الإنسان عند يوحنا الدمشقي
المقدمة
الإنسان، هذا المخلوق المشكلة، منذ أن بدأ يفكر كانت من أوائل أسئلته: “من أنا؟”، وقد تنوعت وتضاربت الأفكار عن هذا المخلوق، من أيام اليونانيين حتى يومنا هذا للوصول إلى ماهية وجوهر هذا الإنسان، وبين أيدينا نعرض محاولة لأب من آباء الكنيسة وهو القديس يوحنا الدمشقي، الذي كان بدوره أيضاً متأثراً بمن سبقه ومبدعاً أفكاره الجديدة محاولاً التعبير عن إيمانه بلغة عقلية منطقية.
1- خلق الإنسان:
لقد خلق الله الإنسان جوهراً عقلياً بالإضافة إلى جسم مادي، أما الملائكة فهي جوهر عقلي فقط، والجسم المادي هذه الكثافة المادية (الهيولة)، لأن بالنسبة إليه وحده الله الجوهر العقلي الخالص.
وخلق الإنسان أكبر دليل على حكمة الله، لأنه جمع بين الجوهر العقلي والحسي، فالإنسان هو الصلة بين الطبيعة المنظورة والطبيعة الغير منظورة،
وعندما خلق الله “على صورته ومثاله” جعله عاقل حرّ وشبيهٌ له بالفضيلة قدر المستطاع. والإنسان هو وسط بين العظمة والضعة، وهو روحاً وجسداً في الوقت ذاته، روحاً بالنعمة وجسداً بالأصل، لماذا؟ لكي يبقى يمجد الله خالقه، ولكي يشقى هنا في هذه الحياة الحاضرة، وهناك في الحياة الثانية حيث المكافأة ونهاية السر يتأله بانقطاعه إلى الله بإشارة رضى منه تعالى، والتأله يعني عنده اشتراك في الضياء الإلهي، لا انتقال إلى الجوهر الإلهي.
وخلق الله المرأة عوناً للذكر على قيام الجنس بالولادة خلفاً عن سلف، فإن الجبلة الأولى تسمى تكويناً لا ولادة، هكذا كان الخلق عند القديس يوحنا الدمشقي.(1).
2- خطيئة الانسان الأول و إنقاذ الله له:
و صنع الله الانسان بلا خطيئة طبعاً، وذا إرادة مطلقة الحرية؛ ويقصد الدمشقي “بلا خطيئة” ليس أنه منزه عن الخطيئة فالإله وحده منزه عن الخطيئة، بل أن الخطأ لا يأتي من طبيعته بل بالأحرى من اختياره.
وعليه لما كان الله قد زين الإنسان طبيعياً بمشيئة حرة، فإنه وجب أن يمتحن الإنسان أولاً، والإختبار يكتمل في حفظ الوصية وهي ألا يذوق من شجرة المعرفة.
فإن حافظ على الوصية يحيا للأبد وينال الغلبة على الموت، لكنه إذ أخضع النفس للجسد وآثر الملذات الجسدية وتناسى كرامته الخاصة، واحتقر أمر إلهه فأصبح عرضةً للموت والفساد، فلقي العذاب والحياة الشقية، فكانت سقطته اختيارية، عكس الملائكة الذين اختاروا الخير بحريتهم.
بيد أن المتحنن الذي أعطاه الوجود لم يهمله، بل أدبه أولاً بتأديبات شتى فاستدعاه بالإنذار والتخويف، من طوفان نوح وبلبلة الألسن وتشتيتها وبحريق المدن وبآيات وعجائب وقوى مختلفة بالشريعة والأنبياء
وكان المقصود من هذه كلها إزالة الخطيئة المتغلغة بطرق شتى ثم إعادة الإنسان إلى حسن الوجود.
ولما كان الموت قد دخل إلى العالم بالخطيئة دخول بهيمة وحشية شرسة مفسدة للحياة البشرية، فقد وجب على من يفتديه أن يكون منزهاً عن الخطيئة وغير محكوم عليه بالموت من جراء الخطيئة، بل عليه أن يعضد طبيعته ويجددها،
ومن ثم فإن الله الآب قد ارتضى ، والأبن الوحيد الجنس كلمة الله والإله الكائن في حضن الله الآب، المساوي للآب والروح القدس في الأزلية وعدم الابتداء والكائن في البدء والكائن عند الله الآب، قد خفض علاه بلا انخفاض وانحدر إلى مستوى عبيده انحداراً يعجز البيان والإدراك وهذا ما تعنيه كلمة نزول بالنسبة إليه وبهذا أضحت الطبيعة البشرية بعد أن اتخذها المسيح هي المنتصرة على الشيطان.(1)
3-النفس والجسد عند الإنسان
أ-النفس:
النفس جوهر حي بسيط ولا جسمي، أي لا مرئية، والنفس خالية وناطقة وعاقلة لا يمكن تصويرها، أي أنّه أعطى للنفس كل الميزات الإنسانية، الغارقة بين الإنسان والحيوان، والعقل في النفس لا يتميز عنها بل هو جزؤها الأنقى.
وتكمن حرية الإنسان في النفس لأتها مطلقة الحرية وهي التي تريد وتأمر وتتحول وكل هذه الأطباع نعمة من مبدعها.
ب-الجسد:
الجسد هو شكل متجسد في الطول والعرض والعمق (والإرتفاع)، وهذا الشكل يتجسد من عناصر أربع:
الأرض- الماء- والهواء- والنار التي تقابل الأخلاط الأربعة من الجسم: المرارة السوداء- البلغم- الدم- والمرارة السوداء .
والإنسان يشترك مع الحيوانات والجوامد بهذه العناصر والأخلاط، فإنه يقسم النفس إلى ثلاثة أقسام:
1- النفس النباتية: وظيفتها التغذية والنمو والتناسل (لا تخضع للعقل).
2- النفس الحيوانية: وظيفتها الحركة في الاندفاع والحس (بعضها يخضع و بعضها لا يخضع للعقل).
3- النفس الإنسانية: وظيفتها التفكير والنطق (تخضع للعقل).(1)
ج- اختصاصات النفس والجسد:
يقسم الدمشقي الاختصاصات بين النفس والجسد، فالجسد وظيفته القطع والسيلان والتبديل، القطع فهو ابتعاد الأخلاط بعضها عن بعض فيتم الانفصال إلى صورة ومادة، والسيلان هو استفراغ اليابسات والرطبات والهواء من الجسم، والتبديل فهو إعادة التعويض لذلك تحدث الإنفعالات كالجوع والعطش.
ويختص بالنفس التقوى والتفكير، أمّا الفضيلة فهي مشتركة بينهما لكن مصدرها هو النفس لأنّها هي التي تقود الجسد.(2)
4- الإرادة والحرية والفضيلة عند الإنسان:
أ- الحرية والإرادة:
خلق الله الإنسان حرّاً بطبعه وله الحرية الكاملة في التصرّف، فالإنسان تسيّره حريته بدافع من إرادته، فالإنسان إذاً مُريد بالطبع،
وسبب في ذلك أنّ الله حرّ ومريد بالطبع وبما أنّه خلق الإنسان على صورته ومثاله فقد أورثه هذا الطبع منه، وهذا ما يميّز النفس الإنسانية عن الأنفس الحيوانية والنباتية، لأنّ من طبيعة النفس الإنسانية العاقلة والناطقة أن تكون حرّة، والحرية ليست سوى الإرادة، فإنّه ليس من يحاور في تعليم الإنسان أن يحيا أو أن يجوع أو أن ينام،
لأنّه الطبيعي أن يريد. وقد ظهر لنا كلّ هذا في شخص يسوع المسيح على الأرض الذي قد رسم مشيئتنا في ذاته.
لكن الحرية في الله شيء وفي الملائكة شيء آخر وفي ابشر شيء آخر فالحرية متساوية إسماً ومختلفة فعلاً، هي في الله تفوق الجوهر وفي الملائكة تجاري سرعتهم التنفيذية التي لا يتخللها زمن مطلق أمّا عند البشر فهي مخلوقة في طبيعتهم من قبل الله الخالق كلّ شيء.
والله يسبق ويعلم كلّ شيء ولكنّه لا يسبق ويحدّد كل شيء وهنا تكمن حرية الإنسان، لأنّ الله يسبق ويعرف ما هو في استطاعتنا لكنّه لا يحدّده، فهو لا يشاء حدوث الشرّ ولا يُجبر حدوث الفضيلة وبالتالي لدى الإنسان كامل القوة في الاختيار.(1)
ب- الفضيلة:
زرع الله الفضيلة في طبيعتنا الذي هو بدء كلّ صلاح وبدون نجدته لا يمكننا أن نريد الصلاح، أي أنّ الفضيلة غريزية في الإنسان
وهي من الله الكامل الصلاح، وقد أعطانا الله الحرية إمّا أن نستمر في الفضيلة وأن نتّبعه، وإمّا أن ننحرف عن الفضيلة وهذا يعني أن نصير في الرذيلة ونتبع الشيطان فالرذيلة عنده هي الابتعاد عن الخير كما الظلام هو زوال النور.
وهذا يؤدي إذا ثبتنا في ما هو بحسب طبيعتنا نكون في الفضيلة وإذا حُدنا عمّا هو بحسبطبيعتنا نؤول إلى ما هو ضدّ طبيعتنا ونصير في الرذيلة.
لكنّ الله الكامل الحنان والشفقة شرع لنا باب إذا ما سقطنا في ما هو مغاير لطبيعتنا(أي الرذيلة) وهو باب التوبة الذي هو طريق العودة إلى طبيعتنا والابتعاد من الشيطان والاقتراب من الله وذلك بالزهد والمتاعب.(2)
خاتمة:
إذا نظرنا إلى كتابات الدمشقي في ذاتها نستشف منه تمسّكه الشديد بالعقائد التقليدية بالإضافة كونه مبتكر لامع في علم اللاهوت:
مبتكر بوضعه أوّل مصنّف كامل في هذا العلم، مبتكر بمحاولته الموفقة التوفيق بين العقل والإيمان، مبتكر بوضعه في خدمة الوحي الفلسفة اليونانية ولاسيما فلسفة أرسطو الخالدة، مبتكر باستخراجه من كنوز الوحي الكثير من النتائج القيّمة، فكان يوحنا الدمشقي مؤمناً بحق وذكياً بحق أيضاً وذلك باستخدامه الفلسفة وسيلة وأداة لإيضاح والتعبير عن الوحي
No Result
View All Result
Discussion about this post