الطريق إلى الملكوت
القديس مكاريوس الكبير
يا أولادي الاحباء, عظيم هو مجد القديسين, فينبغي أن نفحص عن تدبيرهم الذي نالوا بواسطته هذا المجد, وبأي عمل وبأي طريق وصلوا إليه, وقد علمنا أنهم لم يشتروه بغني هذا العالم, ولا حصلوا عليه بصناعة ما أو بتجارة ما, ولا اقتنوه بشئ مما يملكون, إذ أنهم تمسكنوا وتغربوا عن هذا العالم وجالوا جياعا فقراء,
فعلى ما أراه أجد أنهم نالوا ذلك المجد العظيم بتسليمهم ذواتهم وتدبيرهم أمورهم ونياتهم لله, فأخذوا إكليل المجد السمائي, فما الذي كان لهم وليس هو لنا ؟
سوى أنهم تركوا أهويتهم كلها من أجل الرب وتبعوه حاملين الصليب, ولم يفصلهم شئ آخر عن محبته تعالى, لأنهم لم يحبوه أكثر من الأولاد فقط مثل ابراهيم, بل وأكثر من ذواتهم أيضا كما يقول بولس الرسول إن لاشئ يستطع أن يفصله عن حب الله (رو 8: 35).
فالآن أيها الأحباء جاهدوا واصبروا إلى الموت كالقديسين لتصيروا مسكنا لله, إن أحببتم بعضكم بعضا فإن الله يسكن فيكم وإن كان في قلوبكم شر فلن يسكن الله فيكم, احذروا الوقيعة لئلا تصيروا كالحية أواني للشيطان,
احفظوا أسماعكم من كلام النميمة فتكون قلوبكم نقية, واهربوا من كل ما ينجس القلب, أكرموا بعضكم بعضا ليكون السلام والمحبة بينكم, فقد كُتب: لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ (اف 4: 26) , قبلوا بعضكم بعضا بقبلة السلام, وذلك ليخزى عدو السلام ويفرح اله السلام وتكونون له بنين, لأنه قال إن فاعلي السلام أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ (مت 5: 9), صلوا بالروح دائما كما أمر الرسول (1 كو 14: 15)
اتضعوا لإخوتكم, اخدموهم حسب قوتكم لأجل المسيح لتنالوا منه الجزاء فقد قال له المجد: ما تصنعون بهم فَبِي فَعَلْتُمْ(مت 25: 40).
إن كل أعمالنا نجدها ساعة مفارقة أنفسنا لأجسادنا, فقد كُتب إن اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ (عب 6: 10),
ليكن تعب أجسادكم هواكم ومشتهاكم ومحبوبا لديكم, ولا تستسلموا للانحلال والكسل فتندموا يوم القيامة, بينما يلبس أكاليل المجد أولئك الذين قد أتعبوا أجسادهم وتوجدون أنتم عراة بخزي أمام منبر المسيح بمحضر الملائكة والناس جميعا,
لا تنعموا أجسادكم في هذا الزمن اليسير بالطعام والشراب والنوم لئلا تعدمون الخيرات الدائمة التي لا توصف, فمن ذا الذي تكلل قط دون جهاد
ومن استغنى بدون عمل ؟ ومن ربح ولم يتعب أولا أي بطال جمع مالا ؟ أو أي عاطل لا تنفذ ثروته ؟ إنه بأحزان كثيرة ندخل ملكوت السموات.
فليحرص كل منكم على قبول الأتعاب بفرح عالما أن من ورائها كل غنى وكل راحة, أما الذي لا يستطيع أن يحتمل الأتعاب لضعف أو أمراض, فليمجد أولئك الذين يتعبون ويغبطهم كما يفرح معهم في خيراتهم.
لا تقبلوا في فكركم ولا تصفوا في كلامكم أي إنسان أنه شرير, لأن بطرس الرسول يقول : قَدْ أَرَانِي اللهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ (اع 10: 28),
فالقلب النقي ينظر كل الناس أنقياء, فقد كُتب أن كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ(تي 1: 15) والقلب النجس ينجس كل أحد, لأن كل شئ للأعمى ظلام, هوذا الرب قد حلنا من عبودية الشيطان,
فلا نعود نربط أنفسنا أو نستعبدها بسوء رأينا, احفظوا ما كلمتكم به ليكون لأنفسكم منه دواء وصحة, ولا تجعلوه شاهدا عليكم, لأنه سيأتي وقت فيه تطالبون بالجواب عن كلامي هذا.
تمسكوا بالتوبة واحذروا لألا تصطادون بفخ الغفلة, لا تتهاونوا لئلا تكون الطلبة من أجلكم باطلة, داوموا على التوبة مادام يوجد وقت,
فإنكم لا تعرفون وقت خروجكم من هذا العالم, لنعمل مادام لنا زمان لنجد عزاء في وقت الشدة, فمن لم يعمل ويتعب في حقله في أوان الشتاء لن يجد في الصيف غلة يملأ بها مخازنه ليقتات بها,
فليحرص كل واحد على قدر طااقته, فإن لم يمكنه أن يربح الخمس وزنات فليجاهد كي يربح اثنتين, أما العبد الكسلان الذي لا يعمل ولا يربح فمصيره العذاب, طوبى لمن يجاهد بكل قوته فإن ساعة واحدة في نياحته تنسيه جميع أتعابه.
فويل وويل لمن تغافل وكسل لأنه سيندم حيث لا ينفع الندم. لا تكملوا شهوات الجسد لئلا تحرمون من خيرات الروح, فإن الرسول قد كتب: أَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ(رو 8: 6)
افرحوا بكمال إخوتكم, وضعوا نفوسكم لهم, وتشبهوا بهم, واحزنوا على نقصكم, اصبروا للتجارب التي تأتي عليكم من العدو, واثبتوا في قتاله ومقاومته, فإن الله يعينكم ويهبكم أكاليل النصرة, فقد كُتب طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (يع 1: 12), لا غلبة بدون قتال, ولا إكليل بدون غلبة, اصبروا إذن فقد سمعت قول الرب لأحبائه:
أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا (لو 22: 28-29) وقوله ايضا ان الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ (مت 10: 22),
وقد قدم لنا نفسه مثالا كيف نصبر إلى المنتهي, ففي الوقت الذي كان فيه يسب ويعير ويهان من اليهود نراه يتراءف عليهم ويحسن إليهم فكان يشفي أمراضهم ويعلمهم وقبل الآلام بجسده وصبر حتى الصلب والموت, ثم قام بالمجد وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله.
اشكروا الرب في تعبكم, من أجل الرجاء الموضوع أمامكم اصبروا في البلايا لتنالوا أكاليل المجاهدين, اغفروا لبعضكم بعضا لتنالوا الغفران, فقد قال الرب: اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ (لو 6: 37), داوموا على حفظ هذه الوصية فإن ربحها عظيم ولا تعب فيها, كونوا أبناء السلام ليحيل سلام الرب عليكم, كونوا أبناء المحبة لترضوا محب البشر, كونوا بني الطاعة لتنجوا من المحتال,
إن أول العصيان كان من آدم أبينا في الفردوس بسبب شهوة الطعام, وأول الجهاد من سيدنا المسيح كان في البرية في الصيام, وتعلمنا من التجربة أن الراحة والطعام هما أسباب الضلال,
والصوم هو سبب الغلبة والنصرة, فصوموا مع المخلص لتتمجدوا معه وتغلبوا الشيطان, والصيام بدون صلاة واتضاع يشبه نسر مكسور الجناحين.
احتفظوا بحرصكم ولا تهربوا من أتعابكم, فإن الطوبى لمن لازم التوبة حتى يمضي إلى الرب, لازموا السهر وقراءة الكتب, وثابروا على الصلاة, وأسرعوا إلى الكنيسة, ونقوا قلوبكم من كل دنس لتستحقوا التناول من جسد المسيح ودمه الأقدسين فيثبت الرب فيكم, فبهذا السر العظيم تُحفظون من الأعداء, فمن يتهاون بهذا السر فإن قوات الظلمة تقوى عليه فيبتعد عن الحياة بهواه,
فلنتقدم إلى الأسرار المقدسة بخوف وشوق وإيمان تام, ليبعد عنا خوف الأعداء, بقوة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد إلى الأبد آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ من كتاب بستان الرهبان عن آباء الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية
+ العظة قدمها القديس بناء علي طلب شيوخ البرية كوصية منه لهم وللشعب قبل انتقاله للأمجاد السماوية
No Result
View All Result
Discussion about this post