في ذكرى ختانة السيد المسيح
وتذكار القديس باسيليوس الكبير ورأس السنة الجديدة
المطران الياس عودة
اليوم السيد يختتن بالجسد كطفل، متمما الشريعة.
لقد قال الله لابرهيم :
“وأما أنت فتحفظ عهدي. أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم: وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك… فيكون عندي في لحمكم عهدا أبديا” (تك 9:17 – 13).
الختان علامة طاعة لله في كل شيء، وعلامة انتماء إلى الشعب الذي قطع عهدا مع الله، ورمز لقطع الحياة القديمة، حياة الخطيئة، وتطهير قلب الإنسان لله والتكريس الكلي له.
الختان علامة للعهد بين الله وابرهيم وكل بني اسرائيل. هو علامة خارجية لهم بأنهم شعب الله. وعدم الختان يعني عدم الانتماء إلى الله والابتعاد عن بركاته وطاعته.
هذا كان في العهد القديم. أما في العهد الجديد، فالعهد حصل بتجسد ابن الله “لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة بل الإيمان العامل بالمحبة” (غلا 5: 6).
لا حاجة بعد إلى ختان الجسد، لأننا حصلنا على ختان القلب. الختان هذا ليس خارجيا، بل داخلي وليس مصنوعا بالأيدي بل بالروح القدس. “ختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله” (رو 2: 29)
ولا يكون بقطع جزء من اللحم بل بقطع الجسد كله، جسد الخطيئة، والعملية ليست بآلة حادة، بل بمياه المعمودية التي فيها تمات الخطيئة ونحيا لله بيسوع المسيح، لأننا “كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة” (رو6: 3-4).
المسيح حمل هو نفسه خطايانا في جسده وسمرها على الخشبة لكي نموت نحن عن خطايانا فنحيا للبر (1 بط 2: 24).
موت الرب على الصليب كان بمثابة ختانة لخطايانا التي حملها. المعمودية اصبحت موتا للخطيئة، للإنسان القديم، وطاعة مطلقة لمشيئة الله بالنسبة إلى الإنسان الجديد. صار الإنسان بالمعمودية ملتزما أن يحيا حياة جديدة جوهرها الطاعة لله.
هذا الالتزام هو العهد الذي قطعناه مع الله عندما لبسناه: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم”.
إذاً نحن ملتزمون الطاعة لله في المحبة. هذا هو العهد الذي قطعناه على أنفسنا. وهذا الالتزام يمتد ليكون مع النفس ومع الآخرين.
قد يقطع الإنسان عهدا مع نفسه، يلتزمه ويعمل بمقتضاه، كأن يسلك في الفضيلة أو يقلع عن عادة سيئة أو يتم دراسة ما أو ينهي اختصاصا… والإنسان الجدي يحاسب نفسه.
وعند كل منعطف من حياته يتوقف متأملا في ما أنجزه وما بقي عليه أن ينجزه، أي يقيم ما قام به، وهل كان على قدر التزامه، وهل هو راض عن نفسه، أم خذلها وتعثر ولم يتم ما تعهد به تجاه ذاته.
الحياة مليئة بالعثرات، والإنسان الخلوق الصادق الذي يفي التزاماته قد يواجه المصاعب، وقد يفشل ويسقط. لكن المهم أن ينهض ويتابع المسيرة ويتعلم من التجارب لكي يحمي نفسه مما قد يعترضه في المستقبل.
وعليه بخاصة ألا يتأثر بالانتقادات التي قد يكون سببها الحسد والغيرة وغايتها ثنيه عن هدفه، لأن فاعلي الخير في هذه الأيام قلة، والشر هو الراعي الأول للنفوس الضعيفة، وهي كثيرة.
قد يقطع الإنسان أيضا عهدا مع الإنسان الآخر. والتزام العهد هنا قد يكون أصعب، لأنه متعلق بشخصين، لا بالفرد مع نفسه. الصداقة عهد بين إنسانين، والزواج عهد واتحاد بين شخصين، والعمل والعقود التي قد تنتج عنه أيضا التزامات بين أشخاص عليهم أن يكونوا أمناء لأنفسهم أولا وللآخر أو الآخرين الذين يعملون معهم أيضا، لأن من لا يحترم نفسه، لا يحترم الآخر.
ومن لا يفي بعهد قطعه مع نفسه، كيف يكون وفيا لالتزاماته مع الآخرين؟ إن الأمين على القليل هو بالتأكيد أمين على الكثير، ومن لا يأبه لما يخصه لن يهتم بما يخص غيره. ومن لا يحب أخاه بالجسد لن يحب من هو غريب عنه وبعيد.
الالتزام تجاه الآخر لا يكون جديا وحقيقيا إن لم يكن صادرا عن إنسان معروف بأخلاقه الرفيعة واحترامه للقيم والأعراف والقوانين والتقاليد وكل ما يجعل من النفس البشرية نفسا وديعة هادئة اجتماعية تقبل الآخر وتحترم فرديته، أو بالأحرى فرادته، رغم اختلافه عنها.
في القديم كانت الكلمة وحدها عهدا بين شخصين، وكانت كافية لكي يلتزم الإنسان ما تفوه به ويعتبره دينا عليه، كما كانت كافية ليصدق الآخر ما قاله الأول ويعتمد عليه.
“وعد الحر دين”. أين نحن من كل هذا في مجتمعنا ونحن نسمع الكلام الفارغ والوعود العرقوبية والاستهانة بالإنسان كقيمة فكيف بالكلمة؟
الإنسان في لبنان فقد طعم السعادة لأنه أصبح يرى نفسه في مستنقع بشري لا يربط الواحد فيه بالآخر سوى المصلحة.
لذلك لم يعد للعهود معنى، ولا للكلام جدوى، ولم يعد أحد يصدق أحدا.
الصديق يخون صديقه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، والابن أهله، والمواطن وطنه، والمسؤول من أوصله إلى المسؤولية.
لقد قرب زمن الانتخابات، والوعود على الابواب. رجائي أن يتأمل كل من يطمح إلى النيابة في كل كلمة يتفوه بها أو وعد يقطعه لناخبيه.
وإذا لم يكن قادرا على تطبيق وعوده والوفاء بالتزاماته، فليختر ما هو قادر عليه، لأن احترامه في النفوس يترسخ عندما يكون صادقا وأمينا.
رجائي أيضا أن يكون كل طامح لوظيفة عامة أو لمركز قيادي حرا مع نفسه، صادقا مع نفسه ووطنه ومجتمعه، لأن وطننا لم يعد قادرا على النزف أكثر وعلى تحمل الأهدار والاتهامات المتبادلة التي يتراشق بها القيمون على مقدرات هذه البلاد.
وليقل كل واحد لنفسه إن لم يكن أخي بخير فأنا لست بخير. والوطن ليس بخير.
وإن افتقر بعض المجتمع، يفتقر الوطن بأسره، وإن ساء وضع البعض، يسوء وضع الجميع. وليهبوا جميعا إلى معالجة أي مشكلة في الوقت المناسب، لكي لا تصبح معضلة. المزايدات الكلامية التي نسمعها يجب أن تتحول مزايدات فعلية، أي ليتسابقوا على العمل، وليتفاخروا بالأفعال والإنجازات والساعات الطوال التي يقضونها في العمل، لا في الكلام. الحياة قصيرة ولا أحد يعرف متى تأتي ساعته. لذلك على كل منا أن يعي قيمة الوقت، فلا يهدره بل يستعمله لما فيه خيره وخير وطنه، ويملأه بالوعود الصادقة والالتزامات القابلة للتنفيذ، وليكن شعاره الصدق، ولا شيء سواه.
سؤال لا يفارق ذهني في كل الاوقات أود أن أطرحه على كل من يسمع: هل يعي الإنسان أنه سيموت؟ لو كان الإنسان يفكر في الحقيقة لما اقترف ذنبا ولا أخل بوعد أو بعهد، ولما أذى أخاه الإنسان أو أساء إلى نفسه وجسده ووطنه وشرفه وكرامته.
ولو كان الإنسان يفكر في هذه الحقيقة التي لا شك فيها، لما شن الحروب وقتل ودمر وعاث خرابا، وما حقد وخان وتفاخر بنفسه وانقض على أخيه كالوحش الكاسر.
هذا ما نشهده اليوم في غزة الشهيدة، حيث أشلاء الأطفال ودماؤهم تستصرخ الضمائر، إن كان هناك ضمائر، وصيحات الهائمين على وجوههم تستنجد بالعالمين سائلة ماذا يحصل، وما من جواب إلا انفجارات القذائف والقنابل واحمرار النار القاتم وسواد الدخان.
يعلمون أن هناك وحشا ضاريا يطاردهم ويطارد أهلهم والبيوت، ولا يسمعون بين فينة وأخرى إلا خطابا من هنا وكلاما من هناك وهياجا هنالك.
يتأكدون أن الذين هم من جلدتهم وعرقهم هم ظاهرة كلامية، وكما قال أحد أبنائنا الكبار “يتقنون الحفلات التأبينية للشهداء والتظاهرات “الشارعية” ويحولونها نهجا سياسيا من غير أن يدركوا أنها لا تبني الأوطان ولا تصد العدوان”.
أما نحن، فنرفع الصلاة إلى من هو قادر وحده على إنقاذ هذا الشعب المسحوق من هذا العدوان البربري والمجازر، وعلى رفع هذه اليد الظالمة الغاشمة عنه.
نسأله أن يرمي في قلوب جميع إخوتنا الفلسطينيين المحبة التي تتجاوز كل فعل أو قول يفرق بينهم، وأن يمنحهم الحكمة التي لا تدع الخلافات التي لا توازي الوحدة في الوجود تعوق المحبة.
عند هذا المفترق من حياتنا، وفي بداية هذه السنة التي أتمناها سلامية وخيرة، ليسأل كل منا نفسك ماذا سيقول لربه العادل عندما سيمثل أمام مجده؟ بم سيجيبه إن سأله ماذا فعلت بحياتك؟ وهل كنت أمينا لعهودك مع نفسك وإخوتك ووطنك ومعي؟ هل كنت صادقا في كل ما فعلت؟
القديسون يعلموننا أن الحياة كلها لا تكفي لكي يذرف الإنسان الدموع تكفيرا عن خطاياه.
فكيف إذا مضى منها ما مضى”؟
No Result
View All Result
Discussion about this post