نصائح في العـمل الروحي والسيرة الرهبانية
القديس ثيوليبتوس الفيلادلفي
نقله عن اليونانية الأب منيف حمصي كاهن سيدة دير سيدة كفتون
الحياة الرهبانية شجرة باسقة كثيرة الأوراق، وثمرها غزير. جذورها، التغرّب عن الجسديات. وأغصانها، انعتاق النفس من كافة الميول الشهوانية، وكل ما سبق للراهب أن أقلع عنه، وتركه. وثمار السيرة الرهبانية اقتناء الفضائل، ومحبة الله والتعقل، وكل ما يشير إليه الإلهي بولس في رسالته إلى أهل غلاطية: “أما ثمر الروح فهو المحبة، الفرح، السلام، طول الأناة، اللطف، الصلاح، الإيمان، الوداعة والعفاف، وهذه ليس ناموس ضدها” (22:5).
ترك العالم يهب المرء اللجوء إلى المسيح. ما معنى ترك العالم؟ إنه الاقتلاع أو التخلي عن الأمور الحسية، بما فيها الجسد أيضاً. ومن يتغرب عن الأمور العالمية بمعرفته للحقيقة يصير صديقاً للمسيح، ويقتني محبة المسيح. وبسبب هذه المحبة، ينكر كل ما في العالم، ويحوز اللؤلؤة الجزيلة الثمن، أعني بها المسيح (متى 46:13).
أيها الراهب، بالمعمودية الخلاصية لبستَ المسيح (غلاطية 27:3). وبهذا الحمام الإلهي لبستَ الطهر والنقاوة، واتخذتَ ضياء النعمة الإلهية، الروحية، والبهاء الذي كان للإنسان الأول عندما خلقه الله. ولكن ماذا حصل؟ أو بالحري، ماذا فعل الإنسان حتى أصابه ما أصابه؟
لقد أحب الإنسان العالم، فأهمل مالله، توجّه إلى شهوات الجسد، فأفسد الصورة الإلهية. لقد لطّخت ظُلمة الأفكار الشهوانية مرآة النفس التي عليها يعتلن يسوع المسيح الشمس العقلية.
أما أنت أيها الراهب، فقد طّهرتَ نفسك بمخافة الله، وأدركتَ ظلمة هذا العالم، وأحسستَ بتشتّت الذهن الذي أحدثَتْه فيك الاهتمامات العالمية. لقد تيقّنتَ من الأباطيل التي تَجْبَهُ الناس في هذه الحياة الصاخبة. جرحَتْك سهام محبة الهدوء، فقمتَ تطلب السلام الداخلي، والانعتاق من ضوضاء الأفكار، وكل ذلك لأنك أدركتَ النداء: “اطلب السلام، واسع وراءه” (مزمور 15:33).
لقد اشتقتَ إلى الراحة الروحية، وهي وليدة السلام الداخلي، لأنك سمعت القول: “لقد عادت نفسي إلى راحتك” (مزمور 7:114). وهكذا، عُدتَ إلى نفسك راغباً بالفوز مجدداً، بالبهاء الذي أُعطيته في نعمة المعمودية، لكنك بددته بمحض إرادتك، وبفضل حبك للشهوات التي ذقتها في العالم. لقد أحسنت صنعاً بانخراطك في هذه المدرسة المقدسة، كي تلبث ثوب التوبة الثمين، وتقطع الوعد بملازمة الدير حتى الموت.
وها أنت الآن تُبرم اتفاقاً ثانياً مع الله. وما هو هذا الاتفاق؟ إنه المعمودية المقدسة التي أخذتها بمجيئك إلى هذا العالم. لقد أبرمت هذا الاتفاق بقدومك إلى هنا حتى النهاية. في الاتفاق الأول أخذك المسيح إليه، بالتقوى. أما الآن، فأنت تلتصق به بالتوبة. في الأول، بدون مقابل، أما هنا، فأنت بمثابة مديون له.
عندما كنت صغيراً، لم تكن قادراً أن تدرك الكرامة التي أعطيت لك، أما وقد كبرتَ، فقد شرعتَ تدركُ عِظم العطية، وفي فمك لجام، وبدأت تدرك معنى التصاقك بذاك. فحذار أن تحنث بوعودك فتكون إناء مهشماً، فترمى في الظلمة البرانية، حيث البكاء وصريف الأسنان (متى 12:8). بدون التوبة ليس ثمة طريق إلى الخلاص.
والآن اسمعْ ماهو وعد النبي المرنم لك: “لأنك قلت: الرب معتصمي وقد جعلت العلي ملجأ لك…” (مزمور 90). ولما كنتَ قد اخترتَ حياة المسيح بكل ما فيها من مشقات وصعاب، فسوف لن تدنو منك الشرور التي عرفتها أو اقترفتها في حياتك في العالم.
ولما كنت عزمت على التوبة، فلن يلاحقك حب المال، وحب الطعام والمجد والتبرّج، والتمتع بالمحسوسات، سوف لن تصمد أمامك نفخة العقل، وعبودية الذهن، وكبرياء الأفكار، ومع كل اعوجاج طوعي وبلبلة. وسوف لن تكون أمامك محبة الوالدين والأخوة والأقارب والأصدقاء والأنسباء والمعارف، وسوف لن يكون عندك الميل إلى لقائهم ومصاحبتهم. وإذا كنت تحب أن تنكر الأمور المذكورة، من كل قلبك ونفسك وجسدك، فسوف لن يدنو منك سوط الآلام، وسهام الحزن والاكتئاب لن تجرح قلبك، وجبينك لن يكون مقطباً وعبوساً.
فالذين نأوا بأنفسهم عن العادات المحرّضة على الملذات، وتفادوا كل اتصال شهواني بالأمور المذكورة، فهؤلاء لا يكترثون بالأحزان، لأن المسيح يعتلن للنفس المحبة الجهاد، ويهب القلب فرحاً لا يوصف، وهذا الفرح الروحي لا يمكن لأحد أن ينتزعه. إن الذكريات المتصلة بالخلاص والصالحات، والأفكار الإلهية، وأقوال الحكمة، من شأنها أن تخدم المجاهد وتحفظه في طريقه مع الله، لذا فهو قادر أن يدوس كل شهوة جامحة، وكل غضب، وكل الملذات، والأسد والتنين (مزمور 13:90).
ومردّ ذلك هو أنه أقصى رجاءه عن البشر، وعن كل ما سبق ذكره، وجعله في الله، فصار غنياً بمعرفته، وبدأ يدعو الله كل حين إلى معونته “لأنه اتكل علي فأنجيه، وعندما يدعوني، استجيب له، واستره، لأنه عرف اسمي…” (مزمور 90).
أترى الجهادات والمكافآت المتعاقبة على الذين يحيون بمقتضى مشيئة الله؟ جاهد أنت أيضاً كي تجعل الدعوة فعلاً. وكما أنك انقطعت عن العالم بالجسد، وطرحت عنك صور المحسوسات، هكذا أيضاً، تغرّب عن العالم بإقصاء الأفكار والأقرباء.
لأنك إن كنت لا تقطع دابر الأضاليل، والخداع، في الأمور الخارجية، فسوف لن تقوى على تلك التي تتململ وتكبر فيك. وإن كنت لا تغلب الأمور الخارجية، وتنأى بنفسك عن الأفكار الداخلية، فأنت تنهض ذهنك للقيام بأفعال الروح القدس. وبدل مصاحبتك للأقارب والأصدقاء، اعكف على الفضائل.
وبدل الانشغال بالأمور الباطلة المتولدة من المحافظات الدنيوية، الزمْ نفسك بدرس الكلمات الإلهية التي تنير النفس. أما إطلاق العنان للحواس، فيصير تقييداً لها واستعباداً. وكبح جماح الحواس من شأنه أن يهب النفس العتق والحرية. وكما أن غياب الشمس يجلب الليل والعتمة، هكذا فغياب المسيح عن النفس يؤتيك بظلمة الأهواء فتجتاحك الوحوش العقلية، عندما تنبلج أنوار الشمس الحسية، تجتمع الوحوش في مغاورها وأوكارها.
وعندما يسطع نور المسيح في رحاب الذهن المصلي، للحال تُطرد العادات الدنيوية، وتفارقنا محبة الجسد، فيعود الذهن إلى من جديد للهذيذ بالوصايا الإلهية (مزمور 23:103). وهذا الكلام لا يعني أن عمل الناموس الروحي ينحصر في زمن محدد، أو أن له قياساً محدداً، فهو يدوم حتى نهاية الحياة، أي إلى حين مفارقة النفس للجسد. وهذا ما كان النبي يقصده عندما قال: “لقد أحببتُ ناموسك يارب، فهو درسي كل النهار” (مزمور 97:118). أما عبارة “النهار”، فتعني الحياة كلها.
أوقفْ المخالطات الخارجية، وجاهد ضد الأفكار الداخلية إلى أن تجد مكان الصلاة النقية، والبيت الذي يسكنه المسيح منيرك ومحلّي حياتك بمعرفته وافتقاداته لك، فهو الذي يجعلك ترى الفرح في أحزانك، حباً به، فتتجنّب الملذات الدنيوية كأنها مرّة.
العواصف تثير أمواج البحر، وإذا لم تهدأ، لا تهدأ الأمواج، ولا يسكن البحر. والأرواح الشريرة تثير في نفس الكسول ذكريات الأهل والأخوة والأقارب والأصدقاء والندوات والاحتفالات والمسارح وكل التخيلات الأخرى التي تثير الملذات فتجعل الإنسان يرى سعادته في عينيه، وفي لسانه وفي جسده. وهكذا فأنت تهدر تلك الساعة عبثاً، وعندما تكون لوحدك في القلاية، تقضي وقتك في الضياع، ولا تتقدم في الفضيلة، بل تنطبع في الذهن ذكريات الاهتمامات العالمية، تماماً كما تنطبع أثار قدمي الإنسان على الثلج. وإن كنا نزوّد الوحوش بالطعام، فمتى نخنقها ونقتلها؟ وإن كنا ننشغل على الدوام بأعمال وأفكار صداقة غير عاقلة، وعادات غير حميدة، فمتى نميت العقل الشهواني؟
متى نحيا في المسيح الذي قطعنا العهد على الالتزام معه؟ وآثار الأقدام التي فوق الثلج، إما إنها تذوب مع طلوع الشمس، أو عندما تهطل الأمطار. أما الذكريات التي استقرت في الذهن من جراء محبة اللذة أو من الأعمال المماثلة لها، فإنها للحال تتبدّد عندما يعتلن المسيح في القلب بالصلاة وسكب الدموع الليلية. فالراهب الذي لا يسلك بمقتضى كلمة الله، متى يُعطى له أن يزيل من ذهنه الذكريات الشهوانية؟
والفضائل العملية يمكنك أن تعيشها في الجسد إذا قطعت علاقتك بالعالم. الذكريات الصالحة تنطبع في النفس، والأقوال الإلهية تجد في النفس راحتها إذا كانت تقترن بالصلاة الدائمة وانسحاق الذهن، للحال تبدّد الذكريات والأفعال الشريرة. فالاستنارة هي من الإيمان، ومن تذكّر الله، ومن انسحاق القلب، وهذه من شأنها أن تقطع دابر الذكريات الشريرة، كما بسيف. اقتدِ بحكمة النحل، فهذه عندما تدرك الخطر المحدق بها، تظل داخل القفير كي تدرأ عن نفسها أذى الأعداء. أما الأعداء، فهي المعاشرات الدنيوية، فاجتنبها بما أوتيت من جهد، ولا زم قلايتك داخل الدير. ومنه حاول أن تدخل إلى حصن النفس الداخلي الذي هو بيت المسيح والذي فيه السلام والفرح والطمأنينة. وهذه الهبات هي بمثابة شعاعات يطلقها يسوع المسيح الشمس العقلية، وبها يكافئ النفس التي تستقبله بإيمان واستعداد حسن.
وعندما تجلس في قلايتك كي تتذكر الله، ارفع ذهنك فوق كل أمر دنيوي، موجهاً إياه نحو الله. وفي حضرته، اجمع كل استعدادت قلبك، والتصق به بمحبة.
وتذكّر الله، هو مشاهدته، فهو الذي يجتذب الذهن إلى مشاهدة (الثيوريا)، ويشد رغبات الذهن، إليه، فيستضيء الذهن بنور الله. وعندما يرتقي الذهن إلى الله تاركاً وراءه كل صور المخلوقات، فإنه يعاين الله بدون صور، وبدون أية هيئة، فتسطع مشاهدته بهذا (الجهل) الذي يفوق كل معرفة، وذلك لأن المجد الإلهي لا يدرك. وإذ يدرك الذهن أن الله المشاهَد، لا يدرك، فإنه يعرف ويعاين حقيقة الخالق الذي وحده يمتلك الوجود الذي يفوق كل وجود. وبالصلاح الوفير الذي يفيض من هناك، يغذي الذهن شوقه وينعش توقه وحركته، فتزداد الراحة المغبوطة بدون نهاية. هذه هي الأمور التي ترتبط بتذكر الله.
الصلاة الآن، هي حوار الذهن مع الله. وهذا الحوار ينقل كلمات التضرع إلى الله مقرونة بارتفاع الذهن إلى الله. لأنه عندما يدعو الذهن اسم الرب على الدوام، وينتبه لدعاء الاسم الإلهي، للحال ينسكب نور المعرفة الإلهية فيغمر النفس كسحابة منيرة. ويلي ذكرُ الله المحبةُ والفرحُ كما يقول المرنم: “تذكرت الرب، فامتلأت فرحاً” (مزمور4:76). أما المعرفة والانسحاق فيعقبان الصلاة النقية كما يقول هو نفسه:” (مزمور 10:55).
وأيضاً: “والذبيحة لله روح منسحق” (مزمور 19:50). وعندما يقف الذهن أمام الله بارتقاء وتضرع حار، للحال يتولد الانسحاق والتخشع. وعندما يمثل العقل والذهن والروح أمام الله، الذهن باليقظة، والعقل بالدعاء، والروح بالتخشع والانسحاق بالمحبة، عندها يقدم الإنسان الداخلي كله العبادة لله كما جاء في الوصية: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك” (تثنية 5:6).
فضلاً عن ذلك، أريدك أن تعرف ما يلي: لعلك عندما تظن أنك تصلي، تبتعد عن الصلاة، فتتعب بدون ربح، وتسير عبثاً. وما يحصل أثناء الإنشاد، إن الذهن يتشتت بالأهواء والأمور المختلفة، فيفقد معاني ما ينشد، والأمر نفسه يصيب العقل أيضاً. فكثيراً ما يردد العقل كلمات الصلاة دون أن يصاحبه الذهن، ودون أن يرتقي نحو الله الذي معه يكون الحديث أثناء الصلاة، إنما ينشغل بأفكار كثيرة دون أن يدري.
هكذا فالعقل يردد الكلمات كما هي العادة، أما الذهن فيبتعد عن معرفة الله. لهذا فالنفس تبدو غير فاهمة، وليس عندها استعداد، وذلك لأن الذهن مشتت بخيالات كثيرة، ومشغول بما يسخر به لكنه يجتذبه. لأنه عندما لا يكون هناك معرفة للصلاة، وعندما لا يكون المصلي منتصباً أمام من يهب التعزية، كيف ستسر النفس وتذوق العذوبة؟ كيف سيفرح القلب الذي يدّعي الصلاة إلا أنه لا يكترث بالصلاة الحقيقة؟
سيفرح قلب الذين يطلبون الرب (مزمور 3:104). ويطلب الرب ذاك الذي بكل عقله وإرادته يمثل أمامه مبتعداً عن أمور العالم حباً بمعرفة الله، وطمعاً بمحبته. أما معرفة الله فينبعان من الصلاة الدائمة النقية. وبالمثابرة على الصلاة، وانسحاق القلب، تنفتح أحشاء الرب الممتلئ عطفاً وحناناً، فيحظى المصلي بالخلاص على نحو ما يقول المرنم: “والقلب المتخشع والمتواضع لا يرذله الله” (مزمور 19:50).
وعندما تمثل أمام الملك بالجسد، وتتوسل إليه بلسانك، وتنظر إليه بعينيك، فإنما تجذب عطفه إليك. هذا اعمله أنت أيضاً سواء في اجتماع الكنيسة، أو داخل قلايتك. وعندما تجتمع باسم الرب مع أخوتك، وترفع إلى الله التسبيح بلسانك، يرتقي ذهنك إلى الله بالكلمات، فيدرك مع من يتكلم، وممن يدنو. وعندما ينطلق الذهن إلى الصلاة بحرارة ونقاوة، عندئذٍ يستأهل القلب التمتع بفرح وسلام يتعذر وضعهما والتعبير عنهما. ومن جديد، عندما تكون داخل قلايتك، احفظ بالصلاة في ذهنك باليقظة وانسحاق الروح. باليقظة تغطيك الثيوريا، وبالانسحاق ترتاح الحكمة في داخلك، فتطر الشهوة الجامحة لتجعل المحلة الإلهية مكانها.
صدقني، إني أقول لك الحق. عندما تقتني في عملك الروحي الصلاة التي هي أم كل الخيرات والصالحات، فإنها لا تبارحك حتى تعلن لك الختن الإلهي، وتقودك إلى الداخل وتملأ قلبك مجداً وتعقلاً. ومن شأن الصلاة أن تبدد جميع المعوقات، وتشق درب الفضيلة وتجعله سهلاً أمام طالبيها.
انتبه الآن إلى طريقة صلاة الذهن، فالتحدث إلى الله يبدد الأفكار الشهوانية. والتصاق الذهن بالله، يبدّد الأمور الدنيوية. أما انسحاق النفس فيقصي الصداقة مع الجسد، عندها تظهر الصلاة من جراء الدعاء بالاسم الإلهي، على أنها اتحاد الذهن والعقل والنفس فيما بينها. ويقول الرب: “إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون أنا بينهم” (متى 20:18). هكذا، فالصلاة تستجمع قوى النفس من التشتت الذي تحرضها الأهواء عليه. وإذا تجمع الصلاة أقسام النفس الثلاثة، تصالحها مع الله المثلث
الأقانيم. أولاً، بالفضيلة تفصل الصلاة النفس عن قبح الخطيئة. وبعد ذلك تطبع بها الخواص الإلهية على صفحة النفس بالمعرفة الإلهية التي تمنحها لها، وتقربها من الله.
للحال تدرك النفس خالقها كما يقول المرنم: “وفي كل يوم أدعوك، أعرف أنك إلهي” (مزمور 10:55). فيعرفها الله وتعرفه. الرب يعرف أصفياءه: “الرب يعلم الذين له” (2 تيم 19:2). والنفس تعرف الله لأنها تملك صورته النقية في داخلها، وكل صورة تعكس مثالها. وهو يعرفها لأنها على مثاله، بسبب الفضائل. وبهذه الفضائل تمتلك النفس معرفة الله، فيعرفها، وهي تعرفه.
إن من يطمح بحظوة الملك، يعمد إلى سبل ثلاثة: إما أنه يرفع إليه كلمات توسّل، أو أنه يمثل في حضرة الملك بصمت، أو أنه يرتمي عند قدمي من يستطيع أن يساعده ويمد له يد العون. هكذا، فالصلاة النقية النابعة من الذهن والعقل والروح، بالعقل تدعو الاسم الإلهي، وبالذهن تتطلع إليه، وبالروح تعرب عن الانسحاق والتواضع والمحبة. وهكذا تسبّح الثالوث الأقدس الذي لا بدء له، الآب والابن والروح القدس الإله الواحد.
وكما أن كثرة الأطعمة تحرّك الشهية، هكذا فإن كثرة الفضائل تنهض الذهن إلى الحركة. وإذ تسلك هذا الدرب، اختر كلمات الصلاة وتوجّه إلى الرب بأصوات لا تنقطع ودون أن تيأس. تضرّع إليه مقتدياً بمثل الأرملة والقاضي (لوقا 2:18-5)، عندها تسلك حسب وصية الروح (غلاطية 16:5). لا تكترث للشهوات الجسدية، ولا تخالط الأفكار الدنيوية أثناء الصلاة، بل كن هيكلاً لله عندما تعبده وتسبّحه. وعندما تمارس الصلاة القلبية من هذا القبيل، تستأهل أن تبلغ ذكر الله، وتلج إلى رحاب الذهن وتعاين غير المنظور بالثيوريا الميستيكية، وتعبد الله في توحّدك ممتلئاً معرفة ومحبة.
وعندما ترى الضجر يسودك ويستبد بك أثناء الصلاة، اعمد إلى الكتاب، واقرأه بانتباه لتتقبل المعرفة في داخلك. لا تتجاوز الكلمات على عجل، بل فكر فيها بعمق، واكتنز معانيها في داخلك. بعد هذا، فكّر بما قرأت، كي تدركها، فيذوق ذهنك العذوبة والحلاوة، فتبقى هذه فيك لا تُنتسى، فتزداد غيرتك نحو الإلهيات كما جاء في الكتاب الإلهي (مزمور 4:38).
وكما أن الطعام، بالمضغ يرضي الذوق، هكذا، فالكلمات الإلهية عندما تدخل إلى النفس، تغذيها وتبهج الذهن كما يقول المرنم: “لأن كلماتك كالعسل في حلقي” (مزمور 103:108). ادرس كلمات الإنجيل وكلمات القديسين المغبوطين وتأمل في سيرتهم، ولتكن شغلك الشاغل في الليل، حتى أنه عندما يتعب ذهنك من الصلاة، تنعشه وتجدده بالمطالعة ودرس الأقوال الإلهية، فتجعله أكثر غيرة أثناء الصلاة. واعمد إلى الترتيل والإنشاد، وذلك بصوت هادئ على أن يكون ذهنك متأملاً في معانيها فلا تسمح لكلمة واحدة تمر دون أن تستوقفك. ولا تدع شيئاً يفوتك، بل ردد الكلمات المتلوة حسب الحاجة، إلى أن تجعل ذهنك يتابع ما يتلى. الذهن عنده القدرة أن يرتل بالفم، وأن يذكر الله.
وهذا، تعلمه من خبرتك الطبيعية اليومية. وكما أن من يحدث أحداً، يراه بأم العين، هكذا، فالذي يرتل بشفتيه يمكنه أيضاً أن يتذكر الله. لا تهمل السجدات، فمن شأنها أن تصور لك السقوط فتصير بمثابة اعتراف، أما النهوض بعد السجدات فيصور التوبةويشير الى سيرة فاضلة. لتكن كل سجدة مصحوبة دعاء المسيح، وعندما تسجد أمام الرب بالنفس والجسد، فأنت ترضي إله النفوس والأجساد. وإذا انشغلت يداك في عمل يدوي فليكن ذلك مصحوباً بصلاة القلب لتطرد النوم والكسل، وتظل مستعداً للجهاد النسكي.
وكل هذه الأعمال، عندما تقترن بالصلاة فإن من شأنها أن تنهض الذهن، وتقصي الضجر وتنعش النفس فتجعلها أكثر دفء في عملها العقلي . وإذا كنت بجوار الجوقة، لا تكلم الراهب الذي بقربك ولا تدع ذهنك ينشغل بالأمور الباطلة، بل اجعل لسانك ينشغل بالإنشاد، وذهنك بالصلاة. وعندما يجري الحل، توجه إلى قلايتك، وابدأ قانونك الذي حُدّد لك.
وعندما تتوجه إلى المائدة، لا تنظر حولك إلى الأخوة، ولا تدع نفسك تنشغل في شيء، حتى ولو كان صالحاً. تناول مما يقدم لك، واعطي فمك الغذاء، وأذنك سماع ما يقرأ، أما نفسك فلتكن الصلاة نصيبها.
بهذا تغتذي جسدياً وروحياً مسبحاً من يهبك خيرات نفسك بغنى (مزمور 5:102). وعندما تنهض بورع وصمت، توجه إلى قلايتك، وكالنحلة النشيطة اعكف على علم الفضائل. وعندما تقوم بخدمة ما مع الأخوة، اجعل يديك تعملان، وشفتيك تصمتان، بينما يهذ ذهنك بذكر الله. وإذا راح أحد يكلمك، فانهض واصنع له مطانية وذلك كي تضع حداً لهذا الاضطراب.
اطرد الأفكار ولا تسمح لها بالعبور إلى قلبك لأن الأفكار الشريرة من شأنها أن تنعش الأهواء، وتميت الذهن. وعندما تهاجمك الأفكار اضربها بسهم الصلاة. وإذا أصرت على إزعاجك لإحداث البلبلة في ذهنك، وفي وقت أخر تنسحب، وفي أوان أخر تهاجم من جديد، فاعلم أنها تنتعش بفضل إرادتك. وهي إذ تحظى بالدخول إلى قلبك بسبب انهزامه، فإنها للحال تبلبلك وتزعجك. لهذا عليك أن تقوى بإزائها. بالاعتراف والبوح. فعندما تعتلن الأفكار الشريرة، للحال تهرب وتتوارى. تماماً كما أن انبلاج النور يقصي الظلمة ويبددها. هكذا فنور الاعتراف يبدد الأفكار الشريرة، والأهواء، لأنها الظلمة بعينها. وهذا يحصل بسبب المجدد الباطل والراحة، وبسبب هذين تجد الأفكار مكاناً لسكناها فيك، إلا أنها تتبدد بالاعتراف، وبحفظ القانون المعطى لك.
وإذ تحب الأفكارُ الذهنَ حراً من الأهواء ومشغولاً بالصلاة الدائمة فإنها تتوارى وتندحر. وعندما يحاول المجاهد، بالصلاة، أن يبدد الأهواء التي تزعجه، فإنه يفلح لبعض الوقت ويعرقل صورها وخيالاتها معاكساً إياها إلا أنه لن ينجو منها بالكلية، وذلك لأنه تعاطف مع أسبابها التي تزعجه وأعني بذلك الراحة الجسدية واشتهاء الكرامة الدنيوية. ولأجل هذه الأسباب نراه يسرع إلى الاعتراف, وهكذا، لا يكون له سلام، طالما أنه يمتلك ما يعطي أعداءه حقاً عليه. من هو ذاك الذي يمتلك أوعية غريبة ولا يطلبها أصحابها منه؟ ومن هو ذاك الذي لا يستجيب عندما يُطلب منه ما أخذه على نحو غير لائق؟ ولكن عندما يشتدد المجاهد بذكر الله فإنه يبادر إلى محبة المذلة، ويجاهد ضد الجسد، ويتقدم من الاعتراف دون أن يخجل من البوح بأفكاره، للحال تندحر الأعداء وينعتق الذهن وتستمر الصلاة بأمان، مع الهذيذ بالكلمات الإلهية.
وكل شك يتولد في قلبك تجاه القريب، اطرده للحال، لأن من شأنه أن يبدد المحبة والسلام. وكل فكر يأتيك من خارج، اقبله بشجاعة لأنه يحثك على الصبر الخلاصي، ويهبك الصبر الذي بدوره يهب الراحة في السموات. وعندما تمضي يومك هكذا، فأنت تحيا كما يليق فتنتعشُ فيك الرجاءات المغبوطة، وعند ساعة موتك، تنتقل من هنا بدالة إلى مسكن الراحة الذي أعده لك الرب مكافأة لك على أتعابك وجهاداتك كي تملك معه.
للرب الكرامة والسجود مع أبيه الذي لا بدء له والكلي القداسة وروحه المحيية.
No Result
View All Result
Discussion about this post