المرأة في نظر يسوع
مقدِّمة
تظهر المرأة في الثقافة الشعبية، حتى المسيحية منها، أقل قيمةً من الرجل. كما تعتبر “الأنوثة” في نظر البعض، نساءً ورجال، أنها غياب “الذكورة”، وبالتالي تصبح المرأة كائن ناقص، وغالباً ما تُستَغل وتشيّئ بسبب هذه النظرة..
ولا يبخل “العهد القديم” أيضاً بإبراز دونيتها!.. وغالباً ما تُلام، وذلك فقط لأنها امرأة!.. حواء!.. فمَنْ تكون المرأة.. حواء؟.. هل هي فعلاً: “كائن ناقص”؟.. هل وجدت فقط لتلبي حاجات الرجل في الزواج والأمومة والمتعة والخدمة؟
وإن كانت كذلك أو لم تكن، لماذا يُلقىعليها كلُّ هذا اللوم؟..
لن ندرس هذه المسألة من جوانبها النفسيّة والأنثروبولوجيّة والاجتماعية. نكتفي بالبعد الإيماني، فبعد قراءة قصة خلق الإنسان وما تكشف، في المفهوم المسيحي طبعاً، من مساواة بين الرجل والمرأة، نحاول الإجابة عن سؤال: كيف يقدِّم يسوع للمرأة نظرة جديدة، تمنحها عمق الكرامة الإنسانيّة ومجد الفخر!؟..
الصورة والمثال لا تتحققان في الإنسان إلا بالمشاركة:
إن الكتاب المقدّس، منذ بدايته، يقدِّم رؤية مميزة عن الإنسان، وبالتالي عن المرأة. فنشاهد حواء في قصة الخلق، مساوية لآدم، فهما مدعوان معاً لتحقيق صورة الله ومثاله (أنظر: تكوين1/27). “يقول الرب الإله: لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، أصنع له عوناً بإزائه.. فأَوقع الرب الإله سُباتاً على آدم فنام، فاسّتلَّ ضلعاً من أضلاعه، وسدَّ مكانها بلحم، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة. وأتى بها آدم، فقال آدم: هذه المرّة عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تسمّى امرأة لأنّها من المرء أُخذت، ولذلك يترك الرجل أباه وأُمّه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً” (أنظر: تكوين2: 18-23).
فصورة الله، كما يقول يوحنا الذهبي الفم، لا تتحقق في الإنسان كفرد، إنّما من حيث أنّه يحيا المشاركة. والمشاركة بالأساس تتطلب المساواة. ولكن ماذا حصل؟.. الخطيئة !؟.. هل المرأة هي سبب الخطيئة ؟.. الخدعة تمّت على الاثنين معاً في كل ما يحملان من شعور بالوحدة. ولكنَّ آدم تخلَّى عن التي سُرَّ بها قبل حين،
وقال: هذه عظم منّي ولحمٌ منّي.. هذه معها أكون واحداً أحقِّق صورة الله.. الخطيئة لم تفصل فقط عن الله، بل أيضاً عن الآخر. وهكذا تظهر المرأة، بسبب هذا الفصل، كأنها دون الرجل عند مَنْ يستسلم لقيود الخطيئة سواء من الرجال أو حتى من النساء أيضاً.
إن يسوع أعطى المرأة كرامتها ومنحها المساواة الكاملة بالرجل. ويظهر ذلك بوضوح من خلال لقاءه بالنساء في الإنجيل المقدّس. فهو رغم أنَّه لم يخترها بين تلاميذه الاثني عشر، جعلها أمّه وشاهدةً له، ومسح عنها دموع عاطفتها المجروحة، وكسَّر كلَّ ما يُكبِّلها، وخصوصاً الخطيئة. المرأة هي الأمينة التي تبعته في درب صليبه، لذلك منحها أن تكون أول من بشَّر بقيامته وبحلول ملكوته.
مريم نموذجٌ لحواءٍ جديدة.. للإنسان الجديد !
نشاهد مريم في بشارة الملاك لها حواءً جديدة تتساءل وتستفهم قبل أن تستسلم: “ما معنى هذا السلام” ؟..” كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً ؟” (أنظر: لوقا1/29و34). وبمعنى آخر تحاول مريم أن تحدد في السؤال الأول مصدر التدخل الغريب في حياتها. وفي الســؤال الثاني، كيفية تحقيق هذا التدخل. ربما كانت تتأمل قصة حواء القديمة (أنظر: تكوين 3/1-..)، التي لم تسأل، وبالتالي لم تعرف مصدر التدخل، وكان في تلك المرة خداعاً، وكان ما كان..
وفي بيت الناصرة كانت مريمالمدرسة الأولى ليسوع. فأخذ عنها ليس الجسم واللغة والثقافة ومجمل الصفات الإنسانيّة وحسب، بل والإيمان أيضاً. وما أمثال الملكوت كالخميرة في العجين، والدرهم الضائع، والثوب والرقعة، والسراج والعذارى، والملح في الطعام. سوى إشاراتٍ واضحة على تربية الإيمان المنزليّة التي أثرّت على يسوع طيلة زمن كرازته، مما جعلته يقبل شفاعتها في عرس قانا الجليل.
إنَّ تسليم الذات عند مريم هو فعل تقدمة كرست له كـلَّ حياتهـا. فاحتفلت به حين قدمت يسوع بسخاء إلى الهيكل. وعاشت مُـرّه في تقدمته للصليب. لا يمكن فصل التقدمة وتسليم الذات عن سر الصليب.
كما لا يمكن فصل الصليب عن سرِّ القيامة. لقد عاشت مريم دهشتها لكل أحداث الخلاص، بصمت وتأمل عميقين: “وكانت تحفظ هذه الأمور وتتأملها في قلبها”.
المرأة نموذجٌ للاختيار..
يروي لنا الإنجيل أنَّ نساء كثيرات كن يتبعن يسوع، بينما كان يجول المدن والقرى، يعظ ويبشر بملكوت الله مع تلاميذه، ويساعدنهم بأموالهن في زمن وبيئة ما تعوَّدا أخذ المساعدة المادّية من النساء (أنظر: لوقا8: 1-3). ونشاهد من التلميذات الأمينات ليسوع مريم ومرتا (أنظر:لوقا 38:10-42).
حيث كان يسوع يرتاح في بيتهما من تعب تجواله. كانت الأولى تجلس عند ركبتيه تسمع كلامه العذب، بينما الثانية كانت تهتم وتضطرب بأمورٍ كثيرة لتلوم أختها التي لا تبالي بأمر الضيافة، لعلها كانت تتوقع الثناء من يسوع عليها. بينما هو فقد أثنى على الأولى التي اختارت النصيب الصالح الذي لا ينُزع منها، وذنِّب الثانية التي ما أحسنت الاختيار.
المرأة نموذج للحرية..
يمنح يسوع التشامخ لحواء بعد أن انحنت إلى التراب أكثر مما تشامخت بالصورة والمثال من خلال شفاءه المرأة المنحنية الظهر (لوقا10:13-16). ويفتقد قلبها كأنه آدمٌ جديد، ويلاقيها منفردَين في البرية عندما يحاور السامريّة، التي ما تعودت إلا أن تقدِّم الحب الاستهلاكي (أنظر نص لقاء يسوع والمرأة السامريّة: يوحنا1/4-00). لقد تعب بالبحث عنها.. “وكان لابدَّ له من المرور” بها، ليسألها أن تروي عطشه، الذي بلغ به إلى الصليب.. يقول يسوع على الصليب: “أنا عطشان “، ويقول للسامرية: “اسقني..” والساعة في كلا الحدثين هي الظهر، وساعة إغواء الحيّة لحواء كانت الظهر أيضاً!!.. يعدها بحبٍ حقيقي يُبشِّر بحضوره المشيحاني. ويضمِّد كلَّ ما بلغت إليه من جروح، فيحوِّل دموع توبتها، في شخص المرأة الخاطئة، إلى حبٍّ عظيم بعد أن أفاضت عليه طيب أمانتها (أنظر: لوقا7: 36-..).
ويُكسِّر قيودها ويطلقها من “الحلقة” التي وُضِعتْ فيها، ويُعيدها إلى نهار الحق بعد أن ظهرت فيه على غير عادتها فحُكِمَ عليها بالرجم (أنظر: يوحنا8: 1-11). لم يحكم يسوع على الزانية، بل ألحَّ عليها ألاَّ تكون أُنوثتها سبب سقوطها، فالأنوثة لا ينبغي أن تكون سجناً للمرأة، بل هي، لها ولمن حولها، علامة تحرير.
المرأة نموذج للحياة الجديدة..
يتحنن يسوع على أرملة نائين حين رآها تبكي على وحيدها في يوم جنازته (أنظر: لوقا11:7-17). ولا يقول لها فقط: “لا تبكي..”، بل يُبادر إليها ويُقيم ابنها من الموت. ويُشفق أيضاً على ابنة يائيروس (أنظر: متى18:9-26)، وبشفاعة والدها يُقيمها هي الأخرى من الموت (أنظر:متى18:9-26). وقد فعل ذلك مع مريم ومرتا اللتين بكتا لعازر أخيهما الميت (أنظر: يو1:11-44).. ألا يُدهشنا أنه في المرات الثلاث التي يُقيم فيها يسوع موتى كانت المرأة هي باعث حنانه!!؟.. كذلك يشفي ابنة الكنعانية بشفاعة أمها وإيمانها الكبير (أنظر: متى21:15-..). وتسرق نازفة الدم من يسوع الشفاء لمرض كانت النساء تخجل منه، وقد أنفقت كلَّ معيشتها على الأطباء (أنظر: متى9:20-22). يسأل يسوع في هذا الحدث: “من لمسني..؟” لا لكي يفضح أمرها، بل ليُبيِّن لها وللجموع أنه ليس طبيباً مميَّزاً وحسب، بل إنَّه المخلص، فيبني معها علاقة البنوَّة للملكوت.
المرأة رسولة.. ونبيّة.. ومبشِّرة..
لم يتبع يسوعَ حتى الصليب سوى النساء. أين الذين شفاهم ؟.. أين الذين فرحوا بكرازته وشبعوا من كلامه، وحتى من خبزه وسمكه؟.. أين التلاميذ ؟.. أين بطرس الذي وعده بالأمانة ؟.. أين لعازر الذي أقامه من الموت؟.. لم يبقَ سوى دموع النساء!..
عند فجر الأحد، وبعد السبت، وقد استراح الرب في القبر، يأتين إليه ليتابعن أناشيد التشييع، وقد تفجّرت من عيونهن ينابيع الدموع منذ حواء. هل المرأة لا تعرف إلاَّ البكاء..؟
هنا تكمن المفاجأة الكبرى.. هنا تولد حواء الجديدة لكل امرأة. فالعاطفة عندها ليست سجناً أبديَّاً. لأنَّ الرب بفصحه يَعبُر بها من محدوديّة العاطفة إلى مطلقية الحب، فتصبح مبشِّرة. المرأة رسولة القيامة، نبيّة الأمانة، مربيّة السلام. حين يلتقي يسوع مع المجدلية، بعد أن ظنته البستاني، كأنه يلتقي مع حواء، يخاطبها، وهو بستانيُّ الفردوس الجديد، ليس كآدم القديم الأسير لسجن أنوثتها، بل ليعلمها حقيقة الملكوت الجديد، فيقول لها: “لا تلمسيني..”، لقد دشنتُ لكم بموتي وقيامتي حقيقة الأبدية. التي يمكنكم عيشها منذ الآن بتجرد عن حاجة “اللمس“. فتصبحون “كالملائكة..” (انظر: مرقس12: 24-26).
خاتمة
يكفي للمرأة فخراً، أنَّ يكون ابن الله قد اتخذ منهاأمَّاً ورفيقةً ورسولة، ومبشِّرة سلام. إن عالم اليوم الخشن بحاجة ماسّة إلى الرؤية الإنجيلية للمرأة. يقول لينين، وهو أبعد مَنْ يُتهم بالمثالية، إن مقياس رقي وتحضّر مجتمع ما، هو رقي وتحضُّر العلاقة بين رجاله ونساءه. فكلما فاضت المرأة بالكرامة، كانت الإنسانية مُفاضة بالمجد.
No Result
View All Result
Discussion about this post