رسائل القيامة
للبابا الأنبا أثناسيوس الرسولي
مقدمة(1)
اشتهر آباء الكنيسة بالحرص على إتمام مسئوليتهم الرعوية بتوصيل رسالة الخلاص إلى أفراد رعيتهم بكل الوسائل الممكنة. وضمن هذه الوسائل الفعالة ما عثر عليه لكثير منهم من رسائل رعوية بالغة الأهمية.
وبالإضافة إلى التراث اللاهوتي الثمين الذي خلفه القديس أثناسيوس(2) بطريرك الإسكندرية ال 20 فقد عثر له على مجموعتين من الرسائل الرعوية كان لاكتشافهما أثر عميق في الأوساط العلمية والدينية في العالم.
والمجموعة الأولى من رسائله هي رسائل أعياد القيامة Paschal Letters والمجموعة الثانية عبارة عن عشرين رسالة شخصية Personal Letters بعضها مرسل إلى جماعات من الرهبان، والبعض إلى كنائس وإيبارشيات معينة، ومعظمها مرسل إلى أساقفة وكهنة حول أسئلة ومشاكل رعوية. وضمن كتاباته المختلفة توجد إشارات إلى رسائل أخرى. ولكن للأسف لم يعثر على تلك الرسائل بعد.
رسائل القيامة Festal Letters
يعتبر عيد القيامة من أقدم وأهم أعياد الكنيسة، فقد بدأ الاحتفال به من القرن الأول. لذلك اعتاد بطاركة الإسكندرية انتهاز هذه المناسبة الغنية بدروسها وذكرياتها الروحية لكتابة الرسائل الرعوية إلى شعبهم.
____________________________________
(1) هذه المقدمة وحاشيتها أخذت عن ميمر القيامة سنة 1957 لدير السيدة العذراء (السريان).
(2) ولد أثناسيوس سنة 298م في الثلاثين، وتنيح 373م. اشتهر بالرسولي، وحامي الإيمان، وبطل مجمع نيقية، وواضع قانون الإيمان. وهو غني عن التعريف، تحتاج ترجمة حياته إلى كتاب كامل. فهو الراعي الصالح الذي جال بلاد الكرازة المرقسية إلى أقصى الصعيد مرارًا لافتقاد شعبه. كما أسس الكنيسة الأثيوبية بسيامة فرمنتيوس Frumentios أول أسقف لاكسوم، وقد نُفي خمس مرات لتشملنا بركاته آمين.
واتخذت هذه الرسائل في الأول، شكل مواعظ روحية عن أهمية العيد وعمل الفداء العظيم، مستحثة المسيحيين على إتباع تعاليم المخلص ومنهضة بالتذكرة نفوسهم ليثبتوا في الحق.
ولكي تعم فائدتها كتبت فيما بعد في شكل رسائل(1) تبعث مع رسل مخصوصين إلى سائر أساقفة الأقاليم.
ولما ثار الخلاف بين كنائس الشرق والغرب عن موعد عيد القيامة(2) أصدر مجمع نيقية المسكوني الأول سنة 325 قرارًا إجماعيًا بضرورة اتفاق كل الكنائس على الاحتفال بعيد القيامة في يوم واحد.(3)
________________________________
(1)وأقدم إشارة إلى رسائل القيامة عرفت لأساقفة الإسكندرية ترجع إلى القرن الثالث الميلادي. راجع ما ذكره أوسابيوس “أبو التاريخ الكنسي” عن رسائل ديوناسيوس الإسكندري البابا (14)
(Eusabius. H. E. 7-20)
(2) اتبع مسيحيو آسيا الصغرى التقويم العبري فكانوا يعيدون الفصح (صلب المسيح) في 14 نيسان الذي قد يقع في أي يوم من أيام الأسبوع. وأطلق عليهم Quartadecimanians. أما كنائس الإسكندرية وروما والغرب فكانت تصر على أن يكون الاحتفال بصليب المسيح في يوم “جمعة” وبالتالي يكون الاحتفال بالقيامة في يوم “أحد”.
(3) قرر مجمع نيقية أنه لا يناسب أن نعيد القيامة مع اليهود، بل يجب أن يكون العيد في يوم الأحد ألأول بعد البدر الكامل الذي يلي الاعتدال الربيعي. على أن يكون ذلك أيضًا بعد الفصح اليهودي. وإذا وقع البدر الكامل يوم أحد فيكون عيد القيامة الأحد التالي وبهذا = القرار انتهت الخلافات حول يوم العيد. إلا أن بعض الكنائس عادت تختلف على طريقة حساب ميعاد “البدر الكامل” ويوم “الاعتدال الربيعي” وباتباع الغرب للتقويم الغريغوري في سنة 1583، نشأ فرق آخر بلغ الآن 13 يومًا عن التقويم اليولياني الذي تتبعه كنائس الشرق.
ولما كان تحديد هذا الميعاد سنويًا يحتاج إلى دراية فلكية واسعة وعمليات حسابية دقيقة فقد أسند المجمع هذا العمل إلى أساقفة الإسكندرية نظرًا لشهرتهم الفلكية والعملية، ليقوموا بتحديد موعد العيد وتبليغه إلى الكنائس الأخرى في أنحاء المسكونة.(1)
ومن ذلك الحين أصبح لرسائل القيامة التي حررها أساقفة الإسكندرية أهمية تاريخية ممتازة.
العثور على رسائل أثناسيوس
لم يعثر علماء الغرب على رسائل القيامة لأثناسيوس إلا في القرن التاسع عشر. إذ لم يكن معروفًا عنها قبل ذلك إلا إشارات وردت في كتابات القديس جيروم(2) وآخرين، وقصاصات ضمن كتابات قزماس(3).
وفي سنة 1842م نقل هنري تتام(4) H. Tattam إلى إنجلترا من دير والدة الإله بالإسقيط المشهور بدير السريان كمية كبيرة من المخطوطات السريانية. ولما أودعت بالمتحف البريطاني اكتشف W. Cureton أنها تحوي مجموعة من رسائل القيامة للقديس أثناسيوس. فترجمها من السريانية إلى الإنجليزية ونشرها في لندن سنة 1848. كما ترجمها Larsaw إلى الألمانية ونشرها في برلين سنة 1852م.
_________________________________________
(1) ورد في قاموس Dictionary of Christian Antiquities
الآثار المسيحية صفحة 1592 بعض الشك حول رسمية تفويض كنيسة الإسكندرية بهذا العمل إلا أن Robertson يصرح في كتابه Writings of Athanasius صفحة 500 بأن ما ذكره الأنبا كيرلس بابا الإسكندرية في كتاباته عن القيامة Prologus Paschalis” يؤكد هذه الحقيقة بوضوح. ويرى روبرتسن أن مجال ذلك الشك لا يدور حول هذه الحقيقة التاريخية نفسها بل حول المرجع الخاص بها.
(2) St. Jerome أكبر متحمس لنشر الرهبنة في روما. ويعتبر “قنطرة” الثقافة الدينية بين الشرق والغرب إذ قضى زمانه متنقلاً بين بلادهما ناقلاً ومترجمًا ومؤلفًا (331-430م).
(3) وهو مشهور “بالبحار الهندي” Cosmas Indicopleustes وهو تاجر مصري من الإسكندرية اشتهر في منتصف القرن السادس م. جاب البحار: المتوسط وألحمر والخليج الفارسي وزار الهند وسيلان. وأهم مؤلفاته “الوبوغرافيا المسيحية” مكون من 12 جزء كتبه حوالي سنة 547م.
(4) تمكن تتام من الحصول على 6 كتب في 14 يناير 1838 ثم على 43 كتابًا في 9 فبراير 1938 ثم عاد بعد أربع سنوات 1842 وحصل على كمية أخرى ولكن الرهبان استطاعوا إنقاذ بعضها.
عدد رسائل القيامة لأثناسيوس
كتب القديس أثناسيوس 45 رسالة لأعياد القيامة ال 45 التي جلس فيها على كرسي الإسكندرية من عيد القيامة سنة 329 إلى سنة 373. ولم يكتب رسالة لسنة 328 التي سيم فيها بطريركًا لأنه سيم يوم 8 يونيو 328 أي بعد عيد القيامة الذي كان يوم 14 أبريل 328م (الموافق 19 برمودة 44ش). ولأن سلفه الأنبا الكسندروس كان قد كتب رسالة القيامة قبل نياحته في 17 أبريل 328.
وللأسف لم يعثر منها إلا على 27 رسالة فقط. وبعضها غير كامل. وما زالت 18 رسالة مفقودة وهي رسائل السنوات التالية: 336- 337- 343- 344- 349- 351- 353- 354- 358- 359- 360- 361- 362- 363- 364- 365- 366- 369م. كما أن الأصل اليوناني (وهي اللغة الدولية التي كتب بها أثناسيوس) ما زال مفقودًا.
وقد عثر على مخطوطة سريانية أخرى بها فهرست ومختصر ال 45 رسالة التي لأثناسيوس وبمطابقة الفهرست مع ما وجد من الرسائل ثبت عددها وصحة تسلسلها وتاريخها.
أسلوبها
يتفق أسلوب هذه الرسائل مع كتابات أثناسيوس الأخرى. إذ تمتاز بنفس الغيرة الروحية، وحرارة دوافع المحبة نحو شعبه، وبساطة العبارة. كما تدل على خبرة عميقة ودراسة واسعة لأسفار الكتاب المقدس بعهديه. فكل نصائحه وإرشاداته وتعابيره من الكتاب المقدس. لدرجة أن أسلوبه إصطبغ بلغة الكتاب وروحه. ولا عجب فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم.
وأخيرًا
سنحاول بمشيئة الرب ترجمة هذه الرسائل عن الإنجليزية عن مجموعة
Nicience & Post Nicience Fathers مجلد 4، مع تبويبها ووضع بعض العناوين الجانبية، وحذف بعض العبارات منعًا للتكرار أو الإطالة.
الرسالة الأولى(1)
عيد القيامة في 11 برمودة سنة 45 ش
6 أبريل سنة329م.
هذا هو اليوم الذي صنعه الرب
هيا بنا يا أحبائي، فالوقت يدعونا إلى حفظ العيد. وشمس البرّ (مل 2:4) إذ يشرق بأشعته الإلهية علينا يعلن عن موعد العيد. لذا يجب الاحتفال به مطيعين إياه، لئلا إذ فاتنا الوقت قد يفوتنا السرور أيضًا.
من أهم واجباتنا هو تمييز الأزمنة والأوقات، حتى نتمكن من ممارسة الفضيلة. كان الطوباوي بولس يعلم تلميذه أن يلاحظ الوقت، قائلاً: “أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب (2 تي2:4)، حتى إذا ما عرف الوقتين المناسب وغير المناسب يستطيع أن يصنع الأمور التي تناسب مع الوقت ويتحاشى ما هو غير مناسب.
وهكذا فإن إله الكل نفسه يعطي كل شيء في وقته كقول سليمان الحكيم (جا 7:3)، مريدًا بذلك أن يعم خلاص البشر في كل مكان في الوقت المناسب.
وهكذا “حكمة الله” (1 كو 24:1)، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، أوجد في الأوقات المناسبة، من النفوس المقدسة أنبياء وأحباء الله (حك 27:7). وبالرغم من أن كثيرين قد قدموا صلوات لأجله (لكي يأتي مسرعًا ليقدم الخلاص) قائلين: “ليأتِ من صهيون خلاص الله” (مز 14:7)، أو كما جاء في سفر نشيد الأناشيد على لسان العروس قائلة “ليتك كأخ لي الراضع ثدي أمي” (نش 1:8)، أي ليتك كنت كبني البشر تحمل آلام البشرية من أجلنا. بالرغم من كل هذه الصلوات فإن إله الكل، خالق الأزمنة والأوقات، الذي يعرف ما هو لصالحنا أكثر منا، فإنه في الوقت المناسب، في ملء الزمان، وليس في أي وقت ما اعتباطًا، أعلن كطبيب ماهر طريق شفائنا، إذ أرسل ابنه لكي نطيعه قائلاً: “في وقت القبول وفي يوم الخلاص أعنتك”. (إش 8:49)
___________________________________________
(1) استعنت كثيرًا بترجمة دير السريان للرسالة.
لهذا السبب كتب الطوباوي بولس حاثًا إيانا أن نحفظ هذا الموسم بقوله “هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص” (2 كو 6:2).
هتاف أبواق العهد القديم
قديمًا دعي الرب بواسطة موسى إلى حفظ أعياد اللاويين في المواسم المقررة قائلاً: “ثلاث مرات تعيد لي في السنة” (خر14:23. الثلاثة أعياد هي: عيد الفصح أو الفطير، عيد الخمسين أو الأسابيع أو الحصاد، عيد المظال أو الجمع). وكانت أبواق الكهنة تهتف حاثة على حفظ العيد كأمر المرنم الطوباوي القائل: “انفخوا في رأس الشهر بالبوق عند الهلال ليوم عيدنا” (مز 3:81).
وكما كتب، كانت الأبواق تدعوهم أحيانًا إلى الأعياد، وتارة إلى الصوم، وثالثة إلى الحرب، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة أو جزافًا، إنما كان الهتاف يتم لكي يتسنى لكل واحدٍ أن يحضر إلى الأمر المعلن عنه.
هذه الأمور التي أتحدث عنها ليست من عندياتي بل جاءت في الكتب المقدسة الإلهية، إذ كما جاء في سفر العدد، عندما ظهر الله لموسى كلمه قائلاً “اصنع لك بوقين من فضة، مسحولين تعملهما، فيكونان لك لمناداة الجماعة” (عد 1:10-2). وهذا يطابق دعوة الرب الآن للذين يحبونه ههنا
أنهم لم يكونوا يهتفون بالأبواق في وقت الحروب فحسب (عد 9:10)، لكنها كانت هناك أبواق للأعياد أيضًا كما جاء في الناموس إذ يقول: “في يوم فرحكم وفي أعيادكم ورؤوس شهوركم تضربون بالأبواق” (عد 10:10).
ومتى سمع أحدكم الناموس يوصي باحترام الأبواق، لا يظن أن هذا أمرًا تافهًا أو قليل الأهمية، إنما هو أمر عجيب ومخيف!
فالأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مستخدمة لتعليمهم إذ كانوا لا زالوا أطفالاً.
ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشرية، فقد كانت أصواتها تشبه تلك الني حدثت على الجبل (خر 16:19) حينما ارتعدوا هناك ومن ثم أعطيت لهم الشريعة ليحفظوها.
من الرموز إلى الحقائق
والآن فلنترك الرموز والظلال(1) لننتقل إلى معانيها.
هيا بنا إلى الحقائق، لنتطلع إلى الأبواق الكهنوتية التي لمخلصنا، التي تهتف داعية إيانا تارة إلى الحرب كقول الطوباوي بولس “فأن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات”(2).
وتارة تدعونا إلى العفة وإنكار الذات والوفاق بين الأزواج فنحدث العذارى عن الأمور الخاصة بالعفة، والذين أحبوا حياة البتولية عن حياة الزهد، والمتزوجين عن الأمور الخاصة بالزواج المكرم(3). وهكذا تظهر لكل واحد الفضائل الخاصة به وجزاءه المكرم.
وتارة تدعونا للصوم، وأخرى للعيد. وهنا نجد الرسول يهتف بالبوق مرة أخرى ليعلن قائلاً “إن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا. إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث”(4).
وإن أردت أن تنصت إلى هتاف بوق فأنصت إلى قول مخلصنا “وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب”(5) لأن المخلص لا يدعونا إلى مجرد عيد بل إلى “العيد العظيم” ذلك إن كنا مستعدين للاستماع إلى ما يعلنه لنا، والطاعة لندائه.
قدسوا صومًا
وإذ توجد نداءات مختلفة كما سبق أن قلت- أنصتوا إلى النبي الذي يهتف في البوق معلنًا الحق قائلاً “اضربوا بالبوق في صهيون قدسوا صومًا”(6)
هذا بوق منذر يوصينا باهتمام عظيم. فنحن حينما نصوم يلزمنا أن نقدس الصوم.
ليس كل من يدعو الله يقدس الله، لأنه يوجد من يدنس الله، وهؤلاء لا يدنسون الله ذاته، فحاشا لله أن يتدنس، إنما تدنست أفكارهم من جهة الله. لأن الله القدوس، ومسرته في القديسين(7). ولهذا نجد الطوباوي بولس يتهم الذين يهينون الله بأنهم “بتعدي الناموس يهينون الله”(8).
___________________
(1) لأن الناموس إذ له ظل الخبرات العتيدة (عب10:1).
(2) أف12:6.
(3) 1كو2:7-5.
(4) 1كو7:5،8.
(5) يو37:7.
(6) يؤ15:2.
(7) مز3:16.
(8) رو32:2.
ولكي يفرزنا الله عن الذين يدنسون الصوم يقول “قدسوا صومًا”، إذ كثيرين ممن يتسابقون في الصوم يدنسون أنفسهم بأفكار قلوبهم، وذلك أحيانًا بصنعهم الشرور ضد اخوتهم، وأحيانًا أخرى باستخدامهم الغدر والغش
وحسبي أن أذكر أن كثيرين يفتخرون على الغير بالصوم وهم بهذا يسببون أضرارًا خطيرة. فمع أن الفريسي كان يصوم يومين في الأسبوع إلا أنه لم يستفد شيئًا لأنه افتخر بذلك على العشار. وكأن الكلمة يوبخ شعب بني إسرائيل (الشرير) لصومه هكذا، واعظًا إياهم بإشعياء النبي “أمثل هذا يكون صوم أختاره: يومًا يذلل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحًا ورمادًا؟! هل تُسمي هذا صومًا ويومًا مقبولاً للرب؟!”(1)
ولكي أظهر كيف نصوم، وماذا يكون عليه صومنا، يلزمنا أن ننصت إلى الله وهو يوصي موسى في سفر اللاويين “وكلم الرب موسى قائلاً. أما العاشر في هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة. محفلاً مقدسًا يكون لكم تذللون نفوسكم وتقربون وقودًا للرب”(2) ولكي تظهر الشريعة ماذا تقصد من هذا يكمل “أن كل نفس لا تتذلل في هذا اليوم عينه تقطع من شعبها”(3).
كيف نصوم؟
أننا مطالبون أن نصوم، لا بالجسد فقط بل بالروح أيضًا. والروح يتضع حينما لا يتبع الأفكار الرديئة بل يغتذي بالشوق.
فالفضائل والشرور كلاهما غذاء للروح. فالإنسان له أن يغتذي بأي الغذائين، له أن يميل إلى أي منهما حسب إرادته الخاصة.
فإن مال الإنسان نحو الفضيلة. أغتذى بالفضيلة، والصلاح، وضبط النفس، والإتضاع، والإحتمال، وذلك كقول الرسول بولس “متربيًا (مغتذيًا) بكلام الإيمان”(4) وكما كان الحال مع مخلصنا الذي قال: “طعامي أن أعمل مشيئة أبي الذي في السماوات”(5)
فإذا كان حال الروح غير هذا، بل كان الإنسان يميل إلى أسفل، فإنه لا يتغذى إلا بالخطية، وهكذا يصف الروح القدس الخطاة ويتكلم عن غذائهم، وذلك حينما يشير إلى الشيطان قائلاً عنه “جعلته طعامًا لأهل “ (مز 4:74) فالشيطان هو طعام الخطاة!
__________________________________
(1) إش5:58 يبين عدم قبول الله التمسك بمظاهر العبادة إذا لم تقترن بالروح.
(2) لا26:23-27.
(3) لا29:23.
(4)1تي6:4.
(5) يو34:4. .
وإذ ربنا ومخلصنا هو الخبز السماوي، لهذا فهو غذاء القديسين، لهذا قال “إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي.” (يو 53:6)
بينما الشيطان هو غذاء الدنسين، الذين لا يصنعون أعمال النور بل أعمال الظلمة. ولكي يجذبهم الله ويردهم عن شرورهم، يوصيهم أن يقتاتوا بالفضيلة وخاصة تواضع العقل، المسكنة، واحتمال الإهانات، والشكر لله.
إن صومًا كهذا متى حفظ مقدسًا هكذا، فأنه لا يؤدي إلى التوبة فحسب، بل ويهيء القديسين ويسمو بهم عن الأرضيات.
نماذج من صوم الأنبياء
بالتأكيد ما سأقوله الآن عجيب جدًا، غير أنه ليس ببعيد عن الحق، إذ أنه من تلك الأمور المعجزية، كما تعلمون كذلك من الكتب المقدسة.
فحينما كان ذلك الرجل العظيم موسى صائمًا، تكلم مع الله واستلم الشريعة.
وعندما كان العظيم القديس إيليا صائمًا، استحق أن يعاين رؤى إلهية. وفي النهاية رفع على مثال ذاك (السيد المسيح) الذي صعد إلى السماء.
ودانيال عندما كان صائمًا، أؤتمن على الشر، رغم كونه شابًا، وكان هو الوحيد الذي يفهم أسرار الملك، واستحق أن يعاين رؤى إلهية.
وقد يساور البعض الشك بسبب طول مدة صوم هؤلاء الرجال، التي تبدو كأمر عجيب. لكن ليؤمن هؤلاء وليعرفوا أن التأمل في الله وكلمة الله كافيًا لتغذية هؤلاء الصائمين(2)?
فالملائكة لا يسندهم سوى معاينتهم وجه الله على الدوام.
وطالما كان موسى يكلم الله لذلك كان يلزمه أن يصوم جسديًا، لكنه كان يغتذي بالكلام الإلهي. وغذ نزل إلى الناس شعر بألم الجوع مثل سائر البشر. لأنه لم يذكر عنه أنه صام أكثر من الأربعين يومًا التي كان يحادث فيها الله، وعلى هذا النحو استحق كل أحد من القديسين لطعام يفوق العقل.
لهذا إن اغتذت نفوسنا يا أحبائي بالطعام الإلهي، من الله الكلمة، وسلكنا حسب مشيئته، وصامت أجسادنا عن الأمور الخارجية، بهذا نحفظ ذلك العيد العظيم المخلص.
_________________________
(1) ينبغي ألا نرتئي فوق ما نرتئي، إنما يصوم الإنسان قدر قامته الروحية (خاضعًا لقوانين الكنيسة ومسترشدًا بأب اعترافه) فليس لإنسان منا أن يصوم مثلاً كموسى أربعين يومًا بغير أكل أو شرب بحجة الإقتداء بموسى?الخ. وهذا ما يعلنه القديس أثناسيوس فيما بعد.
إبطال الفصح اليهودي بتقدمة الحمل الحقيقي
حتى اليهود الجهلاء، تناولوا من الطعام الإلهي حينما أكلوا الخروف في الفصح كرمز، لكن عدم فهمهم للرمز لا زالوا حتى يومنا هذا مخطئين، لأنهم يأكلون الفصح بعيدًا عن المدينة “أورشليم” مبتعدين عن الحق إذ لا يسمح لهم بإقامة تلك الطقوس في أي مدينة أخرى(1)، وحيث أن أورشليم قد خربت لهذا كان يلزم أن تنتهي تلك الرموز أيضًا.
لاحظوا أنه بمجيء مخلصنا قد انتهت هذه المدينة(2) وخربت كل أرض اليهود. ومن شهادة هذه الأمور وما تؤكده لنا عيوننا عن هذه الحقائق لا تحتاج إلى دليل آخر، لهذا يلزم بالضرورة أن ينتهي الرمز.
وليس كلامي فقط هو الذي يوضح هذه الأمور، بل قد سبق النبي فأنبأ بذلك صارخًا: “هوذا على الجبال قدما مبشر منادِ بالسلام” (نا 15:1). وما هي رسالته التي بشر بها إلا التي أخذ يعلنها لهم، قائلاً: “عيدي يا يهوذا أعيادك، أوفي للرب نذورك. فإنهم لا يعودوا إلى ما هو قديم. قد انتهى؛ لقد انقرض كله. لقد ارتفع ذاك الذي نفخ على الوجه وخلصك من الغم” (نا 1: 15؛ 2:1 ). والآن: من هو هذا الذي ارتفع؟… إن أردتم معرفة الحقيقة والتخلص من ادعاءات اليهود، تطلعوا إلى مخلصنا الذي ارتفع ونفخ في وجه تلاميذه قائلاً: “اقبلوا الروح القدس” (يو22:20). فبمجرد أن كمل هذا (الصلب) انتهت الأمور العتيقة، فانشق حجاب الهيكل (مت51:27)، وتحطم المذبح (اليهودي)، ومع أن المدينة لم تكن بعد قد خربت، إلا أن رجسة الخراب (مت15:24) كانت تستعد للجلوس في وسط الهيكل، فتتلقى أورشليم وكل تلك الفرائض العتيقة نهايتها.
___________________________
(1) يحذرهم الناموس من تقديم الذبيحة في أي مكان آخر (تث11:12-14).
(2) خربت مدينة أورشليم سنة 70 م على يد القائد الروماني فسياسياتس وابنه تيطس، وقد حاول البعض إعادة بناء الهيكل في عهد الإمبراطور يوليانوس، فحدثت زلزلة .
No Result
View All Result
Discussion about this post