فلتعبر عني هذه الكأس
القديس يوحنا ذهبي الفم
تجنب أيضا الموت لكي يُظهر البعد الانساني وضعف الطبيعة التي لا تريد أن تموت وتغادر الحياة الحاضرة, لأنه لو لم يقل شيئا من كل هذا لكان من الممكن أن يقال:
لو كان إنسانا لكان ينبغي أن يعاني الأمور الإنسانية, وما هي الأمور الإنسانية لذلك الذي سيُصلب ولم يجبن, وجاهد ولم ينفصل عن الحياة الحاضرة؟
لأن الطبيعة الانسانية تميل إلى محبة الأمور الحاضرة, ولهذا تحديدا ولأنه أراد أن يظهر حقيقة تجسده ويؤكد التدبير الإلهي, فهو يعرض بآلامه دليلا قويا وشكل واضح, هذا هو أحد الأسباب ولكن يوجد سبب آخر لا يقل أهمية عن هذا السبب, وما هو هذا السبب؟
عندما أتى المسيح, أراد أن يُعلم الناس كل فضيلة. والمعلم لا يُعلم بالكلام فقط, بل بالأعمال أيضا, فهذا هو التعليم المتميز للمعلم. لأن قائد السفينة أيضا, عندما يضع تلميذه بجواره يوضح له كيف يجب عليه أن يمسك بعجلة القيادة, لكنه بعد فترة يتحول الكلام الي عمل, ولا يتكلم فقط بل أنه يعمل أيضا.
وهكذا أيضا بالنسبة لمن يعمل في حقل البناء, بعدما يضع إلى جواره من يريد أن يتعلم كيفية بناء الحائط, يُبين له ذلك عمليا, بالاضافة الي الشرح بالكلام أيضا.
نفس الشئ, يصنعه النساج, والطرٌاز, وصانع الذهب, وصانع النحاس, وهكذا, فكل فن أو عمل له معله الذي يعلمه بالكلام والعمل. لأن المسيح أتي لكي يُعلمنا كل فضيلة, فهو يقول كل ما ينبغي أن نفعله, كما انه يفعل كل ما يُعلم به, كما قال هو نفسه:
مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ (مت 5: 19)
لكن لاحظ أنه أوصي أن نكون متضعين وودعاء, وقد علَم هذا بالكلام. وأوضح كيف أنه علم هذه الأمور بالأعمال أيضا. لأنه يقول: طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ(مت 5:5) طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ (مت 5: 7)
مُظهرا كيف ينبغي أن نُحقق هذه الفضائل, انظر كيف علمها؟
أخذ منشفة واتزر بها وغسل أرجل تلاميذه (يو 13: 4-5) هل هناك شئ يُعادل هذا الاتضاع؟ لأنه لم يعلمه بالكلام فقط, بل بالأعمال أيضا. أيضا الوداعة والتسامح يعلمها بالأعمال.
كيف؟ لقد لُطم من عبد رئيس الكهنة, وقال: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟(يو 18: 23). وقد أمر أن نصلي من أجل أعدائنا. وهذا أيضا علمه بالأعمال, لأنه عندما كان علي الصليب قال: يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لو 23: 34).
فكما أوحي أمرنا أن نصلي (من أجل أعدائنا). وهو نفسه صلي لأجل صالبيه, فهو لم يتوقف عن أن يُسامح في أي وقت. وقد أوصانا أيضا أن نحسن إلى كل من يبغضنا, وأن نصنع ما يعود بالفائدة علي كل من يؤذينا. وهذا فعله بالأعمال.
لأنه طرد الشياطين من اليهود, هؤلاء الذين قالوا ان به شيطان (يو 8: 48) أحسن إلى من اضطهدوه, أطعم أولئك الذين دبروا له المكائد, قاد أولئك الذين أرادوا أن يصلبوه الي ملكوت السموات. قال أيضا لتلاميذه لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ (مت 10: 9)
وكان مثلا أعلى لهم في التجرد. هذا أيضا قد علمه بالأعمال قائلا: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ(مت 8: 20) ولم يكن له مائدة, ولا بيتا, ولا أي شئ مما شابه ذلك. ليس لأنه كان فقيرا, بل لأنه علم الناس أن يتبعوا هذه الطريقة في الحياة.
وبنفس هذه الطريقة, علمهم أيضا أن يصلوا, عندما قالوا له عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ (لو 11: 1). ولهذا قد صلي, لكي يعلمهم أن يصلوا. لكن لي فقط أن يُصلوا, بل كان عليهم أن يتعلموا أولا كيف يجب أن يصلوا. ولهذا سلمهم أيضا الصلاة كالآتي:
أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ (مت 6: 9-13),
أي لا تدخلنا في أخطار ومكائد, إذ لأنه أمرهم أن يصلوا وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ (مت 6: 13) هذا بالتحديد ما علمهم اياه بالعمل, قائلا : يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ (مت 26: 39), معلما إياهم ألا يندفعوا نحو الأخطار والتجارب, ولا أن يفقدوا شجاعتهم, بل أن يحتملوها أو يصبروا عليها عندما تأتي, ويظهروا كل شجاعة, لكن دون أن يركضوا نحوها قبل أن تأتي, ولا أن يندفعوا أولا نحو المصاعب.
لكن لماذا ؟ لكي يُعلمهم الاتضاع, ولكي يحررهم من اتهامات المجد الباطل. ولها تحديدا, هذا أيضا عندما قال هذا ابتعد وصلي (لو 22: 41) , وبعد الصلاة قال لتلاميذه أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟. اسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. (مت 26: 40-41).
أرأيت أنه لا يصلي فقط, بل وينصح أيضا أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ (مت 26: 41), وهذا قد قاله لكي يطرد الافتخار من نفوسهم, ولكي يحررهم من الكبرياء, ويجعلهم حذرين ومتواضعين. إذا فهذا ما أراد أن يُعلمه لهم, لكي يصلوا, وفعل الابن نفسه هذه الأشياء, فقد صلى كإنسان, ليس بحسب الطبيعة الإلهية (لأنه من حيث الطبيعة الإلهية هو لا يعاني أي شئ), لكنه كان يعاني بحسب الطبيعة الإنسانية.
إذا فقد صلى لكي يعلمنا كيف نصلي, وأن نطلب دوما الخلاص من المصاعب. ولكن إن لم يكن هذا ممكنا بالنسبة لنا, فلنحتمل كل ما هو حسنا أمام الله.
لهذا قال لكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ (مت 26: 39), بالتأكيد ليس لأن إرادته شئ وإرادة الله هي شئ آخر, بل لكي يُعلم البشر أنهم حتى في الحالة التي يجاهدون فيها أو يرتعدون أو التي يأتي فيها خطر ما
أو عندما لا يريدون أن يغادروا الحياة الحاضرة, فليفضلوا إرادة الله على إرادتهم. هذا بالضبط ما تعلمه القديس بولس وأظهر الاثنين بالأعمال, لأنه طلب أن تبتعد عنه التجارب قائلا: مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي (2كو 12: 8) ولأن هذا لم يكن حسنا أمام الله, يقول: لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَ الشَّتَائِمِ وَ الضَّرُورَاتِ وَ الاِضْطِهَادَاتِ وَ الضِّيقَاتِ (2كو 12: 10), ربما يكون ما يقل غير واضح, إذا سأجعله أكثر وضوحا. لقد تعرض الرسول بولس لمخاطر كثيرة مرات عديدة.
وصلى ألا يتعرض لمخاطر. اسمع ماذا قال له المسيح آنذاك تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ (2كو 12: 9).
إذا فبعدما رأي أن هذه هي إرادة الله, أخضع إرادته لهذه الإرادة بعد ذلك. إذا هذان الأمران قد علم بهما بواسطة هذه الصلاة, أي ألا نلقي بأنفسنا في الأخطار, بل ونصلي ألا نغامر بالدخول فيها. أما إذا أتت فلنتحملها بشجاعة وأن نفضل إرادة الله على إرادتنا.
إذا ونحن نعرف هذه الأمور, علينا أن نصلي ألا ندخل أبدا في تجربة.
وإن دخلنا نتوسل إلى الله أن يعطينا الاحتمال والشجاعة, وأن نفضل إرادته على كل إرادة أخرى. لأنه هكذا سنعبر هذه الحياة الحاضرة في أمان, وسننال خيرات الدهر الآتي, والتي أرجو أن ننالها جميعا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ ترجمت عن مجموعة كتابات آباء الكنيسة باليوناني مجلد 26
+ ترجمها للعربية د. سعيد حكيم يعقوب وراجعها د. نصحي عبد الشهيد
المصدر : مدونة كتابات الآباء القديسين
Discussion about this post