إصلاح القلب
للقديس الأسقف ثيوفانس الحبيس
كأبناء للسقوط حُبل بنا بالآثام وأبصرنا النور بطبائع فاسدة، نحن نولد مجدداً في جرن المعمودية إلى حياة القداسة.
إذاً، إذا كان أحدٌ لا يستطيع أن يفتخر بأنه بلا دنس وبلا خطيئة، وفي الوقت نفسه لا يقدر، من دون أن يخالف ضميره، أن يرفض المهمة المقدسة التي هي تقديم نفسه لله كقديس، فما الذي يتوجّب عليه أن يضيئه ويحمّيه في قلبه غير التصميم الملهّم نحو تحسين الذات والغيرة الإلهية لتطهير القلب من كل شيء لا يرضي الله؟
إن تربية النفس في ما هو مقدس عمل صعب ومعقد جداً.إن الطريق إلى البِر تمر عبر تقاطعات مخفية كثيرة، وكل مَن يباشر بالنسك المطلوب لتغيير الذات، يجب أن يضع بدون خطأ رسماً تصميمياً مبدئياً في فكره لما هو صحيح ولكيفية عمله.
يجب عليه أن يحمل هذا البيان في فكره وقلبه بشكل ثابت حتى، باستعماله هذا الرسم كدليل صادق، يستطيع بدون تعويق وبثقة أكبر أن يوصل مهمته إلى نهاية ناجحة.
إذاً، ما معنى أنه يجب أن نصلح أنفسنا؟ تقريباً كل ما يتعلّق بهذا الأمر هو في داخلنا. الخطيئة تحب الاستبداد. إذا وجدَت مكاناً في قلبنا، فهي تسيطر وتنشر قوى الشر في كياننا، إذ إن الإنسان الخاطئ والبشرية الخاطئة هي الأمر نفسه.
كل شخص قادر أن يثبت بسهولة هذا الأمر لنفسه عن طريق امتحان قلبه الخاطئ عن كثب. وهناك سوف يكتشف لب الشر، بذرة الخطيئة، وكيف تظهر نفسها عندما تطفو.
إن بذور كل الشر الأخلاقي هي محبة الذات التي تكمن في أعماق القلب.
إن الإنسان، بحسب دعوته، يجب أن يتناسى نفسه وحياته ونشاطاته وأن يحيا فقط لله والآخرين مكرساً كل ما يصنع رافعاً عمله كضحيّة شكريّة للإله المخلّص. يجب أن يقدّم حياته وكل عمله بشكل كامل لخير إخوته، وينشر فوقهم كل ما يتلقى من الجوّاد أي من الله. إن الإنسان غير موجود بدون الآخر إذ إن محبة الله مستحيلة بدون محبة القريب، كما أن محبة القريب بدون محبة الله مستحيلة.
على المنوال نفسه، بمحبة الله والقريب، من المستحيل عدم تقديم الذات ضحيةً لمجد الله وخير الآخَر. إنما عندما يفصل أحد ما نفسه عن الله، بأفكاره وقلبه وشهواته، وبالتالي يفصل نفسه عن أخيه، طبيعي أن يسلك بحسب نفسه فقط. “أناه” تصبح المركز الذي يوجّه نحوه كل ما عدا ذلك، إلى درجة إهمال الوصايا الإلهية وخير الآخرين.
هنا إذاً، هو جذر الخطيئة. هنا هو بذر كل الشر الأخلاقي. إنه يخفي نفسه عميقاً داخل القلب إلى أن ينمو وينتشر ويطفو على الوجه ظاهراً في ثلاثة أشكال، ثلاث فروع، هي: رفع الذات، الاهتمام بها، ومحبة اللذة. الأولى تقود الإنسان إلى أن يقول في قلبه: “أنا الرقم واحد”، الثانية تقوده إلى القول: “أريد أن أملك كل شيء”، والثالثة: “أريد أن أحيا لمتعتي”.
“أنا الرقم واحد”. أيُّ نفس لم تختبر هذه الفكرة؟ أليس فقط أولئك الذين بطبيعتهم عندهم مواهب فائقة، أو الذين حققوا شيئاً مهماً أو نافعاً، هم معرّضون لرفع أنفسهم فكرياً فوق إخوتهم من البشر؟
رفع الذات موجود في كل العصور والمستويات والظروف. إنه يظلل المرء في كل مراحل الكمال الفكرية والأخلاقية ولا يقوم على أي شرط خارجي.
حتى لو كان المرء وحيداً معتزلاً بعيداً جداً عن الجميع، فهو ليس متحرراً أبداً من تجربة رفع الذات. لقد بدأ الإنسان يرفع نفسه فوق إخوته المخلوقين من لحظة تلقيه أول اقتراح متملق من الحية: “كونوا مثل الله”.
وكإله، بدأ بوضع نفسه فوق الموقع الذي وضعته فيه الطبيعة والمجتمع. هذا مرض كل منا وهو عندنا جميعاً. قد لا يبدو خطيراً أن يُطلق المرء لنفسه عنانها في التفكير بأنه أرفع من غيره. لكن أنظر فقط كم من الشر وكم من الظلمة ينشأ من هذه الفكرة التي تبدو لنا ظاهرياً بلا قيمة.
إن مَن يرفع نفسه فوق الآخرين في فكره وقلبه، يباشر أعماله بحسب صوت المنطق والضمير وليس بحسب مشورة الحكمة أي كلمة الله. إنه يباشرها بحسب فهمه لأنه يرغب بذلك. فهو يتشبث بنفسه ويثق بها.
إذا نجح في عملٍ ما فيعزو ذلك لنفسه فقط. هذا يجعله متعالياً، مغروراً، مدّعياً، وعديم الشكر في علاقاته مع الآخرين. فهو يريد تنفيذ مشيئته في كل شيء وكل وقت. إنه يريد كل شيء تحت سيطرته إذ إنه يحب أن يمارس السلطة وينحو إلى أن يكون مستبداً.
في علاقاته مع الآخرين، لا يستطيع أن يتحمَّل تقدمهم مهما يكن صغيراً. إنه مزدرٍ وصعب المراس. عند كل مخالفة لرأيه، يتمسك به ويشتعل بالثأر. إن كانت شخصيته قوية فهو يتعطش للمجد والشرف، وإذا كانت ضعيفة فهو ماكر ومحب للمجد الباطل. إنه وقح وصاحب نزوات، متغطرس وميّال نحو القيل والقال.
هذه هي إذاً الأشكال المتعددة التي يظهر بها حب النفس، والحركات الخاطئة الكثيرة التي تتكوّن منه. ويندر مَن لا يدين نفسه بهذه الخطيئة بهذا الشكل أو ذاك.
“أريد كل شيء لي”. هكذا يقول الرجل الطمّاع. هذه هي النبتة الثانية من جذر الشر. إن أكثر ما يظهره بوضوح هو روح محبة الذات التي تفعل كنوع من وجود مستقل. لا يقول الرجل الطمّاع كلمة أو يخطو خطوة أو يقوم بحركة إن لم تكن تجلب له بعض المنفعة. كل ما يتعلق به خاضع للحسابات.
كل شيء منظم. كل الأشياء مترابطة بطريقة يصبح فيها الوقت والمكان والأشياء والأشخاص، وباختصار كل ما يلامسه ياليدين أو بالفكر، حاملاً ما يقدمه لخزائنه. الربح الشخصي هو المحرك الأساسي الذي يهيج كيانه إلى التصرف، وتحت تأثيره هو مستعد لتحويل كل شيء إلى وسيلة لتحقيق مبتغياته: فهو قد يسعى إلى أعلى مراتب الشرف إذا كان هذا نافعاً، وقد يقبل أكثر الوظائف صعوبةً إذا كانت أكثر مردوداً من غيرها، وقد يقنع نفسه بتحمل كل الصعوبات، فلا يأكل ولا يشرب، إذا كان هذا يحقق له الربح. إنه جشع، محب للتمسك ولاذع، ولا يصبح قادراً على محبة الفخامة والرفاهية إلا تحت التأثير القوي للمجد الباطل. ممتلكاته أحب إليه من الحياة نفسها ومن الناس ومن الوصايا الإلهية.
إن روحه مقيدة بالأشياء، حتى أنه يعيش من خلالها وليس من نفسه. إذاً هنا، قوة تأثير ثمرة بذور الشر الثانية وعالمه: محبة الذات. ومَن هو الذي ليس لديه بعض الأمور التي يؤلمه الانفصال عنها، كما يؤلمه الانفصال عن السعادة؟
“أريد أن أحيا لمتعتي”، يقول الرجل الشهواني. نفسه غائصة في الجسد والمشاعر. إنه لا يفتكر بالملكوت ولا بالحاجات الروحية وبمتطلبات الضمير والمسؤولية لأنه لا يريد ذلك ولا يقدر أن يفتكر به (روما7:8). خبرته محدودة بأشكال متنوعة من المتع ولا يستطيع التخلص منها. إنها تشغل أفكاره ومحادثاته.
إذا بدأ الرجل الشهواني بإرضاء ذوقه، فهو يصبح أبيقورياً. تلاعب الألوان يحرّك ذوقه للباس الأنيق، تنوّع الأصوات يوحي له بالهذر، الحاجة للطعام تقوده إلى النهم، الحاجة إلى حماية النفس تقوده إلى الكسل، والحاجات الأخرى إلى الانغماس في اللذات. صاحب النفس المستعبَد للحمه، بارتباطه بالطبيعة من خلال الجسد، يشرب منها اللذات بطرق كثيرة بعدد وظائف جسده. وإلى جانب هذه اللذات، ومعها، يمتص روح الطبيعة الجوهرية، روح التصرف الآلي غير المقصود.
بالنتيجة، بقدر ما يطلق الإنسان العنان لتكريم ذاته، تصبح دائرة حريته أكثر محدودية. وكل مَن يعطي سلطة مطلقة لهكذا انغماس، يصبح سجيناً كاملاً عند جسده.
هكذا إذاً ينمو الشر في داخلنا من بذرة ضئيلة بالغة الصِغَر. في أعماق القلب، كما رأينا، تكمن بذرة الشر أي محبة الذات. منها ينبع ثلاث فروع أو ثلاث أشكال يحمل كل منها قوة البذرة: أهمية الذات، الاهتمام بالذات، والشهوانية. وهذه الثلاثة تولّد كثرةً لا تُحصى من الأهواء والميول الخاطئة. تماماً كما ينمو جذع الشجرة الرئيسي إلى أعضاء كثيرة، هكذا أيضاً تنمو في داخلنا شجرة كاملة، في البداية يكون جذرها في القلب ولاحقاً تنتشر في كل جسدنا وتتسرب إلى الخارج وتشغل كل ما يحيط بنا. قد يقول البعض أن مثل هذه الشجرة موجود في داخل كل إنسان لأنّ في قلبه ميل إلى الخطيئة. الفرق الوحيد هو أن الغصن في هذا الشخص نامٍ، والغصن في ذاك أكثر نمواً، وفي غيره غصن من نوع آخر.
لماذا، في أغلب الأوقات، لا نلاحظ هذا في أنفسنا، حتى أننا نفتكر أو نتساءل: “ماذا فعلتُ؟” أو “ما هو السيئ فيّ؟” نحن لا نلاحظ لأننا لا نستطيع أن نلاحظ. الخطيئة لا تسمح لنا. إنها ماكرة وبعيدة النظر.
إذا تقدمت شجرة الشر التي وصفناها ظاهرة لعين العقل، فالكل سوف يشمئز تلقائياً. لهذا السبب تسرع الخطيئة في إلباس الشجرة بالأوراق، لتغطية بشاعتها، بطريقة تمنع النفس التي تنمو فيها الشجرة من تمييز الجذور أو الجذع ولا حتى الأغصان.
هذه الأغطية المورقة هي: الارتباك والإفراط في الاهتمامات العالمية.
لا يرغب الشخص المشغول بالإمعان في النظر إلى نفسه. لا يملك المشغول بالاهتمامات العالمية دقيقة فراغ. فهذا لا يستطيع أن يلاحظ ما يجري في نفسه، وذاك لا وقت لديه. ما أن ينهض من النوم حتى تسرع نفسه إلى خارج ذاتها.
ففي حالة الأول تمضي نفسه إلى عالم من أحلام النهار. وفي حالة الأخير تغوص في بحر من الأعمال الضرورية ظاهرياً. الحاضر ليس موجوداً لديهما، وهذا ما يميز عملهما بشكل رئيسي. الأول يفضّل العيش في عالم صنعه لنفسه لا يلامس الواقع إلا جزئياً وبدون قصد وبشكل سطحي. أمّا الثاني فهو، في قلبه وفكره، يعيش في المستقبل.
فهو يحاول أن ينهي كل ما يفعله بأسرع ما يمكن حتى ينتقل إلى العمل التالي، فيبدؤه وينهيه ليسرع إلى عمل ثالث. غالباً، وحدها يداه ورجلاه ولسانه مشغولة بالحاضر، بينما أفكاره كلها موجهة إلى المستقبل. في هذه الحالة، كيف لهؤلاء الناس أن يكشفوا ما هو مخفي في القلب؟
في أي حال، لا تكتفي الخطيئة بهذا الغطاء المورق وحده، لأنه لا يمنع الاختراق. إذ ممكن أن تضع رياحُ البلية الأوراقَ جانباً بالاهتزازات التي يسببها الضمير، وبالتالي تكشف شكل الشجرة المغاير للطبيعة.
إذاً، تخلق الخطيئة من نفسها نوعاً من الغطاء العازل الذي يشبه المياه الراكدة المظلمة التي تغطس فيها الشجرة مع أوراقها. يتألف هذا الغطاء من الجهل وعدم الحس والإهمال. نحن لا نعرف الخطر الذي يهددنا وبالتالي نحن لا نعلم بوجوده، ولأننا نجهل وجوده نحن نستسلم للإهمال.
هذا إجمالاً هو كل ما علينا أن نغيّره في ذواتنا. هذا هو حقل العمل في النسك المقدس لتغيير الذات. علينا أن نعرّي الخطيئة من غطائها وأن نطرد من أنفسنا الإهمال وعدم الحس وخداع الذات والتمزق والانشغال الزائد.
علينا أن نقطع أغصانها أي كل الأهواء والميول الشهوانية. بالنهاية علينا أن نقتلع جذرها الأساسي عن طريق طرد محبة الذات خارجاً. كيف؟ بإنكار الذات.
هذا العمل ليس صغيراً ولا سهلاً. الدناسة الخاطئة الموصوفة سابقاً لا تغطي النفس كغبار يذريه الريح. لا، لقد تغلغلت في كياننا وطعّمت نفسنا وصارت جزءً منا. لهذا السبب، تحرير النفس منها مساوٍ لفصل النفس عن نفسها، أو اقتلاع عين أو قطع يد. هذه الصعوبة، مهما كانت، يجب أن لا تغمرنا. بالأحرى قد ترفعنا من إهمالنا.
مَن يشتهي الخلاص بصدق، لا ينظر إلى معوقات هدفه. إنها تقوده فقط إلى أن يكون أكثر رسوخاً في الإيمان، وأن يبدأ العمل بتصميم أكبر ويباشر بعملية تغيير الذات الخلاصية بحماس أكبر.
للقديس الأسقف ثيوفانس الحبيس
تعريب الأب أنطوان ملكي
Discussion about this post