الكهنوت و صفات الكاهن
القديس مكسيموس المعترف
يجب أن يكون الكاهن قدّيساً نفساً وجسداً، وعمود نور ينير الكنيسة التي هي شعب الله، وأن يكون أنقى من أشعة الشمس لئلا يتركه الروح القدس مقفراً.
إن الكهنوت يصير على الأرض إلاّ إنّ له رتبة الطغمات السماوية. فانَّ لا ملاك ولا إنسان ولا قوَّة أخرى مخلوقة تستطيع أن تجريه وتتّمه بل الروح الكليُّ قدسه هو في الخدمة بنفسه.
والكاهن إنّما يتمّم خدمة الملائكة. لأجل ذلك يجب على كل الحائزين على درجات الكهنوت المختلفة أن يتصوَّروا وهم يكملون الخدمة أنّهم واقفون مع الملائكة في السماء أمام الله. ولذلك يطلب منهم أن يكونوا طاهرين أنقياء كالملائكة.
أما علمتم أنه لولا مؤازرة نعمة الله مؤازرة عظيمة لما استطاعت نفس بشرية قطٌ أن تصمد أمام نار تلك الذبيحة الهائلة!
لإنه إن كان ليس في استطاعة أحد أن يعرف ماهية الإنسان المركّب من لحمٍ ودمٍ، فكيف يمكن الدنوُّ من الطبيعة المغبوطة المتفوّقة في الطهارة والنقاوة؟
من يتأمّل في هذه الحقائق يستطيع أن يُدرك تمام الإدراك مقدار الكرامة التي للكهنة والتي إنما أُهّلوا لها بنعمة الروح القدس.
فالكهنوت خدمة جليلة سماوية إلهية. هكذا احتسبه الآباء القديسون المتوشحون بالله فوقروه جداً واحترموه وقالوا إنه لا يجب ولا يليق أن يُمنح إلاّ للقديسين فقط.
ولذلك يجب على كل كاهن أن يمتحن نفسه فإذا رأى أنه غير مقدَّس وغير طاهر فليندم ويتب بدموع حارَّة. وإلا فليهرب بعيداً من الخدمة لئلا يحترق نفساً وجسداً.
ثم إن الكهنوت هو بهذا المقدار أعلى وأجلّ من الُملك بمقدار الفرق الموجود بين النفس والجسد. فيجب على الكهنة الذين يمارسون الخدمة الكهنوتية الرهيبة أن يبذلوا جهدهم في تطهير نفوسهم حتى من أحقر وأقلّ التخيُّلات النفسية ومن ثم يقدمون على الخدمة. متشبهين على قدر استطاعتهم بالساروفيم والشاروبيم.
يوجد بعض الكهنة لا يسلكون بمقتضى القوانين والشرائع الإلهية لا قولاً ولا فعلاً ولا فكراً لكنهم مشغوفون بمحبة المجد والشرف ولا همّ لهم إلاّ أن يحترمهم الناس ويبجلونهم.
ولكن أمثال هؤلاء الكهنة ولسوء الحظ لم ولن يستطيعوا أن يخلّصوا لا أنفسهم ولا غيرهم. آخرون صاروا كهنة لأنّهم كسالى ولا طاقة لهم على الشغل والعمل اليدوي ولم يستطيعوا أن يدبّروا أمور معيشتهم.
وهنالك آخرون دون أن يقدّروا عظم الضرر الذي قد يلحق بالكنيسة، ودون أن يدركوا عظم أهمية هذه الخدمة الإلهية، قد تجرَّأوا على الدخول إلى المذبح المقدس دون أن يكونوا حائزين على شيءٍ من المؤهلات من علمٍ وأدبٍ وأخلاق.
وإذ لم يقدروا أن يقدّروا هذا السرّ الرهيب حقَّ قدره راحوا يزعمون أنّ الكهنوت إنّما هو جرأة وجبروت.
آخرون كانوا فاضلين أتقياء أعفاّء إلى درجة القداسة ولكنّهم لما ارتقوا إلى درجة الكهنوت اعتزُّوا بهذه الرتبة فوضعوا كل ارتكانهم عليها وكل ثقتهم بها فخدعوا وتراخت عزائمهم وتهاونوا في ممارسة الفضائل التي كانوا يمارسونها قبلاً،
بل توغلوا في الملاذ وارتكبوا الذنوب فعوقبوا عقاباً شديداً. بينما هناك آخرون يخدمون المذبح بتواضع وبضمير طاهر فيحظون بالمكافأة من الرب لقاءَ ذلك.
فمن يخدم عن غير استحقاق هو يهوذا ثانٍ. وهو خائن. لان داثان وابيرام قد انشقَّت الأرض وابتلعتهما حيين، لأنهما تجرَّأا على التبخير في هيكل الرب عن غير استحقاق، فكم بالحري يكون اكثر إجراما من يطأ جسد المسيح المخلّص ودمه!
لا مراء أن مثل هذا سوف يُعاقب بأشنع العقوبات ويُقاصُّ بأشدَّ القصاص.
فالكاهن الصالح الحقيقي يجب أن يكون تقياً, حكيماً, محباً للتعليم, متواضعاً, غير مدمن الخمر, ضابطاً نفسه ولسانه, غير حقود, ولا بخيل, بل رحيماً, محباً, وعلى الخصوص للغرباء.
يجب أن يكون محباً للجميع كباراً وصغاراً ومسالماً الجميع. وأن لا يأخذ رباً ممن يقرضهم وأن لا يجدّف ولا يحرم ولا يلعن، ألاّ يكون تاجراً لئلا ينطق بالكذب
ألاّ يدخل مع آخرين في مخاصمات ومنازعات
ألاّ يتعظم ويستكبر، ألاّ يستعمل الهزل ليضحك الآخرين
ألاّ يكون مهذاراً وألاّ يتكلم إلاّ بالكلام المفيد والنافع لسامعيه مسترشداً بآيات الكتاب الإلهي
ألاّ يكون شرهاً ولا شهوانياً لئلا يحزن الروح القدس. وان لا يجاوب سائليه بغضبٍ ونزقٍ بل بروح التواضع نحو الجميع
ألاّ يتبرَّج ويتزَّين، أن لا يحسد نجاح الغير، أن يسامح من يشتمه من كل قلبه أمام الجميع وقبل غروب الشمس
أن يفحص الذين يسقطون في الخطايا بوداعةٍ ويوبّخهم بمخافة الله. لا يجب أن يكون عثرةً أو سبب شكٍ لأحدٍ غنياً كان أو فقيراً.
جميع هذه الأمور التي ذكرناها يجب على الكاهن أن يحافظ عليها بكل دقَّةٍ وبغاية الانتباه ليتسنّى له بداّلة وبقلبٍ طاهر أن يعلّم آخرين أيضاً. فإن تهاون بما ذكر ولم يحفظه جيداً لفائدة الذين يتعلَّمون منه وبنيانهم فالأوفق له أن يعلِّق في عنقه حجر الرُّحى ويزجَّ في البحر لأنه خالف ناموس المسيح واستهان بتعليمٍ كهذا.
المسيح الطبيب الحقيق للإنسان الداخلي، وهو يستطيع وحده أن يخلص النفس، ويزينها بثوب النعمة
1ـ إن كان أحد عريانًا لقلة الملابس الإلهية السماوية التي هي قوة الروح القدس كقول الرسول ” إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ فَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ “ (رو9:8).
فليبكِ ويتوسل إلى الرب حتى ينال الثوب الروحاني الذي من السماء ويأخذ غطاء لنفسه العارية من القوة الإلهية لأن الإنسان الغير مكسو بكساء الروح فهو مكسو بالعيب العظيم: عيب الأهواء الدنيئة.
لأنه كما فى الأشياء المنظورة إن كان أحد عريانا يحل به خزى وفضيحة عظيمة بل الأصدقاء ينصرفون عن أصدقائهم العرايا والأقارب عن أهاليهم. بل أن من البنين من رأوا أباهم عريانًا وصرفوا عنه وجوههم لكيلا يعاينوا جسد أبيهم العريان، وإنما رجعوا على أعقابهم وستروه .
ولذلك ارتفعت عنه عيونهم . كذلك ينصرف الله عن النفوس غير المكسوة بلباس الروح فى ملء ثقة الإيمان لكونها لم تلبس الرب يسوع (رو14:13). بالقوة والحق.
2 ـ ثم أن الإنسان الأول لما رأى نفسه عريانا خجل. فما أعظم فضيحة العري. فإذا كان من جهة الجسد يعتبر العري فضيحة كبرى، فكم بالحرى النفس العارية من القوة الإلهية التي لا تكتسي ولا تلبس اللباس الأبدي الروحاني غير الموصوف وهو الرب يسوع نفسه بالحق ـ وهي مغطاة بالخجل والأهواء الرديئة ،
وكذلك كل من كان غير مكتسي بذلك المجد الإلهي يجب عليه أن يستحي ويقر بفضيحته كما استحى آدم من عري جسده ومع أنه ستر نفسه بورق التين فلم يزل خجله مصاحبًا له لعلمه بفقره وعريه جدًا.
فعلى هذه النفس أن تطلب من المسيح الذي يعطي المجد لكى يكسوها بالمجد في النور الذي لا يوصف، بدون أن تعمل لنفسها غطاء من الأفكار الباطلة أو تنخدع بزعمها أنها بارة من نفسها وأنها تملك لباس الخلاص.
3 ـ فإنه أن استند أحد على بره ولم يتطلع إلى بر الله، هذا البر الذى هو الرب يسوع “الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً “(اكو30:1). كما يقول الرسول، فإن تعبه يصبح باطلا لا ثمرة له، لأن كل زعمه ببره يظهر في اليوم الأخير كلا شىء بل يكون مثل خرقة نجسة كما قال أشعياء النبي ” كَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا “ (أش 64 : 6 ) فلنطلب إذن من الله ونتوسل إليه أن يلبسنا لباس الخلاص
وهو الرب يسوع المسيح، النور الفائق الوصف الذى إذا لبسته النفوس لا تخلعه قط، بل تتمجد أجسادهم أيضا فى القيامة بمجد ذلك النور الذى تلبسه النفوس الأمينة الفاضلة منذ الآن
حسب قول الرسول ” الَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ” (رو11:8). فالمجد لمراحمه المتعطفة ولرأفته التى تفوق كل وصف وكل تعبير.
4 ـ وأيضا كما أن المرأة التى كانت معتلة بنزف الدم لما صارت مؤمنة بالحق، ولمست طرف ثوب ربنا شفيت حالا وانقطع نزيف دمها النجس، كذلك كل نفس فيها جرح الخطية الذي لا شفاء له، وينبوع الأفكار الخبيثة النجسة،
إن هي أتت فقط إلى المسيح وصلت إليه بإيمان صحيح فإنها تعود إلى الصحة وتخلص من ينبوع الأهواء الفاسدة الذي لم يكن له علاج. وذلك الينبوع الذي يخرج أفكارًا نجسة لا ينقطع ويجف إلا بقوة المسيح فقط، وليس لأحد غيره قدره على شفاء هذا الجرح.
لأن العدو كان محتالاً للغاية فى معصية آدم حتى أنه جرح الإنسان الباطن وأظلمه أي العقل المرشد الذي ينظر الله. فمالت عيناه بعد ذلك إلى الخطية والأهواء وكانت مغلقة عن رؤية خيرات السماء.
5 ـ فهذه كانت شدة جرحه حتى أنه لم يستطع أن يشفه منه غير الرب وحده. فهذا مستطاع عنده وحده. ولهذا فقد جاء ” الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ” (يو29:1)، أى جفف الينبوع النجس. ينبوع أفكار النفس.
لأنه كما أن تلك المرأة التى كانت مريضة بنزف الدم كانت قد صرفت كل ما كان لديها على الذين وعدوها بالشفاء ولم يشفها أحد، إلى أن أتت إلى الرب بإيمان صادق ولمست طرف ثوبه فشعرت حينئذ بالشفاء في الحال، ووقف نزف الدم.
كذلك هو حال النفس التى جرحت منذ البدء بجرح أهواء الخطية الذي لا شفاء له، فلم يقدر أن يعالجه أحد من الأبرار. كلا ولا الآباء ولا البطاركة.
6 ـ ولقد أتى موسى ولكنه لم يقدر أن يعطى شفاءً كاملاً. والكهنة والعطايا والعشور والسبوت والآهلة والغسلات والذبائح والمحرقات وسائر متفرعات البر كانت تحفظ جميعها بالدقة تحت الناموس. ومع ذلك لم يمكن بها شفاء النفس وتطهيرها من الينبوع النجس أي ينبوع أفكار الخطية.
وكل بر النفس لم ينفع لشفاء الإنسان إلى أن أتى المخلص نفسه الطبيب الحقيقى الذي يشفي مجانا فبذل نفسه فداء لجنس البشر. فهو وحده صنع فداء النفس العظيم وخلاصها وشفاءها، وهو ذاته الذي حررها من العبودية وأخرجها من الظلمة ممجدا إياها بنوره الخاص.
فهو حقا جفف ينبوع الأفكار النجسة الذى كان فيها لأن الكتاب المقدس يقول “هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ” (يو29:1).
7 ـ لأن أدويتها التى كانت من الأرض يعني أفعالها البارة لم تقدر أن تعالجها وتشفيها من هذه الضربة العظيمة غير المنظورة بل يتم الشفاء بالطبيعة السماوية الإلهية التى لموهبة الروح القدس.
فإنه بواسطة هذا الدواء فقط يمكن للإنسان أن يجد الشفاء ويحصل على الحياة إذ يتطهر في قلبه بالروح القدس. ولكن كما أن تلك المرأة، ولو أنها لم تكن قد شفيت وكان فيها مرضها لكنها جاءت بقدميها إلى الرب، وعند مجيئها نالت الشفاء ـ وكما أن الأعمى أيضا الذي لم يقدر أن يمشي ليأتي إلى الرب، بسبب عماه،
صرخ إليه صرخة شديدة وصل بها إلى الرب لأنه قال “يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي” (مر47:10) وبإيمانه نال الشفاء إذ أن الرب أتاه بنفسه وجعله يبصر بوضوح ـ كذلك النفس ولو أنها جرحت بجروح الأهواء الفاسدة وعميت بظلمة الخطية فمع ذلك لا تزال فيها الإرادة أن تصرخ إلى يسوع وتناديه ليأتي ويصنع لها فداءً أبديًا .
8 ـ لأنه كما أن الأعمى لو لم يصرخ إلى الرب ، والمرأة التى كان بها النزف الدموي لو لم تأت إليه لما وجدا الشفاء، كذلك الآن إن لم يأت الإنسان إلى الرب بإرادته وبكل نية قلبه ويطلب منه بثقة الإيمان التامة فلا يشفى أبدًا.
فلماذا شفى هذان الاثنان للوقت بإيمانهما، ونحن لم يعد إلينا بصرنا بالحقيقة ولم نشف من أمراضنا الخفية؟. مع أن الرب يهتم ويعتني بالنفس غير المائتة أكثر من الجسد، لأنها إن انفتحت عينيها،
كما يقول ” اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى” (مز18:119) فلا تعمى أبدًا فيما بعد. وإن شفيت فلا تعود تنجرح أبدًا. فإنه إن كان الرب عند مجيئه على الأرض اعتنى بالأجساد الفاسدة، فكم بالحرى يعتني بالنفس غير المائتة المصنوعة على شبهه؟
ولكن بسبب قلة إيماننا وانقسام قلوبنا وعدم محبتنا له من كل القلب، وعدم إيماننا به حقيقة، لذلك لم نجد بعد الشفاء الروحي والخلاص.
فلنؤمن به إذن ولنأت إليه بالحقيقة لكي يتم فينا حالاً عمل الشفاء الحقيقي لأنه وعد بأنه يعطى للذين يسألونه روحه القدوس ويفتح للذين يقرعون وبأن الذين يطلبونه يجدونه.
فالذي وعد لا يمكن أن يكذب له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.
No Result
View All Result
Discussion about this post