع جميع الأساقفة الآخرين، وحتى في الشركة مع الكنيسة جمعاء (225).
إذاً، في الشركة الكنسيّة، مثلما انّ الأسقف ليس وحيداً، لكن يعود باستمرار الى الهيئة الأسقفيّة ورئيسها، وهي تسانده، كذلك الحبرُ الرومانيّ ليس وحيداً، لكنّه يعود دائماً إلى الأساقفة وهم يساندونه. وفي ذلك سببٌ آخرُ يبيّن أن ممارسة الحبر الرومانيّ سلطانَه الأعلى لا يلغي بل يثبّت ويوطّد ويصون سلطان الأسقف العاديّ والخاصّ والمباشر في كنيسته الخاصّة.
زيارات «الأعتاب الرسوليّة» (ad limina Apostolorum)
57- إن زيارات «الأعتاب الرسوليّة» هي تعبير، وفي الوقت عينه، وسيلة للشركة بين الأساقفة وكرسيّ بطرس (226). فهناك في الواقع ثلاثة اوقاتٍ رئيسيّة لتلك الأحداث، يتّسم كلُّ واحد منها بمعنىً خاصّ (227). هناك أولاً الحجُّ الى قبرَي زعيمَي الرسل بطرس وبولس الذي يُظهر العلاقة بالإيمان الواحد الذي شهدا له باستشهادهما برومة.
إن اللقاءَ وخليفةَ بطرس مترابطٌ مع هذا الوقت ففي مناسبة الزيارة الى «الأعتاب» (ad limina)، يجتمع الأساقفة حوله، فيتبادلون، وفقاً لمبدإ الجماعيّة، المواهب من بين جميع الخيور التي تتمتّع بها الكنيسة بفعل الروح، أكان على الصعيد الخاصّ والمحليّ أم على الصعيد الشامل (228). إن ما يتمّ حينئذٍ، ليس مجرّد تبادل معلومات، بل بالأخصّ تأكيد وتوطيد الجماعيّة في جسد الكنيسة التي بها تتحقّق الوحدة في التعدّديّة، التي بدورها تولّد نوعاً من التداول (perichoresis) بين الكنيسة الجامعة والكنيسة الخاصّة، أشبه بدوران الدم المنطلق من القلب نحو أطراف الجسم ومنها يعود الى القلب (229). إن اللمفا (lymphe) الحيويّة النابعة من المسيح توحّد جميع الأجزاء، مثل نُسغ الكرمة الذي ينتشر في الأغصان (را يو 15: 5). ويظهر ذلك جليّاً بالأخصّ في احتفال الأساقفة مع البابا بالإفخارستيّا. كلّ إفخارستيّا يحتفل بها، في الواقع بالاشتراك مع الأسقف الخاصّ ومع الحبر الرومانيّ ومع الهيئة الأسقفيّة، ومن خلالهم، مع مؤمني الكنيسة الخاصّة والكنيسة جمعاء، بحيث إن الكنيسة الجامعة تكون حاضرةً في الكنيسة الخاصّة، وهذه تنضمّ مع الكنائس الخاصّة الأخرى، إلى شركة الكنيسة الجامعة.
منذ القرون الأولى ترجع الشركة في اسمى مراجعها إلى كنيسة رومة، حيث بطرس وبولس شهدا للإيمان. فمن الضروري إذاً أن تكون كلُّ كنيسة على وفاقٍ معها، بسبب موقعها السامي، لأنها الضمان الأخير لسلامة التقليد الذي تناقله الرسل (230). ترئس كنيسة رومة الشركة الشاملة للمحبّة (231)، وتصون الفوارق الشرعيّة، وفي الوقت عينه، تسهر على أن تعود الخصوصيّة بالنفع على الوحدة، بدلاً من أن تضرَّ بها (232). كلُّ هذا يقتضي ضرورة شركة الكنائس المختلفة مع كنيسة رومة، كي تستطيع جميعُها أن تؤمّن سلامةَ التقليد الرسوليّ ووحدةَ النظام القانونيّ، حفاظاً على الإيمان وعلى الأسرار وعلى السبيل الفعليّ إلى القداسة. شركة الكنائس هذه تعبّر عنها الشركة الإيرَرخِيّة بين مختلف الأساقفة والحبر الرومانيّ (233). من شركة الأساقفة جيعهم مع بطرس وبرئاسة بطرس (cum Petro et sub Petro) التي تتحقّق في المحبّة، ينجم واجب تعاون الجميع مع خليفة بطرس، لخير الكنيسة الجامعة، ومن ثمَّ لخير كلّ كنيسة خاصّة. إنّ الزيارة «إلى الأعتاب» تسعى طبعاً إلى هذا الهدف.
المظهر الثالث للزيارات «الى الأعتاب» يشكلّه اللقاءُ مع مسؤولي دوائر الكوريا الرومانيّة: بالحديث معهم، يبلغ الأساقفة مباشرةً الى القضايا التي هي من صلاحيّات الدوائر، وبذلك يلجون إلى مختلف مظاهر الاهتمام الراعويّ المشترك. لقد طلب آباءُ السينودس في هذا الشأن، من باب المعرفة والثقة المتبادلين، ان تصبح العلاقات اكثر تواتراً بين الأساقفة، فُرادى او مجتمعين في المجالس الأسقفيّة، ودوائر الكوريا الرومانيّة (234)، بحيث يستطيع هؤلاءِ أن يؤدّوا افضل خدمة شاملة، بعد اطلاعهم مباشرةً على قضايا الكنائس الفعليّة.
لا شك في إن الزيارات «إلى الأعتاب»، مع تقارير السنوات الخمس عن حال الأبرشيّات (235)، هي وسائل ناجعة لتلبية متطلّبات المعرفة المتبادلة الناجمة عن حقيقة الشركة نفسها بين الأساقفة والحبر الرومانيّ. ويمكن ان يكون حضورُ الأساقفة إلى رومة للزيارة مناسبةً جيّدةً تسرّع من جهة الجواب عن اسئلة طرحوها على الدوائر؛ ومن جهة ثانية، وفقاً لما تمنَّوه، تسمحُ للدوائر المختصّة ان تستشيرهم بسهولةٍ أكبر، فُرادى او جماعةً، بغية تهيئة وثائق ذات أهميّة عامّة كبرى؛ وفي المناسبة عينها، يمكن ايضاً أن تفسَّر للأساقفة، قبل نشرها، وثائقُ مرتقبة ينوي الكرسيّ الرسوليّ ان يوجّهها إلى عامّة الكنيسة، أو بالتحديد إلى الكنائس الخاصّة التى يرعاها الأساقفة الحاضرون.
سينودس الأساقفة
58- كلُّ جمعيّة عامّة لسينودس الأساقفة، الذي هو نوعاً ما تعبير عن الأسقفيّة، أصبح، بطريقة خاصّة، وفاقاً لاختبار ثابت، روحَ الشركة التي تربط الأساقفة بالحبر الرومانيّ، والأساقفة ما بينهم. فأمكن إبداءُ حكم كنسيّ معمّق، بفعلٍ من الروح، بشأن مختلف القضايا التي تقتحم حياة الكنيسة (236).
في أثناء المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ظهر، كما نعلم، طلبٌ بأن يتمكن الأساقفة من مساعدة الحبر الرومانيّ في أداء مهمّته، بطريقة أفضل. من وجهة النظر هذه، أنشأ سلفي بولس السادس «سينودس الأساقفة» (237)، مع الأخذ بعين الاعتبار المساهمة التي كان يؤديها مجلس الكرادلة للحبر الرومانيّ. بواسطة الهيئة الجديدة، كان بالإمكان التعبيرُ تعبيراً أنجع عن العطف الجماعيّ واهتمام الأساقفة بخير الكنيسة جمعاء.
لقد أظهرت السنوات الفائتة أن الأساقفة، متّحدين في الإيمان والمحبّة، يمكنهم ان يؤدّوا بنصائحهم مساعدة فعّالة للحبر الرومانيّ في ممارسة خدمته الرسوليّة، أكان لصيانة الإيمان والآداب أم في الحفاظ على النظام الكنسيّ. في الواقع، أن تبادل الأخبار عن الكنائس الخاصّة، فيما يسهّل توافق القرارات، حتى حول قضايا عقيديّة، هو وسيلة صالحة لتوطيد الشركة (238).
كلُّ جمعيّة عامّة لسينودس الأساقفة هي اختبارٌ كنسيٌّ راسخ، حتى إذا كان بالإمكان دوماً إجراءُ تحسينات في إجراءاتها (239). الأساقفة الملتئمون في سينودس يمثّلون قبل الكلّ كنيستَهم، لكن لا تغرب البتّة عن بالهم مساهمات المجالس الأسقفيّة التي انتدبتهم فيحملون آراءَها بشأن المواضيع المطروحة على بساط البحث. إنهم يعبّرون هكذا عن تمنّيات هيئة الكنيسة الإيرَرخيّة كلّها، ونوعاً ما، عن تمنّيات الشعب المسيحيّ الذي يرعَون.
يشكِّل السينودسُ حدثاً يتوضّح فيه جليّاً أن خليفة بطرس، في أدائه مهمّته، يرتبط على الدوام في الشركة مع الأساقفة الآخرين ومع الكنيسة جمعاء (240). وفي هذا الشأن، تنصّ مجموعة الحقّ القانونيّ على ما يلي: «يعود إلى سينودس الأساقفة ان يناقش القضايا المطروحة، ويعبّر عن الأماني، لكن لا أن يبتّ في القضايا او يُصدر قرارات، إلاّ إذا حصل في امور محدَّدة، على سلطة نقريريّة من الحبر الرومانيّ الذي يعود إليه حينئذٍ التصديق على قرارات السينودس» (241). من جهة اخرى، أن لا يكون للسينودس، اعتياديّاً إلاّ دورٌ استشاريّ فذلك لا يُنقص البتّة من قيمته. لأنَّ غاية كلِّ تنظيم جماعيّ، في الكنيسة، أكان استشاريّاً أم تقريريّاً، هو نشدان الحقيقة أو خير الكنيسة. علاوةً على ذلك، عندما يقتضي الأمر التثبّت من الإيمان الواحد، فإن توافق الكنيسة لا ينجم من عدد الأصوات، بل إنه ثمرة عمل الروح، روحِ كنيسة المسيح الواحدة. لأن السينودس هو، بالضبط، في خدمة الحقيقة والكنيسة، بصفته تعبيراً عن المشاركة الحقيقيّة في المسؤوليّة من جهة الهيئة الأسقفيّة جمعاء متحّدةً برأسها في ما يخصّ خير الكنيسة، فالأساقفة عندما يُدلون باقتراعهم، إستشاريّاً كان أم تقريريّاً، فإنهم يعبّرون، على كلّ حال، عن مشاركتهم في إدارة الكنيسة الجامعة؛ وكذلك القول، في الوقت عينه، عن أعضاء السينودس الآخرين غير المتَّسمين بالطابع الأسقفيّ. وفقاً لما جرى عليه سلفي بولس السادس، لقد استفدتُ أنا بنفسي على الدوام من الاقتراحات والآراء التي عبّر عنها آباءُ السينودس، فأدرجتُها في مسار تحضير الوثيقة التي تستعيد نتائجَ السينودس، والتي أحبُّ، ولهذا السبب عينه، أن أنعتَها بـ «ما بعد السينودس» (post-synodal).
الشركة بين الأساقفة وبين الكنائس على الصعيد المحلّي
59- علاوةً على الصعيد الجامع، عديدةٌ هي ومتنوّعة الطرق التى يمكن ان يعبَّر بها، وفي الواقع يعبَّر بها، عن الشركة الأسقفيّة وبالتالي عن الاهتمام بجميع الكنائس الشقيقة. إن العلاقات المتبادلة بين الأساقفة تتعدّى بكثير لقاءاتهم التنظيميّة. إن الوعي الحيَّ للبعد الجماعيّ الذي تتّسم به الخدمة المنوطة بهم يجب ان يحثّهم، ولا سيّما في إطار المجلس الأسقفيّ الواحد، أكان عل صعيد المحافظة أم الإقليم الكنسيّ، على ان يحقّقوا ما بينهم مختلفَ تعابير الأخوّة الأسراريّة، بدءاً من اللقاءِ والتقدير المتبادلين حتى مختلف تعابير المحبّة والتعاون الفعليّ.
وفقاً لما حبرّتُ سابقاً، «لقد تحقق الكثير ايضاً منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني بشأن إصلاح الكوريا الرومانيّة، وتنظيم السينودسات، وسير أعمال المجالس الأسقفيّة. لكن، بالحقيقة، ما زال مجال العمل كبيراً كي يعبَّر، بالأفضل، عن قدرات أدوات الشركة هذه، الضروريّة بالأخصّ، في هذه الأياّم حيث لا غنىً من الإجابة بسرعة وبجدوى عن القضايا التي يجب على الكنيسة أن تجابهها، وسط تبدّلات عصرنا السريعة» (242). يجب حينئذٍ أن يلقانا القرن الجديد بأجمعنا وقد التزمنا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كي نظهر ونطوّر الأُطر والأدوات الآيلة الى تأمين وضمان الشركة بين الأساقفة وبين الكنائس.
كلُّ عملٍ يتمّه الأسقف في ممارسة خدمته الراعويّة هو دوماً عملٌ يتمّم داخل الهيئة [الأسقفيّة]. أكان ذلك بممارسة خدمة الكلمة او إدارة الكنيسة الخاصّة، او إتّخاذ قرار مع سائر الأخوّة في الأسقفيّة، بشأن الكنائس الخاصّة الأخرى المنتمية إلى المجلس الأسقفيّ نفسه، في إطار المحافظة أوالإقليم، هذا كلّه يشكّل دوماً عملاً داخل الهيئة، لأنه يتمّ بالحفاظ على الشركة مع جميع الأساقفة الآخرين ومع رأس الهيئة، فيما يلتزم الأسقف مسؤوليته الراعويّة الخاصّة. ويتحقّق ذلك كلّه، لا بفضل توافقٍ بشريّ للتعاون، بل من جرّاء اهتمام بالكنائس الأخرى، ينجم عن أنّ كلَّ أسقف في الواقع، هو على السواء مسؤول عن الكنيسة الخاصّة، وعن الكنائس الشقيقة المجاورة وعن الكنيسة الجامعة، وإن يكن ذلك بطرقٍ مختلفة.
إذاً لقد ذكّر آباءُ السينودس بحقّ انه «يجب على الأساقفة العائشين في الشركة الأسقفيّة أن يشعروا بأن صعوباتِ إخوتهم في الأسقفيّة وآلامَهم هي صعوباتُهم وآلامُهم. ومن اجل توطيد هذه الشركة الأسقفيّة وتعزيزها، يجب على الأساقفة والمجالس الأسقفيّة ان تأخذ بعين الاعتبار جدّيّاً إمكانيّة مساعدة كنائسهم للكنائس الأكثر فقراً» (243). إنّا نعلم أن ذلك الفقر يمكن ان يتمثّل بنقصٍ خطير في الكهنة او العاملين الرعائيّين الآخرين، او بنقص كبيرٍ في الوسائل الماديّة. في كلا الحالتين، يتضرّر الإعلان بالإنجيل. لذلك، وفي منحى ما سبق وأعلنه المجمع الفاتيكانيّ الثاني (244)، أتبنّى فكرة آباء السينودس: لقد تمنّوا ان تعزَّز علاقات التضامن الأخويّ بين الكنائس القديمة العهد في التبشير وتلك التي تدعى «الكنائس الفتيّة»، وذلك بتطبيق «التوأمة» التي تنفّذ فعليّاً بتبادل الخبرات والعاملين الرعائييّن، وبمساعدة ماديّة ايضاً. وهذا ما يؤكد فعلاً صورة الكنيسة بصفتها «أسرة الله» حيث الأقوى يساندون الأضعف لخير الجميع (245).
هكذا تظهر، بشركة الكنائس، شركة الأساقفة التي يعبّر عنها أيضاً بالعناية المملوءة حبّاً نحو الرعاة الذين، أكثر من الإخوة الآخرين ولأسباب مرتبطة بالأخصّ بأوضاع محليّة، ابتُلوا وما زالوا، للأسف، يُبتلون بأوجاع تسبّبها في غالب الأحيان اوجاع أبنائهم المؤمنين. هناك طبقة من الرعاة تستحقّ عناية خاصّة، بسبب عدد المنتمين إليها الآخذ في النموّ: ألا هم الأساقفة المتقاعدون. في اثناء ليتورجيّا ختام الجمعيّة العامّة العاشرة العاديّة، غالباً ما توجّهتُ وآباءَ السينودس بالفكر إليهم. إن الكنيسة جمعاء تكنّ أعظم التقدير لهؤلاء الإخوة الأعزّاء، الذين ما زالوا أعضاءَ ذوي شأن في الهيئة الأسقفيّة. إنها لممتنّة من الخدمة الراعويّة التي أدوّها والتي ما زالوا يؤدّونها بوضع آرائهم الحكيمة واختبارهم في تصرّف الجماعة. ولن تألوَ السلطةُ المختصّة جهداً في وضع تراثهم الروحيّ هذا موضع الصدارة، وفيه قد تجمّع جزءٌ غالٍ من ذاكرة الكنائس التي قادوها خلال سنوات. إنه لواجبٌ القيامُ بما أمكن كي تؤمَّن لهم ظروفُ هناءٍ روحيّ واقتصاديّ ضمن الإطار البشريّ الذين يرغبون فيه بصورة معقولة. علاوةً على ذلك، تُدرس إمكانيّة استخدام كفاءاتهم، داخل مختلف هيئات المجالس الأسقفيّة (246).
الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة
60- على صعيد هذه الرؤية عينها للشركة بين الأساقفة وما بين الكنائس خصَّ آباءُ السينودس الكنائسَ الشرقيّة الكاثوليكيّة باهتمامٍ خاصٍّ، آخذين بعين الاعتبار مرّةً اخرى ثروات تقاليدها الجديرة بالإكرام والعريقة في القِدَم؛ إنها تشكّل كَنزاً حيّاً يتزامن وجوده مع تعابير متشابهةٍ للكنيسة اللاتينيّة. فهذه وتلك توضح معاً اكثرَ الوحدة الجامعة لشعب الله المقدّس(247).
لا شك في أن الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة، بسبب قرابتها الروحيّة والتاريخيّة واللاهوتيّة والليترجيّة والتنظيميّة مع الكنائس الأرثوذكسيّة والكنائس الشرقيّة الأخرى التي ليست في ملء الشركة بعدُ مع الكنيسة الكاثوليكيّة، تتمتّع بدورٍ خاصّ كي تعمل على تعزيز الوحدة ما بين المسيحيّين، وبالأخصّ مسيحيّي الشرق. وإنها لمدعوّةٌ، على غرار الكنائس جميعها، إلى ذلك بالصلاة وبحياة مسيحيّة مثاليّة؛ علاوةً على ذلك، وبمساهمةٍ منها خاصّة، إنها مدعوّة إلى أن تضيف امانتها الدينيّة الى التقاليد الشرقيّة العريقة في القِدَم (248).
الكنائس البطريركيّة وسينودساتها
61- ما بين المؤسَّسات الخاصّة بالكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة تبرز بالأخصّ الكنائس البطريركيّة. إنها تنتسب إلى الجماعات الكنسيّة التي تأسَّست عضويّاً، كما يؤكد ذلك المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ (249)، في مجرى الزمن وبفعل من العناية الإلهيّة. إنّها تتمتّع بأنظمةٍ وعاداتٍ ليترجيّة خاصّة، أو بتراث لاهوتيّ وروحيّ مشترك، مع احتفاظها دوماً بوحدة الإيمان وبالبنية الإلهيّة الواحدة للكنيسة الجامعة.
كرامتها الخاصّة تنجم عن انّها، كأمهاتٍ في الإيمان، قد أنجبت كنائس اخرى، هي بمثابة بناتٍ لها، ومن ثم تربطها، حتى ايامنا الحاضرة، ربُطٌ وثيقة من المحبة في الحياة الأسراريّة وفي احترام متبادل للحقوق والواجبات.
هذه المؤسّسة البطريركيّة قديمة العهد في الكنيسة. فبعد ان تثبّتت في المجمع المسكونيّ الأول بنيقية (325)، اعترفت بها المجامع المسكونيّة الأولى، وهي ما زالت الصيغة التقليديّة للإدارة في الكنائس الشرقيّة (250). إنها، إذاً، في مبدإها وفي هيكليّتها الخاصّة مؤسَّسة كنسيّة. لذلك بالضبط عبّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن الرغبة في «أن تُنشأَ، عند الضرورة، بطريركيّاتٌ جديدة، على أن يُحفظ أمرُ إنشائها للمجمع المسكونيّ او للحبر الرومانيّ»(251) في الكنائس الشرقيّة، من يتمتّع بسلطان يفوق السلطة الأسقفيّة والمحليّة – أعني البطاركة وسينودسات اساقفة الكنائس البطريركيّة – يشارك في السلطة العليا التي يمارسها خليفة بطرس على الكنيسة جمعاء، ويمارس تلك السلطة، ليس فقط مع احترام أولويّة الحبر الرومانيّ (252)، بل ايضاً مع احترام مهمّة الأساقفة، كلٍّ بمفرده، دون التعدّي على ميدان صلاحيّتهم ودون الحدّ من ممارستهم الحرّة لمهمّاتهم الخاصّة.
في الواقع، إن العلاقات ما بين أساقفة كنيسة بطريركيّة والبطريرك الذي هو، من جهته، أسقف الأبرشيّة البطريركيّة، تتمّ على الأساس الذي وضعته في القديم قوانين الرسل: «على أساقفة كلِّ أمّة أن يعرفوا بأنه هو الأول ما بينهم، وأن يعتبروه كرئيسهم، وألاّ يأتوا شيئاً ذا قيمة من دون رضاه؛ ولا يهتمّنَّ أحدٌ سوى بما يخصُّ قطاعه والمناطق التابعة له؛ لكن لا يأتيَنَّ هو ايضاً عملاً من دون رضى الجميع؛ هكذا يسود الوئام ويتمجَّد الله، بالمسيح في الروح» (253). يعبِّر هذا القانون عن العُرف القديم بشأن السينودسيّة في كنائس الشرق، مع الإشارة في الوقت عينه إلى أساسه اللاهوتيّ ومعناه التمجيدي، لأن فيه يؤكَّد بوضوح ان عمل الأساقفة السينودسيّ في الوئام يقدّم عبادة للّه الواحد والثالوث ويمجّده.
في حياة الكنائس البطريركيّة السينودسيّة يجب إذاً الإقرار بوجود استخدام فعليّ لبُعد الخدمة الأسقفيّة الجماعيّ. جميع الأساقفة الذين سيموا شرعيّاً يشاركون في سينودس كنيستهم البطريركيّة بصفتهم رعاةً لجزء من شعب الله. إلاّ أن دور الأول، أي البطريرك، يُعترف به كعنصر يؤلّف بطريقته العمل الجماعيّ. لأنه لا يوجد قطُّ أيُّ عمل جماعيّ بدون «أوّل» معترفٍ به أولاً. من جهةٍ ثانية، إن الجماعيّة لا تنقض ولا تنقص استقلاليّة الأسقف الشرعية في إدارة كنيسته؛ إلا أنها توطّد التعاطف الجماعيّ عند الأساقفة المشاركين في المسؤوليّة عن جميع الكنائس الخاصّة التي تضمّها البطريركّية.
يُعترف للسينودس البطريركيّ بسلطة إداريّة حقيقيّة. فهو ينتخب البطريرك والأساقفة لمهامّهم داخل الكنيسة البطريركيّة، وكذلك المرشّحين للأسقفيّة الذين يتمّ عرضهم على الحبر الرومانيّ كي يعيّنهم في المهامّ خارج حدود رقعة الكنيسة البطريركيّة (254). علاوةً على رضى البطريرك أو الأخذ الضروريّ برأيه لصلاحيّة بعض الأعمال المختصّة به، يعود إلى السينودس أن يسنّ الشرائع النافذة ضمن حدود رقعة الكنيسة البطريركيّة – ولخارج تلك الحدود، في ما يتعلّق بشرائع ليتورجيّة (255). فضلاً عن ذلك، ومع مراعاة صلاحيّة الكرسيّ الرسوليّ، إنّ السينودس هو المحكمة العليا ضمن حدود رقعة الكنيسة البطريركيّة (256). لإدارة الشؤون ذات الخطورة الكبيرة، ولاسيّما تلك التي تتعلّق بتحديث أنماط وأساليب الرسالة والنظام الكنسيّ، ينعم البطريرك والسينودس البطريركيّ بالمساهمة الاستشاريّة التي يؤدّيها المجمع البطريركيّ الذي يدعوه البطريرك الى الإلتئام، كلَّ خمس سنواتٍ على الأقَلّ (257).
التنظيم المتروبوليتيّ والمناطق الكنسيّة
62-إن الطريقة العملية لتعزيز الشركة ما بين الأساقفة والتضامن ما بين الكنائس هي في إعادة تنشيط حياة المؤسّسة العريقة في القِدَم للمناطق الكنسيّة، حيث المتروبوليتون هم الأدوات والعلامات أكان للأخوّة ما بين أساقفة المنطقة أم لشركتهم مع الحبر الرومانيّ (258). وبسبب تشابه القضايا التي ترهق الأساقفة، لأن عدد هؤلاءِ المحدود يسمح بتفاهمٍ أوسعَ وأنجع، فإن العمل الراعويّ المشترك يمكن بالتأكيد أن يوزَّع توزيعاً أفضل في جمعيّات أساقفة المنطقة الواحدة، ولاسيّما في المجامع المناطقيّة.
حيث يُستحسن بأن ينشأَ، من أجل الخير العام، مناطقُ كنسيّة، فهذا يعود إلى جمعيّات أساقفة المنطقة الواحدة أو، على كلّ حال، إلى المجامع العامّة. وعلينا ان نكرّر، في هذا الشأن، ما سبق وأعرب عنه المجمع الفاتيكانيُّ الثاني: «وهذا المَجمعُ المسكونيُّ المُقدَّسُ يَرغبُ في أن تُجدِّدَ مُؤَسَّسةُ السِّينودُسات والمَجامع الموقّرة نَشاطَها حتى تَسهَر، في ما تَقتَضِيه الأحوالُ الزَمانِيّة، سَهراً كَافياً وفَاعلاً، على تَنمِيةِ الإيمانِ، وَالتِزَامِ القانُونِ في الكَنائِس المُختلِفة» (259). في هذه المؤسّسات يمكن الأساقفة أن يعملوا معبّرين ليس فقط عن الشركة القائمة ما بينهم، بل أيضاً عن الشركة مع كلِّ مقوِّمات الجزءِ من شعب الله الموكول إليهم؛ وتتمثّل تلك المقوِّمات في المجامع، بحسب نظُم الشرع.
في المجامع الخاصّة، حيث يشارك بالطبع أيضاً، مع صوتٍ استشاريٍّ فقط، كهنة وشمامسة إنجيليّون ورهبان وراهباتٌ وعلمانيُّون، يعبَّر مباشرةً ليس فقط عن الشركة ما بين الأساقفة، بل أيضاً عن الشركة ما بين الكنائس. علاوةً على ذلك، لما كانت المجامع الخاصّة أوقاتاً كنسيّة رسميّة، فهي تتطلّب، في تهيئتها، تفكيراً جدّيّاً يُلزم جميع طبقات المؤمنين بحيث يُجعل من تلك المجامع مكاناً ملائماً لأخذ القرارات الأكثر خطورة، ولاسيّما ما يتعلّق منها بالإيمان. لذلك لا يمكن أن تأخذ المجالس الأسقفيّة مكان المجامع الخاصّة، كما يحدّد ذلك المجمع الفاتيكانيّ الثاني نفسه عندما تمنّى أن تستعيد المجامع الخاصّة زخماً جديداً. بالعكس يمكن المجالس الأسقفيّة أن تشكّل أداةً جيّدة لتهيئة المجامع العامّة (260).
المجالس الأسقفيّة
63- بقولنا ذلك، لا نفكّر البتّة بأن نغفل اهمّية ومنفعة مجالس الأساقفة التي أعطاها المجمع الأخير شكلها التنظيميّ الذي عاد فحدّدته لاحقاً مجموعة الحقّ القانونيّ والإدارة الرسوليّة الحديثة (Apostolos suos) (261). ولنا ما يتشابهها من مؤسّسات في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة مجالسُ رؤساء مختلف الكنائس ذات الحقّ الخاصّ المستقلّة (sui iuris) التي تلحظها «مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة»، «والغايةُ أن يتمَّ، في ضوءِ ما توحي به الفطنةُ والخبرةُ وبتبادل الآراء، توحيدٌ مقدَّسٌ للطاقاتِ في سبيلِ خيرِ الكنائسِ العامّ. وبذلك تعزّزُ وحدةُ العملِ، وتُساند النشاطاتُ المشتركة، ويُدعَمُ خيرُ الديانةِ دعماً افضل، ويجري التقيّد بالنظامِ الكنسيّ على وجهٍ أفعل» (262).
هذه المجالس الأسقفيّة هي اليوم، كما قال آباءُ السينودس، أداةً صالحة للتعبير عن روح الأساقفة الجماعيّة ولوضعها موضع التحقيق. لذلك يجب أن تفعَّل المجالس الأسقفيّة في كلِّ طاقاتها، على أكبر قدرٍ ممكن (263). في الواقع، نرى أن «تلك المجالس تطوّرت بشكل ملموس واضطلعت بدور الأداة المفضّلة لدى أساقفة دولة أو مقاطعة معيَّنة من أجل تبادلِ الآراء، والمشاورات المتبادلة، والتعاون في سبيل خير الكنيسة العام؛ “لقد أصبحت خلال هذه السنوات، حقيقة ملموسة، حيّة وناجعة، في كل أنحاء العالم”. وتتجلّى اهميّتها بأنّها تُسهم فعلّياً في الوحدة ما بين الأساقفة، وبالتالي في وحدة الكنيسة، إذ إنّها أداةٌ صالحة لتوطيد الشركة الكنسيّة» (264).
ولما كان اعضاءُ المجالس الأسقفيّة هم الأساقفةُ فقط، وكلُّ من يمثّلهم الشرع بالأساقفة الأبرشيّين، حتى إذا لم يتّسموا بالطابع الأسقفيّ (265)، فإن الأساس اللاهوتيّ لتلك المجالس، خلافاً للمجامع الخاصّة، هو مباشرةً البعدُ الجماعيّ الذي يميّز مسؤوليّة الإدارة الأسقفيّة. أما الشركة ما بين الكنائس فما هي سوى عَبر خطٍّ غير مباشر. على كلِّ حال، لمّا كان المجلس الأسقفيّ منظّمة دائمة تلتئم دوريّاً، فمهمّته تصبح ناجعةً إذا ما اتخذت لها موقع المساعد بالنسبة الى المهمّة التي يمارسها الأساقفة بحقٍّ إلهيّ في كنيستهم. على صعيد كنيسته الخاصّة، يرعى الأسقف الأبرشيّ، باسم الربّ، القطيع الموكولَ إليه، وذلك بصفته الراعيَ الخاصَّ والعاديَّ المباشر؛ وعمله شخصيٌّ حصراً وليس جماعيّاً، حتى إذا كان ينعشه روحُ الشركة. وعلى صعيد تجمّع الكنائس الخاصّة في مناطق جغرافيّة (دولة، منطقة، إلخ)، لا يمارسُ الأساقفة المُكلَّفون بها خدمتهم الراعَويّة مشاركةً، فيأتون أعمالاً جماعيّةً شبيهةً بأعمال الهيئة الأسقفيّة التي هي غير متجزّئة، لكونها ذاتاً لاهوتيّة (266). لذلك إن أساقفة الهيئة الأسقفيّة الواحدة الملتئمين مجلساً لا يمارسون مشاركةً سوى بعض المهمّات الناجمة عن خدمتهم الراعويّة، وذلك لخير مؤمنيهم، وفي حدود الصلاحيّات التي ينيطها بهم الشرع او تفويض الكرسيّ الرسوليّ (267).
من المؤكّد أن المجالس الأسقفيّة الأكثر عدداً تتطلّب تنظيماً معقّداً، كي تؤدّي الخدمة لصالح الأساقفة التي تتألّف منها، وبالتالي لصالح الكنائس المختلفة. على كلّ حالٍ، من الواجب «تحاشي بيروقراطيّة الخدَمات واللجان العاملة ما بين الاجتماعات العامّة» (268). لأن المجالس الأسقفيّة، «مع لجانها وخدَماتها قد وُجدت كي تساعد الأساقفة، لا كي تنوب منابهم» (269)، ولا بالأحرى كي تشكّل هيكليّة وسيطة ما بين الكرسيّ الرسوليّ والأساقفة. يمكن المجالس الأسقفيّة أن توفّر مساعدةً ناجعة للكرسيّ الرسوليّ بتعبيرها عن آرائها بشأن قضايا محدَّدة ذات طابع شامل (270).
المجالس الأسقفيّة تعبّر عن الروح الجماعيّة التي توحّد الأساقفة وتفعّلها، وبالتالي تخدم الشركة ما بين مختلف الكنائس، إذ تنشئ ما بينها ولاسيّما ما بين الأكثر جواراً، علاقات وطيدة في البحث عن الخير الأعظم (271). ويمكن أن يتحقّق ذلك بطرق مختلفة: بنصائح وندوات واتّحاداتٍ. للاجتماعات القاريّة، بالأخصّ، اهميّةٌ مرموقة، لكنها لا تضطلع البتّة بالصلاحيّات المعترف بها للمجالس الأسقفيّة.
تلك الاجتماعات تساعد كثيراً على أن يتعزّز ما بين المجالس الأسقفيّة في مختلف الدول التعاون الذي، في زمن «العولمة» هذا، يبدو بالغ الضرورة كي تواجهَ تحديّاتُها وتفعَّل «عولمة تضامن» حقيقيّة (272).
وحدة الكنيسة والحوار المسكونيّ
64-إن صلاة الربِّ يسوع من اجل الوحدة ما بين تلاميذه (ليكونوا واحداً: يو 17: 21)، تشكل لكِّل اسقف دعوةً ملحَّةً إلى واجب رسوليٍّ محدَّد. لا يمكن أن نتوقّع مثل تلك الوحدة، كثمرةٍ لجهودنا؛ إنها بالأخصّ عطيّةٌ من الثالوث الأقدس للكنيسة. لكن هذا لا يعفي المسيحيّين من عمل كلِّ ما يستطيعون، بدءاً بالصلاة، كي يعجِّلوا المسيرة نحو الوحدة الكاملة. إن الكنيسة الكاثوليكيّة، استجابةً منها لصلواتٍ الربّ ونيّاته، وكذلك لتقدمته على الصليب كي يجمع أبناءَه المتفرِّقين (را يو 11: 25)، تشعر أنها ملتزمةٌ، بطريقة لا عودة فيها، الحوارَ المسكونيَّ المنوطةَ به فعّاليّةُ شهادتها في العالم. يجب إذاً المثابرةُ على طريق حوار الحقيقة والمحبّة.
لقد ذكّر العديدُ من آباء السينودس بالدعوة المميِّزة التي يلتزمها كلُّ اسقفٍ بأن يعزّز الحوار في ابرشيّته ويطوّره في الحقيقة والمحبة (را أف 4: 15). إن شكَّ انقسام المسيحيّين يشعر به الجميع وكأنه علامة مضادّة للرجاء المسيحيّ. لقد أُشير إلى الطرق العمليّة لتعزيز ذلك الحوار المسكونيّ: معرفة افضل متبادلة ما بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأخرى والجماعات الكنسيّة التي ليست في ملءِ الشركة معها؛ لقاءات ومبادرات مناسبة، ولاسيّما شهادة المحبّة. هناك عملٌ مسكونيّ في الحياة اليوميّة، يتألف من تقبّلٍ وإصغاءٍ وتعاونٍ متبادل، ويتّسم بفعّاليّة خاصّة.
من جهة ثانية، شعر آباءُ السينودس أيضاً بخطر حركاتٍ متهوّرة تتّسم «بعمل مسكونيّ متلهّف»، يمكنها أن تضرّ بالمسيرة الحسيّة نحو ملء الوحدة. لذلك، فإنه من المهمّ ان يُصغي الجميع ويضعوا موضع التنفيذ المبادىءَ الصحيحة للحوار المسكونيّ، وأن يشدَّد ايضاً على تلك المبادىء في الإكليريكيّات أمام المرشّحين للخدمة المقدَّسة، وفي الرعايا وفي البنى الكنسيّة الأخرى. فضلاً عن ذلك، يجب على الحياة الكنسيّة الداخليّة نفسِها أن تشهد للوحدة، في احترامِ وتشريع فسحاتٍ دائمةِ الاتّساع تُقبَل فيها مختلفُ التقاليدَ اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة والتنظيميّة، وفيها تطوِّر ثرواتها الكبيرة (273).
الظاهرة الإرساليّة في الخدمة الأسقفيّة
65- لقد كُرّس الأساقفة، بصفتهم اعضاءَ في الهيئة الأسقفيّة، ليس فقط لأبرشيّة بل من أجل خلاص جميع البشر (274). هذا التعليم الذي عُرض في أثناء المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ذكّر به آباءُ السينودس كي يظهروا الواقع أن على كلّ اسقفٍ ان يعي طبيعة خدمته الراعويّة الإرساليّة: يجب ان يتسّم كلُّ عمله الراعويّ بروح رسولية، كي يثير ويثبّت في اذهان المؤمنين الغيرة في نشر الإنجيل. لذلك إن مهمّة الأسقف هي أن يثير ويذكي ويقود، في أبرشيّته، نشاطاتٍ ومبادراتٍ إرساليّة، تشمل أيضاً المظهر الاقتصاديّ (275).
ولا يقلُّ اهميّةً على الإطلاق أيضاً، على حدّ قول السينودس، بأن يشجّع الأسقفُ البعدَ الإرساليّ في كنيسته الخاصّة بتعزيزه، وفقاً لمختلف الأوضاع، قيَماً اساسيّة من مثل الاعتراف بالآخر، واحترام الاختلاف الثقافيّ، والانصهار السليم ما بين مختلف الثقافات. إضافة الى ذلك، إن الطابع التصاعديّ للتعدّديّة الثقافيّة في المدن والمجتمعات، الناجمة بالأخصّ عن الهجرات الدوليّة، تخلق اوضاعاً جديدة تولّد تحدّياً إرساليّاً خاصّاً. جرت أيضاً، في أثناء السينودس، مداخلات شدّدت على قضايا تتّصل بالعلاقات ما بين أساقفة الأبرشيّات والجمعيّات الرهبانيّة الإرساليّة، مشيرةً الى ضرورة مزيد من التفكير في هذا الشأن. في الوقت عينه، اعتُرف بالرفد العظيم من الخبرة الذي يمكن أن تحصل عليه كنيسةٌ خاصّة من هذه الجمعيّات للحياة المكرَّسة كي تحافظ، ما بين المؤمنين، على إنعاش البعد الإرساليّ.
على الأسقف، في غيرته، ان يظهر خادماً للرجاء وشاهداً له. لا شك، في الواقع، أن الرسالة هي المعيار الصحيح للإيمان بيسوع المسيح وبمحبته لنا (276): منذ القِدَم، تجذب الرسالة الإنسان إلى حياة جديدة يُذكيها الرجاء. لأن المسيحيّين بتبشيرهم بالمسيح الناهض من بين الأموات يعرّفون بمن افتتح عهداً للتاريخ جديداً، ويعلنون للعالم البشرى الحسنة بخلاصٍ تامٍّ وشامل يتضمّن عربون عالم جديد ينوب فيه الفرح والجمال منابَ الألم والظلم. في مطلع ألفيّة جديدة، فيما اشتدَّ وعيُ شمول الخلاص، وتبيّن أن إعلان الإنجيل يجب ان يتجدّد كلَّ يوم، جاءتنا من الجمعيّة السينودسيّة دعوةٌ الى عدم إبطاءِ الجهد الإرساليّ، بل إلى توسيعه في تعاون إرساليّ اكثر تعمّقاً على الدوام.
“الفصل السابع”
الأسقف في مواجهة التحديّات الراهنة
«ثقوا: فإني قد غلبتُ العالم!» (يو 16: 33)
66- في الكتاب المقدَّس، تشبَّه الكنيسة بقطيع «أعلن الله نفسُه من قبلُ أنه سيكون هو راعيَه؛ والذي يتعهّد نعاجه ويغذّيها بدون انقطاع، وإن يكن على رأسها رعاةٌ بشر، هو المسيح بالذات، الراعي الصالح ورأس الرعاة» (277). ألم يصف يسوعُ نفسُه تلاميذَه بـ «القطيع الصغير»، أوَلم يحرّضهم على ألاّ يخافوا بل على ان ينمّوا الرجاء (را لو12: 32)؟
لقد كرّر يسوعُ مراراً على تلاميذه هذا التحريض: «في العالم ستختبرون الشدّة، ولكن اطمئنّوا: فإني قد غلبتُ العالم» (يو 16: 33). وساعة انتقاله إلى الآب، وبعد أن غسل أرجل رسله، قال لهم: «لا تضطرب قلوبكم»، واضاف: «أنا الطريق [… ]؛ فلا أحد يأتي الى الآب إلاّ بي» (يو 14: 1، 6). في هذا الطريق الذي هو المسيح، سارت الكنيسة، القطيع الصغير؛ وهو الراعي الصالح، الذي يقودها، هو الذي «إذا أخرج خرافه كلَّها سار قدّامها فتتبعه لأنها تعرف صوته» (يو 10: 4).
يخرج الأسقف هو ايضاً، على مثال يسوع المسيح وفي خطاه، كي يعلنه للعالم مخلّصاً للإنسان، كللِّ إنسان. ولكونه مرسلَ الإنجيل، يعمل الأسقف باسم الكنيسة، الخبيرة في الإنسانيّة والقريبة من اناس عصرنا. لذلك، من واجب الأسقف، وقد تقوّى من جذريّة الإنجيل، أن يميط اللثام عن الأنثروبولوجيات المزيّفة، وأن يطلق سراح القيَم التي تستهزىءُ بها المسارات الإيديولوجيّة، ويميّز الحقيقة. إنه يعرف أن بإمكانه أن يردّد مع الرسول: «ولئن كنّا نتعب ونكافح فلأنّا أنطنا رجاءَنا بالله الحيّ، الذي هو مخلّص جميع الناس» (1 تيم 4: 10).
حينئذٍ يتّسم عمل الأسقف بتلك الصراحة (parresia) التي هي ثمرة عمل الروح (را أع: 31). وإذ يخرج الأسقف هكذا من ذاته ليبشّر بيسوع المسيح، فإنه يتمّم رسالته بثقة وشجاعة، «صائراً اسقفاً» (factus pontifex)، «صائراً حقّاً «جسراً» ممدوداً نحو كلّ إنسان. وبولَع الراعي، يخرج الأسقف في طلب النعاج، في إثر يسوع الذي قال: «وإن لي خرافاً أخرى ليست من هذه الحظيرة، فهي ايضاً ينبغي أن أقودها» (يو 10: 16).
الأسقف، صانع العدل والسلام
67- في إطار هذا العمل الإرساليّ، تحدّث آباءُ السينودس عن الأسقف كنبيٍّ للعدل. إن حرب الأقوياء ضدّ الضعفاء، قد وسَّعت، اليومَ اكثر من ايّ يومٍ مضى، الانقسامات العميقة ما بين الأغنياء والفقراء. فالفقراء لا يُحصى لهم عدد! ضمن نظام اقتصاديّ ظالم، يتّسم بتنافرات بنيويّة غايةٍ في القوّة، تفاقم وضع المهمَّشين من يومٍ الى يوم. عديدةٌ هي مناطق العالم اليوم حيثُ الجوع متفشّ، بينما في مكان آخر تسود البحبوحة. وما هي ضحايا تلك الفروقات المأسويّة سوى، بخاصّة، الفقراء والشباب واللاجئين. المرأة نفسُها، في العديد من المناطق، انحطّت كرامتُها الإنسانيّة، ووقعت ضحيّة ثقافةٍ تلذّذيّة ماديّة.
أمام، وفي غالب الأحيان، في مثل هذه الأوضاع من الظلم، التي تشرّع، لا محالة، الأبواب أمام النزاعات والموت، يقف الأسقف مدافعاً عن حقوق الإنسان الذي خلق على صورة الله كمثاله. إنه يكرز بتعاليم الكنيسة الأدبيّة، كي يدافع عن حقّ الحياة، منذ الحبَل حتى نهايتها الطبيعيّة؛ ويعلّم ايضاً تعليم الكنيسة الاجتماعيّ المرتكز على الإنجيل، ويأخذ على نفسه أن يذود عن ايّ مستضعف، صائراً صوتَ الذين لا صوتَ لهم، كي يحصّل حقوقهم. ما من شكٍّ أن تعليم الكنيسة الاجتماعيّ يمكنه ان يذكي الرجاء حتى في الأوضاع الأكثر صعوبةً. إذا لم يكن من رجاءٍ للفقراء، فلن يتوفّر الرجاءُ لأحد، حتى للّذين يُدعون أغنياء.
دان الأساقفة بشدّةٍ وحزمٍ الإرهاب والإبادة الجماعيّة، ورفعوا الصوت عالياً دفاعاً عن الباكين ضحايا الظلم والخاضعين للاضطهاد، والعاطلين عن العمل، من أجل الأولاد الذين يقاسون العنف تحت اشكاله الأكثر تنوّعاً وخطورةً متفاقمة. ومثلما الكنيسة المقدَّسة هي في العالم سرّ الوحدة الحميمة مع الله ووحدة البشريّة جمعاء (278)، كذلك الأسقف هو الذائد عن الفقراء وهو أبوهم؛ إنه يتّقد غيرة من أجل العدالة، والحقوق الإنسانيّة، إنه حامل رجاء (279).
كلامُ آباء السينودس، بالاتحاد مع كلامي، كان واضحاً وجريئاً: «لم نستطع ان نصمَّ الآذان، في هذا السينودس، عن صدى هذا الكمّ من المآسي الأخرى الجماعيّة. [… ] إنّه ليتحتَّم تبديل النظام الخلقيّ. [… ] بعض الويلات الدائمة، التي طالما لم تؤخذ بعين الاعتبار، يمكنها أن تؤدّي إلى يأس شعوب بأكملها. كيف السبيل إلى الصمت أمام المأساة المستمرّة، مأساة الجوع والفقر المدقع في زمنٍ تمتلك فيه البشريّة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وسائل المقاسمة العادلة؟ لا يمكننا، من جملة ما ندعو إليه، ألاّ نعبّر عن تضامننا مع حشد اللاجئين والمهاجرين الذين، على أثر الحروب والقمع السياسيّ والتفرقة الاقتصاديّة، يضطرّون الى مغادرة أوطانهم، بحثاً عن عمل، راجين السلام. إن أضرار حمّى البُرَداء وانتشار السيدا، والأميّة، وضياعَ المستقبل للعديد من الأولاد والشباب المهملين في الشارع، واستغلال النساء، والخلاعيّة والتعصّب، وتحويل الدين بطريقةٍ مرفوضةٍ إلى أهداف عنف، وتهريب المخدِّرات وتجارة الأسلحة… اللائحة غير كاملة! إلاّ أنّه، وسط كلِّ تلك الشدائد، يرفع الودعاءُ الرأس. إن الربّ يتطلّع إليهم ويساندهم: “من اجل المسكين الذي يُعرَّى، والفقير المتنهّد أهبُّ الآن، يقول الربّ (مز 12[11]: 6)” (280).
إلى هذه اللوحة الى رُسمت للتوّ، ينضاف بإلحاح واضح النداء إلى السلام والالتزام به. في الواقع، إن بؤَرَ النزاع الموروثة من القرن الماضي ومن الألفيّة بأكملها، ما زالت متّقدة. تضاف إليها أيضاً النزاعات المحليّة التي تولّد تمزّقات عميقة ما بين الثقافات والقوميّات. وكيف السكوت في وجه العنصريّات والتعصّبات الدينيّة، الدائمة العداء للحوار والسلام؟ في العديد من مناطق العالم، تشبه الأرض مستودع بارود، جاهزاً للانفجار والانقضاض على الأسرة البشريّة بأعظم الويلات.
في هذا الوضع، لا تني الكنيسة تبشّر بسلام المسيح الذي اعلن في العظة على الجبل، تطويب «صانعي السلام» (متى 5: 9). السلام مسؤوليّةٌ شاملة، يمرّ من خلال آلاف أعمال الحياة اليوميّة الصغيرة. إنّه ينتظر أنبياءَه وصانعيه، الذين لا يمكن أن نُعدم منهم، ولاسيّما في الجماعات الكنسيّة، التي يرعاها الأسقف. على مثال يسوع الذي جاء ليعلن إطلاق المرهقين احراراً ويُنادي بسنة نعمة الربّ (را لو 4: 16–21)، يكون الأسقف دائماً مستعدّاً كي يبيّن أن الرجاءَ المسيحيّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالغيرة على التعزيز الكامل للإنسان والمجتمع، كما يبيّن ذلك تعليمُ الكنيسة الاجتماعيّ.
علاوةً على ذلك، في أوضاع نزاعٍ مسلّحٍ محتملة، وهي ليست نادرة، للأسف! حتى إذا حرّض الأسقف الشعبَ على إظهار حقوقه، فعليه أن يذكّر دائماً بأن من واجب المسيحيّ نبذُ الثأر، والانفتاح على الغفران ومحبة الأعداء (281). لأنّه ليس من عدلٍ من دون غفران. وعلى الرغم من صعوبة قبول ذلك، يظهر التأكيد واضحاً لكلِّ إنسانٍ عاقل: لا إمكانيّة لسلام حقيقيّ إلاّ بالغفران (282).
الحوار ما بين الأديان، ولا سيّما من أجل السلام في العالم
68- مثلما ردّدتُ ذلك في مناسباتٍ عديدة، يجب أن يكون الحوار ما بين الأديان في خدمة السلام ما بين الشعوب. إن التقاليد الدينيّة تمتلك، في الواقع، الوسائل الضروريّة كي تتجاوز التصّدعات وتوّفر الصداقة المتبادلة والاحترام ما بين الشعوب. انطلق من السينودس النداءُ الداعي الأساقفة إلى تعزيز لقاءات مع ممثّلي الشعوب كي يفكِّروا مليِّاً في الخلافات والحروب التي تمزّق العالم، كي تحدَّد سبلٌ تسمح بالسير في التزام مشترك للعدالة والوفاق والسلام.
وشدّد آباءُ السينودس بقوّةٍ على اهميّة الحوار بين الأديان من اجل السلام، وطلبوا من الأساقفة أن يتفانوا في هذا السبيل، كلّ في أبرشيّته الخاصّة. ويمكن ان تشقَّ طرقٌ جديدةٌ نحو السلام من خلال تأكيد الحريّة الدينيّة التي تحدَّث عنها المجمع الفاتيكانيّ الثاني في البيان المجمعيّ «الحريّة الدينيّة» (Dignitatis humanae)، وايضاً من خلال العمل التربويّ لصالح الأجيال الصاعدة، والاستخدام الصحيح لوسائل التواصل الاجتماعيّ (283).
إلاّ أنّه من المؤكّد أن منظور الحوار ما بين الأديان أوسع، لذلك كرّر آباءُ السينودس أنه يندرج في التبشير الجديد بالإنجيل ولاسيّما في هذه الأوقات التي فيها، اكثر بكثيرٍ من الماضي، يعيش يوميّاً معاً في المناطق عينها، والمدن عينها، وفي أمكنة العمل عينها، أشخاصٌ ينتمون إلى دياناتٍ مختلفة. إن العديد من الأُسَر المسيحيّة ترى إذاً من واجبها، في الحياة اليوميّة، أن تَعمل على الحوار ما بين الأديان؛ ولهذا أيضاً يجب على الأساقفة، بصفتهم معلّمي الإيمان ورعاةَ شعب الله، أن يولوا هذا الحوار اهتماماً صحيحاً.
إن اطار الحياة المشتركة هذا مع اشخاص ينتمون إلى دياناتٍ أخرى يولّد عند المسيحيّين واجباً خاصّاً: أن يشهدوا لوحدة وشمول سرّ يسوع المسيح الخلاصيّ، مع ما ينجم عنه من واجب الكنيسة الضروريّ بأن تكون أداة خلاص للبشريّة جمعاء. «هذه الحقيقة الإيمانيّة لا تنتزع شيئاً من تقدير الكنيسة المحترم والصادق للأديان في العالم؛ ولكن، في الوقت عينه، إنها تنفي جَذريّاً الذهنيّة اللامبالية المشبعة نسبيّةً دينيّةً التي تحمل على الاعتبار بأن “جميع الأديان تتساوى”» (284). من الواضح إذاً أن الحوار ما بين الأديان لا يمكن البتّة أن ينوب مناب إعلان الإيمان وانتشاره اللذيَن يشكلان الغاية الأوليّة للوعظ والتعليم الدينيّ المسيحيّ ورسالة الكنيسة.
التأكيد الصريح وبدون مواربة أن خلاص العالم مرتبطٌ بالفداءِ الذي أتمّه المسيح لا يمنع الحوار مع الأديان الأخرى. من جهة ثانية، من منظورالاعتراف بالرجاء المسيحيّ، لن يغرب عن البال أنه هو ذاك الرجاءُ حقّاً الذي يرتكز عليه الحوار ما بين الأديان. في الواقع، كما يؤكد ذلك البيان الحقيقيّ المجمعيّ «علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة» (Nostra Aetate)، « إنَّ جميع الشعوبِ يُؤَلِّفون أُسرةً واحدةً: فهم جميعُهم من أصلٍ واحدٍ إذ أسكنَ اللهُ الجنسَ البشريَّ كلَّه على وجهِ هذه الأرض؛ ولهم جميعاً غايةٌ قُصوى واحدةٌ، وهي اللهُ الذي يَبسطُ على الجميع كَنفَ عنايته، وآياتِ لُطفه، ومقاصدَه الخلاصيَّة، إلى أن يجتمعَ مختاروه في المدينةِ المقدَّسةِ التي يُضِيئُها مجدُ الله، وفي نُورهِ تَسلُكُ الشُعوبُ جميعاً» (285).
الحياة المدنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة
69- لن يغفل الأسقف، في عمله الراعويّ، عن أن يوليَ اهتماماً خاصاً لمتطلّبات الحبّ والعدل التي تنجم عن الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تطال الأشخاصَ الأكثر فقراً، والمنبوذين بالأكثر والمعنَّفين بالأكثر، الذين يتأمّل فيهم المؤمنُ قدراً من إيقونات المسيح الخاصّة. إن حضورهم داخل الجماعات الكنسيّة والمدنيّة هو محطُّ اختبار لأصالة إيماننا المسيحيّ.
أريد أن اقول كلمةً عن الظاهرة المعقَّدة لماَ يسمّى العولمة، التي هي إحدى مميّزات العالم الحاضر. إن هناك في الواقع «عولمة» الاقتصاد والمال والثقافة أيضاً التي تترسَّخ شيئاً فشيئاً، نتيجةً لتقدّمٍ سريعٍ مرتبطٍ بتكنولوجيا المعلوماتيّة. وكما تسنّى لي أن أقول مراراً من قبل في مناسبات أخرى، إن العولمة تتطلّب تمييزاً حذراً غايته تبيانٌ واضحٌ لمظاهرها الإيجابيّة والسلبيّة، والتداعيات المختلفة التي يمكن ان تنجم عنها للكنيسة وللجنس البشريّ بأجمعه. إن مساهمة الأساقفة في هذا الشأن لمهمّة: لن يتوانَوا أبداً عن التذكير بالضرورة القصوى فنبلغ الى «عولمة المحبّة»، التي تتحاشى كلَّ إقصاءٍ جانباً. في هذا الصدد، ذكّر آباءُ السينودس هم أيضاً بواجب تعزيز «عولمة المحبّة»، متأمّلين في هذا الإطار في القضايا العائدة الى الإعفاء من الدَّين الخارجيّ، الذي يعرّض للضرر اقتصاديّات شعوب بأسرها، بلجمه تقدّمها الاجتماعيّ والسياسيّ (286). بدون أن أتوقَّف عند جدليّة بمثل هذه الخطورة، أعيد فقط طرح بعض المظاهر الأساسيّة التي سبق وعُرضت في مكان آخر: رؤية الكنيسة في هذا الموضوع تشمل ثلاث نقاط مرجعيّة جوهريّة ومتزامنة هي: كرامة الشخص البشريّ والتضامن والتعاون. لذلك «إن الاقتصاد المعولم يجب أن يُفحص على ضوءِ مبادىءِ العدالة الاجتماعيّة، مع احترام الاختيار التفضيليّ للفقراء كي يتمكّنوا من الدفاع عن أنفسهم في اقتصادٍ معولم، ومع احترام متطلّبات الخير العام الدوليّ» (287). وإذا ما طُعّمت العولمة على فعّاليّة التضامن، فلن تتسبّب من بعدُ بالإقصاء. فإن عولمة التضامن تنجم مباشرةً عن المحبّة الشاملة، التي هي روح الإنجيل.
احترام البيئة والذَّودُ عن الخليقة
70- ذكّر آباءُ السينودس أيضاً بالمظاهر الخلقيّة المتعلّقة بقضيّة البيئة (288). إن المعنى العميق الذي يرافق النداء إلى عولمة التضامن يعني أيضاً، وبطريقة ملحّة، قضيّة الذَّود عن الخليقة وعن موارد الأرض. إن «أنّات الخليقة» التي يشير إليها الرسول (را روم 8: 22)، تبدو وكأنها تتحقّق اليوم من منظار معكوس، لأن الأمر ليس توقاً إسخاتولوجيّاً، في ترقّب تجلّي أبناء الله (را روم 8: 19)، بل على العكس من ذلك إنه ألم الموت الساعي للإمساك بالإنسان نفسه كي يُبيدَه.
هنا تنكشف، في شكلها البالغِ الخداع والفساد، المعضلة البيئيّة. في الواقع «إن أعمق وأخطر علامة للاتهامات الأدبيّة المتعلّقة بالمسألة البيئيّة تتكوّن من عدم احترام الحياة الذي يُلاحَظ في تصرّفاتٍ عديدة تسبّب التلوّث. ففي غالب الأحيان تُغلَّب اسبابُ الإنتاج على كرامة العامل، والمصالحُ الاقتصاديّة على خير الأشخاص إن لم يكن حتى على مصلحة شعوب بأسرها. وفي هذه الحالات، يكون تلوّث البيئة او تدميرها ثمرةَ نظرةٍ انتقاصيّة ومضادّة للطبيعة تعبّر، في بعض الأحيان، عن احتقار فعليّ للإنسان» (289).
من الواضح أن القضيّة لا تتعلّق فقط ببيئة طبيعيّة أي تسهر على الحفاظ على سكنى الكائنات الحيّة المختلفة، بل أيضاً ببيئة إنسانيّة تصون الخير الأساسيّ للحياة في كلّ مظاهرها، وتهيّىء لأجيال المستقبل بيئةً هي أقرب ما أمكن من مشروع الخالق. يجب إذاً تأمين ارتدادٍ بيئيّ يُسهم الأساقفة في تحقيقه بتعليمهم ما هي علاقة الإنسان الصحيحة مع الطبيعة. وعلى ضوء التعليم عن الله الآب، خالقِ السماء والأرض، يبدو ان العلاقة هي «علاقة خدمة»: لقد وُضع الإنسان في الواقع وسط الخليقة كخادمٍ للخالق.
خدمة الأسقف في ميدان الصحّة
71- إن الاهتمام بالإنسان يدفع الأسقف الى الاقتداء بيسوع «السامريّ الرحيم» الحقيقيّ، المملوء عطفاً ورحمة، الذي يعتني بالإنسان بدون أيّ تمييز. إنّ همَّ الصحّة يشغل حيّزاً مهمّاً بين التحدّيات الحاضرة. للأسف، إن أشكال الأمراض المتفشّية في مختلف أنحاء العالم هي بعدُ عديدة. مع أن العلم البشريّ يتطوّر بطريقة سريعة مستديمة في البحث عن حلول متجدّدة أو تساعد على مواجهةٍ أفضل، ما زالت تظهر أوضاعٌ جديدة تؤدي في النهاية إلى تهديد الحياة الطبيعيّة والنفسيّة.
كلُّ اسقف مدعوٌّ، في إطار أبرشيّته، وبمساعدة أشخاص كفاة، إلى العمل على إعلان «إنجيل الحياة» بكماله. إن الالتزامات في أنسنة الطبّ ومعاونة المرضى التي يتعهّدها مسيحيّون يؤمّنون للمتألّمين حضورهم الساهر، توقظ في ذهن كلّ شخص صورةَ المسيح، طبيب الأجساد والنفوس.
من بين الإرشادات التي ائتمن عليها رسله، لم يغفل عن تحريضهم على شفاء المرضى (را متى 10: 8) (290) . لذلك ان تنظيم وتعزيز راعويّة مناسبة للعاملين في حقل الصحة تستحقان حقّاً أولويّة في قلب الأسقف.
لقد شعر آباءُ السينودس، بالأخصّ، بالحاجة إلى التعبيرعن إسراعهم في تعزيز «ثقافة للحياة» أصيلة في المجتمع المعاصر: «إن ما يكدّر لربما بالأكثر قلبنا، نحن الرعاة، هو احتقار الحياة، منذ الحمْل حتى نهايتها وتضعضع الأسرة. إن «لا» الكنيسة للإجهاض والموت الرحيم هو «نعم» للحياة، «نعم» لصلاح الخليقة الفطريّ، «نعم» يمكنه أن يطال كلَّ كائن بشريّ في معبد ضميره، «نعم» للأسرة، الخليّة الأولى للرجاء التي فيها يُسرُّ الله حتى إنه يدعوها كي تصبح “كنيسة بيتية”» (291).
اهتمام الأسقف الراعويّ بالمتنقّلين
72- لقد بلغت تنقّلات الشعوب اليوم نسَباً لم يسبق لها مثيل، تمثّلت بتحرّكات جماعيّة تطال عدداّ ضخماً من الأشخاص. من بين هؤلاء، العديدون الذين هجروا أوطانهم أو هربوا منها بسبب نزاعاتٍ مسلّحة، وأوضاعٍ اقتصاديّة زريّة، وتصادماتٍ سياسيّة وعرقيّة واجتماعيّة، وكوارث طبيعيّة. كلُّ تلك التنقّلات، على الرغم من تنوّعها تطرح اسئلة جديّة على جماعاتنا، في ما يتعلّق بالقضايا الراعويّة من مثل التبشير بالإنجيل والحوار ما بين الأديان.
فمن المناسب، إذاً، أن يُعنى في الأبرشيّات فتُنشأَ هيكليّاتٌ رعائيّة ملائمة كي يؤمَّن استقبالُ هؤلاءِ الأشخاص والاعتناءُ بهم رعويّاً، بطريقة موافقة، تبعاً للأوضاع المختلفة الراهنة. ويُستحسن أيضاً توفيرُ التعاون ما بين الأبرشيّات المتجاورة كي تتأمَّن خدمةٌ أكثر نفعاً وأهليّة. ويمكن ان تشمل هذه الخدمة تنشئة كهنةٍ وعلمانيّين يتميّزون بالسخاء والجهوزيّة للقيام بتلك المهمّة، ولا سيّما في مواجهة قضايا ذاتِ طابعٍ قانونيّ يمكن ان تبرز عند إدراج هؤلاءِ الأشخاص في النظام الاجتماعيّ الجديد (292)
في هذا الإطار طرح آباءُ السينودس القادمون من الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، مجدَّداً قضيّة هجرة المؤمنين المنتمين إلى جماعاتهم. وهي قضيّة جديدة في بعض مظاهرها، وبسبب نتائجها الخطيرة في واقع الحياة. فإن عدداً لا يُستهان به من المؤمنين القادمين من كنائس شرقيّة كاثوليكيّة أصبحوا يقيمون إقامةً عاديّةً ثابتةً خارج أوطانهم وكراسيِّ السلطات الشرقيّة. ومن المفهوم أن هذا الوضع يشكّل، كلَّ يوم، عبئاً على مسؤوليّة الرعاة.
لذلك رأى سينودس الأساقفة نفسُه أنه من الضروريّ أن يتفحّص ببالغ الجديّة الوسائل التي بفضلها يمكن الكنائس الكاثوليكيّة، شرقيّةً كانت أم غربيّة، ان تهيّىءَ هيكليّاتٍ راعويّةً مفيدة وملائمة، باستطاعتها تلبيةُ متطلّبات المؤمنين العائشين في بلدان الانتشار (293). على كلّ حال، إنّه من واجب الأساقفة المحليّين، حتى إذا كانوا من طقس مختلف، أن يكونوا لهؤلاء المؤمنين ذوي الطقس الشرقيّ آباءً حقيقيّين، يؤمّنون لهم، بالرعاية، الحفاظ على قيَمهم الدينيّة والثقافيّة الخاصّة التي وُلدوا فيها ونالوا تنشئتهم المسيحيّة الأولى.
تلك هي فقط بعضُ الميادين التي تعني بطريقةٍ غايةٍ في الإلحاح الشهادة المسيحيّة والخدمة الأسقفيّة. إن الاضطلاع بأعباء هذه المسؤوليّات بالنسبة إلى العالم وقضاياه وتحدّياته وترقّباته هو جزءٌ من التزام إعلان إنجيل الرجاء. فالأمر، في الواقع، هو على الدوام مستقبل الإنسان، بصفته «كائن رجاء».
فيما تتراكم التحدّيات التي على الرجاء أن يواجهها، من المعقول أن تتبادر إلى الأذهان تجربة التشاؤم وعدم الثقة. لكن يعرف المسيحيُّ أن باستطاعته مواجهة أعظم الأوضاع صعوبةً، لأن أساس رجائه يرتكز على سرّ الصليب وقيامة الربّ من بين الأموات. من هنا فقط يمكن أن ينهل القدرة على القيام بخدمة الله والثبات فيها، لأن الله يريد خلاص الإنسان وتحرّره الكامل.
“خاتمة”
73- إزاء أوضاعٍ إنسانيّةٍ بمثل هذا التعقيد في إعلان الإنجيل، تتبادر عفويّاً إلى الذاكرة قصّة تكثير الخبزات التي ترويها الأناجيل. يعبّر التلاميذ ليسوع عن ارتباكهم بشأن الجمع الذي، لجوعه إلى كلمته، تبعه حتى الصحراء، ويقترحون عليه قائلين: «إصرف هؤلاء الجمع…» (لو 9: 12). لربّما خافوا، فلم يدركوا حقّاً ما العمل كي يسدُّوا جوع مثل هذا العدد الكبير من الأشخاص.
لعلَّ مثلَ هذا الموقف يتبادر إلى ذهننا، إذ يمكن أن تثبّط عزيمتَنا جسَامةُ القضايا التي تثقّل كاهل الكنيسة وكاهلنا، نحن الأساقفة أنفسنا. فيجدر، في مثل هذه الحال، اللجوء الى مخيّلة المحبة هذه الجديدة التي يجب أن تنتشر ليس فقط، – وعلى كلِّ حالٍ أبداً – في الإعانات الموّزعة بفعّاليّة، بل بالأحرى في القدرة على التقرّب من أولئك المعوزين، فيمكن الفقراء أن يشعروا وكأنهم في بيتهم، في كنف كلِّ جماعة مسيحيّة (294).
إلاّ أن ليسوع طريقةً خاصّة لحلّ المعضلات. فقال للرسل في شيءٍ من التحدّي: «أعطوهم أنتم ما يأكلون» (لو 9: 13). إنّا نعرف جميعاً خاتمة القصّة: «فأكلوا كلّهم حتى شبعوا. ثم رفعوا ما فضل عنهم: اثنتي عشرة قفّة من الكسَر» (لو 9: 17). هذه الوفرة من الفضلات ما زالت موجودةً حتى اليوم في حياة الكنيسة !
يُطلب اليوم من أساقفة الألفيّة الثالثة أن يعملوا ما عرف أن يعمله العديدُ من الأساقفة القدّيسين، على مدى التاريخ حتى أيّامنا. على غرار القدّيس باسيليوس، مثلاً الذي ابتنى، عند ابواب قيصريّة، مجمّعاً فسيحاً لاستقبال المعوزين، قلعةً للمحبًة الحقيقيّة، اتّخذت اسم «باسيلياد» نسبةً إليه: يتبيّن من ذلك جليّاً «أن المحبّة بالأعمال تمنح قدرةً لا مثيل لها للمحبّة بالأقوال» (295). ذلك هو السبيل الواجب علينا نحن ايضاً اتّباعه: لقد عهد الراعي الصالح بقطيعه إلى كلّ اسقف كي يغذّيه بالكلام وينشّئه بالمثل.
حينئذٍ، اين لنا، نحن الأساقفة أن نجد الخبزَ الضروريَّ كي نعطي جواباً عن القضايا العديدة المطروحة داخل أو خارج الكنائس والكنيسة؟ لعلّنا نحاول التشكّي، مثل رسل يسوع: «من أين لنا، في هذا القفر، خبزٌ يُشبع مثل هذا الجمع؟» (متى 15: 33). ما هي «الأماكن» من حيث نتزوّد بالموارد؟ يمكن على الأقلّ ان نذكر بعض الأجوبة الأساسيّة.
موردُنا الأول الخارقُ هو محبّة الله، أفاضها في قلوبنا الروحُ القدسُ الذي أعطيناه (را روم 5: 5). إن المحبّة التي بها أحبّنا الله تسمو إلى حدِّ أنه يستطيع مساعدتنا دائماً على إيجاد السبل القويمة التي تسمح بأن تنفد إلى قلوب رجال ونساء العصر الحاضر. الربُّ يعطينا، في كلِّ لحظة، مع قوّة روحه، القدرة على ان نحّب ونخترع اجمل واصدق طرق المحبّة. لقد دُعينا إلى أن نكون خدّام الإنجيل من أجل رجاء العالم. إنّا نعرف أن ذلك الرجاء ليس منا، بل من الروح القدس الذي «لا يني يحرس الرجاءَ في قلب الإنسان: رجاءَ جميع المخلوقات البشريّة، ولاسيّما تلك التي “تملك بواكير الروح” والتي “تنتظر فداءَ أجسادها”» (296).
الموردُ الآخر الذي نملكه هو الكنيسة التى انخرطنا فيها بالمعموديّة مع العديد من إخوتنا وأخواتنا، الذين معهم نعترف بالآب السماويّ الواحد، ونرتوي من روح القداسة الواحد (297). أن نجعل من الكنيسة «بيت الشركة ومدرستها»،
ذلك هو الالتزام الذي تدعونا إليه الحالة الراهنة، إذا ما أردنا أن نلبّي إنتظارات العالم (298).
إن شركتنا في الجسم الأسقفيّ، الذي انتمينا إليه بالسيامة، هي أيضاً ثروة عظيمة، لأنها تشكّل سنداً مرموقاً كي نقرأ بتيقظ علامات الأزمنة ونميّز بوضوح ما يقوله الروحُ للكنائس. داخل هيئة الأساقفة يوجد سند وتضامن خليفة الرسول بطرس، الذي سلطتُه السامية والشاملة لا تلغي، بل على العكس من ذلك، تؤكّد وتوطّد سلطة الأساقفة، خلفاء الرسل، وتذود عنها. من هذا المنظور، من المهمِّ إظهارُ ادوات الشركة، وفقاً لإرشادات المجتمع الفاتيكانيّ الثانيّ الكبرى. لا شكّ، في الواقع، إن هناك ظروفاً – وما أكثرها في أيّامنا!- تجد فيها كنيسةٌ خاصّة نفسَها، وحتى عدّة كنائس مجاورة، في عدم القدرة أو عدم الإمكانيّة الفعليّة للتدخّل، بما يناسب، في قضايا ذاتِ أهميّة أعظم. ففي مثل تلك الظروف بالأخصّ، يمكن اللجوءُ الى أدوات الشركة الأسقفيّة كي تؤمّن مساعدة حقيقيّة.
الموردُ الأخيرُ المباشر يجده الأسقف، الباحث عن «خبز» يسدُّ جوع إخوته، في كنيسته الخاصّة، عندما تتفجّر فيها روحانيّة الشركة، كمبدإٍ تربويّ «حيثما يُنشّأُ الرجل والمسيحيّ ويُربّى خدّام الهيكل، والأشخاص المكرَّسون، والعملة الرعائيّون، وحيث تُشاد الأُسَر والجماعات» (299). هنا يظهر مرةً اخرى الرباط الناشىءُ ما بين الجمعيّة العامّة العاديّة العاشرة لسينودس الأساقفة والجمعيّات الثلاث الأخرى العامة التي سبقت السينودس مباشرة. لأن الأسقف ليس وحيداً البتّة: ليس وحيداً في الكنيسة الجامعة، ولا في كنيسته الخاصّة أيضاً.
74- هكذا تحدّد بوضوح التزامُ الأسقف في مطلع الألفيّة الجديدة. إنه الالتزام الدائم: إعلان إنجيل المسيح، خلاص العالم. لكنه التزام تميّزه حالاتٌ طارئة جديدة، تتطلّب أن تتكرّس له، بقلبٍ واحد، جميع مقوّمات شعب الله. يجب أن يستطيع الأسقفُ الاتكال على أعضاء مجلس الكهنة في الأبرشيّة، وعلى الشمامسة الإنجيليّين، خدّام دم يسوع والمحبّة: على الأخوات والإخوة المكرّسين المدعويّن إلى أن يكونوا في الكنيسة وفي العالم شهوداً فصحاء لأولويّة الله في الحياة المسيحيّة، ولقدرة محبتّه في هشاشة الوضع الإنسانيّ؛ وأخيراً على المؤمنين العلمانيّين الذين تشكّل
أعظم قدراتهم الرسوليّة في الكنيسة مصدرَ سندٍ خاصّ للرعاة وسبباً للمؤاساة مرموقاً.
في ختام الأفكار التي بسطتُها في هذه الصفحات، يتبيّن لنا أن موضوع الجمعيّة العامّة العاديّة العاشرة للسينودس، يوجّه كلاًّ منا، نحن الأساقفة، نحو جميع إخوتنا وأخواتنا في الكنيسة، ونحو جميع رجال العالم ونسائه. إن المسيح يبعث بنا إليهم كما أرسل يوماً رسله (را متى 28: 19–20). مهمّتنا هي أن نكون، لكلِّ شخص، وبطريقة سامية واضحة، علامةً حيّةً ليسوعَ المسيح، المعلّم والكاهن والراعي (300).
إن يسوع المسيح هو إذاً الإيقونة التي نتطلّع إليها، أيها الإخوة في الأسقفيّة الموقّرون، كي نمارس خدمتنا كرسلٍ منادين للرجاء. على مثاله، يجب أن نعرف نحن أيضاً أن نقدّم كياننا لخلاص الذين أوكلوا إلينا، مبشّرين ومحتفلين بانتصار محبّة الله الرحيمة على الخطيئة وعلى الموت.
لنتوسَّلنَّ لمهمَّتنا هذه، شفاعة العذراءِ مريم، أمِّ الكنيسة وسلطانة الرسل. لقد ساندت في العليّة صلاة محفل الرسل:
لتنالنَّ لنا النعمة بألاّ نتهرَّب من وصيّة المحبّة التي عهد بها إلينا المسيح!
إن مريم، الشاهدة للحياة الحقيقيّة، «تشعّ الآن آيةً ليقين الرجاء والتعزية أمام شعب الله في مسيرته – ولاسيّما أمامنا، نحن رعاته – الى أن يأتي يومُ الربّ» (301).
أعطي في رومة، بالقرب من القديس بطرس في 16 من تشرين الأول 2003 ، وهي الذكرى الخامسة والعشرون لانتخابي للحبريّة.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1)Rites de l’ordination d’un Évêque: Prière d’ordination; L’Ordination de l’Évêque, des prêtres, des diacres, Paris (1996), n. 47. ؛ راجع النص في:«أقدم النصوص المسيحيّة»، سلسلة النصوص الليتورجيّة، 1، تعريب الأبوين جورج نصّور ويوحنا تابت، رابطة الدراسات اللاهوتية في الشرق الأوسط (A.T.E.N.E.)، الكسليك 1975، 208 ص (20،5 × 14 سم).
2) را المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة «نور الأمم»، الرقم 18.
3) S. Thomas d’Aquin, Sur l’Évangile de Jean X, 3
4)Jean-Paul II, Homélie de la Messe de clôture de la Xe Assemblée générale ordinaire du Synode des Évêques (27 octobre 2001), n. 3 : AAS 94 (2002), p. 114 ; La Documentation
catholique 98 (2001), pp. 992-993.
5) Discours aux Cardinaux, Archevêques et Évêques d’Italie (6 décembre 1965) : AAS 58 (1966), p. 68 ; La Documentation catholique 63 (1966), col. 174.
6) الاقتراح السينودسيّ، 3.
7) Cf. Jean-Paul II, Prière du 30e jour après le 11 septembre 2001 : L’Osservatore Romano, 12 octobre 2001, p. 1.
8)Synode des Évêques – Xe Assemblée générale ordinaire, Message (25 octobre 2001), n. 8: L’Oss. Rom., 27 octobre 2001, p. 5; La Documentation catholique 98 (2001), pp. 987-988; cf. Paul VI, Lettre apost. Octogesima adveniens (14 mai 1971), n. 41: AAS 63 (1971), pp. 429-430; La Documentation catholique 68 (1971), p. 510.
9) را الاقتراح،6.
10) را الاقتراح، 1.
11) Cf. Optat de Milère, Contra Parmenianum donat. 2,2 : PL 11, 947 ; SCh 412 (1995), p. 245; S Ignace d’Antioche, Aux Romains, 1, 1 : PG 5, 685 ; SCh 10 (1969), p. 107.
12)Jean-Paul II, Homélie de la Messe d’ouverture de la Xe Assemblée générale ordinaire du Synode des Évêques (30 septembre 2001), n. 6 : AAS 94 (2002), pp. 111-112 ; La Documentation catholique 98 (2001), p. 936.
13) را كتاب القدّاس الرومانيّ، فاتحة الرعاة القدّيسين.
14) S. Augustin, Sermon 340/A, 9: PLS 2, 644.
15) را المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة نور الأمم، الرقم 3.
16) الاقتراح، 2؛ Cf. Adv. Hœr.III, 2, 2; 3, 1: PG 7, 847; 848; SCh 211 (1974), pp. 27-29; 31.
17) را المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي نور الأمم، الرقم 21؛ 27.
18) Cf. Aux Magnésiens 6, 1: PG 5, 764; SCh 10 (1969), p. 85 ; Aux Tralliens 3, 1: PG 5, 780; SCh, ibid., p. 97 ; Aux Smyrniotes 8, 1 : PG 5, 852 ; SCh, ibid., p. 139.
19)Cf. Pontifical romain, De ordinatione episcopi, n. 43: Engagement du prêtre choisi pour l’épiscopat : L’Ordination de l’évêque, des prêtres, des diacres, Paris (1996), n. 40.
20)Cf. Didascalia Apostolorum II, 33, 1: éd. F.X. Funk, 1, 115.
21) را الاقتراح، 6.
22)Cf. Pontifical romain, De ordinatione episcopi, n. 42: Homélie; L’ordination de l’Évêque, des prêtres, des diacres, Paris (1996), n.39.
23) «نور الأمم»، الرقم 19.
24) را المرجع السابق نفسه، الرقم 22؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 330؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 42.
25) را «نور الأمم»، الرقم 22؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 336؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق 49.
26) را الاقتراح، 20؛ «نور الأمم»، الرقم21؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 375، البند 2.
27) Cf. Conc. œcum. Vat. II, Const. Dogm. Lumen gentium, n. 23; Décret sur la charge pastorale des Évêques dans l’Église Christus Dominus, nn. 3; 5; 6; Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 13: AAS 90 (1998), pp. 650-651; La Documentation catholique 95 (1998), pp. 755-756.
28)Cf. Jean-Paul II, Const. apost. Pastor bonus (28 juin 1988), Annexe 1, n. 4: AAS 80 (1988), pp. 914-915; La Documentation catholique 85 (1988), p. 980; Conc. Œcum. Vat II, Const. dogm. Lumen gentium, n. 22; Code de Droit canonique, can. 337 §§ 1, 2; Code des Canons des Églises orientales, can. 50, §§ 1, 2.
29)Cf. Jean-Paul II, Allocution de clôture de la VIIe Assemblée générale ordinaire du Synode des Évêques (29 octobre 1987), n. 4: AAS 80 (1988), p. 610; L’Oss. Rom. Éd. hebd. en langue française, 10 nov. 1987, p. 5; Const. apost. Pastor bonus (28 juin 1988), Annexe I: AAS 80 (1988), p. 915-916; La Documentation catholique 85 (1988), p. 980; Conc. œcum, Vat. II, Const. dogm. Lumen gentium, n. 22.
30) را «نور الأمم»، الرقم 22.
31) المرجع السابق نفسه.
32) Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 8: AAS 90 (1998), p. 647; La Documentation catholique 95 (1998), p. 753.
33)Cf. Sacramentaire d’Angoulême, In dedicatione basilicœ novœ: «Dirige, Domine, ecclesiam tuam dispensatione cœlesti, ut quœ ante mundi principium in tua semper est prasentia prœparata, usque ad plenitudinem gloriamque promissam te moderante perveniat»: CCSL, 159 C, rubr. 1851; Catéchisme de l’Église catholique, nn. 758-760; Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Lettre Communionis notio (28 mai 1992), n. 9: AAS 85 (1993), p. 843; La Documentation catholique 89 (1992), p. 731.
34) «نور الأمم»، الرقم 23.
35)Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 12: AAS 90 (1998), pp. 649-650; La Documentation catholique 95 (1998), p. 754.
36) المجمع الفاتيكاني الثاني: القرار المجمعي «نشاط الكنيسة الإرساليّ»، الرقم 5.
37) را « نور الأمم»، الرقم 22.
38)Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 12: AAS 90 (1998), p. 650; La Documentation catholique 95 (1998), p. 754.
39) را «نور الأمم»، الرقم 22.
40)Cf. Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 12: AAS 90 (1998), p. 649-650; La Documentation catholique, l. c., p. 754.
41) را القرار المجمعيّ «مهمّة الأساقفة الراعويّة في الكنيسة»، الرقم 25-26.
42) را الاقتراح، 33.
43)Cf. Conc. œcum. Vat. II, Const. dogm. Lumen gentium, nn. 21, 27; Jean-Paul II, Lettre aux prêtres à l’occasion du Jeudi saint (8 avril 1979), n. 3: AAS 71 (1979), p. 397; La Documentation catholique 76 (1979), p. 353.
44) Cf. In Io Ev. tract. 123, 5: PL 35, 1967.
45) Sermon 340 (Homélie pour l’anniversaire de son ordination épiscopale), I: PL 38, 1483: «Vobis enim sum episcopus; vobiscum sum christianus» (cf. Liturgie des Heures, 19 septembre, mémoire de saint Janvier, évêque et martyr, Office des Lectures, seconde lecture).
46) را «نور الأمم»، الرقم 10.
47) المرجع المذكور نفسه، الرقم 32.
48) الاقتراح، 8.
49)Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 30: AAS 93 (2001), p. 287; La Documentation catholique 98 (2001), pp. 78-79.
50) Oratio II, n.71: PG 35, 479
51)Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), nn. 15; 31: AAS 93 (2001), pp. 276; 288; La Documentation catholique 98 (2001), pp. 74; 79.
52) N. 5: AAS 94 (2002), p. 111; La Documentation catholique 98 (2001), p. 936.
53) Sacramentarium Serapionis, 28: éd. F.X. Funk, II, 191.؛ را خولاجي سيرابيون، في «أقدم النصوص المسيحيّة،، سلسلة «النصوص الليتورجيّة»، تعريب الأبوين جورج نصّور ويوحنا تابت، الكسليك 1975، ص 100.
54)Jean-Paul II, Homélie pour l’ouverture de la Xe Assemblée générale ordinaire du Synode des Évêques (30 septembre 2001), n. 5: AAS 94 (2002), p. 111; La Documentation catholique 98 (2001), p. 936.
55) Code de Droit canonique, can. 387; cf. Code des Canons des Églises orientales, can. 197.
56) «نور الأمم»، الرقم 40.
57) Sermon 340 (Homélie pour l’anniversaire de son ordination épiscopale), 1: PL 38, 1438 (cf. Liturgie des Heures, 19 septembre, mémoire de saint Janvier, évêque et martyr, Office des Lectures, seconde lecture).
58) را التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكية، الرقم 1804؛ 1839.
59) الاقتراح، 7.
60)S. Cyprien, De Oratione dominica 23: PL 4, 535; cf. Conc. œcum. Vat. II, Const. dogm. Lumen gentium, n. 4.
61) سيامة الأسقف ورسامة الكهنة والشمامسة الإنجيليّين، باريس 1996، الرقم 53: منح التاج.
62) اقتراح، 7.
63) «نور الأمم»، الرقم 41.
64)Congrégation pour le Culte divin en la Discipline des Sacrements, Directoire sur la piété populaire et la liturgie. Principes et orientations (17 décembre 2001), n. 184: Paris 2003, p. 152.
65)Cf. Jean-Paul II, Lettre apost. Rosarium Virginis Mariœ (16 octobre 2002), n. 43: AAS 95 (2003), pp. 35-36; La Documentation catholique 99 (2002), p. 969.
66) اقتراح، 8.
67)Cf. Paul VI, Exhort. apost. Evangelii nuntiandi (8 décembre 1975), n. 59: AAS 68 (1976), p. 50; La Documentation catholique 73 (1976), p. 13.
68) Lettre aux Philadelphiens, 5: PG 5, 700; SCh 10 (1969), p. 125.
69) Comm. in Is., Prol.: PL 24, 17; cf. Conc. œcum. Vat. II Const. dogm. sur la Révélation divine Dei Verbum, n. 25.
70) Paul VI, Exhort. apost. Marialis cultus (2 février 1974), n. 17: AAS 66 (1974), p. 128; La Documentation catholique 71 (1974), p. 306.
71) Cf. S. Augustin, Sermon 179, 1: PL 38, 966.
72) Homélies sur le Lévitique, VI: PG 12, 474 C; SCh 286 (1981), p. 297.
73) Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 39: AAS 93 (2001), p. 294; La Documentation catholique 98 (2001), p. 82.
74) Cf. Pseudo-Denys l’Aréopagite, De Ecclesiastica Hierarchia, III: PG 3, 512; S. Thomas d’Aquin, S. Th. II-II, q. 184, a. 5.
75)Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 34: AAS 93 (2001), p. 290; La Documentation catholique 98 (2001), p. 80.
76) S. Th. II-II, q. 17, a. 2.
77)Rite de l’ordination d’un Évêque: Paris 1996, n. 40 (engagement du prêtre choisi pour l’épiscopat).
78) الدستور العقائديّ، الليترجيّا المقدّسة، 84-85.
79) Const. apost. Laudis canticum (1er novembre 1970): AAS 63 (1971), p. 532; La Documentation catholique 68 (1971), p. 663.
80) Jean-Paul II, Exhort. apost. post-synodale Vita consecrata (25 mars 1996), nn. 20-21: AAS 88 (1996), pp. 393-395; La Documentation catholique 93 (1996), p. 358. 81)Jean-Paul II, Exhort. apost. post-synodale Pastores dabo vobis (25 mars 1992), n. 27: AAS 84 (1992), p. 701; La Documentation catholique 89 (1992), p. 466.
82)Cf. n. 28: AAS, l.c., pp. 701-703; La Documentation catholique, l.c., p. 467. 83) «نور الأمم»، الرقم 18.
84) المرجع نفسه، الرقم 27؛ 37.
85) اقتراح، 10.
86) Lettre à Polycarpe, IV, 1: PG 5, 721; SCh 10 (1969), p. 149.
87) «نور الأمم»، الرقم 8.
88) اقتراح، 9.
89) Cf Lettre apos. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 49: AAS 93 (2001), p. 302; La Documentation catholique 98 (2001), p. 86.
90) Rite de l’ordination d’un Évêque: n. 51, remise de l’anneau.
91)Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 43: AAS 93 (2001), p. 296; La Documentation catholique 98 (2001), p. 83.
92)Homélie sur Ézéchiel, I, 11: PL 76, 908; SCh 327 (1986), pp. 455-457.
93)Acta Ecclesiœ Mediolanensis, Milan 1599, p. 1178 (cf. Liturgie des Heures, 4 novembre, mémoire de saint Charles Borromée, évêque, Office des Lectures, seconde lecture).
94)Jean-Paul II, Exhort. apost. post-synodale Pastores dabo vobis (25 mars 1992), n. 70: AAS 84 (1992), p. 781; La Documentation catholique 89 (1992), p. 493.
95) Ibid., n. 72: AAS, l.c. p. 787; La Documentation catholique, l.c., p. 495.
96) اقتراح، 12.
97) اقتراح، 13.
98)Cf. n. 6: AAS 94 (2002), p. 116; La Documentation catholique 98 (2001), P. 993.
99) اقتراح،11.
100) المجمع الفاتيكانيّ الثاني، القرار «مهمة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 12؛ را «نور الأمم»، الرقم 25.
101) اقتراح، 14؛ 15.
102) اقتراح، 14.
103)Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 29: AAS 93 (2001), pp. 285-286; La Documentation catholique 98 (2001), p. 78.
104) را الدستور الراعويّ، «فرح ورجاء»، الرقم 22.
105) اقتراح، 15.
106)Paul VI, Exhort. apost. Evangelii nuntiandi (8 décembre 1975), n. 28: AAS 68 (1976), p. 24; La Documentation catholique 73 (1976), p. 6.
107) را «نور الأمم»، الرقم 25؛ الدستور العقائدي، «الوحي الإلهيّ»، الرقم 10؛ مجموعة الحقّ القانوني، ق 747، البند 1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، ق 595، البند 1.
108) المجمع الفاتيكاني الثاني: الدستور العقائدي «الوحي الإلهيّ»، الرقم 7.
109) را المرجع نفسه، الرقم 8.
110) المرجع نفسه، الرقم 10.
111) «نور الأمم»، الرقم 12.
112) En. in Ps. 126, 3: PL 37, 1669.
113) «نور الأمم»، الرقم 25.
114) المرجع نفسه، 12.
115) اقتراح، 15
116) N. 63: AAS 71 (1979), p. 1329; La Documentation catholique 76 (1979), p. 917.
117) Cf. Congrégation pour le Clergé, Directoire général pour la cathéchèse (15 août 1997), n. 233: Ench. Vat. 16, n. 1065, pp. 939-941.
118) اقتراح، 15
119) اقتراح، 47.
120)Cf. Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Instr. Donum veritatis (24 mai 1990), n. 19: AAS 82 (1990), p. 1558; La
Documentation catholique 87 (1990), p. 696.
مجموعة الحقّ القانوني، ق 386، البند 2؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 196، البند 2.
121) اقتراح، 16
122)Discours aux participants au Congrès national italien du Mouvement ecclésial d’engagement cuturel (16 janvier 1982), n. 2: Insegnamenti V/1, p. 131; L’Oss. Rom., éd. hebd.
en langue française, 16 février 1982, p. 10.
اقتراح، 64.
123) اقتراح، 65
124) اقتراح، 66
125) «الوحي الإلهي»، الرقم 10.
126) Traité sur la Trinité,VIII, 1: PL 10, 236; SCh448 (2000),p, 373.
127)Cf. Jean-Paul II, Encycl. Ecclesia de Eucharistia (17 avril 2003), nn. 22-24: AAS 95 (2003), pp. 448-449; La Documentation catholique 100 (2003), pp. 376-377.
128) المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الدستور العقائديّ «الليتورجيّا المقدّسة»، الرقم 10.
129) «نور الأمم»، الرقم 26.
130) المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور «الليتورجيّا المقدَّسة»، الرقم 10.
131) المرجع نفسه، الرقم 41.
132) كتاب الحبريّات الرومانيّ، بركة الزيوت، المقدّمات، الرقم 1.
133) المرجع نفسه، سيامة الأسقف ورسامة الكهنة والشمامسة الإنجيليّين، المقدّمات، الأرقام 21، 120، 202.
134) كتاب مراسم الأساقفة، الأرقام 42-54.
135) اقتراح، 17.
136) «Legem credendi lex statuat supplicandi»: S. Célestin, Ad Galliarum episcopos: PL 45, 1759.
137) را الدستور «الييتورجيّا المقدَّسة»، الرقمين 11 و14.
138) Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 35: AAS 93 (2001), p. 291; La Documentation catholique 98 (2001), p. 80.
139) اقتراح، 17.
140) را الدستور «الليتورجيّا المقدَّسة»، الرقم 102.
141) «نور الأمم»، الرقم 68.
142) «الليتورجيّا المقدّسة»، الرقم 104
143) «نور الأمم»، الرقم 26.
144) Cf. Jean-Paul II, Encycl. Ecclesia de Eucharistia (17 avril 2003), n. 21: AAS 95 (2003), pp. 447-448; La Documentation catholique 100 )2003), p. 375-376.
145) «نور الأمم»، الرقم 26.
146) المجمع الفاتيكاني الثاني، القرار المجمعيّ «خدمة الكهنة الراعويّة وحياتهم»، الرقم 5.
147) Cf. Conc.œcum. Vat. II Const. dogm. Lumen gentium, n. 28; Jean-Paul II, Encycl. Ecclesia de Eucharistia (17 avril 2003), nn. 41-42: AAS 95 (2003), pp. 460-461; La Documentation catholique 100 (2003), pp. 382-383.
148)Cf. Instruction interdicastérielle sur quelques questions concernant la collaboration des laïcs au ministère des prêtres Ecclesiœ de mysterio (15 août 1997), «Dispositions pratiques», art. 7: AAS 89 (1997), pp. 869-870); La Documentation catholique 94 (1997), p. 1016.
149) را الدستور «الليتورجيّا المقدّسة»، الرقم 64.
150)Paul VI, Const. apost. Divinœ consortium naturœ (15 août 1971): AAS 63 (1971), p. 657; La Documentation catholique 68 (1971), p. 852.
151) اقتراح، 18.
152) Cf. Motu proprio Misericordia Dei (7 avril 2002), n. 1: AAS 94 (2002), pp. 453-454; La Documentation catholique 99 (2002), p. 453.
153) اقتراح، 18.
154) Cf. Riuel Romain, Rite des exorcismes (22 novembre 1998), Cité du Vatican 1999; Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Instr. sur les prières pour obtenir de Dieu la guérison Ardens felicitatis (14 septembre 2000): L’Oss. Rom., 24 novembre 2000, p. 6; La Documentation catholique 97 (2000), pp. 1061-1066.
155)Cf. Exhort. apost. Evangelii nuntiandi (8 décembre 1975), n. 48: AAS 68 (1976), pp. 37-38; La Documentation catholique 73 (1976), p. 10.
156) المرجع نفسه.
157) اقتراح، 19.
158)Cf. Congrégation pour le Culte divin et la Discipline des Sacrements, Directoire sur la piété populaire et la liturgie (17 décembre 2001), n. 21: Paris 2003, pp. 32-33.
159)Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), nn. 29-41: AAS 93 (2001), pp. 285-295; La Documentation catholique 98 (2001), pp. 78-82.
160) اقتراح، 48.
161) را «نور الأمم»، الرقم 27؛ القرار «مهمّة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 16.
162) را القرار المجمعي، «مهمة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 11؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 369؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 177، البند 1.
163) را الدستور العقائدي، «نور الأمم»، الرقم 27؛ القرار «مهمّة الأساقفة الراعوية»، الرقم 8؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 381، البند 1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 178.
164) «نور الأمم»، الرقم 27.
165) Pontifical romain, Rite de l’ordination d’un Évêque, Propositions pour l’homélie.
166)«نور الأمم»، الرقم 27؛ را مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 381، البند 1، مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 178.
167) Ad Irenœum Epistolœ, lib. I, ep. VI: Sancti Ambrosii episcopi Mediolanensis opera (SAEMO), Milan-Rome (1988), 19, p. 66.
168) الرقم 27.
169) المرجع نفسه.
170) را مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 204، البنود 1، 208، 212، البندين 2 و3؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 7، البنود 1، 11، 15؛ البندين 2 و3.
171) اقتراح، 35.
172) «نور الأمم»، الرقم 32؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 204، البندين 1 و208.
173) اقتراح، 35.
174)Cf. AAS 89 (1997), pp. 706-727; La Documentation catholique 94 (1997), pp. 826-834. Il faut en dire autant pour les Assemblées éparchiales, dont traitent les canons 235-242 du Code des Canons des Églises orientales.
175) اقتراح، 35
176) اقتراح، 36.
177) اقتراح، 39.
178) اقتراح، 37.
179) المرجع نفسه.
Bartholomeu dos Martires*.
Stimulus Pastorum**.
180) رومة، العام 1572، ص 52 قفا (verso).
181) القرار المجمعيّ «مهمّة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 11.
182)Cf. nn. 16-17: AAS 84 (1992), pp. 681-684; La Documentation catholique 89 (1992), pp. 460-461.
183) اقتراح، 40.
184)Jean-Paul II, Discours à un groupe d’Évêques nommés récemment (23 septembre 2002), n. 4: L’Oss. Roma., 23-24 septembre 2002, p. 5; La Documentation catholique 99 (2002), p. 903.
185) Lettre au prêtre Népotien, L II, 7: PL 22, 534.
186) Jean-Paul II, Exhort. apost. post-synodale Pastores dabo vobis (25 mars 1992), n. 77: AAS 84 (1992), p. 795: La Documentation catholique 89 (1992), p. 498.
187) القرار المجمعي «مهمّة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 16.
188) اقتراح، 40.
189) اقتراح، 41.
190)Cf. Ibid.; Jean-Paul II Exhort. apost. post-synodale Pastores dabo vobis (25 mars 1992), nn. 60-63: AAS 84 (1992), pp. 762-769; La Documentation catholique 89 (1992), pp. 487-489.
191) Cf. ibid., n. 65: AAS, l.c., pp. 771-772; La Documentation catholique, l.c., pp. 489-490.
192) راجع مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 1051.
193) اقتراح، 41.
194) اقتراح، 42.
195)Cf. Congrégation pour l’Éducation catholique, Ratio fundamentalis institutionis Diaconorum permanentium (22 février 1998): AAS 90 (1998), pp. 843-879; La Documentation catholique 95 (1998), pp. 409-424; Congrégation pour le Clergé, Directorium pro ministerio et vita Diacorum permanentium (22 février 1998): AAS 90 (1998), pp. 879-926; La Documentation catholique 95 (1998), pp. 425-447.
196) الدستور العقائدي «نور الأمم»، الرقم 44.
197) اقتراح،43.
198) المجمع الفاتيكاني، الدستور الراعويّ «فرح ورجاء»، الرقم 39.
199) الاقتراحات، 45، 46 و49.
200) اقتراح، 52.
201) اقتراح، 51.
202) المرجع نفسه.
203) اقتراح، 53
204) اقتراح، 52.
205) Cf. Pontifical romain, Rite de l’Ordination de l’Évêque,n. 43: engagement du prêtre choisi pour l’épiscopat, Paris (1996), n. 40, p. 34.
206) الدستور العقائدي «نور الأمم»، الرقم 23.
207)Cf. Paul VI, Discours d’ouverture de la IIIe session du Concile Vatican II (14 septemblre 1964): AAS 56 (1964), p. 813; La Documentation catholique 61 (1964), col. 1225; Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Lettre Communionis notio (28 mai 1992), nn. 9. 11-14: AAS 85 (1993), pp. 843-845; La Documentation catholique 89 (1992), pp. 731-732.
208) را الدستور العقائديّ «نور الأمم»، الرقم 22؛ مجموعة الحق القانونيّ، ق 337؛ 749، البند 2؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 50؛ 597، البند 2.
209) را «نور الأمم»، الرقم 23.
210) القرار المجمعي «مهمة الأساقفة الراعويّة في الكنيسة»، الرقم 8.
* هو مبدأ يُترك فيه لكلّ مسؤول في الدرجات الدنيا بعض الاستقلاليّة فلا يتدخّل المسؤول الأعلى إلاّ للمساعدة عند اللزوم (المطران يوحنا منصور: معجم لمصطلحات الحقّ القانوني، جونيه 1997، ص 15).
211)Cf. Encycl. Quadragesimo anno (15 mai 1931): AAS 23 (1931), p. 203; La Documentation catholique 25 (1931/1), col. 1427.
212) اقتراح، 20.
213) را التقرير بعد المناقشة، 15-17: في الأوسرفاتوري رومانو، 14/10/2004، ص 4؛ اقتراح، 20.
214) را مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 381، البند 1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 178.
215) را الدستور العقائدي «نور الأمم»، الرقم 22؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 331 و333: مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 43 و45، البند 1.
216)Cf. Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Lettre Communionis notio (28 mai 1992), n. 12: AAS 85 (1993), pp. 845-846; La Documentation catholique 89 (1992, p. 732.
217) Ibid., n. 13: AAS, l.c., p. 846; La Documentation catholique, l.c., p. 732.
218) «نور الأمم»، الرقم 27؛ «مهمّة الأساقفة الراعويّة…»، الرقم 8؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 381، البند1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 178.
219) مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 753؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 600.
220) «نور الأمم»، الرقم 22؛ مجموعة الحقّ القانوني، ق 333، البند1؛ ق 336؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 43؛ 45، البند 1؛ ق 49
221) «نور الأمم»، الرقم 21؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 375، البند 2.
222) «نور الأمم»، الرقم 27؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 333، البند 1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 45، البند 1.
223) Cf. Discours d’ouverture de la IIIe session du Concile Vatican II (14 septembre 1964): AAS 56 (1964), p. 813; La Documentation catholique 61 (1964), col 1225.
224) Cf. Synode des Évêques – Deuxième Assemblée générale extraordinaire, Rapport final Exeunte cœtu (7 décembre 1985), C. 1: L’Oss. Rom., 10 décembre 1985, p. 7; La Documentation catholique 83 (1986), p. 39.
225) مجموعة الحق القانونيّ، ق 333، البند 2؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 45، البند 2.
226) اقتراح، 27.
227) Cf. Jean-Paul II, Const. apost. Pastor bonus (28 juin 1988), art. 31: AAS 80 (1988), p. 868; La Documentation catholique 85 (1988), pp. 906-907; Annexe I, 6: AAS, l.c., pp. 916-917; La Documentation catholique, l.c., p. 981; Code de Droit canonique, can. 400, § 1; Code des Canons des Églises orientales, can. 208.
228) «نور الأمم»، الرقم 13.
229)Cf. Jean-Paul II, Const. apost. Pastor bonus (28 juin 1988), Annexe I, 2; I, 5: AAS 80 (1988), pp. 913, 915; La Documentation catholique 85 (1988), pp. 990-991.
230) Cf. S. Irénée, Contre les hérésies, 3, 3, 2: PG 7, 848; SCh 211 (1974), p. 33.
231) Cf. S. Ignace d’Antioche, Aux Romains, I, 1: PG 5, 685; SCh 10 (1969), p. 107.
232) «نور الأمم»، الرقم 13.
233) المرجع نفسه، الرقم 21-22؛ «مهمّة الأساقفة الراعويّة…»، الرقم 4.
234) اقتراح، 26 و27.
235) مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 399؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 206.
236) اقتراح، 25.
237) Cf. Motu proprio Apostolica sollicitudo (15 septembre 1965): AAS 57 (1965), pp. 775-780; La Documentation catholique 62 (1962), col. 1663-1668; Conc. œcum. Vat. II, Décr. Christus Dominus, n. 5.
238)Cf. Paul VI, Motu proprio Apostolica sollicitudo (15 septembre 1965), II: AAS 57 (1965), pp. 776-777; La Documentation catholique 62 (1965), col. 1665: Allocution aux Pères synodaux (30 septembre 1967): AAS 59 (1967), pp. 970-971; La Documentation catholique 64 (1967), col. 1737-1738.
239) اقتراح، 25.
240) مجموعة الحقّ القانوني، ق 333، البند 2؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 45، البند 2.
241) مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 343
242) Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 44: AAS 93 (2001), p. 298; La Documentation catholique 98 (2001), p. 83.
243) اقتراح، 31؛ Cf Jean-Paul II, Motu proprio Apostolus suos (21 mai 1998), n. 13; AAS 90 (1998), pp. 650-651;
La Documentation catholique 95 (1998), pp. 754-755.
244) «مهمّة الأساقفة الراعويّة»، الرقم 6.
245) اقتراح، 32.
246) اقتراح، 33.
247) اقتراح، 21.
248) اقتراح، 22.
249) «نور الأمم»، الرقم 23؛ القرار المجمعيّ «الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة»، الرقم 11.
250) يوحنا بولس الثاني: الدستور الرسوليّ «القوانين المقدّسة» (18/10/1990): أعمال الكرسيّ الرسوليّ 82 (1990)، ص 1037.
251) القرار «الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة»، الرقم 11.
252) «مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة»، ق 76 و77.
253) قوانين الرسل، 8، 47، 34: منشورات F. X. Funk، 1، 572-574.
254) مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 110، البند 3 وق 149.
255) المرجع نفسه، ق 110، البند 1 وق 150، البند 2 و3.
256) المرجع نفسه، ق 110، البند 2 وق 1062.
257) المرجع نفسه، ق 140-143.
258) اقتراح، 28؛ مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 437، البند 1؛ مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 156، البند 1.
259) «مهمّة الأساقفة الراعويّة…»، الرقم 36.
260) «مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة»، ق 441، 443.
261) أعمال الكرسي الرسوليّ 90 (1988) ص 641-658؛ التوثيق الكاثوليكي 95 (1998)، ص 751-759.
262) ق 322.
263) اقتراح، 29 و30.
264) Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos(21 mai 1998), n. 6: AAS 90 (1998), pp. 645-646; La Documentation catholique 95 (1998), pp. 752-753).
265) مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 450.
266) Cf. Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), nn. 10; 12: AAS 90 (1998), pp. 648; 649-650; La Documentation catholique 95 (1998), pp. 753-754).
267) Cf. Ibid., nn. 12; 13; 19: AAS, l.c., pp. 649-651; 653-654; La Documentation catholique, l.c., pp. 754-755; 756; Code de Droit canonique, cann. 381, § 1; 447; 447; 455, § 1.
268) Jean-Paul II, Motu proprio Apostolos suos (21 mai 1998), n. 18: AAS 90 (1998), p. 653; La Documentation catholique 95 (1998), p. 756.
269) المرجع نفسه.
270) اقتراح، 25.
271) مجموعة الحقّ القانونيّ، ق 459، البند 1.
272) اقتراح، 30.
273) اقتراح، 60.
274) المجمع الفاتيكاني الثاني، القرار «نشاط الكنيسة الإرساليّ»، الرقم 38.
275) اقتراح، 36.
276)Cf. Jean-Paul II, Encycl. Redemptoris missio (7 décembre 1990), n. 11: AAS 83 (1991), pp. 259-260; La Documentation catholique 88 (1991), pp. 156-157.
277) «نور الأمم»، الرقم 6.
278) المرجع السابق نفسه، الرقم 1.
279) اقتراح، 54-55.
280)Synode des Évêques –Xe Assemblée générale ordinaire, Message (25 octobre 2001), nn. 10-11: L’Oss. Rom., 2001, p. 5; La Documentation catholique 98 (2001), p. 988.
281) اقتراح، 55.
282)Cf. Jean-Paul II, Message pour la Journée mondiale de la Paix 2002 (8 décembre 2001), n. 8: AAS 94 (2002), p. 137; La Documentation catholique 99 (2002), p. 6.
283) اقتراح، 61 و62.
284)Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Déclaration Dominus Iesus (6 août 2000), n. 22: AAS 92 (2000), p. 763; La Documentation catholique 97 (2000), p. 820.
285) الرقم 1.
286) اقتراح، 56.
287)Jean-Paul II, Exhort. apost. post-synodale Ecclesia in America (22 janvier 1999), n. 55: AAS 91 (1999), pp. 790-791; La Documentation catholique 96 (1999), p. 128.
288) اقتراح، 56.
289)Jean-Paul II, Message pour la Journée mondiale de la Paix 1990 (8 décembre 1989), n. 7: AAS 82 (1990); p. 150; La Documentation catholique 87 (1990), p. 10.
290) اقتراح، 57
291)Synode des Évêques – Xe Assemblée générale ordinaire, Message (25 octobre 2001), n. 12: L’Oss. Rom., 27 octobre 2001, p. 5; La Documentation catholique 98 (2001), p. 988.
292) اقتراح، 58.
293) اقتراح، 23.
294)Cf. Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millennio ineunte (6 janvier 2001), n. 50: AAS 93 (2001), p. 303; La Documentation catholique 98 (2001), p. 86.
295) المرجع السابق نفسه.
296)Jean-Paul II, Encycl. Dominum et vivificatem (18 mai 1986), n. 67: AAS 78 (1986), p. 898; La Documentation catholique 83 (1986), p. 609.
297) Cf. Tertullien, Apologeticum, 39, 9: CCL 1. 151.
298) Cf. Jean-Paul II, Lettre apost. Novo millenio ineunte (6 janvier 2001), n. 43: AAS 93 (2001), p. 296; La Documentation catholique 98 (2001), p. 83.
299) المرجع نفسه.
300) «نور الأمم»، الرقم 21.
301) المرجع نفسه، الرقم 68.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post