عظـة في النبي إيليّــا ..
للقدّيس يوحنا الذهبي الفم
إيليّا النبي الملاك الأرضي والإنسان السماوي الفقير والغني. فقير لأنه لا يملك شيئاً وغني لأن غيوم المطر يملكها في لسانه. كان كلامه قاطعاً تجاه الخطأة عندما صلّى حتى لا يكون مطر. ماذا قال؟
“حيٌ الرب الذي أنا واقف أمامه إنه لا يكون على الأرض ندىً ولا مطر إلا عند قولي” (1ملوك 1:17).
ماذا تصنع يا إيليّا؟ أتعتقد أنك تصلي إلى السيد وهو يتمم قولك؟ هو لا يصلي ولا يتوسل بل يعرض قولاً حقاً فيقفل ميزاريب السماء.
لقد فعل إيليا كل ذلك عن حماس وغيرة. كان يرى الزنى يسلك مع كل شر والظلام يظلل المسكونة كلها. الفضيلة تُطرد والرذيلة تُقبل. فتدنست الجبال والسهول، الأرض والهواء ودخل مرض الصنمية في الخليقة كلها. الإنسان يلطّخ الطبيعة يلوّث البيئة. يرون حجراً فيسجدون له، يرون خشبة فيظنونها إلهاً. إيليا وحده يُمسك على التقوى وصباحاً يجلس على جبل فلسفة الفضيلة ناسكاً.
كان النبي إيليّا يتألم، ويوبّخ ولا أحد يسمع. خرج صوته وللحال جفّت الأرض. وأخذ الأولاد يبكون من الجوع والأمهات يتحسرن والحيوانات تموت من انتفاء المياه. ماذا قال الله له؟
“امض من هنا وتوجّه شرقاً وتوار عند نهر كريت الذي تجاه الأردن فتشرب من النهر وقد أمرت الغربان أن تقوتك هناك” (1ملوك 3:17-4).
لكن ما حلّله الرب من خليقته ليغذي به أنبياءه لا يعود دنساً. ثم ماذا حصل؟ “كان بعد أيام أن جفّ النهر فقال له الرب”: “امض إلى صرفت من أعمال صيدون فقد أمرت هناك امرأة أن تقوتك” (1ملوك 9:17).لقد أمره الله بسلوك الطريق الطويل لا ليطعمه فقط بل ليجعله أيضاً يشعر بالجوع وبمأساة الشعب. فيعود ويتحنن عليهم ويرسل لهم مطراً من جديد.
وصل إيليا إلى صرفت صيدا “فإذا هناك أرملة تجمع حطباً. فدعاها وقال: هاتي لي قليل ماء لأشرب وهاتي لي كسرة خبز لآكل” (1مل 10:17-11).
الماء أولاً ثم الخبز. وقال لها إيليا “لا تخافي. ادخلي واصنعي كما قلت. إن جرة الدقيق لا تفرغ وقارورة الزيت لا تنقص إلى اليوم الذي فيه يرسل الرب مطراً على وجه الأرض” (1مل 13:17-14).
ماذا تصنع يا إيليا. تريد أن تأكل خبزاً وحدك والأولاد يجوعون؟ لماذا لا تنتظر وتشكر الله لكي تأكل مع الأولاد وتفرح بازدياد؟ يجيب أنا لا أريد موت الأولاد بل أود أن أحسن إليهم من فيض محبة السيد للبشر.
لكن الأرملة لم تضطرب ولم تقل أنت الذي حبس المطر وسببت الجوع وتريد أن تغتذي؟ بل على العكس كامرأة ابراهيمية مضيفة للغرباء ذهبت وعملت بأمر النبي. كان إبراهيم غنياً فأضاف ملائكة. أما هنا فالمرأة فقيرة جائعة فأضافت النبي. ازدرت بالطبيعة وكرّمت الغرباء. فحصل حسب نيتها وإيمانها بمحبة الله للبشر. عاشت هي وولدها.
أنا من جهتي لا أعرف كيف أمدحها بعد كل ما عملته. كيف أهملت ابنها واهتمت بالضيف…وكي أختصر الكلام ذهب النبي بعدها إلى آخاب ملك اسرائيل. ماذا قال الملك؟
“أأنت إيليا مقلق إسرائيل؟ فقال له لم أقلق اسرائيل أنا بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب واقتفائكم البعل” (1 مل 17:18-18). ألاحظت دالة النبي وشجاعته؟ كيف يوبّخ الملوك؟
ثم طلب من الملك أن يجمع أنبياء البعل وعددهم 450 وأنبياء عشتروت 400 وقال فليؤت لنا بثورين فيختاروا لهم ثوراً ثم يقطعوه ويجعلوه على الحطب ولا يضعوا ناراً. وأنا أيضاً كذلك. ثم تدعون أنتم باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب والذي يجيب بنار فهو الإله؟ (1 مل 23:18-24).وهكذا صار فلم يجبهم أحد. فسخر منهم النبي. ثم بنى مذبحاً للرب ووضع الحطب والثور المقطع وقال املأوا أربع جرار ماء وصبّوا على المحرقة ثم قال ثنّوا ثم ثلّلثوا وصلّى هكذا:
أيها الرب إله إبراهيم واسحق واسرائيل. استجبني يا رب استجبني. ليعلم هذا الشعب أنك أنت الإله. فهبطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب. (راجع الاصحاح كله 1 ملوك 18 وكيف قتل أنبياء البعل).
سمعت إيزابيل إمرأة آخاب ما صنعه إيليا فغضبت وقالت له: “سوف أجعل نفسك في مثل الساعة من غد كنفس واحد من الأنبياء الذين قتلتهم” (1مل 2:19). فخاف إيليا وهرب من وجه الملكة.
ماذا فعلت يا إيليا؟ أنت تقفل السماء وتُنزل على المحرقة. كل ذلك بكلمتك وتوبّخ الملوك وعندما تسمع كلام الملكة الزانية تهرب؟ أين حماسك وغيرتك، أين شجاعتك؟ لقد كنت وسيطاً لحبس المطر ولمجيء الشرور لتصير مبدأ الخيرات لأن الله المحب البشر عندما يرى المأساة يتحنن ويرحم.
كم هي حكمة الله الجزيلة. يؤدب ويرحم، يجرح ويعصب، لقد خاف مرة بطرس المتقدم في الرسل من فتاة جارية وهنا النبي العظيم إيليا يخاف من امرأة زانية. يريد الله من كل ذلك أن العجيبة هي من صنع قوته لا من عمل وجهاد البشر. عندما تغيب النعمة توبخ الطبيعة.
***
بعد أن سار إيليا أربعين يوما وصل إلى جبل حوريب ودخل مغارة وبات فيها فقال الرب له: ما بالك ههنا يا إيليا؟ أجاب:
“إني غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد نبذوا عهدك وقوّضوا مذابحك وبقيت أنا وحدي وقد طلبوا نفسي ليأخذوها” (1 ملوك 9:19-10).
تغضب الملكة فيخاف النبي ويهرب أربعين يوماً في البرية. يخطئ قليلاً ويؤدّب كثيراً فيظهر عمل النعمة وتفيض محبة الله للبشر.
لقد أهّل النبي بعد هذه التجارب لرؤية الله لا في الريح بل بعده، لا في الزلزلة بل بعدها لا في النار بل بعدها، في صوت نسيم لطيف وهناك كان الرب (1 ملوك 11:19-12).
إذاً عندما تخطئون لا تيأسوا من خلاصكم ومن رجاء هذا إذا كنتم صدّقين. لقد ظهرت فضائل النبي الكثيرة وكذلك خطاياه فأبرزت نعمة الله الغزيرة له وللشعب.
عندما تقرأ الكتب تثبت في الصدق والعدل متذكراً ملكوت السماوات الذي ينتظرك مع الخيرات التي أعدّها الله للذين يحبونه له المجد الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post