بالمحبة لا بالخوف تصير ابنا لا عبداً
القديس أغسطينوس
عن الحكمة كلامنا, لا عن حكمة هذا العالم التي هي جهالة عند الله, بل عما هي حقا بنظره حكمة, الله هو كمال الحكمة, وحكمة الإنسان عبادة الله.
وتناقش الناس في الحكمة فقالوا إنها علم الأمور البشرية والإلهية, بيد أن الكثيرين لم يسعوا إليها إلا كسبا لمديح الناس لهم, وأرادوها في حياتهم علما لا خلقا تأمر به الحكمة, فنالوا مجدا بشريا زائلا وعجزوا عن البلوغ إلى نور الله, وما طلبوا الحكمة,
مع أنهم تظاهروا بالبحث عنها, ولو بحثوا عنها حقا لعاشوا وفقا لمبادئها, لكنهم شاؤوا التبجح بأقوالها فكانوا كلما ازدادوا بها تبجحا كلما ازدادوا عنها بعدا.
أما الكتاب المقدس فإنه يعلمهم أنهم لن ينالوا مبتغاهم إلا إذا رعوا ما كانوا يهملونيا بني أن رغبت في الحكمة فاحفظ الوصايا فيهبها لك الرب(سي 1: 33) ومن ذا الذي يحفظ البر إن لم يخف الرب القائل في موضع آخر إن من لا يتقي الله لا يدرك البر (اع 10 : 35),
وبالتالي فإن كان الرب لا يهب الحكمة سوي لمن يحفظ البر فمن لا يتقي الرب لا يتبرر, ثم يضيف رأس الحكمة مخافة الله (سي 1: 16).
وحين يتكلم أشعيا النبي عن مواهب الروح السبع يبدأ بالحكمة وينتهي بمخافة الله, منحدرا إلينا ليعلمنا كيف نصعد إليه, بدأ حيث يجب عليك ان تصل,
ثم وصل حيث يجب أن تبدأ, قائلا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. (اش 11: 2).
وكما أن النبي انحدر من الحكمة إلى التقوى, معلما بقوة, عليك أن تصعد تدريجيا وبدون استكبار من التقوى إلى الحكمة. المتواضع يتقي الله, وقلبه ينسحق بدموع التوبة والاعتراف,
لا تخف البقاء في هذا القعر لأن الله رتب في القلب المنسحق المتواضع الذي يرضى عنه مراقي إليه. وانحدر أشعيا على سلم العلم من الحكمة إلى تقوى الله ليحثك على القيام بأعمالك, لقد انحدر من مقرالسلام الأبدي إلى وادي الحزن الزمني كيلا تبقي حزينا باكيا متنهدا في توبتك,
بل لتصعد من ذلك الوادي إلى الجبل الروحي إلى أورشليم المدينة المقدسة الأبدية, وتفرح فرحا أبديا. وحين نصحك بالتزام الحكمة نورا للعقل, أضاف العقل ردا على سائليه, بأن طريق الحكمة العقل, وطريق العقل المشورة, وطريق المشورة القوة, وطريق القوة المعرفة, وطريق المعرفة تقوى الله, وطريق تقوى الله مخافته, تتجه الطريق صاعدا من المخافة إلى الحكمة لأن
رأس الحكمة مخافة الله (سي 1: 16), من وادي الدموع إلى جبل السلام. فاجعل التواضع والتقوى رأس حكمتك.
اللهم في اري البداية, فلم اقنط من النهاية ؟ وفي الخوف, إنما مخافتك رأس الحكمة, لقد بدأت أخاف, فعلي أن أصلح نفسي, وأحذر أعدائي (أي خطاياي),
وأبدأ حياة باطنية, وأميت أعضائي على هذه الأرض, مخافتك تجرح النفس, كما يجرح مبضع الطبيب جسم المريض, لينزع منه ما فسد فيه, فيبدو مثخنا جراحا, ويفوق ألم جرح يُداوي ألم جرح مهمل, ويعرف الإنسان دواءه فيحزن حزنا يفوق حزنه على ألم يتلوه شفاء, إملأ قلبي من مخافتك,ووجهه إلى محبتك, واجعله ينسى أثر جرح مبضعك, لأنك طبيب لا يُخلف جرحه أثرا, فليكن الخوف في, قبل أن تنقي المحبة الكاملة الخوف عني, إني لأومن وأدرك أني سائرا بعيدا عنك, في جسمي هذا الفاسد الذي يثقل علي,
بقدر ما أدنو من الوطن أصبو إليه بضعف الخوف في, خوف المسافرين قوي, وخوف القريبين ضعيف, والذين بلغوا غايتهم لا يخافون, اني اخاف ممن يقتلون الجسد, وبخاصة ممن يمكنه أن يلقي النفس والجسد في جهنم.
الخوف نوعان: خوف سافل وخوف نقي, أحدهما يخشى أن يفقد البر والآخر يخشي العقاب, الخوف السافل هو خوف من يخشي الاحتراق مع الشيطان, والخوف النقي هو خوف من يخشي عدم مرضاة الله, وأين العظمة في أن يخشى الإنسان العقاب ؟
تلك حالة العبد الخاطئ واللص الشرس, لا عظمة في أن يخشى الإنسان العقاب, إنما العظمة في أن يحب البر, وكل من يحب البر لا يخشى العقاب بل يخشى فقدان البر.
اللص يخشى العقاب إنما لا يخشى الإثم, إنه لا يسرق حين لا يستطيع أن يسرق مع أنه سارق !يسطو الذئب على حظيرة الخراف ويحاول أن يدخل يدخل ويقتل ويفترس, وبما أن الرعاة يسهرون, والكلاب تنبح,
فلا يستطيع أن يخطف أو يقتل, إنما يخرج ذئبا كما جاء ذئبا, ألأنه لم يستطع أن يسرق نعجة نقول جاء ذئبا وعاد نعجة ؟ لقد جاء ذئبا محتدما غاضبا, وعاد ذئبا مرتجفا فزعا, ومع ذلك فهو ذئب, غاضبا كان أم خائفا,
لا خطف الفريسة ولا تخلى عن خبثه. إن كانت تلك هي حالك, فإنك تفكر بألا يعذبك البر. الفرق بين خوفك وخوف اللص, هو أن اللص يخشى قوانين البشر فيسرق أملا في أن يخدعها, وأنت تخشى شرائع وعقاب من لا يسعك أن تخدعه, هب أنك استطعت أن تغش ألا تغش.
المحبة لا تنتزع منك الشهوة إما الخوف وحده يكبتها, إن من قيده الخوف يظل ذئبا, تحول أنت إلى نعجة, ذاك صنعه الرب ببر منه لا منك, فإن كان لك برك فاخش العقاب ولا تحب البر !!! إني أطرح عليك سؤالا,
تفحص سؤالي المدوي, واجعل لك من نفسك سؤالا صامتا, لك أقول:إن لم يرك الله حيث تعمل فهل تعمل إذا لم يكن يوم الدين من يقنعك بأنك عملت شرا تأمل نفسك بنفسك إذ لا يسعك أن تجيب على كل ما أقول, تأمل نفسك, أتفعل إن فعلت كان ذلك خوفا من العقاب وليس حبا بالبر, ولم تكن على شئ من المحبة,
لأنك تخاف كعبد, إنه الخوف من الشر وليس الحب للخير. وبرغم ذلك يجب عليك أن تخاف خوفا يؤدي بك إلى المحبة, إن خوفك هذا يجعلك تخاف من جهنم ويمنعك عن الخطيئة ويغمرك من كل جانب,
ولا يدع فكرك الباطني الحر يريد الخطيئة, وبالتالي فالخوف هو كالحارس والمعلم في الشريعة, التي كان حرفها يهدده قبل أن تنجده النعمة, فليحفظك هذا الخوف من السوء, ولتدخل المحبة قلبك,
إذ بقدر ما تكون فيه بقدر ذلك يخرج منه الخوف. وطالما أن الخوف يحفظك من السوء, فالمحبة تستأصل ما فيك من رغبة في الإثم, ولو استطعت أن تعمل دون أن يطول العقاب.
عانق المحبة وادخل فيها, اقبلها تفاديا للخطأ, كف عن الخطيئة واقبل المحبة واحي حياة صالحة, ومتى دخلت في المحبة بدأ الخوف يخرج,
وكلما ازددت ولوجا في المحبة ازداد الخوف تراجعا, ومتى دخلت بكليتك تلاشي الخوف الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ (1يو 4: 18) للمحبة خوف نقي خاص بها يثبت إلى جيل الأجيال.
الرجل الصالح ولو استطاع أن يحفظ قول الله لما أحزن عيني أبيه القائل له : أراك حين تخطأ فلن أعاقبك إنما لست أرضى بك والرجل الصالح يخشى أن يغيظ محبوبه بمعزل عن صرامة القاضي, لأنه لو أحب الآب حقا كما يحبه الآب لاعترف به ربا ولما عصا له أمرا.
هناك أناسا يخشون أن يعملوا شرا عن ضعف جسدي أو نفسي وليس حبا بالخير, بل خوفا من أن يدينهم الناس, فيكفون عن شر الأعمال دون عاطل الأفكار.
إذا فكرت بأمثالها وإن لم تأت شرا ضد أحد, تسئ كثيرا إلى نفسك, وبإثمك هذا تهلك نفسك. أنت لا تؤذي الناس لأنك جبان, لكن الله الذي يرى خطيئتك يعاقبك على أفكارك. إن من لا يستطيع اللحم أن يحجب عنه إرادتنا
, يرى ما تريد, وبالتالي إذا كان قلبك لا يخشى سوي العقاب ثم سنحت لك الفرصة لارتكاب الخطيئة فلا تصير إذ ذاك خاطئا, بل يماط اللثام عما فيك من خطأ لتدرك أن ما خفي منك موجود, ولا لتعرف أن ما هو طبيعي قد انكشف.
الإرادة الأثيمة تحيا في العمل الذي لا يرجي عليه عقاب, أما حين تتأكد بأن العقاب ملازم للخطأ فهي تحيي في الخفاء وتود لو يسمح لها بأن تعمل علي هواها. وتكتئب لأنها لا تتسامح مع نفسها بما يحرمه الله, وهي لا تتمتع روحيا بما له من خير, بل تخشي جسديا الشر الذي يهددها به,
وإن كنت تخشى الله بسبب ما ينتظرك من عقاب فلست تحب من تخشاه هكذا, وعبثا تدعى التغلب على الخطيئة إن كنت تكف عنها خوفا من العقاب, إن خفت من جهنم فلست تكره الخطيئة بل الاحتراق في جهنم,
أما إن كرهت الخطيئة كرهت معها جهنم, أحب الله الصالح واخش عدله, إن أحببت خفت من أن تغيظ المحب والمحبوب, وأين تجد خوفا نقيا يفوق ما فيك يا من لا تفكر بأمور الدنيا بل بما هو للرب وبما يرضيه ؟
إن لم يكن فيك حب فاحذر الهلاك, أما إن كنت تحب فاخش أن تغيظ بحبك. بالمحبة لا بالخوف تصير ابنا لا عبدا. إن ثابرت على عمل الخير خوفا من الهلاك فلست من أبناء الله, حتى من تخشى العقاب ؟
الخوف عبد والمحبة حرة طليقة, والخوف هو عبد للمحبة, لا تدع الشيطان يسيطر على قلبك برغم أن الخوف سباق في الدخول إليه ليحتفظ بمركز للمحبة, سيدته, التي سوف تدخل.
اعمل خوفا من العقاب أن تعسر عليك أن تعمل حبا بالبر, لأن السيدة سوف تأتي وسوف ينسحب العبد, لأن الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ(1 يو 4: 18)
ربي, تحاشيت الشر فصلحت نفسي, وراحت تتوق إلى الخير فنشأ في الخوف النقي, أنا ما ابتعدت عن الشر خوفا من جهنم وابليسها, بل خوفا من أن تبتعد أنت عني,
ليس خوفي من ابليس وجهنم خوفا نقيا, لأنه لم يصدر عن حب لك, بل عن خوف من العقاب, وحين خفت أن تتخلى عني عانقتك وتمنيت أن أستمتع بك. نفسي تلطخت بالإثم ولكنها تصبح جميلة إذا أحبتك,
الخوف النقي يعيد إلى النفس جمالها, أنت, يارب, دائم الجمال, لا قبح فيك ولا تغيير, لقد أحببتنا يا دائم الجمال, حين كنا قبحا وفسادا, لقد احببتنا لا لتبعد عنك كل قبيح, بل لكي تغيره وتجعل منه انسانا جميلا, وكيف اصبح جميلا؟
إلا متى أحببتك يا دائم الجمال. كلما تعاظم فيً حبك عظم جمالي, لان محبتك جمال لنفسي. ربي إني لا أشبع من الحديث عن محبتك, وبقدر ما أنا تائق إليها أرجو أن تنمو وتثبت في, وتطرد عنها الخوف ليستمر الخوف النقي إلى جيل الأجيال, إني أحتمل العالم وضيقاته وشكوكه وتجاربه. ربي ساعدني كيلا ابتعد عن الطريق,
واجعلني أستمسك بك, عن محبة, فلا أترك أعضاء مسيحك ولا أكفر بالإيمان بل أتمجد بحضرتك, بإيمان أثبت فيك الآن, ثم أتمتع بك, وجها لوجه, وقد أخذت مواهب الروح القدس عربونا على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ عن كتاب خواطر فيلسوف في الحياة الروحية
+ ترجمة الأب يوحنا الحلو
Discussion about this post