إرشاد رسولي في
المسبحة الوردية لمريم العذراء
Rosarium Virginis Mariae
وجَّهه قداسة البابا
يوحنا بولس الثاني
إلى
الأساقفة والإكليروس والعلمانيين
المقدمة
1- المسبحة الوردية التي اتّسعَ انتشارها تدريجياً خلال الألف الثاني هي صلاةٌ أحبَّها كثيرون من القديسين وشجّعت على تلاوتها السلطةُ الكنسية. لأنها تتلاءمُ مع الخطِّ الروحي الذي يسيرُ الدين المسيحي.
إن هذا الدين، الذي لم يفقد شيئاً من نضارة أصوله خلال ألفي عامٍ، يشعر بأنَّ روح الله يدفعه إلى “أن يتقدَّم في العمق” ليقول للعالم من جديد، بأعلى صوته: إنَّ المسيح هو الربّ والمخلّص، وأنه الطريق والحقُّ والحياة، وأنه “غاية التاريخ البشري، والجهة التي تتوجَّه إليها رغبات التاريخ” (1).
إن المسبحة الوردية، وإنْ تميَّزت بطابعها المريمي، هي صلاةٌ تضع المسيح في المحور، وهي بالرغم من عناصرها الموجزة، تجسد عمق الرسالة الإنجيلية، وتكاد تلخِّصها (2). فإن فيها صدىً جديداً لصلاة مريم ونشيدها الدائم “تعظّم نفسيَ الربَّ” الذي أنشدته لحادث التجسُّد الفدائي والذي ابتدأ في أحشائها الطاهرة. فمع المسبحة الوردية يقتدي الشعب المسيحي بمَثلِ مريم، ويدعُ نفسه يُؤخْذُ بمشاهدة جمال وجه المسيح وبالخبرة العميقة لِحُبِّه. كما أنّ المؤمن يحصل بالوردية على نِعَمٍ غزيرة تتدفَّق – نوعاً ما – من يدَيْ أمِّ المخلّص.
2- الأحبار الرومانيون والمسبحة الوردية
أهتمَّ الكثيرون من الباباوات أسلافي اهتماماً كبيراً بهذه الصلاة. ولكنَّ الفضل الأكبر يرجع إلى البابا لاون الثالث عشر الذي أصدر في الأول من أيلول 1883 الرسالة العامة “المهمة الرسولية العظمى” (3). إن بها أقوالاً بليغةً ذكر فيها مجموعةً من المداخلات التي تُخصُّ هذه الصلاة، وقدَّمها للمؤمنين وسيلةً روحيةً فعّالة لكبح جماح شرور المجتمع. ومن أقرب الباباوات إلينا وأشهرهم وأكثرهم اندفاعاً لنشر المسبحة الوردية، في أيام انعقاد المجمع، الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون (4)، وخصوصاً البابا بولس السادس الذي بيَّن بوضوحٍ في الإرشاد الرسولي “التقوى المريمية”، بالاستناد إلى ما أوحاه إليه المجمع الفاتيكاني الثاني، الطابع الإنجيلي للمسبحة الوردية وتوجُّهها نحو عبادة المسيح.
أمَّا أنا فإني لم أُعمل أيَّة مناسبة لأحُثَّ الناس على تلاوة المسبحة الوردية بتواتر. فمنذ أيام شبابي كانت لهذه الصلاة مكانتها الهامّة في حياتي الروحية. إنَّ سفري الأخير إلى بولونيا ذكَّرني ذلك الأمر بقوَّة، ولا سيّما لمَّا زرت معبد كالواريا Kalwaria.
إنَّ المسبحة الوردية قد رافقتني في أوقات أفراحي وأوقات شدائدي. وإني قد أودعتها اهتماماتٍ كثيرة فوجدت فيها دوماً المؤازرة. ومنذ أربعٍ وعشرين سنة، في 29 تشرين الأول 1978، ولم يكد يمضي أسبوعان على انتخابي وجلوسي على كرسيّ بطرس، كشفت عن بعض ما في نفسي وصرَّحت بما يلي: “إن المسبحة الوردية هي صلاتي المفضّلة. إنها صلاةٌ رائعة؛ رائعةٌ ببساطتها وعمقها. ويمكننا أن نقول إنها إلى حد ما صلاةٌ وشرحٌ للفصل الأخير من الدستور “نور الأمم” الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني، إذْ إنَّ هذا الدستور يبحث، بطريقةٍ رائعة، في موضوع حضور أمّ الله في سرِّ المسيح وسرِّ الكنيسة. ففي خلفيّة أبيات “السلام عليك” المتتابعة تمرُّ أمُّ أحداث حياة يسوع. إنَّ هذه الاحداث، التي جُمعت في أسرار الفرح وأسرار الحزن وأسرار المجد، تصلنا اتصالاً حياً بيسوع – وأقول – من خلال قلب مريم أُمِّه. إننا في الوقت نفسه نستطيع أن نجمع في عقود المسبحة الوردية كلّ أحداث حياتنا الفردية أو العائلية، وأحداث حياة بلادنا وحياة الكنيسة والبشريّة، أي أحداثنا الشخصيّة وأحداث الآخرين، ولاسيّما الذين هم أقربُ الناس إلينا، وهم الأحبّاء إلى قلوبنا. وهكذا تنساب المسبحة الوردية البسيطة على وتيرة الحياة البشرية” (5). بهذه الأقوال، أيها الإخوة والأخوات، وضعت على وتيرة التلاوة اليومية للمسبحة الوردية اوَّل سنةٍ من حبريَّتي.
واليوم، في مطلع السنة الخامسة والعشرين من حبريَّتي كخليفة للقديس بطرس، أريد أن أعمل الشيء نفسه. ما أكثر النعَمَ التي نِلتُها من مريم العذراء، بوساطة المسبحة الوردية خلال هذه السنوات! “تعظّم نفسيَ الرب”. أريد أن أعبِّر عن شُكري للربِّ مع كلمات أُمِّه الفائقة القداسة، التي وضعت حبريَّتي تحت حمايتها “إني بكُلِّيتي لك”.
3- تشرين الأول 2002 – تشرين الأول 2003: سنة المسبحة الوردية
ولذلك، فإنّي بعدما عرضت تفكيري في الإرشاد الرسولي “بدء الألفية الجديدة” على أثر اختباري لأحداث اليوبيل، ودعوت شعب الله إلى أن “ينطلق من المسيح انطلاقةً جديدة” (6)، شعرت بضرورة تفكيرٍ أعمق في المسبحة الوردية. إن هذا التفكير العميق هو تتويجٌ مريمي لهذا الإرشاد الرسولي، هدفُه أن أُشجِّع بوساطته على المشاهدة التأمُّلية لوجه يسوع برفقة أُمِّه الفائقة القداسة وبالاقتداء بها. نعم،إن تلاوةَ المسبحة الوردية ليست إلاّ مشاهدةً تأمُّليّة لوجه المسيح مع مريم أُمِّه.
إني أريد أن أُعطي لهذه الدعوة أهميّةً أكبر. لذلك، فإني أغتنم ذكرى السنة المئة والعشرين للرسالة العامّة التي أصدرها البابا لاون الثالث عشر، والتي ذكرتُها، وأُضِّحُ رغبتي في أن تُعرض هذه الصلاةُ، طوال السنة، على الجماعات المسيحية المختلفة، وأن يبرز بروزاً خاصاً ما لها من أهميّة. فأنا أُعلن إذاً أن السنة التي تبدأ في تشرين الأول 2002 وتنتهي في تشرين الأول 2003 هي سنة المسبحة الوردية.
إني أوُدعُ هذا التوجيه الراعوي إلى مبادرة الجماعات الكنسية المختلفة. وأنا لا أنوي بذلك أن أُثقِّل على المشاريع الرعوية القائمة في الكنائس المحليَّة، بل أريد أن أوحِّدها وأقويّها. وإني على يقينٍ أن هذا التوجيه سيقبله الجميع باندفاعٍ وسرعة. فإذا ما اكتشفوا من جديدٍ معنى المسبحة الوردية، استطاعت هذه المسبحة أن تقود المؤمنين إلى قلب الحياة المسيحية، وأن تقدِّم لهم مناسبةً روحيةً وتربويةً عاديةً وجليلة الفائدة للمشاهدة التأمُّلية الشخصيّة، ولتثقيف شعب الله، وللبشارة الإنجيلية الجديدة.
وإنه يحلو لي أن أقول ذلك مرّةً أخرى بمناسبة ذكرى حادثٍ آخر مُفرح، وهو ذكرى السنة الأربعين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (11 تشرين الأول 1962). لقد كان هذا المجمع “نعمةً عظيمةً” منحها روح الله للكنيسة في أيامنا (7).
4- اعتراضات على تلاوة المسبحة الوردية
إنَّ ملاءمة تلاوة المسبحة الوردية متأتيّةٌ من عدّة اعتبارات. إن أولها هو الإسراع في مواجهة أزمة تلاوة صلاة المسبحة الوردية. إن هناك خطراً يهدِّد قيمة هذه الصلاة، في الجوِّ التاريخي واللاهوتي الذي نعيشه، ويجعلها لا تُعرض على الأجيال الطالعة إلا نادراً، ذلك لأنَّ الكثيرين يعتقدون أن الأهميّة المركزية لليتورجيا الكنسية، التي أبرزها المجمع الفاتيكاني الثاني، كان من نتائجها الحاسمة أنها أدَّت إلى إضعاف أهميّة المسبحة الوردية. في الحقيقة إن هذه الصلاة – كما أعلن ذلك البابا بولس السادس – لا تتعارض مع الليتورجيا الكنسية، بل بخلاف ذلك، فإنها تقف سنداً لها، لأنها تُهيِّئ المؤمنين لقبولها، وتكون لهم صدىً في نفوسهم، وتدعوهم إلى أن يَحيوا الليتورجيا الكنسية بمساهمةٍ داخليةٍ كاملة، لكي يجنوا منها ثماراً تفيدهم للحياة اليومية.
ويُبدي آخرون مخاوفهم من أن المسبحة تظهر مناقضةً للحركة المسكونية إذْ إنَّ لها طابعاً مريمياً واضحاً. في الحقيقة إن إكرام مريم أمِّ الله له طابعٌ ديني لا يشوبه أيّ انحراف.
لقد أعلن ذلك المجمع الفاتيكاني الثاني عندما حدَّد أن إكرام أمِّ الله موجَّهٌ على المسيح موضوع الإيمان المسيحي بمعنى أن “مختلف صيغ التكريم للعذراء يجعل الابن يُعرف ويُحَبُّ ويُمَجَّد” (8). فإذا ما اكتشف هذا المعنى بطريقةٍ سليمةٍ تكون تلاوة المسبحة سنداً لا عقبةً للحركة المسكونية.
5- طريق المشاهدة التأمُّلية
إن السبب الأكبر لإعادة اكتشاف أهميّة تلاوة المسبحة الوردية هو أن هذه التلاوة تؤلِّف وسيلةً قيِّمةً تُنشِّط عند المؤمنين الالتزام بالمشاهدة التأمُّلية للسرِّ المسيحي. لقد عرضت هذا الالتزام في الإرشاد الرسولي “بدء الألفية الجديدة” كطريقةٍ تربويةٍ صحيحة للقداسة: “لا بدَّ من دينٍ مسيحي يمتاز قبل كلّ شيءٍ بفنِّ الصلاة” (9). ففي الوقت الذي تُعلنُ الثقافة العصرية – في وسط تناقضات كثيرة – مطلباً ملحاً جديداً لروحانية تنجم عن تأثير دياناتٍ أخرى، فقد بات من الضروري، قبل أيّ وقتٍ مضى، أن تكون جماعاتنا المسيحية “مدارس صحيحةً للصلاة” (10).
إن تلاوة المسبحة الوردية تدخل في قلب أنقى وأشهر تقليدٍ للمشاهدة التأمَّلية المسيحية. فإن هذه التلاوة قد انتشرت في الغرب، وأصبحت بنوعٍ خاص صلاةً تأمُّليةً، وقابلتها صلاة القلب أو “صلاة يسوع” التي نمت في أرض الشرق المسيحي.
6- الصلاة لأجل السلام والأسرة
إن هناك مناسباتٍ تاريخيةً قد ساهمت في تجديد طابع المسبحة الوردية تجديداً أفضل. وأولى هذه المناسبات ضرورة الإلحاح على طلب نعمة السلام من الله تعالى. ففي مطلع الألف الثالث الذي بدأ بحوادث جريمة مروِّعة في 11 أيلول 2001، والذي لا يزال يسجِّل كل يومٍ في مناطق متعدّدة من العالم حوادث دمويةً وعنيفة، فإن اكتشاف دور المسبحة الوردية يعني الاستسلام إلى التعمُّق في المشاهدة التأمُّليّة لسرّ الذي “هو سلامنا”، الذي جعل من “الشعبين شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما أي الحقد” (أفسس 2 / 14). فنحن لا يمكننا أن نتلو المسبحة من دون أن نشعر بأننا منجذبون نحو التزامٍ دقيقٍ في سبيل خدمة السلام، ولاسيَّما في أرضِ يسوع المعذّبة، والتي هي حبيبةٌ إلى قلوب المسيحيين.
ومن ناحيةٍ مشابهةٍ، فإنه من الضروري أن نلتزم بالصلاة لأجل وضعٍ آخر قائمٍ في عصرنا، دقيقٍ للغاية، هو وضع الأسرة. فالأسرة التي هي خليَّة المجتمع، تهاجمها قوى هدّامةٌ على الصعيدين الأيديولوجي والعملي. وهذا ما يجعلنا نخشى على مستقبل هذه المؤسَّسة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما نخشى معها على مستقبل الجماعة البشرية كلّها. ففي الإطار الواسع لرعاية الأسرة، فإن تجديد تلاوة المسبحة الوردية في الأسرة المسيحية يهدف إلى تقديم مؤازرةٍ فعَّالةٍ لصدِّ النتائج الجارفة التي تنتج عن هذه الأزمة الحالية.
7- هذه أُمُّكَ
إن علاماتٍ كثيرةً تبيِّن ما تريد العذراء القديسة أن تحقّقه اليوم من خلال هذه الصلاة. إنها الأمّ الواعية التي سلَّم إليها المخلِّص قبل موته بلحظات، في شخص التلميذ الحبيب، كلَّ أبناء الكنيسة: “يا امرأة هو ذا ابنُكِ” (يوحنا 19 / 26). إن الأحداث التي أظهرت فيها أمّ المسيح حضورها وأسمعت صوتها، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لتَحُثَّ شعب الله على هذا النوع من الصلاة التأمُّليّة هي أحداثٌ معروفة. وبسبب تأثيرها الواضح الذي تحتفظ به في حياة المسيحيين، وبسبب اعتراف الكنيسة بأهميَّتها، فإني أرغب في أن أذكر بنوعٍ خاص ظهورات لورد وفاطمة (11)، اللتين يؤمُّ الكثير من الحجَّاج كُلاً من كنيستَيْهما للبحث عن المؤازرة والرجاء.
8- على خطى الشهود
إنه من المستحيل أن نذكر جميع أسماء المجموعة الكبيرة التي لا يُحصى عددها من القديسين الذين وجدوا في تلاوة المسبحة الوردية طريقاً أميناً لبلوغ القداسة. يكفي أن نذكر منهم القديس لويس ماري غرينيون دي مونفور الذي كتب كتاباً نفيساً في تلاوة المسبحة الوردية (12). ونذكر من هو أقرب منه إلينا، وهو الأب بيُّو من بيترلشينا P. Pio da Pietrelcina الذي ابتهجت بتطوبيه منذ مدّةٍ قريبة. أما الطوباوي برتولو لونغو فقد كانت له موهبةٌ خاصة، وهي موهبة رسول تلاوة المسبحة الوردية. إن طريق القداسة ارتكز عنده على إلهامٍ سمعه في أعماق قلبه: “مَنْ نشرتلاوة المسبحة الوردية فهو مُخلَّص” (13). وانطلاقاً من هذا الحدث شعر بأنه مدعوٌّ إلى أن يبني في مدينة بومباي Pompei معبداً لسيّدة الوردية بقرب آثارات المدينة القديمة التي كانت البشارة الإنجيلية قد دخلتها منذ عهدٍ وجيز قبل أن تُدفن تحت انفجار بركان فيزوف Vsuve في العام 79، والتي عادت إلى الحياة بعد قرونٍ طويلةٍ لتشهد أنوار الحضارة الكلاسيكية وظلالها.
إن بَرتولو لونغو قد أنعش بعمله الخاص، و لاسيّما “بالسبوت الخمسة عشر” روح المحبة للمسيح وفكرة المشاهدة التأمُّليّة بالمسبحة الوردية. وقد لاقى في سبيل ذلك تشجيعاً خاصاً وسنداً لدى البابا لاون الثالث عشر “بابا المسبحة الوردية”.
الفصل الأول
نشاهد المسيح ونتأمَّل فيه مع مريم
9- وجهٌ يتلألأ كالشمس
“وتجلّى قدَّامَهم. وصار وجههُ يلمعُ كالشمس” (متى 17 / 2). إن حادث تَجلِّي المسيح الوارد ذكره في الإنجيل، والذي ظهر فيه الرسل الثلاثة، بطرس ويعقوب ويوحنا، مأخوذين بجمال المخلِّص، يمكننا أن نعتبره المثل الأعلى للمشاهدة التأمُّلية المسيحية. إنه من الواجب على كلّ تلميذ للمسيح أن يُحدِّق بعينيه إلى وجه المسيح وأن يعترف بسرِّه في الطريق العادي والمؤلم الذي سلكته إنسانيته، إلى أن يكتشف البهاء الإلهي الذي ظهر ظهوراً نهائياً في الحيِّ القائم من بين الأموات والممجَّد إلى يمين الآب. إن هذا الواجب هو واجبنا نحن أيضاً. فإنه عندما نشاهد هذا الوجه ونتأمَّل فيه نهيِّئ نفوسنا لأن نقبل سرَّ الحياة المثلَّثة الأقانيم، ونختبر حبَّ الآب اختباراً متجدَّداً باستمرار، وننعم بفرح الروح القدس. وهكذا تتمُّ كلمة بولس الرسول: “نحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب، بوجوهٍ مكشوفة كأنها مرآة، فنتحوَّل إلى تلك الصورة، وهي تزداد مجداً على مجد، وهذا من فضل الربّ الذي هو روح” (2 قورنتس 3 / 18).
10- مريم مثال المشاهدة التأمُّليّة
إن مشاهدة يسوع التأمُّلية تجد في مريم مثالها الذي لا يُجارى. إنَّ وجه الابن هو ملكٌ لها بنوعٍ خاص. ففي أحشائها قد تكوَّن، ومنها اتَّخذ الشبه البشري بها، ذاك الشبه الذي أنبأ عن شبهٍ روحيّ أكمل. ولم يستسلم أحدٌ إلى مشاهدة وجه يسوع والتأمُّل فيه بمقدار ما استسلمت إليه مريم. ففي البشارة، عندما حبِلت به من الروح القدس، توجَّهت عينا قلبها إليه بطريقةٍ خاصة. وفي خلال الأشهر التي توالت، أخذت تشعر بحضوره، وكان قلبها يحدِّثها عن روعة طلعته. وأخيراً، عندما ولدته في بيت لحم، فإن نظر عينيها البشريتين قد وقع على وجه ابنها بكلِّ عطفٍ وحنان، بينما كانت تلُفُّه بالقمط وتضعه في المذود.
واعتباراً من هذا الوقت، فإن نظرها الذي أغتنى بإعجابها وسجودها لم ينقطع عنه قط. فكان نظرها أحياناً نظر استفهامٍ كما حدث لها عندما ضاع ابنها في الهيكل: “يا ابني، لماذا صنعت بنا هكذا؟” (لوقا 2 / 48). وكان أحياناً أخرى نظر تعمُّق واستطلاعٍ استطاع أن يتسرَّب إلى داخل قلب يسوع ويقرأ عواطفه الخفيّة ويكتشف اختباراته، كما جرى لها ذلك في عرس قانا الجليل (يوحنا 2 / 5). ولما كانت واقفةً إزاء الصليب كان نظرها متألّماً وشبيهاً بنظر “امرأةٍ تتمخَّض”، لأن مريم لم تكتفِ بأن تشارك ابنها الوحيد في آلامه وموته، بل قبلت التلميذ الحبيب كوليدٍ لها عندما سلَّمه يسوع إليها (يوحنا 19 / 26 – 27). وفي صباح يوم الفصح، كان نظرها مشرقاً بفرح القيامة. وأخيراً، كان نظرها متوهِّج الحرارة عندما نزل الروح القدس يوم العنصرة (أعمال 1 / 14).
11- ذكريات مريم
كانت مريم تعيش وهي تحدِّق بعينيها إلى المسيح، فأصبحت كلٌّ من كلماته كتراً لها: “وكانت مريم تحفظ هذه الأمور وتتأمَّلُها في قلبها” (لوقا 2 / 12 و 51). إن ذكرياتها عن يسوع، التي طُبعت في عقلها، قد رافقتها في كلِّ مناسبةٍ ودفعتها إلى أن تُراجع بالفكر مختلف أوقات حياتها التي قضتها إلى جانب يسوع. إن هذه الذكريات قد كوَّنت – نوعاً ما – “الوردية” التي تلتها باستمرار طوال حياتها الأرضية.
والآن أيضاً، وهي تعيش في وسط أنغام أورشليم السماوية، فإنَّ أسباب حمدها وتسبيحها لم تتغيَّر قط. إن هذه الأسباب تشدُّ انتباهها الوالدي إلى الكنيسة السائرة على طريق الحجّ، فتتابع سرد “قصَّتها” البشرية، وتعرض باستمرارٍ على المؤمنين “أسرار” ابنها، وتُبدي لهم رغبتها في أن يشاهدوا هذه الأسرار ويتأمّلوا فيها، وذلك لكي ينعموا بقواها التي تؤدّي بهم إلى الخلاص. فعندما تتلو الجماعة المسيحية الوردية فإنها تكون على خطّ واحدٍ ووفاقٍ كاملٍ مع ذكريات مريم ونظراتها.
12- المسبحة الوردية صلاة تأمُّل
إن المسبحة الوردية، انطلاقاً من خبرة مريم، هي صلاة تأمُّل. فإذا حُرمت المسبحة هذه الصيغة تشوَّهت طبيعتها، كما بيَّن ذلك البابا بولس السادس. إذ قال: “تصبح المسبحة الوردية من دون تأمُّل جسداً بلا روح، وتتعرَّض تلاوتها لأن تكون ترداداً ميكانيكياً لبعض عبارات، وتعمل خلافاً لما حذَّرنا منه يسوع حين قال: “إذا صلِّبتم فلا تطيلوا الكلام عبثاً مثل الوثنيين الذين يظنُّون أنهم إذا أكثروا الكلام يُستجاب لهم” (متى 6 / 7). إنَّ المسبحة الوردية تتطلَّب بطبيعتها أن تكون تلاوتها هادئةً ومتأنية، حتى يستطيع الشخص الذي يتلوها أن يتأمَّل في أسرار حياة المخلِّص، ويكتشفها من خلال قلب مريم التي كانت أقرب الناس إلى الربّ. وهكذا يبدو لنا ما تحتويه المسبحة الوردية من غنىً فائق الوصف” (14).
إنه من المناسب أن نتعمَّق في فكرة البابا بولس السادس لنُظهر بعض أبعاد المسبحة الوردية التي تحدِّد بطريقةٍ أفضل ما لها من ميزةٍ خاصة تدعونا إلى التأمُّل في المسيح.
13- التذكُّر بالمسيح مع مريم
إن تأمُّل مريم هو “تذكُّر” قبل كل شيء. ومع ذلك يجب علينا أن نفهم هذا القول بالمعنى الذي يعطيه الكتاب المقدس لكلمة “تذكُّر”. فكلمة “تذكُّر” الواردة في الكتاب المقدس تجعل حاضراً كلَّ ما خلقه الله في تاريخ الخلاص.
إن الكتاب المقدس هو سرد أحداثٍ تُحقّق لنا الخلاص وتجد ذروتها في المسيح نفسه. إن هذه الأحداث ليست أحداثاً جرت بالأمس فحسب، بل هي أحداث تجري في “يوم” الخلاص هذا. إن ما يجعل أحداث حياة المسيح حاضرةً “اليوم” إنما هي الليتورجية الكنسية. إن ما عمله الله في القرون الماضية لا يهمُّ شهود هذه الأحداث المباشرين فحسب، بل يهمُّ كلّ إنسانٍ أيضاً عاش ويعيش في الأزمنة كلّها، وذلك بفضل هبة نعمته. إن هذا القول هو – نوعاً ما – صحيحٌ بالنسبة إلى كل محاولةٍ تقوّيةٍ تتوخَّى الاتصال بهذه الأحداث. فالتذكُّر بها في موقف الإيمان والمحبّة معناه قبول النعمة التي استحقَّها لنا المسيح بفضل أسرار حياته وموته وقيامته.
ولذلك، فإنه بينما يجب علينا أن نتذكَّر مع المجمع الفاتيكاني الثاني، أن الليتورجيا الكنسية التي تجعل مهمَّة المسيح الكهنوتية حاضرةً وعبادةً عمومية، هي “الذُروةُ التي يصبو إليها عمل الكنيسة، وفي الوقت نفسه هي الينبوع الذي تتدفَّق منه كل قوَّته” (15)، فمن الملائم أن نتذكَّر أيضاً أن الحياة الروحية “ليست مقصورةً على الاشتراك في الليتورجية الكنسية وحدها دون سواها. فالمسيحي المدعو إلى الصلاة مع الآخرين، يجب عليه “أيضاً أن يدخل مُخدعه ليصلّي إلى الآب في الخُفية” (متى 6 / 6)، كما يجب عليه بحسب تعليم بولس “أن يصلّي من دون ملل” (1 تسالونيكي 5 / 17) (16). إن المسبحة الوردية بما فيها من ميزاتٍ خاصة تدخل في إطار هذا التصوّر الديني المتعدّد الوجوه للصلاة الدائمة.
وإذا كانت الليتورجية الكنسية عمل المسيح والكنيسة الذي يحقِّق الخلاص بطريقةٍ ممتازة، فإن المسبحة الوردية، باعتبارها تأمُّلاً في المسيح مع مريم، هي مشاهدةٌ تأمُّلية تؤدّي إلى الخلاص. فإذا تأمَّلنا في حياة المخلِّص بتلاوة المسبحة، سراً بعد سر، تمكنَّا من أن نستوعب ما حقَّقه المسيح وما جعلتْهُ الليتورجية الكنسية حاضراً، ونظَّمْنا حياتنا على مثال حياة المسيح.
14- نتعلّم من مريم مَنْ هو المسيح
إن المسيح هو المعلِّم الأصيل، وهو مصدر الوحي، وهو الوحي نفسه. فلا يكفينا فقط أن نتعلَّم ما ألقاه علينا من تعليم، بل يجب علينا أيضاً أن نتعلَّم مَنْ هو المسيح، و نتعلَّم أن نعرفه معرفةً صحيحة. ومَنْ هو المعلّم في هذا المجال له خبرةٌ تعليميةٌ أعمق من خبرة مريم؟ فإذا كان الروح القدس – من الناحية الإلهية – المعلِّم الداخلي الذي يقودنا إلى معرفة حقيقة المسيح كلّها، فإنه لا أحد من الكائنات البشرية يعرف مَنْ هو المسيح معرفةً أفضل من معرفتها، ولا يستطيع أحدٌ أن يُطلعنا على معرفة سرِّه بعمقٍ ودقّة غير أمّه.
إن الآية الأولى التي اجترحها يسوع – وهي تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل – تُظهر لنا بوضوحٍ أن مريم تتّمتّع بصفة “المعلّمة” لما دعت الخدام إلى أن يتصرَّفوا وَفْقَ تعليمات يسوع (يوحنا 2 / 5).
ولا مانع من أن نفكر في أنها قد قامت بهذه المهمّة التعليميّة تجاه الرسل، بعد صعود يسوع إلى السماء، عندما أقامت معهم في العُليّة أثناء انتظار نزول الروح القدس، وقدَّمت لهم المؤازرة ليقوموا برسالتهم الأولى.
فإذا سِرْنا مع مريم من خلال مراحل المسبحة الوردية، وضعنا أنفسنا في “مدرسة” مريم وتعلّمنا منها كيف “نقرأ المسيح”، وكيف نتعمَّق في معرفة أسراره وفهم رسالته.
إن “مدرسة” مريم مدرسةٌ فعّالةٌ إلى حدِّ بعيد، فهي تديرها بمهارة، وتنال لنا، ونحن فيها، من الروح القدس غزارة مواهبه، وتقدّم المثل الأعلى لمَّا سلكت سبيل الإيمان (17)، فأظهرت بذلك أنها معلِّمةٌ لا مثيل لها. إنها تدعونا أمام كلّ سرٍّ من أسرار ابنها- كما عملت يوم بشرّها الملاك – إلى أن نطرح بتواضع الأسئلة التي تفتح قلوبنا على النور، وننتهي على مثالها بطاعة الإيمان: “أنا أمةٌ للرب، فليكُن لي بحسب قولك” (لوقا 1 / 38).
15- يجب أن نكون على مثال صورة المسيح مع مريم
إن الروحانية المسيحية تدعو المؤمن إلى أن يلتزم دوماً التزاماً أقوى بأن يكون على مثال صورة المعلِّم. إن المؤمن قد ن ال الروح القدس يوم قَبِلَ المعمودية، واتَّحد بالمسيح كالغُصن الذي يتَّحد بالكرمة – والكرمة هي المسيح (يوحنا 15 / 5) – وأصبح عضواً من أعضاء جسده السرِّي.
ولكنَّ هذا الابتداء الروحي يطلب من المؤمن أن يتابع تمثُّله بالمسيح متابعةً متواصلة. إن هذه المتابعة توجِّه سلوكه باطِّراد نحو الأفضل لكي يكون موافقاً “لِمَنطق” المسيح كما قال بولس الرسول: “تخلَّقوا بخُلق المسيح” (فيليبي 2 / 5)، وكما قال أيضاً: “البسوا الربَّ يسوع المسيح” (رومة 13 / 14).
عندما نتأمَّل في مراحل المسبحة الوردية، ونعكف على مشاهدة وجه المسيح روحياً بصُحبة مريم، نرى أنفسنا مدعوين إلى أن نرتقي إلى هذه القمة الروحية، لنكون على مثال صورة المسيح، بفضل الاتصال به الذي يُقيم الصداقة بيننا وبينه. إن هذه الصداقة تضُمُّنا بطريقةٍ طبيعية إلى حياة المسيح، وتُمكِّننا – نوعاً ما – من أن “نستنشق” عواطفه.
لقد قال الطوباوي برتولو لونغو في هذا المعنى: “كما أن الصديقين الذين يتلاقيان معاً باستمرارٍ يُصبحان مُتشابهين في طريقة العيش، فكذلك نحن أيضاً إذا تكلَّمنا بدالةٍ مع يسوع ومع العذراء بتأمُّل أسرار المسبحة الوردية، نحيا معهما حياةً واحدةً في شركةٍ روحية، ونستطيع أن نصبح بقدر ما يسمح به ضعفنا البشري مشابهين لهما، ونتعلَّم بمثلهما الرائع أن نعيش عيشةً متواضعةً فقيرةً خفيّةً صبورةً وكاملة” (18).
إننا نسلِّم ذواتنا تسليماً خاصاً إلى عمل مريم العذراء الوالدي عندما نجتهد أن نكون على مثال صورة المسيح. إن العذراء التي هي عضوٌ في الكنيسة، لها فيها أسمى مقام (19)، ولها في آنٍ واحدٍ أقرب مكان إلينا، ذلك لأنها أم المسيح وأم الكنيسة. وبهذه الصفة، فإنها تَلدُ باستمراٍ أبناء لجسد ابنها السرِّي. إنها تقوم بهذه الولادة الروحية بفضل شفاعتها، لأنها تطلب لهم موهبة الروح القدس التي لا تنفذ. إنها الصورة الكاملة لأمومة الكنيسة.
إن المسبحة الوردية تنقلنا بالفكر إلى بيت الناصرة حيث كانت العذراء تراقب بكلّ اهتمامٍ نشأة المسيح ونموه الإنساني. إنها من هذه الزاوية تستطيع أن تهذِّب أخلاقنا وتشملنا بعطفها حتى “يُصوِّر” المسيح فينا تصويراً كاملاً (غلاطية 4 / 19).
إن عمل مريم هذا المُنسجم كلّياً مع عمل المسيح، والخاضع له خضوعاً جذرياً، لا يمنع أبداً من أن يتَّحد المؤمنون بالمسيح اتحاداً مباشراً، بل بخلاف ذلك، فإن اتحادهم به يجد في عمل مريم عوناً لهم وسنداً (20).
هذا هو المبدأ النيِّر الذي عبّر عنه المجمع الفاتيكاني الثاني والذي اختبرته أنا اختباراً قويّاً في حياتي حتى إني جعلته لُبَّ شعاري الأسقفي: “إني بكُلّيتي لكِ” (21). إن الجميع يعرفون أن هذا الشعار قد استلهمته من تعليم القديس لويس ماري غرينون دي مونفور، الذي كان يشرح على هذا النمط الدور الذي تقوم به مريم لصالح كلّ واحدٍ منَّا في مسيرة تشبُّهه بالمسيح. قال: “يتحقق لنا الكمال بمجمله على مثال صورة يسوع المسيح، ومُتَّحدين به، ومكرَّسين له. وإذْ إن مريم هي أكثر كلّ المخلوقات شبهاً بيسوع المسيح، فإنه ينتج عن ذلك أن من بين جميع العبادات التي تكرِّس النفس لربِّنا يسوع وتجعلها على صورة مثاله، هو الإكرام المقدَّم للفائقة القداسة أمُّه القديسة. وبقدر ما تكون النفس مكرَّسة لمريم، بمثل هذا القدر تكون مكرَّسة للمسيح” (22). إن طريق المسيح وطريق مريم لا يظهران متَّحدين الواحد بالآخر بمثل هذه القوّة مثلما يظهران متَّحدين في الوردية. إن مريم لا تعيش إلاَّ في المسيح ولأجل المسيح.
16- التوسُّل إلى المسيح مع مريم
إنَّ المسيح دعانا إلى أن نتوجَّه إلى الله بثقةٍ وإلحاحٍ لكي يستجيب لنا: “اسألوا تعطوا. اطلبوا تَجدوا. اقرعوا يفتح لكم” (متى 7 / 7). إن أساس فاعلية الصلاة تستند إلى حنان الآب ووساطة المسيح لديه وعمل الروح القدس الذي “يشفع فينا” بحسب تدبير الله (رومة 8 / 26 – 27). لأننا نحن لا “نُحسن الصلاة” (رومة 8 / 26)، وأحياناً لا يستجيب لنا لأننا “نُسيء الصلاة” (يعقوب 4 / 2 – 4).
إن مريم تساند بشفاعتها الوالدية الصلاة التي يجعلها المسيح والروح تتفجَّر من قلوبنا. “إن صلاة الكنيسة تكون وكأنها محمولةٌ بصلاة مريم” (23). ذلك لأنه إذا كان يسوع، وهو الوسيط الأخير، طريق صلاتنا، فمريم التي هي صورة المسيح الشفَّافة، تدلُّنا على هذا الطريق. “فبالانطلاق من مساهمة مريم هذه الفريدة في عمل الروح القدس، طورت الكنائس الصلاة إلى والدة الإله القديسة بتركيزها على شخص المسيح الظاهر في أسراره” (24). ففي عرس قانا الجليل يُظهر الإنجيل فاعلية شفاعة مريم التي تكلّمت مع يسوع لتعرض عليه حاجات البشرية: “لم يبقَ عندهم خمر” (يوحنا 2 / 3).
فالوردية هي، في آنٍ واحد، تأمُّل وتوسُّل. إن ابتهال مريم الملحَّ إلى الله يستند إلى يقينها الواثق بأن شفاعتها الوالدية هي كلية القدرة على قلب ابنها. “إنها كلّية القدرة بالنعمة” (25) كما قال ذلك الطوباوي برتولو لونغو، في كتاب “التوسُّل إلى العذراء”، بهذا التعبير الجريء الذي يجب أن نفهمه فهماً جيداً. إن شفاعتها أمرٌ ثابتٌ وقد انطلق من الإنجيل، ولا يزال يترسَّخ في القلوب من خلال خبرة الشعب المسيحي.
إن الشاعر دانتيه Dante قد عبَّر عن ذلك عندما أنشد، وهو يتبع تفكير القديس برنردوس: “أيتها السيّدة، لقد بلغت شأناً بعيداً من العظمة والمقام، حتى إنَّ من أراد الحصول على نعمةٍ ولم يأت إليك، كان كمن أراد أن تطير أمنيته من دون أن يكون لها جناحان” (26). فعندما نتلو المسبحة ونبتهل إلى مريم فإنها تقف، وهي مقرُّ الروح القدس، أمام الآب الذي يملؤها من النعمة، وأمام ابنها الذي ولدته للعالم، وتُصلّي معنا ولأجلنا.
17- التبشير بالمسيح مع مريم
إن المسبحة الوردية هي أيضاً وسيلةٌ للتبشير بالمسيح والتعمُّق في سرِّه. ففي أثناء استخدام هذه الوسيلة يُقدِّم سرُّ المسيح إلى جميع المسيحيين وفق مستوى خبرتهم الدينية، كما يُقدَّم لهم بطريقةٍ شفوية وتأمُّلية. ويتوخَّى تقديم هذا السرّ جَعْلَ قلب المسيحي مثل قلب المسيح. فعند تلاوة المسبحة الوردية، إذا توضَّحت قيمة جميع العناصر التي تسمح بتأمُّل جيّدٍ ومناسبٍ للمصلّين، و لاسيّما متى كانت التلاوة جماعية في الرعية أو في المعبد، فمن الممكن أن تصبح هذه التلاوة تعليماً دينياً مفيداً للغاية، ويجب على الرعاة أن يعرفوا كيف يستغلّونه. بهذه الطريقة تتابع عذراء الوردية عملها التبشيري بالمسيح.
إن تاريخ الوردية يُظهر كيف استُعملت هذه الصلاة، ولاسيّما من قبل الآباء الدومنيكان في وقتٍ كان شديد الوطأة والصعوبة على الكنيسة بسبب انتشار البدعة. واليوم أيضاً، نحن نجد أنفسنا أمام تحدِّيات أخرى. فلماذا لا نُمسك المسبحة بأيدينا ونتلوها بمثل إيمان أجدادنا؟ إن المسبحة الوردية لا تزال تحافظ على كلِّ قوَّتها، وتبقى وسيلةً لا يمكن أن تستغنى عنها كلّ حقيبةٍ يحملها المبشِّر الصالح بالإنجيل.
الفصل الثاني
أسرار المسيح وأسرار أُمِّه مريم
18- المسبحة الوردية هي “مُلَخَّصُ الإنجيل”
يجب علينا، لكي نتمكَّن من مشاهدة وجه المسيح والتأمُّل فيه، أن نُصغي إلى صوت الآب، لأنه “لا أحد يعرف الابن إلا الآب” (متى 1 / 17). فلما كان يسوع بقرب مدينة قيصرية فيلبُّس، اعترف بطرس بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ. فأكَّد له يسوع بكلّ دقّة أن مصدر نظرته الثاقبة التي مكَّنته من أن يُحدّد هوّية يسوع، قد جاء من الآب: “لا لحم ولا دم كشفا لك هذا، ولكن أبي الذي في السموات” (متى 16 / 17). ولذلك فإن الوحي الصادر من لَدُنِ الله هو أمرٌ ضروري، ولابدَّ، لكي نقبل هذا الوحي، من أن نقف موقف الإصغاء: إن خبرة الصمت والصلاة هي وحدها تضعنا في الجوِّ المناسب الذي يسمح لنا بأن نعرف سرّ المسيح معرفةً حميميةً أمينةً وكاملة، وبأن نجعل هذه المعرفة تنضج وتنمو (27).
إن تلاوة المسبحة الوردية هي إحدى الطرق التقليدية التي تُمكّننا من مشاهدة وجه يسوع والتأمّل فيه. لقد كتب بولس السادس ما يلي: “إن المسبحة الوردية المركّزة على سرَّي التجسّد والفداء توجِّهنا بوضوحٍ إلى المسيح. فإن عُنصرها المميَّز – وهو ترداد صلاة “السلام عليك” – يصبح هو أيضاً تسبيحاً غير منقطع للمسيح الذي بشَّر به الملاك، والذي سلَّمت اليصابات أمُّ يوحنا المعمدان على مريم العذراء بسبب وجوده في أحشائها حين قالت لها: “مباركةٌ ثمرة بطنك”. وإننا نقول أكثر من ذلك: إن تردا صلاة “السلام عليك” يؤلّف “الأرضيّة” التي تنمو عليها مشاهدة الأسرار والتأمُّل فيها. فإن اسم يسوع الذي نذكره في كلّ مرَّة نتلو “السلام عليك” هو الاسم الذي يعرضُه علينا تتابع الأسرار، ويؤكّد لنا أنه ابن الله وابن العذراء على السواء” (28).
19- إضافةٌ في محلّها
إن المسبحة الوردية كما هي مرتَّبة في تلاوتها العمليَّة التي وافقت عليها السلطة الكنسية، لا تحتفظ من بين أسرار حياة المسيح إلاّ ببعضها فقط. إن اختيار هذه الأسرار قد فُرِضَ منذ البدء على المسبحة الوردية لتحافظ على العدد المئة والخمسين المناسب لعدد المزامير.
يبدو لي أنه إذا ما أردنا أن نُعطي للوردية طابعاً أكثر علاقةً بالمسيح، فإنه يحسن بنا أن نُضيف إليها بعض الأبيات. وإنْ كُنَّا نترك تقدير هذا الأمر للأشخاص والكنائس المحليَّة، نرى أن هذه الإضافة تأتي على ذكر أبرز أسرار حياة يسوع العلنيّة الممتدّة من المعمودية إلى الآلام. فإننا، بِسَرد ذكرى هذه الأسرار، يمكننا أن نتأمَّل في بعض جوانب شخصيّة المسيح على اعتبار أنه قد جاء بالوحي الإلهي الكامل والنهائي. فإن الله الآب قد أعلن أنه ابنه الحبيب عندما قَبِلَ المعمودية في نهر الأردن. أمّا المسيح فقد بشرَّ بالملكوت وشهد له بأعماله وأعلن على الملأ مطالبيه. ففي خلال سنوات حياته العلنيَّة ظهر ببيانٍ خاص أن سرَّ المسيح هو سرُّ النور: “ما دمت في العالم فأنا نور العالم” (يوحنا 9 / 5).
إذا أردنا أن نتمكَّن من أن نقول قولاً كاملاً، إنّ الوردية هي “ملخَّص الإنجيل”، فإنه بعدما ذكرنا التجسُّد وحياة المسيح الخفيّة (أسرار الفرح)، وتوقَّفنا عند الآلام والموت (أسرار الحزن)، وعند بهجة القيامة (أسرار المجد)، يليق بنا أن نوجِّه تأمُّلنا إلى بعض أحداث من حياة يسوع العلَّنية التي تتَّصف بمعانٍ عميقة (أسرار النور). إن إضافة هذه الأسرار الجديدة لا تشوِّه صيغة الصلاة التقليدية، بل تهدف إلى وضعها في صُلْب الروحانية المسيحية، وتجلب إليها انتباه المؤمنين، لأنها تُعبِّر عمَّا في أعماق قلب يسوع من فرحٍ ونورٍ وألمٍ ومجد.
20- أسرار الفرح
إن المجموعة الأولى من المسبحة الوردية هي مجموعة أسرار الفرح. إنها تتميَّز بالفرح الحقيقي الذي ينبعث من حادث التجسُّد.
إن هذا الأمر واضحٌ منذ أن دخل الملاك جبرائيل إلى مريم في الناصرة، وبشَّرها، ودعاها إلى أن تفرح بمجيء المسيح: “افرحي، يا مريم”. إن تاريخ الخلاص كلَّهُ، بل أقول أن تاريخ البشرية نفسه يتوجَّه نحو البشارة. ذلك لأنه إذا كان مخطّط الآب هو أن يجمع كلَّ شيءٍ في المسيح (أفسس 1 / 10)، فإنَّ الكون كلَّه قد حظي – نوعاً ما – بالعطف الإلهي عندما مال الله الآب إلى مريم لتكون أم ابنه. والبشرية كلُّها بدورها قد أطاعت الله في طاعة مريم التي لبَّت بسرعةٍ إرادة الله.
إن حادث الزيارة لأليصابات قد اكتسى هو الآخر بالابتهاج. فإن صوت مريم وحضور المسيح في أحشائها قد جعلا يوحنا يهتَزُّ طربا.
أمَّا ميلاد الطفل الإلهي في بيت لحم فقد غمرته البهجة عندما أنشأت له الملائكة، ولقيَ به الرعاة البشرى “بفرحٍ عظيم”.
ولكنَّ السرَّين الاخيرين اللذين قد احتفظا بنغمةٍ من الفرح قد لمَّحا إلى علامات مأساة الصليب. ذلك لأن التقدمة إلى الهيكل التي عبَّرت عمَّا شعر به يسوع من فرحٍ في تكريس ذاته لله أبيه، وعمَّا جرى لقلب سمعان الشيخ من اختطافٍ روحي، قد أشارت بوضوحٍ إلى أن الطفل سيكون في شعب إسرائيل هدفاً للمخالفة، وإلى أن سيفاً سوف يخترق قلب أُمِّه (لوقا 2 / 34 – 35).
أمَّا حادث بقاء يسوع في الهيكل، لمّا بلغ اثنتي عشرة سنة، فهو حادثٌ بهيجٌ ومأساويٌ على السواء. لقد ظهر يسوع في حكمته الإلهية عندما كان يسأل ويُصغي، وتبيَّن للعلماء أنه هو “المعلِّم”. إن وحيَ سرِّ ابن الله الذي خصَّص نفسه “لما هو لأبيه” يعلن أن للإنجيل مطاليب جذريّة تفرض أحياناً على المرء أن يقطع أحبَّ الروابط إليه. أمَّا مريم ويوسف اللذان كانا متوجِّعين فلم يفهما كلام يسوع (لوقا 2 / 5).
وإذا تأمَّلنا في أسرار الفرح تمكَّنا من معرفة الأسباب الصحيحة التي تُنشئ فينا الفرح العميق. إنها النتائج العملية لسر ِّ التجسُّد، ومن أبرزها فداء البشرية، وإعلان سرِّ الألم الذي يُطهرِّنا من خطايانا ويؤدّي بنا إلى الخلاص، وإنْ كان هذا الإعلان لم يزل آنذاك يكتنفه الغموض والخفاء. إن مريم تقودنا إلى سرِّ الفرح المسيحي عندما تُذكرّنا بأن الدين المسيحي هو قبل كل شيء “إنجيل” أي بُشرى سَّارة، أهمُّ ما تحتوي عليه هو شخص المسيح، الكلمة الذي صار إنساناً، وهو المخلّص الأوحد للعالم.
21- أسرار النور
عندما ننتقل من طفولة يسوع ومن حياته في الناصرة إلى حياته العلنيَّة، نرى أنفسنا منقادين إلى التأمُّل في الأسرار التي نُسمِّيها باسمٍ خاص “أسرار النور”. ففي الحقيقة إنّ سرَّ المسيح بُمجمله نورٌ لأن المسيح هو “نور العالم” (يوحنا 8 / 12). إن هذا النور العالمي نراه رؤيةً واضحةً في أثناء حياته العلنيَّة التي بشَّر في أثنائها بإنجيل الملكوت. وإذا أردنا أن نعيِّن للجماعة المسيحية خمسة أوقات – أو خمسة أسرار النور – قد حدثت في هذه الحقبة من حياة المسيح، فإنه يبدو لي أننا نستطيع أن نحدِّد هذه الأسرار الخمسة على النحو التالي:
1- السرُّ الأول: معمودية يسوع في نهر الأردن.
2- السرُّ الثاني: ظهور شخصيّة يسوع في عُرس قانا الجليل.
3- السرُّ الثالث: تبشير يسوع بملكوت الله ودعوته إلى التوبة.
4- السرُّ الرابع: تجلِّي يسوع على الجبل.
5- السرُّ الخامس: تأسيس يسوع للإفخارستيا التي هي تعبيرٌ سرّي عن حقيقة قيامته.
إن كلَّ واحد من هذه الأسرار الخمسة هو كشفٌ عن الملكوت الذي كان حاضراً منذ ذلك الحين في شخص يسوع.
إن معمودية يسوع في نهر الأردن هي قبل كل شيءٍ سرُّ النور. ففي هذا المكان، فيما كان المسيح ينزل إلى مياه النهر – وهو البريء الذي جعل نفسه خطيئةً لأجلنا (2 كورنتس 5 / 21) – انفتحت له السموات، وأعلن صوت الآب أنه ابنه الحبيب، ونزل عليه الروح القدس ليوشِّحه بالمهمَّة الدينية التي كانت تنتظره.
أمَّا الآية الأولى في قانا الجليل فكانت سرَّ النور (يوحنا 2 / 1 – 12). فإن المسيح لمَّا حوَّل الماء إلى خمرٍ فتح قلوب تلاميذه إلى الإيمان به، وذلك بفضل تدخُّل مريم المؤمنة الأولى.
ثمَّ إنَّ سرَّ النور هو أيضاً تبشير المسيح بملكوت الله، ودعوته إلى التوبة وإلى مغفرة خطايا الذين يدنون منه بإيمان وتواضع. إن عمل الرحمة الذي بدأه آنذاك سيُتابعه حتى انقضاء الأزمنة، وسيُتابعه بنوعٍ خاص في سرِّ المصالحة الذي سلَّمه إلى كنيسته (يوحنا 20 / 22- 23).
إن تجلِّي المسيح هو سرُّ النور بأسمى معانيه. إن التقليد عيَّن جبل طابور مكاناً للتجلّي. فلمَّا ظهر مجد الألوهية على وجه المسيح استولى الاختطاف العميق على التلاميذ، وأعلن الله الآب أنَّ يسوع ابنه الحبيب. وأمرهم بأن “يسمعوا له” ويهيِّئوا له أنفسهم ليحيوا معه في أثناء آلامه ويبلغوا معه إلى فرح القيامة وإلى حياةٍ مقدسةٍ تتجلَّى بالروح القدس.
وأخيراً، فإن الإفخارستيا أيضاً سرُّ النور. لقد جعل المسيح بها جسده ودمه طعاماً وشراباً تحت شكلي الخبز والخمر، وأعطى “حتى النهاية” شهادة حُبِّه للبشرية التي قدَّم ذاته ذبيحةً في سبيلها.
ففي هذه الأسرار، ما عدا سرَّ قانا الجليل، لم تكُن مريم حاضرةً إلاَّ من خلْفِ الستار. فإن الأناجيل لا تُبدي إلاَّ بعض تلميحاتٍ إلى حضورها القصير من وقتٍ إلى آخر، في أثناء تبشير يسوع، ولا تقول شيئاً على الإطلاق! كوجودها غير المحتمل في غرفة العشاء الأخير، أثناء تأسيس الإفخارستيا. ولكنَّ المهمَّة التي قامت بها في قانا الجليل قد رافقت، بطريقةٍ ما، مسيرة المسيح كلَّها. فالوحي الذي أنزله الله الآب في وقت المعمودية، والذي اطّلع عليه يوحنا المعمدان، كان على شفتي مريم في قانا الجليل، وأصبح الوصيَّة الكبرى التي وجَّهتها إلى كنيسة الأزمنة كلِّها: “اعملوا ما يقوله لكم”. إنها وصيّةٌ تطبع في قلوبنا كلام المسيح وآياته التي جرت في حياته العلنيّة، وتؤلّف الطابع الخلفي المريمي لجميع “أسرار النور”.
22- أسرار الحزن
إن الأناجيل تُعطي أسرار الحزن أهميّةً كبيرة. أمّا المسيحيون فقد كانوا منذ القدم يتوقّفون، لدى تلاوة صلوات درب الصليب، عند كلّ مرحلةٍ من مراحل آلام المسيح، لأنّهم فهموا أنَّ آلامه هي التعبير عن حُبِّه للبشر، وأنَّ هذه الآلام هي ينبوع خلاصنا. والمسبحة الوردية تختار بعض مراحل الآلام وتدعو المصلّي إلى أن يوجِّه إليها رؤية عينيه ورؤية قلبه، وأن يحيا هذه الآلام مع مريم.
إن تسلسل التأمُّل يبتدئ في الجسمانيّة، حيث قضى المسيح، فترةً من الزمن، حالة انقباضٍ للنفس شديدٍ للغاية، أمام إرادة الآب التي يتعرَّض الضعف البشري إلى التمرُّد عليها. ففي هذه الفترة مكث يسوع في مكان تجارب البشرية كلِّها، وواجه خطايا البشر ليقول لأبيه: “لا تكُنْ مشيئتي بل مشيئتك” (لوقا 22 / 42). إنّ طاعته تمحو عصيان أبوينا الأولين في جَّنة عدن. وإنّ ما تحمّله طاعةً لإرادة أبيه تُعبِّر عنها الأسرار المتتابعة، وهي الجلد، وإكليل الشوك، والصعود إلى جبل الجُلجلة، والموت على الصليب التي بلغ بها أقصى درجات الذُل: “هوذا الرجل”.
إن هذا الذُلَّ لم يُظهر حبَّ الله فحسب، بل حقيقة الإنسان أيضاً “هوذا الرجل”: فمن أراد أن يعرف حقيقة الإنسان يجب عليه أن يعرف أيضاً غاية الإنسان وأصله واكتماله في المسيح. يجب عليه أن يعرف أن الله قد حطَّ نفسه عن حبِّ “حتى الموت، والموت على الصليب” (فيليبي 2 / 8). إنَّ أسرار الحزن تقود المؤمن إلى أن يحيا من جديدٍ موت المسيح عندما يركع عند قدم الصليب، إزاء مريم، لكي يستوعب معها عُمق حبِّ الله للإنسان، ويشعر بالقوّة العظيمة التي تُنعشه.
23- أسرار المجد
إن التأمُّل في وجه المسيح لا يمكن أن يتوقَّف عند وجهه وهو مصلوب، لأنه قد قام حياً من بين الأموات (29).
إن المسبحة الوردية قد عبَّرت دوماً عن الشعور بهذا الإيمان، ودعت المؤمن إلى أن يتجاوز ظلام الآلام ويُثبّت بصره في مجد المسيح الحيّ الذي قام من بين الأموات وصعد إلى السماء. فبتأمُّله في قيامة المسيح يكتشف المسيحي سبب إيمانه به (1 قورنتس 15 / 14)، ويعيش لا فرح الذين ظهر لهم المسيح فحسب – وهم الرسل، ومريم المجدلية، وتلميذا عماوس – بل فرح مريم العذراء أيضاً، التي عرفت معرفةً واضحةً أن ابنها قد أخذ يحيا بالقيامة حياةً جديدة.
ثمّ إن مريم العذراء بانتقالها إلى السماء بالنفس والجسد قد انضمَّت إلى هذا المجد الدائم، الذي نَعِمَ به ابنها لمَّا صعد قبلها إلى السماء وجلس إلى يمين الآب. وبذلك قد سبقت الجميع بفضل امتيازٍ خاص من الله، وتمتَّعت بالمصير السعيد المُعدّ لجميع الأبرار الذين سوف تقوم أجسادهم حيّةً من القبور.
ويشير آخر سرٍّ من أسرار المسبحة إلى أن مريم قد تكلَّلت ببهاء المجد في السماء، وأضحت ملكة الملائكة والقديسين، فنعمت بفضل تدبيرٍ سابقٍ من الله بما سوف تنعم به الكنيسة عند انقضاء الدهر.
أمَّا السرُّ الثالث من أسرار المجد، فإن المسبحة الوردية تضع في وسط مسيرة الابن والأم حادث العنصرة، الذي يُظهر وجه الكنيسة كأسرةٍ متَّحدة بمريم، تُنعشها قوَّة نزول الروح القدس، وتجعلها مستعدّةً لأن تقوم برسالتها التبشيريّة بالإنجيل. إن التأمُّل في هذا السرّ، كالتأمُّل في سائر أسرار المجد، من شأنه أن يدفع المؤمنين إلى أن يشعروا شعوراً أقوى بوجودهم الجديد في المسيح، وبواقع قيام الكنيسة. وهذا الوجود الجديد يجعل من حادث العنصرة “أيقونة” عظيمة.
وهكذا فإنَّ أسرار المجد تغذِّي لدى المؤمنين رجاءهم في نهايةٍ سعيدةٍ يسيرون إليها خلال التاريخ وهم أعضاء شعب الله.
إن هذا الرجاء القوّي لا يمكن إلاّ أن يدفعهم إلى أن يشهدوا بشجاعةٍ لهذه “البشرى البهيجة” التي تُعطي معنىً لوجودهم كلّه.
24- من الأسرار إلى السرّ: طريق مريم
إنَّ مجموعة التأمُّلات المُتتابعة التي تعرضها المسبحة الوردية على المؤمنين لا تُحيط بالمواضيع كلِّها إحاطةً كاملة، بل تكتفي بأن تُذكّرهم بأهّمها وأبرزها، وتبثُّ فيهم الشوق إلى معرفة المسيح معرفةً تدفعهم إلى المطالعة المباشرة لنصوص الإنجيل. إنَّ كلَّ حادثةٍ من حوادث حياة المسيح، كما سردها الإنجيليون تتلألأ في هذا السرّ الذي يفوق كلَّ معرفة (أفسس 3 / 19). إنَّه سرٌّ الكلمة الذي أصبح جسداً وقد “حلَّ في جسده كمال الألوهيّة” (قولوسي 2 / 9). ولذلك فإن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يُلحُ على أسرار المسيح ويُذكّر القُرّاء بأن “كلَّ حياة يسوع هي علامة سرِّه” (30). إن انطلاقة الكنيسة في الألف الثالث تقاس بمقدار قدرة المسيحيين على “تَبيُّن سرِّ الله، أعني المسيح الذي استكنَّت فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة” (قولوسي 2 / 2 -3).
فكلّ واحدٍ من المعمدين يوجَّه إليه التمنّي الحارُّ الذي نقرؤه في الرسالة إلى أهل أفسس: “ليُقم المسيح في قلوبكم بالإيمان. تأصّلوا في المحبّة… هكذا تعرفون محبَّة المسيح التي تفوق كلَّ معرفة، وتتَّسعون لكلِّ ما عند الله من سعة” (أفسس 3 / 17 – 19).
إن المسبحة الوردية تقوم بخدمة هذا المثل الأعلى، وتكشف عن السرّ الذي يسمح للمؤمنين بأن يطَّلعوا اطّلاعاً أوفر على معرفة المسيح التي تتَّصف بالعُمق و الالتزام. ويُمكننا أن نُسمّي هذا المثل الأعلى “طريق مريم”. إنه طريق حياة عذراء الناصرة التي كانت امرأة الإيمان والصمت والإصغاء. وهو أيضاً طريق تكريم مريم، المنتعش بمعرفة العلاقة التي تربط المسيح بأمّه الفائقة القداسة برباطٍ لا ينفصم. فإنَّ أسرار المسيح هي – نوعاً ما – أسرار أُمِّه حتى وإنْ لم تكن حاضرة فيها حضوراً مباشراً، إذْ إنها تعيش منه وبه. ونحن عندما نتلو السلام الملائكي نتبنّى أقوال الملاك جبرائيل وأليصابات، ونرى أنفسنا مندفعين دوماً إلى أن نبحث بطريقةٍ جديدٍ في مريم وبين يديها وفي قلبها عن “ثمرة أحشائها المباركة”.
25- سرُّ المسيح هو “سرُّ” الإنسان
في شهادتي التي قُمتُ بها في العام 1978 للمسبحة الوردية، صلاتي المفضلّة، والتي ذكرتها سابقاً، كنت قد عبرّت عن فكرةٍ أريد أن أعود إليها الآن مرَّةً أخرى. لقد قلت آنذاك إن “صلاة المسبحة الوردية هي الصلاة البسيطة التي تتسلسل وفق تسلسل الحياة البشرية” (31).
فعلى ضوء الأفكار التي عرضتها عن أسرار المسيح حتى الآن، فإنه ليس من الصعب أن نتعمّق في تلاؤم المسبحة الوردية مع حياة الإنسان، هذا التلاؤم الذي هو جذريٌّ أكثر مما يبدو لنا للوهلة الأولى. فمن أخذ يتأمَّل في المسيح ويتذكّر مراحل حياته، لا يمكنه إلاَّ أن يكتشف فيه الحقيقة عن الإنسان. هذه هي الفكرة الكبرى التي أكدّها المجمع الفاتيكاني الثاني، والتي ذكرتها مرَّات كثيرة في تعليمي الرسمي منذ أن أصدرت رسالتي العامّة “فادي الإنسان”. قال المجمع: “في الواقع إن سرَّ الإنسان لا يستنير حقاً إلاّ بنور سرّ الكلمة المتجسِّد” (32). فالمسبحة الوردية تساعد الإنسان على أن ينفتح على هذا النور. فعندما يتبع طريق المسيح الذي “يتلخَّص” (33) فيه طريق الإنسان ويتوضّح، وينال الفداء، فإنه يضع نفسه أمام صورة الإنسان الحقيقي. فإذا تأمَّل في ميلاد المسيح ظهر له الطابع المقدس الذي تتميَّز به الحياة. وإذا تطلَّع إلى بيت الناصرة تعلَّم حقيقة تأسيس الأسرة بحسب مخطّط الله. وإذا سمع المعلم في أسرار حياته العلنيّة بلغ إلى النور الذي يمكّنه من دخول ملكوت الله. وإذا تبعه على طريق الجلجلة تعلّم معنى الألم الذي يخلِّص الإنسان. وأخيراً، إذا تأمَّل في المسيح وفي أمِّه، وهما في المجد، رأى الهدف الذي يُدعى إليه كلُّ واحدٍ منَّا، بشرط أن يدع الروح القدس يشفيه ويُغيّره نحو الأفضل. وهكذا نستطيع أن نقول إن كلّ سرٍّ من أسرار الوردية، إذا تأملنا فيه يُضيء لنا سرّ الإنسان.
وإنه من الطبيعي، في الوقت نفسه، أن نحمل إلى لقائنا بإنسانية المخلّص مُشكلاتنا الكثيرة وهمومنا وأتعابنا ومشاريعنا التي تميّز حياتنا: “ألقِ على الربّ همَّك، فهو يعولك” (مزمور 45 / 23).
إن التأمُّل في المسبحة الوردية يقوم بأن نسلّم أثقال حياتنا إلى قلبي يسوع وأمّه الحنونين. وإذا عدت بالفكر إلى المحن التي انتابتني منذ خمسٍ وعشرين سنة، حتى في أثناء ممارسة مهمَّتي كخليفة بطرس، أشعر بالحاجة إلى أن أقول للجميع، بأسلوب دعوةٍ حارة موجَّهة إليهم، أن يختبروا هذا الأمر بأنفسهم. نعم، إن المسبحة الوردية تعطي للحياة البشرية تسلسلها لتجاري الحياة الإلهية في فرح الاشتراك مع الثالوث الأقدس، هذا الاشتراك الذي هو المصير الأخير لوجودنا.
الفصل الثالث
الحياة عندي هي المسيح
26- المسبحة الوردية طريقٌ لاستيعاب هذا السرّ
إنّ التأمّل في أسرار المسيح يُعرض على المؤمنين في المسبحة الوردية بطريقةٍ مميَّزة قادرةٍ بطبيعتها على أن تُسهِّل عليهم استيعاب هذه الأسرار.
إنَّ هذه الطريقة مؤسّسة على الترداد. وهذا الترداد يحدث عند تلاوة “السلام الملائكي” الذي يُعاد عشر مرَّات في كل سرّ. فإذا اكتفينا بالنظر إلى هذا الترداد نظرةً سطحية، مال بنا الرأي إلى القول إن تلاوة المسبحة الوردية ممارسةٌ جافّة تدعو إلى الضجر. ولكنَّ الوضع يتغيّر تماماً في نفوسنا إذا اعتبرنا أن المسبحة هي تعبيرٌ عن الحب الذي لا يملّ من التوجّه إلى الشخص المحبوب ولو بالأقوال نفسها، ولكن بعاطفةٍ جديدة يُنعشها دوماً هذا الحب.
لقد اتَّخذ الله في المسيح “قلباً من لحم”. فقلبه ليس قلباً إلهياً، فحسب، غنياً بالرأفة والمغفرة، بل هو قلبٌ بشريٌ أيضاً، قادرٌ على أن يختلج عند كلّ نبرةٍ من نبرات المودّة.
وإذا أردنا لتأييد قولنا شهادةً إنجيلية توضح هذا القول، فإنه لا يصعب علينا أن نجدها في الحوار المؤثّر الذي جرى بين المسيح وبطرس. طرح المسيح على بطرس هذا السؤال: “يا سمعان بن يونا، أتحبُّني؟” وطرحه ثلاث مرَّات، وسمع عنه الجواب ثلاث مرَّات: “يا رب، أنت تعرف أني أُحبك”. لا شكَّ في أن لهذا الطرح المثلَّث علاقةً بمهمّة بطرس، غير أن جمال هذا الترداد المثلَّث لا يخفى على أحد. إن هذا الجمال يظهر في ترداد السؤال وفي ترداد الجواب الذي عبَّر به بطرس تعبيراً ملائماً بألفاظٍ تعرفها الخبرة العالمية للحبّ البشري. فإذا أردنا أن نفهم ما هي المسبحة الوردية، فما علينا إلا أن نتوغّل في داخل الحركة الديناميكية النفسية الخاصة بالحب.
وهناك قضية واضحة: فإذا كان ترداد “السلام الملائكي” يوجَّه مباشرةً إلى مريم، فإن الحبَّ في نهاية الأمر، بالترداد ومع الترداد، يوجَّه إلى يسوع نفسه. إن الترداد يتغذّى بالرغبة في أن نكون أكثر شبهاً بالمسيح. هذا هو برنامج الحياة المسيحية التي عبَّر عنه بولس بأقوالٍ ناريّة عندما قال: “الحياة عندي هي المسيح، والموت غُنْم” (فيليبي 1 / 21)، وعندما قال أيضاً: “لا أنا أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غلاطية 2 / 50). إن المسبحة الوردية تساعدنا على أن ننمو في هذا الشبه بالمسيح إلى أن نصل إلى القداسة.
27- طريقةٌ لها قيمتها
لا عجب أن تستفيد علاقتنا بالمسيح من طريقةٍ إنسانيَّة معيَّنة. فإن الله نفسه عندما يتَّصل بالإنسان يحترم وضع طبيعتنا البشرية وردود أفعالها الحيويّة. وكذلك الروحانية المسيحية نفسها، لا شكَّ في أنها تتبنَّى أسمى أشكال الصمت السريّ الذي تذوب فيه كلياً الصور المادية والأقوال والأفعال بسبب عُمق اتحاد الإنسان بالله، إلى حدّ أنه لا يمكن التعبير عنه بكلمات بشرية. مع ذلك فإن الروحانية المسيحية تبقى عادةً مطبوعةً بمميّزات الشخص البشري، وبكلّ ما يتَّصف به واقعه الإنساني من جوانب سيكولوجية وفيزيولوجية، وبما يرتبط به من علاقاتٍ بشرية.
إن هذه الواقعية البشرية تظهر ظهوراً واضحاً في الليتورجية الكنسية. فإن الأسرار المقدسة وأشباه الأسرار مكوَّنة من مجموعة أعمالٍ وصلوات تلبّي كلياً حاجات الشخص وقدراته البصرية والسمعية. وكذلك الصلاة غير الليتورجية، فإنها تتبع المنهج نفسه. وممّا يدعم قولنا هذا هو أن في الشرق، تكون الصلاة الموجَّهة إلى التأمل في المسيح مركَّزة على الأقوال التالية: “يا يسوع، يا مسيح، يا بن الله، يا رب، ارحمني أنا الخاطئ” (34). إنَّ هذه الصلاة تُردَّد تقليدياً وتتماشى مع تنفُّس الإنسان، فتمكّنه بذلك من المثابرة على هذا النوع من الابتهال، وتؤمن له الرغبة الطبيعية في أن يكون المسيح نفسه تنفُّس وروحه ومُجمل حياته.
28- طريقة يمكن تحسينها
Discussion about this post