الكلمة صار جسدا وحل بيننا
القديس يوحنا ذهبي الفم
“وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا”(يو 1: 14) فبعدما قال إن كل الذين قبلوه ولدوا من الله وصاروا أبناء الله, يعرض الآن لسبب هذا الشرف الغير موصوف وأساسه.
هذا الشرف هو أن الكلمة تجسد والرب أخذ شكل العبد, صار ابن الانسان بينما كان ومازال هو ابن الله الحقيقي, لكي يجعل أبناء البشر أبناء الله, لأن العظيم عندما يأتي إلى الوضيع فإنه لا يفقد شيئا من مجده بل يرفع الوضيع ويقيمه من وضاعته.
إحسنا لقد حدث هذا في حالة المسيح, إذ لم يعتر طبيعته نقص ما بسبب تنازله إلينا, بل نحن القابعون في المهانة والظلمة رفعنا إلى المجد الفائق, وهذا هو ما يحدث بالضبط عندما يتعطف الملك فيتحدث مع أحد الفقراء بحنو, فهو لا يسبب لنفسه أي خزي أو عار, بينما يصير هذا الفقير علما ويصير ممجدا من الكل, فإذا كان الأمر على هذا النحو من جانب البشر, فلا يصيب الضرر من يتمتع منهم بمكانة عالية إذا ما خالطوا من هم أقل منهم في المرتبة,
فكم بالأكثر يكون الأمر بالنسبة للجوهر الطاهر والطوباوي الذي لا يستمد شيئا من خارجه, وهو غير قابل للتحول بل يملك كل الصالحات بثبات وعدم تغير.
هكذا عندما تسمع قول الكتاب “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً”(يو 1: 14) لا يضطرب ذهنك ولا تشعر بصغر النفس, لأن الجوهر الإلهي لا يتغير إلى جسد, فمجرد التفكير في هذا يعتبر كفرا, لكنه ظل كما هو آخذا شكل العبد.
لقد استخدم الإنجيلي الفعل “صَارَ” لكي يسد أفواه الهراطقة, لأن هناك من يقول أن كل أحداث التدبير الإلهي كانت مجرد خيال, فلكي يفند مسبقا تجديفهم, استخدم الفعل “صَارَ” الذي لا يعني أن جوهر الله قد تغير, بل يعني أنه اتخذ جسدا حقيقيا, وبالمثل تماما المكتوب : “اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»”(غل3: 13) فهو لا يعني أن الجوهر انفصل عن مجده وتغير إلى لعنة,
فمثل هذا التفكير لا يجرؤ عليه حتي الشياطين,. فهو تفكير غبي وكفر صريح, هكذا فالمعني الصحيح هو أنه قبل اللعنة ولم يتركنا لنكون بعد ملعونين.
هكذا بالمثل فعندما يقول الكتاب المقدس أنه “صَارَ جَسَداً” فهو لا يعني أنه غير جوهره إلى جسد لكن اتخذه بينما ظل جوهره كما هو غير مقترب اليه.
وإن زعموا أنه إله وأنه يستطيع فعل كل شئ وبالتالي يمكنه أن يتغير إلى جسد, نقول لهم: نعم يستطيع أن يفعل كل شئ على أن يظل إلها كما هو, فكيف يكون إلها إذا ما اعتراه تغيير, وما بالكم لو كان هذا التغيير للأسوأ ؟!!
لا شك أن التغيير يعتبر أمرا غريبا على الطبيعة الإلهية الطاهرة, لذلك قال النبي “مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ. وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ.”(مز 102: 25- 27)
هكذا فإن جوهر الله فوق أي تغيير ولا يوجد ما هو أسمى منه, وبالتالي يكون مستحيلا أن يقبل تغييرا لأنه لن يكون في هذه الحالة “الله”. لذا دعونا نترك نتيجة هذه التجاديف تحيق بمن ينطقون بها.
وأما إنه قيل عنه أنه “صَارَ”, فلكي لا يُظَن انه مجرد خيال. وعلينا ان نلاحظ كيف أوضح الأمر بما قاله بعد ذلك, فلكي يفند ظنهم الشرير أضاف“وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يو 1: 14)
فلا يأتي على ذهنك أمر سخيف نتيجة استخدامه للفعل “صَارَ” بمفرده, فهو لم يقل أن الطبيعة غير المتغيرة تغيرت, بل قال “حَلَّ” أو “سكن” أو “خيم”, والفعل “خيم” يختلف عن كلمة “خيمة” إذ هو يعني شيئا آخر وإلا فأنه يكون قد خيم في ذاته, فهو يعني به الاتحاد بين الكلمة والجسد دون أن يحدث اختلاط أو زوال للجوهر بل اتحاد لا ينفصل اتحاد سري فائق للوصف, أما عن كيف حدث هذا؟ لا تسل, لأنه فقط “صَارَ” كما أعلن لنا.
اسمع النبي يقول “فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أُقِيمُ مَظَلَّةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ” (عا 9: 11)
فقد سقطت حقا طبيعتنا جثة هامدة بلا شفاء ولا تقدر أن تسد احتياجها إلى يد الله القدير, فلم تكن هناك طريقة أخرى لكي تقوم طبيعتنا البشرية من موتها سوى أن تمسكها نفس اليد التي خلقتها منذ البدء فتجددها بالولادة الفوقانية من الماء والروح.
اتنبه أيضا إلى هذا السر العظيم المخفي, أن سكناه في الخيمة سُكني دائمة, فهو لم يأخذ جسدنا لكي يتركه ثانية بل أخذه ليكون معه علي الدوام, وان لم يكن الأمر علي هذا النحو لما جعله مستحقا للعرش الملوكي ولا للسجود من جنود الملائكة السماوية ورؤساء الملائكة والكراسي والربوبيات والسلاطين.
وأتساءل: ما هو السبب في كل ذلك؟ أي عقل يمكنه أن يصف عظيم هذا الشرف الذي صار لجنسنا؟ حقا يالها من كرامة عظيمة تفوق الطبيعة!
هل يستطيع الملاك أن يصف هذا الشرف العظيم؟ هل يستطيع ذلك رئيس الملائكة؟ لا أحد إطلاقا لا في السماء ولا علي الأرض لأن إحسانات الله عظيمة وانجازاته تفوق الطبيعة,
حتى أن السرد التفصيلي لها يستعصي ليس فقط على اللغة البشرية بل وعلى القوات الملائكية أيضا. لذلك دعونا ننهي حديثنا حالا, ونلوذ بالصمت متذكرين أننا رجوناكم أن تتقبلوا ما أنعم به الله عليكم من مكافآت عظيمة, وما يعود عليكم منها من نفع. تلك المكافآت تنالونها عندما تهتمون بأنفسكم وتنصتون لأقوال الله, لأن هذا هو عمل محبته للبشر.
فالله لا يحتاج الينا في شئ لكنه يغدق علينا نعمته العظيمة عندما نعتني بأنفسنا. وإذا كنا نستمتع بهذه الكرامة دون أن نقدم ما هو في مقدورنا ألا نكون مستحقين لأن نُتهم بالجنون؟
إن الآلاف من الخيرات الصالحة تنتظرنا بسبب مجئ الله إلينا بالجسد, لأجل هذا ليتنا نمجد الله محب البشر ليس فقط بالكلام لكن بالحري بالأعمال, لكي نستمتع بالخيرات الصالحة التي هي من نصيب الكل بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر, الذي نعطي له المجد مع الآب في الروح القدس إلى الأبد آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ ترجمت عن pg 59, 77-86 و eπe13, 106-139
+ ترجمها عن اليونانية د. جورج عوض ابراهيم وراجعها د. نصحي عبد الشهيد
المصدر : مدونة كتابات الآباء القديسين
No Result
View All Result
Discussion about this post