اعترافات القديس اغسطينوس
الكتاب الأول :
1 – عظمة الله وعدم إمكان إدراكه .
2 – مراحمه في الطفولة والصبا .
3 – تمرد الإنسان عليه .
4 – خطاياه من البطالة .
5 – تفريطه في الدارسة .
6 – عطايا الله له وحياته حتى سن الخامسة عشرة .
الكتاب الثاني
أمراض أخرى ساقته إليها البطالة ولم تنكشف إلا في السادسة عشرة من عمره .
مصائب المعاشرات الرديئة التي انقاد بسببها إلي السرقة .
الكتاب الثالث :
1- إقامة القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره وظل فيها حتى التاسعة عشرة .
2- مصادر ارتباكاته : –
أولا – حب المناظرات .
ثانياً – التقدم في الدراسات ومحبة الحكمة .
ثالثاً – عدم التلذذ بالكتاب المقدس .
رابعاً – الضلال مع المانويين ودحض بعض عقائدهم .
3- حزن أمه مونكا علي ضلاله .
4- صلواتها من أجل هدايته .
5- الله يوحي لها بهدايته في حديث لها مع أحد الأساقفة .
الكتاب الرابع
حياة أوغسطينوس من التاسعة عشرة حتى الثامنة والعشرين .
إغواءه الناس لاعتناق مذهب المانويين .
انقياده انقياداً جزئياً للزهو وحب الأثم .
استشارته للعرافين .
فقده صديقاً قديماً ورثاءه له .
تأملات في الأحزان والصداقة الحقة وغير الحقة وسعيه وراء الشهرة.
أقوال عن ( الحسن والمناسب ) وهو كتاب ألفه القديس .
قبوله بعض التصورات الخاطئة عن الله .
الكتاب الأول :
1 – عظمة الله وعدم إمكان إدراكه .
2 – مراحمه في الطفولة والصبا .
3 – تمرد الإنسان عليه .
4 – خطاياه من البطالة .
5 – تفريطه في الدارسة .
6 – عطايا الله له وحياته حتى سن الخامسة عشرة .
عظمة الله وعدم إمكان إدراكه
-1-
عظيم أنت يا رب وأعظم من أن تٌسبح
عظيمة هي قوتك أما حكمتك فإنها تفوق كل وصف .
* * *
ربي ، إنك جدير بأن يسبحك الإنسان ، الإنسان الذي ليس إلا ذرة من خليقتك الإنسان الذي يقاسي موته ، ذلك الموت الشاهد علي خطيته وإثمه ، ومع ذلك فهل هو يسبحك ؟
* * *
ليتك توقظنا لنبتهج في تسبيحك . لانك صنعتنا لك وسيظل قلبنا مضطرباً إلى أن يهجع فيك !
* * *
هَب لي يا رب أن أعلم وأفهم أيهما يكون أولا أأدعوك أم أسبحك ؟ وأيضاً أأدعوك أولا أم أعرفك ؟ إذ من ذا الذي يقدر أن يدعوك وهو لا يعرفك ، لأن الذي لا يعرفك قد يدعو سواك قاصداً بهذا أن يدعوك أنت !
* * *
ونحن الذين ندعوك هل نعرفك ؟ !
ولكن كيف يدعون الذي لا يؤمنون به ؟ وكيف يؤمنون بلا كارز ؟ إن الذين يطلبون الرب يجدونه والذين يجدونه يسبحونه .
* * *
سأفتش عنك يا رب بالدعاء لك ، وسأصلي إليك مؤمنا بك ، لأنك أنت الذي كُرز باسمه لنا !… سيدعوك إيماني الذي أعطيتني إياه ، الذي أوحيت به إليً بتجسد ابنك وبخدمة الكارز ( المقصود بالكارز القديس أمبروز أسقف ميلانو الذي آمن القديس أوغسطينوس على يديه) .
-2-
كيف أدعو إلهي – إلهي وربي – إنني عندما أدعوه إنما أدعوه لنفسي ؟
أي فراغ يوجد في داخلي حتى يقدر إلهي – الله – الذي خلق السماء والأرض أن يدخل فيً ؟
آه أيها الرب إلهي هل يوجد هنالك حقاً موضع فيً يمكن أن يسعك ؟
وهل من ثم السماء والأرض اللتان خلقتهما ثم خلقتني منهما هل يسعانك ؟
وإذا كان لايمكن أن يوجد بدونك شئ مما أوجدته فهل يوجد هنالك شئ يمكن أن يسعك ؟
وأنا الذي أوجدتني لماذا أطلب أن تدخل فيً ، أنا الذي لم أكن موجوداً بدونك ؟ أحقاً أنك لست فيً ؟ لماذا ؟ إنني لن أهبط إلى الجحيم لأنك فيً ، ومع ذلك إذا هبطت إلي الجحيم فأنت هناك !
آه يا إلهي لا أقدر أن أموت ، بل لا أقدر أن أكون مطلقاً ، ما لم تكن أنت فيً ، أو أكون أنا فيك ، لأن لك وبك وفيك كل الأشياء
* * *
أين أدعوك يا رب ؟ أين أدعوك مادمت أنا فيك ، ومن أين تقدر أن تدخل فيً ، لأنني من أين أقدر أن أتجاوز السماء والأرض حيث يدخل إلهي ، الذي قال ” إنني أملأ السماء والأرض ” .
-3-
هل تسعك إذن السماء والأرض ما دامت أنت تملأهما ؟ أو هل أنت تملأهما وتفيض عنهما لأنهما لايسعانك ؟
وإذا كانت السماء والأرض مملوءتان بك فأين تفيض إذن بالباقي منك ؟
وهل تحتاج إلى شئ يسعك يا من تحوي كل الأشياء وتملأ ما أنت تملأه باحتوائك إياه ؟… إن الأواني التي أنت تملأها لا تدعمك لأنها قد تٌكسر وأنت لا تفيض منها ! وأنت عندما تفيض علينا فإنك لا تكدرنا ولكنك ترفعنا ! أنت لا تبددنا ولكنك تجمعنا !
ولكنك يا من تملأ كل الأشياء هل تملأها بذاتك كلك ؟ وإذا كانت كل الأشياء لا يمكن أن تسعك كلك فهل هي تحوي جزءاً منك ؟ وأي جزء هذا الذي تحويه ؟ وهل هي جميعاً تحوي نفس الجزء ؟ أم أن لكل شئ منها جزئه الخاص ! وهل هذا الجزء هو الجزء الأكبر بزيادة أم الجزء الأصغر الأدنى ؟ إذن هل يوجد فيك جزء كبير وآخر صغير أم أنك كلك في كل مكان بينما لا يمكن أن يوجد مكان يستطيع أن يحويك ! .
-4-
ماذا أنت يا إلهي ؟ ماذا أنت إلا الرب الإله ! لأنه من هو السيد إلا الرب ؟ ومن هو الإله سوى إلهنا ؟ .
عـــال جداً ! صـــالح جداً ! قـــوي جداً ! مقـــتدر جداً !
رؤوف جداً ومع ذلك عادل جداً ! … مستتر للغاية ومع ذلك ظاهر جداً !… جميل جداً ومع ذلك قاس جداً ! … دائم ومع ذلك لا يمكن إدراكه ! … ثابت ومع ذلك يغير كل شئ ! … أباً حديث وعتيق على الإطلاق ! … يجدد الكل ويعطي المتكبرين أياماً وهم لا يعلمون ! … دائم يعمل ومستريح إلى الغاية ! … دائماً يحشد ومع ذلك غير محتاج إلى شئ ! … يدعم ويسد العوز ويستر ! … يبدع ويعول وينمي ! … يطلب ومع ذلك يملك كل شئ ! .
* * *
أنت تحب بلا شهوة وغيور بلا قلق ! … تندم ومع ذلك لا تأسف ! … أنت حانق ومع ذلك أنت هادئ ! … تغير كل أعمالك وغرضك ثابت ! … تأخذ كل ما تجده ومع ذلك أنت لا تضيعه أبداً ! … لا تحتاج مطلقاً إلي شئ ومع ذلك تسر بالأرباح ! … لست طماعاً ومع ذلك تطالب بالأرباح ! … تأخذ كثيراً لكي تصير مديوناً ومن عنده شئ وليس هو ملكك ؟ … أنت تدفع ديوناً ليس لهل أصل وتعيد ديونا دون أن تنقص منها شيئاً ! … ماذا أقول عنك الآن يا إلهي يا حياتي وقرحي الطاهر !؟ …وماذا يقول أي إنسان عندما يتكلم عنك ! ؟ … ويل لمن لا يتحدث بحمدك عندما ينطق الأخرس ويصير كأفصح البلغاء ! .
-5-
ليتني أجد راحتي فيك ! بل يا ليتك تدخل قلبي وتخدره لعلي أنسي أسقامي وأعانقك يا صلاحي الوحيد ! ماذا أنت ليً ؟ بحنانك علمني أن أنطق برأفتك ! … ماذا أنا لك حتى إنك تطلب محبتي وتعادلني بك وإن لم أحبك تهددني بويلات جسام ؟
إذن كم هي مصيبة كبري إن لم أحبك ؟
يل ليتك أيها الرب إلهي تخبرني – لأجلا مراحمك – ماذا أنت ليً ؟ ليتك تقول لنفسي أنا خلاصك ! … هكذا تكلم لعلي أسمعك !! .
ها هو ذا قلبي أمامك يا رب . أفتح أذنيك وقل لنفسي أنا خلاصك وبعد أن تُسمعني هذا الصوت دعني أسرع وأمسكك !! لا تستر وجهك عني وإن سترته دعني أموت ولكني لا أريد الموت ! فدعني أرى وجهك !!
-6-
إن مسكن نفسي ضيق ! وسعه لعلم تدخل فيَ ؟ هو خرب ، هيئه لأن ما بداخله لابد أن يغيظ عينيك !إنني أعترف وأعرف كل ذلك ولكن من ذاك الذي سيطهرني ؟ وإلى من يجب عليً أن أصرخ نحوهإلا إليك ؟
يا رب طهرني من خطاياي الخفية ! أشفق علي خادمك من سلطان العدو ! بهذا أؤمن ولذلك أتكلم !
أنت تعلم يا ربي أنني أتكلم ضد نفسي عن الخطايا التي صنعتها ضدك لأنك يا الهي قد غفرت إثم قلبي ! لا أدخل في المحاكمة معك لأنك أنت هو الحق ! لا أدخل في المحاكمة معك لأنني أخاف أن أخدع نفسي فيفضحني شري أمامك يا من تراقب الآثام ! وإن راقبت الآثام آه يا رب من يقدر أن يحتمل ذلك ؟!
-7-
دور الرضاعة
احتملني لأخاطب رحمتك أنا الرماد والتراب !
احتملني لأتكلم ما دمت أخاطب رحمتك ولا أخاطب إنسانا مزدرى به ! إنك قد تهزأ بي ولكنك تعود فترحمني ! ماذا يجب عليً أن أقول لك أيها الرب الهي ؟
إنني لا أعلم من أين أتيت إلي هذه الحياة المائتة ! كما لا اعلم هل ادعوها الحياة المائتة أم الموت الحي ؟ يا ليت تعزيات رحمتك تدركني سريعا !!
* * *
لست أذكر ، ولكني سمعت من والديً اللذين صورتني من جسديهما في وقت من الأوقات ! لقد سمعت أنك أعطيتني لبن المرأة غذاء أنعم به ، أن أمي ومربياتي لم يكنزن أثدائهن باللبن لأجلي ولكنك أنت – تبعا لشريعتك التي قسمت بها ثرواتك في الينابيع الخفية لكل الأشياء – قد وهبت ليً طعام الطفولة بواسطتهن كما وهبتني أن لا اشتهي أكثر مما أعطيته لهن ! لقد كانت مربياتي بعاطفة علوية تلقينها من السماء يعطينني عن طيب خاطر ما فاض عليهن مما أعطيته لهن ، وفائدتي منهنكانت حسنة لهن وإن لم تكن في الواقع منهن بل بواسطتهن ! لأن كل الأشياء الحسنة هي منك يا الله ومنك يا إلهي كل عافيتي عندما تعلمت هذا أنت أعلنت نفسك لي بواسطة عطاياك هذه المستترة فيً والظاهرة .
-8-
بعد ذلك تعلمت فقط أن أرضع وأسكن إلي ما يسرني ! وأن أبكي وأصرخ إلى ما يكدر جسدي ! – لا شئ أكثر من هذا – حتى إذا مضي زمن يسير بدأت ابتسم في النوم أولا ثم اليقظة ! هكذا أخبروني عن نفسي ولقد صدقتهم لأننا نرى أطفالا آخرين يفعلون مثل ما فعلت وإن كنت لا أتذكر ذلك عن نفسي وهكذا بدأت تدريجيا أن أدرك أين كنت ! في تلك الأثناء كانت تجيش في نفسي رغبات طالما كنت أتوق أن أعبر عنها لاؤلئك الذين يقدرون أن يرضوا رغباتي ولكني لم أستطع إلى ذلك سبيلا لأن الرغبات وإن كانت ظاهرة للجميع إلا أنها كانت داخل نفسي فلم يستطيعوا أن يفهموا كنهها لأنني لم أكن قادرا على أن أفصح عنها !
لقد كانت هذه الرغبات قوية في نفسي فلما لم أستطع الحصول عليها من الناس بدأت أسخر منهم بتحريك الأطراف والصراخ وعمل تلك الإشارات القليلة المتشابهة التي لم أكن أستطيع أن أعمل غيرها للحصول على ما أريد .
وعندما كان من هم أكبر مني سنا يتأخرون عن إجابة رغباتي سواء أكانت رغباتي هذه ضارة أو غير مفهومة لهم كنت أغضب علي من اعتادوا خدمتي لأنهم لم يطيعونني كما كنت أغضب أيضا على من لم يعتاودا خدمتي وعلى الذين لا فضل لهم عليً لأنهم لم يخدموني وكنت آخذ ثأري منهم جميعا بالدموع .
وعندما كبرت علمت أن الأطفال – وأنا أيضا لما كنت طفلا – في حالة عدم وعي ولا يدركون هذه الأمور فعرفت عن ذلك أكثر مما تعلمته من مرضعاتي .
-9-
ها أنا أعيش وإن كانت طفولتي قد ماتت منذ زمن طويل ! أما أنت يا رب فدائم إلي الأبد وفيك لا يموت أحد ! لأنه قبل أن توجد الكائنات وقبل كل أن يدعي (قبلا) أنت هو ؟
أنت هو الله ورب كل ما أبدعته .. فيك تدوم ثابتة إلى الأبد الأسباب الأولية لكل الأشياء الفانية ! … فيك تدوم الأصول غير متغيرة لكل الأشياء المتغيرة !! … فيك تحيا البواعث الأولية لكل الأشياء غير المعقولة والزمنية !!
* * *
قل لي يا رب ما هو ملتمسك ؟ … قل لي بكل أسف عن الذي يحزنك ! … قل لي هل سبق طفولتي دور آخر لي مات قبلها ؟ ! … وهل كان ذلك الدور هو الدور الذي مكثته في بطن أمي ؟ … لقد سمعت قيلا عن هذا وإن كنت شاهدت بنفسي نساء حبالي ! … ماذا قبل تلك الحياة يا إله بهجتي ؟ … ماذا كنت أنا وأي جسد كنت ؟ لانه لم يخبرني أحد عن هذا ! لا أب ولا أم ولا اختبار آخرين حتى ولا ذاكرتي ! … أتسخر لحيرتي هذه وتأمرني أن أسبحك ؟ إنني أعترف لك بعجزي !
-10-
أعترف لك يا رب السماء والأرض وأسبحك لأنك سبب وجودي وأصل طفولتي التي لا أعرف عنها شيئا ! إنك قد رسمت للإنسان أنه ينبغي عليه أن يعتقد بأن الكثير مما يجري عليه يجري علي الآخرين وأن يعتقد كثيراًَ في مدي قوة الأنثى الضعيفة!!
لقد كنت موجوداً وعائشاً عند نهاية طفولتي وكنت قادراً علي أن أعمل إشارات أكشف بها للآخرين عن احساساتي . فمن أين يمكن أن يكون وجود كهذا الوجود ، إلا منك أنت يا رب ؟ لأنه هل يستطيع أحد أن يخلق نفسه ؟ … وهل يمكن أن يتفرع في عالم غير عالمنا هذا أي وريد يكون منه روح وحياة لنا سوي منك أيها الرب الذي فيك الروح والحياة معاً ؟ ….. أنت نفسك الروح والحياة بأسمى درجاتها !! … أنت عــــــال جداً وغير متغير ! .. فيك لا ينتهي الزمان وإن كان ينتهي فيك اليوم لأن كل الأشياء أيضا فيك وليس لها طريق تزول فيه إلا بـأمرك !!
أنت هو الله وسنوك لا تفني لأن سنيك هي اليوم ! كم عاماً لنا ولأجدادنا ذابت في يومك ومنها أخذ وجود كهذا الوجود قياسه وشكله كما أن أعواماً أخري سوف تذوب وتأخذ شكل قالب وجودها . ولكنك أنت وحدك مازلت كما أنت خالق الأمور المستقبلة وما وراء المستقبلة وكل أمور أمس وما قبله . ماذا أنت لي ؟ لا أحد يدرك هذا . دع من لا يدركك يتعجب ويقول ماذا أنت ؟ دعه يفرح ويسر لأن أحداً لم يعرفه بوجودك وهذا خير له من أن يفرح بكونه قد تعلم أنك غير موجود !
-11-
استمع يا الله استمع وآسفاه لمعصيتي ( هكذا أقول لك ) وأنت ترحمني لأنك خلقتني ولكنك لم تخلق الإثم الذي فيً .
من ذا الذي يذكرني بخطايا طفولتي ؟ لأنه لا يوجد أمام عينيك إنسان طاهر حتى ولو كان طفلاً رضيعاً لم تتجاوز حياته يوماً واحداً على الأرض !
من ذا الذي يذكرني بخطايا طفولتي ؟ فما هي إذن هذه الخطايا؟ ما لا أتذكره عن نفسي وأنا طفل أتصوره في غيري من الأطفال فماذا كانت خطيتي إذن ؟ أكانت خطيتي إنني كنت أرتمي علي ثدي أمي صارخاً باكياً ؟ إنني لو فعلت ذلك اليوم لأجل الطعام اللازم لحياتي لاستوجبت سخرية الناس ولومهم فما عملته وقت أن كنت طفلاً كان يستوجب اللوم ولكن قد جرت العادة على أن أكون محصناً عن اللوم لأنني لم أكن أفهم حتى إذا ما كبرت نبذت ما كنت أعمله من قبل لأنه في سن النمو لا يوجدأحد مهما أُكره يتعمد أن يرفض ما هو صالح !!
أن الطفل يصرخ إذا شعر بما يؤلمه فهل هذا من الصلاح ولو إلى حين ؟ هل كان من الصلاح أن يصرخ الطفل بقساوة لإغاظة الناس حتى يضجرون وبالأخص إذا كان هؤلاء الناس هم مربيه الخصوصيين لأنهم لا يريحونه بسبب عدم معرفتهم الأسباب المباشرة لصراخه حتى يزيلوها ؟
أن للطفل طباع كثيرة فاضلة ولكنه لا يستطيع استخدامها لفائدته ليكون مسروراً بل هو يستعمل كل ما من شأنه أن يخيف الناس ويؤذيهم عندما لا تطاع رغباته التي لو حققوها له لأصابته بضرر بليغ .
إذن عجز أعضاء الطفل لا عجز إرادته هو سبب براءته !!!
لقد رأيت بنفسي طفلا حسوداً لا يقدر أن يتكلم ومع ذلك فإنه عندما نظر إلى أخيه في الرضاعة اصفر لونه وبانت نظرة الحقد في عينيه !! من لا يعرف هذا ؟ إن الأمهات و المرضعات هن خير منيحدثنك عن الوسائل التي يستعملنها لعلاج أمثال هذه الحالات بطرق لا أعلمها !!
أيمكن إذن أن يكون هذا الطفل الحسود بريئاً عندما يرفض أن يشاركه أخوه في ينبوع اللبن المتدفق بغزارة رغم شدة حاجته هو أيضاً إليه لأن عليه قوام حياته .
إننا نتجاوز عن هذا العمل من الطفل لا لأنه ليس شراً ! ولا لأنه شراً طفيفاً ! ولكن لأن هذا الشر سوف يزول من نفس الطفل عندما يكبر ! وإننا وإن كنا قد سمحنا له في دور الطفولة فلن نسمح له به بتاتاً عندما يكبر ويكتمل إدراكه .
-12-
أنت أيها الرب إلهي الذي أعطيت لطفولتي هذه الحياة كما نراها . أنت الذي زودت جسدي بهذه الإحساسات شاداً أعضائه مزيناً أحجامها ! كما أنك لأجل سلامتها وحسنها زودتها بكل ما يلزمها للحركات الحيوية !!
لقد أمرتني أن أسبحك علي هذه النعم !! وأرنم لاسمك أنت أيها المتعالي جداً !!
أنت وحدك الإله القادر علي كل شئ !!… أنت ترفض التسبيح لغيرك لأنك أنت وحدك القادر على عمل ما لا يقدر أن يعمله الغير .. يا من وحدا نيتك قالب كل الأشياء! أنت الذي بصلاح خلقت كل الأشياء حسنة ونظمت كل شئ بالناموس !
* * *
أما ذلك الدور من حياتي الذي لا أتذكر عنه شيئاً ولم أعرف عنه إلا ما عرفني إياه الآخرون ولم أخمن ما خمنته عنه – وإن كان التخمين حقيقة – إلا من أطفال آخرين ، هذا الدور لا أحسبه ضمن حياتي التي أحياها في هذا العالم لأنه لا يوجد أقل من الزمن الذي قضيته في بطن أمي وهو مخفي في ظلال النسيان … ولكني إذا كنت بالإثم صورت وبالخطيئة قد حبلت بي أمي فإني أتضرع إليك يا إلهي أن تعرفني أنا خادمك المزكي أين ، ومتى كنت قبل الحبل فإنني وإن كنت اجتزت هذه الحقبة فإنه يجب عليَ أن أعمل بما لا أقدر أن أتذكر له رسماً ؟.
-13-
دور الصبا
بعد أن اجتزت دور الطفولة أتيت إلي دور الصبا أو بالحري أتي إليً دور الصبا مكتسحا في طريقه دور الطفولة !! ودور الطفولة هذا لم يرتحل لأنه إلي أين يذهب ومع ذلك فإنه في الواقع غير موجود !!ً
لقد صرت الآن طفلاً أتكلم ولم أعد بعد رضيعاً أخرساً !! إنني أتذكر ذلك الدور كما أتذكر كيف كنت في ذلك الحين ألاحظ كيف أتعلم الكلام ولم يكن ذلك لأن من هم أكبر مني سناً علموني الألفاظ بطريقة نظامية كما تعلمت بقية العلوم فيما بعد بقليل ولكني تعلمت لأني رغبت في تعلم الكلام ، وذلك لأنني كنت حتى الآن أعبر عن أفكاري حتى أحقق رغباتي بواسطة تلك الألفاظ المتقطعة القليلة التي أنادى بها ، وتلك الحركات المتنوعة التي تتحركها أطرافي غير أن تلك الألفاظ والحركات كانت قاصرة عن التعبير عن ما أردته أو من أردته !!
فبدأت بتلك القريحة التي وهبتها ليً يا إلهي أختبر كل صوت سمعته فعندما كانوا يذكرون أي شئ أثناء كلامهم كنت التفت وأنظر المقصود بهذا الشيء ، وكنت أفطن إلي ما يعنونه بالاسم الذي نادوا به إذ كان ظاهراً من حركات أجسادهم أن قصدهم كان هذا الشيء ولم يقصدوا غيره .
إن اللغة الطبيعية لكل أمة تفسر بسحنة الوجه ولمحات العين وإشارات الأطراف ونغمات الصوت الني توضح أميال العقل الباطن حسبما يطلب أو يملك أو يتجنب !! وهكذا كنت بمداومة الاستماع إلى الألفاظ التي تخطر علي بال الناس عندما يتذكرون جملاً مختلفة التقط تدريجياً ما يكرروه ، وبتقليدي لهذه الألفاظ استطعت أن أنطق بما أريد وهكذا استطعت أن أبادل من حولي الأصوات المألوفة لتحقيق رغباتنا !! حتى إذا نمت ذاكرتي اندفعت بأكثر فطنة لأتعلم كل الألفاظ التي تستعمل في المعاملات اللازمة للحياة البشرية مستعيناً في هذا بواسطة الوالدين ومن هم أكبر مني سناً .
-14-
آه يا الله إلهي كم من سخريات وشقاوات ارتكبتها عندما فُرض عليً وأنا صبي أن أطيع معلمي حتى أنجح في هذه الحياة وأتفوق في معرفة اللغة التي تؤدي إلي مدح البشر وتجلب للإنسان الثراء الخادع .
ذهبت إلي المدرسة لأتزود بالعلوم دون أن أدري أنا المسكين التعيس أي فائدة ترجي لي منها وكنت إذا تهاونت فيها ضربوني!! هكذا جرت عدالة أجدادنا. لقد عبر الكثيرون نفس هذا الطريق ولكنهم لم يضعوا أمامنا إلا سبلا متعبة ضاعفوا بها المشقة والحزن على أبناء آدم ولكنهم كانوا مسرورين لأن يجعلونا نجتاز كل هذا .
في ذلك الوقت وجدت أن البشر يدعونك فتعلمت منهم أن أفكر فيك ، وأتطلع إليك كما أتطلع إلى منقذ عظيم وبالرغم من أنك كنت مخفياً عن حواسي فإنني أخذت أتضرع إليك وأنا صبي – يا عوني وملجأي – طالباً منك بغاية الاهتمام رغم صغر سني أن تستجيب لي وتساعدني فلا تجعلهم يضربونني في المدرسة وكنت لا تستجيب لي – حتى لا تسلمني إلى حماقتي ، لقد كنت أعتبر جلداتي وضربي أعظم المصائب وأشدها إيلاماً لنفسي ومع ذلك فإن من هم أكبر مني سناً حتى والداي اللذان ما كانا يضمران لي سوءاً كانوا يسخرون من جلداتي وضربي .
-15-
هل توجد يا رب أي نفس شريفة للغاية ومتعلقة بك بشوق قوي جداً ترتكب حماقة ما ؟؟… هل يوجد أي إنسان أمد بروح شريفة جداً من إيمانه بورع بك يسخر بقساوة من الآلام والمكائد والعذابات التي يعانيها البشر في كل مكان بخوف شديد ويدعونك لتخلصهم منها كما سخر والونا بالعذابات التي قاسيناها في دور الصبا من معلمينا والتي كنا لا نخفيها عنهم بل كنا نحدثهم عنها كما كنا نصلي إليك كثيراً لتخلصنا منها ؟؟
لقد أخطأنا في تقصيرنا في الكتابة والقراءة والدراسة ، ومع ذلك كانت هذه الخطيئة أقل من خطيئتنا في كوننا لم نطلب منك ذاكرة أو فهماً لتعطينا إياهما بما كفاية كإرادتك مع ما في ذلك من خسارة لنا إذ كان سرورنا الوحيد وقتذاك في اللعب وإن كنا نعاقب من أولئك الذين هم أنفسهم يلعبون !! .
هل يوجد إنسان سليم البصيرة يستصوب أن أضرب صبي لأني ألعب بالكرة ومع ذلك فإنه يستصوب لعبي عندما أصير رجلا وتكثر دروسي فأهملها والعب بعدم لياقة .. لقد كان معلمي يغتاظ من رفيقه ويحسده إذا غلبه في مناقشة بسيطة ، ومع ذلك فإنني إذا تعديت على من هزمني في لعب الكرة فإنه لم يكن يتردد في ضربي .
-16-
وحتى في هذا أخطأت أمامك أيها الرب الإله يا خالق ومدبر كل شئ قي الكون ! أخطأت أمامك أيهاالرب لتجاوزي أوامر أساتذتي ووالدي لأن ما أرادوا أن أتعلمه لم يكن إلا لفائدتي فضلا عن أن الباعث علي مخالفتي لهم لم يكن اختياري لما هو أفضل بل هو حبي للهو واللعب !!
لقد أحببت أن أتيه علي إخواني مزهواً بالنصر الذي كنت أحرزه في مشاجراتي كما أحببت أن أمتع أذني بالقصص الكاذبة فكانتا بذلك تزدادان شوقاً إلي سماع أمثالها وعندما كنت أبصر من هم أكبر مني سناً يلهون كانت تلمع عيناي ببريق الرغبة الملحة في استقصاء ما يعملون ومع أن أولئك اللاعبين كانوا يحبون أن يستمتع أبناؤهم بلعبهم فإنهم ما كانوا يتأخرون عن ضربهم إذا وجدوا أن اللعب يعيقهم عن دروسهم حتى يجعلوهم يدركون إذا ما سبوا أن الفضل كل الفضل فيما وصلوا إليه هو لهم… ليتك تتطلع يا رب برأفتك إلي هذه الأمور وتخلصنا نحن الذين ندعوك الآن كما تخلص من لم يدعوك حتى الآن عندما يدعونك لتخلصهم .
-17-
لقد قرأت عندما كنت صبياً عن الحياة الأبدية التي وعد بها المؤمنون ونالوها بتذلل الرب إلهنا الذي أذعن مختاراً بشرور كبريائنا .
أما أنا فقد ختم علي بعلامة صليبك وملحت بملحك { طقس في الكنيسة الغربية يسبق المعمودية ويشير إلى الطهارة والنقاوة القلبية وكنيستنا القبطية ترفض هذا الطقس ، وربما تكون هذه العبارة دخيلة علي الكتاب } عندما كنت في بطن أمي وإن كنت لم أعتمد إلا بعد أن ولدت وصرت رجلاً والذي أتذكره في هذا الصدد أنني أصبت بمرض فجائي في المعدة عندما كنت صبياً وقد بلغ من شدة المرض إنني منت أشبه المشرفين على الموت !
أما أنت يا إلهي وحارسي فقد رأيت بأي إيمانتوجهت أنا إلى أمي طلباً بشوق من اهتمامها الصالح ومن كنيستك أمنا جميعاً أن تعمدني بمعمودية مسيحك !! إلهي وربي … كم سبب هذا الطلب اضطرابا عظيماً لأمي بالجسد ! أجل لقد تألم قلبها الرقيق كثيراً لأنها كانت تشك في أصل خلاصي وما كانت تريدني أن أتعمد إلا بعد أن أثبت في إيمانك بقلب طاهر !! لقد كانت أمي متلهفة لأن أتقدس وأتطهر بأسرارك المحيية ، وكانت تصلي لك أيها الرب يسوع المسيح يا غافر كل الخطايا !! وكانت متلهفة إلي هذا ولكنها خشيت أن أتدنس ثانية عندما أشفي من مرضي فيكون ذنبي أعظم وخطيتي أكبر فلهذا السبب أجلت معموديتي ، لقد كنت مؤمناً في ذلك الوقت وكذلك كانت أمي وجميع أهل البيت ما عدا أبي فإنه لم يكن مؤمناً ، ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يتغلب علي روح التقوى التي غرستها أمي في قلبي رغم إني لم أكن بعد قد أمنت بك إيماناً رسمياً ! لقد اختارتك أمي يا إلهي أباً لي أفضل من أبي وقد ساعدتها علي أن تسود علي أبي في هذا الأمر بالرغم من أنها كانت تعيش مطيعة له واعتبرت طاعتها له طاعة لك لأنك أنت الذي أمرتها بطاعته !!
أود أن أتعلم بشوق عظيم متضرعاً إليك يا إلهي أن تعرفني السبب الذي من أجله أجلت معموديتي في ذلك الوقت ؟ أكان لفائدتي أن يظل العنان مرخياً حتى أخطئ ؟ أم لأن العنان كان مشدوداً فقد أجلت معموديتي ؟… وإذا لم يكن العنان مشدوداً فلماذا لازلت أذكر ذلك الصوت الذي كان يدوي في كل الأنحاء في أذني (دعه وحده دعه يفعل ما يريد لأنه لم يتعمد بعد).
أفكان يجوز لهم أن يدعوني أن أفعل ما أريد لأنني لم أبرأ من مرضي الروحي مع أنني لو مرضت مرضاً جسدياً فإنه لا يوجد من يقول ( دع جرحه يتسع لأنه لم يبرأ بعد ) لأن الأفضل هو أن أشفي حالاً .. بعد ذلك وبمعونة أصدقائي واجتهادي شفيت نفسي وحفظت سالمة في حراستك التي حرستها بها وهكذا حفظت في حالة أفضل إلى أن هبت علي بعد صباي عواصف التجارب الكثيرة والعظيمة التي زلزلت نفسي وهكذا تحققت نبوءة أمي عندما رفضت أن تعمدني خشية أن أعود إلي النجاسة بعد تطهيري .
-18-
ومع ذلك ففي دور الصبا ( وكان خوفي فيه من العقاب أخف من دور الشباب ) لم أرغب في أن أستذكر دروسي وكرهت أن أجبر علي ذلك ومع ذلك فإنهم كانوا يجبرونني وهكذا كنت أستذكر وكان هذا لخيري وإن كان لا فضل لي فيه إلا أنني لو لم لأجبر على عمله لما عملته ولا فضل لإنسان فيما يعمله مرغماً حتى ولو كان ما يفعله خيراً .. ومع ذلك فإن الذين أجبروني علي عمل ما هو لخيري لم يعملوا خيراً فكل ما أصابني من خير قد نلته منك يا إلهي . ذلك لأن الذين أجبروني علي أن أتعلم لم يقصدوا إلا أن استخدم علمي في الحصول علي ثروة فانية أو أنال مجداً مخزياً .
أما أنت يا من حتى شعور رؤوسنا محصاة لديك فقد سخرت لفائدتي كل خطأ أجبروني علي أن أتعلمه وأنا الذي لم أرد أن أتعلم قد استخدمت لقصاصي عقاباً ملائماً معي كصبي صغير أوغل في الإثم إلي حد كبير وهكذا صنعت بي خيراً مستخدماً أولئك الذين لم يعملوا معي أي خير كما عاقبتني بعدل عن خطتي لأنك هكذا وضعت قصاصاً خاصاً لكل من انحرفت عواطفه أو مال إلى طريق الشر
* * *
-19-
ولكن لماذا كنت وأنا صبي أبغض اللغة اليونانية التي كنت أدرسها بغضاً كبيراً ؟ إنني إلي الآن لا أعلم سبباً دقيقاً لهذا . ومع ذلك فقد أحببت اللغة اللاتينية ولكن ما أحببته منها لم يكن ذلك الذي تعلمته علي يد أساتذتي بالمدرسة من قراءة وكتابة وحساب فهذه الدروس كنت أعتبرها كأي يوناني حملاً ثقيلاً وغرماً كبيراً وإنما الذي أحببته هو ما تعلمته فيما بعد علي يد علماء النحو .
ومع ذلك فإن هذا الحب لم يكن إلا من الخطيئة وغرور هذه الحياة واعتقادي في نفسي إنني لست إلا إنساناً يفني ويزول بلا عودة ولو لم أكن كذلك لفضلت الدروس الأولي بلا ريب لأنها كانت عملية أكثر من الثانية إذ بها أدركت وضبت ما أقرأ وبها كنت أكتب ما أريد . أما الدروس الأخرى فقد كنت مجبراً علي مطالعة طياشة إينياس متغافلا عن طيشي وأنوح علي ديدو المائتة لأنها قتلت نفسها منأجل الحب حتى جف الدمع في مقلتي ، وعشت أنوء بتعاسة نفسي زمناً طويلاً أشرفت فيه علي الموت غارقاً وسط هذه الأوهام البعيدة كل البعد عنك يا إله حياتي .
-20-
أي تعاسة أكثر من تعاسة الإنسان الذي يبكي علي موت ديدو لمحبتها إينياس ولا يرثي بل ولا يبكي علي هلاك نفسه لافتقاره إلي محبتك يا إلهي . أنت ضياء قلبي . أنت خبز نفسي الروحي. أنت القوة التي تعطي القوة لعقلي . أنت الذي أحييت موات آمالي فكيف لا أحبك ، لقد ارتكبت الفسق ، وكذلك جميع من حولي كانوا يفسقون ضد إرادتك وهم يقولون لي ( حسناً تفعل ! حسناً تفعل !) غير عالمين أن محبة هذا العالم هي عداوة لك .
لقد كانت عبارة ( حسناً تفعل ! حسناً تفعل ! ) تدوي في أذني دائماً حتى أصبحت لا أخجل من نفسي أنا الذي بكيت علي ديدو المقتولة وكنت طول الوقت أبحث لنفسي عن نهاية كنهايتها ( طالباً بالسيف طعنة وجرحاً قاتلاً ) نابذاً إياك أنا التراب والذي سوف يعود إلي التراب … لقد كنت أحزن إذا مُنعت من قراءة هذه الأوهام كلها . لقد كنت أحزن إذا مُنعت من قراءة ما يحزنني معتبراً هذه الأوهام علماً أعلا وأسمي من العلم الذي تعلمت به كيف أقرأ وكيف أكتب .
-21-
ولكن الآن ناد يا إلهي في أعماق نفسي ودع حقك يخبرني قائلاً ( لا تفعل هذا ! لا تفعل هذا ( لأن تلك الدراسات التي تعلمتها أولاً هي أفضل بمثير من الدراسات الأخرى حتى أنني الآن كم أود أن أنسي طياشة إينياس وكل العلوم الباقية التي تعلمتها علي أن لا أنسي القراءة والكتابة التي تعلمتها أولاً .
ولكن علاوة علي دخول مدرسة العلوم كان يوجد هناك برقع {كان البرقع لباساً يدل علي الشرف وكان يلبس في أماكن العبادة وبعد ذلك أستعمل في المحاكم ثم في قصور القياصرة وفي بعض المنازل الخاصة . } مرفوع يحجبني عنك ولم يكن هذا البرقع هو الفاصل الوحيد بيني وبينك بل كان يوجد هناك فاصل آخر يفصلني عنك – هو جهلي بك – الذي قد أعتذر به عن ضلالي … لا تدع أولئك الذين لا أخافهم أن يقفوا ضد رغبات نفسي عندما أعترف لك يا إلهي مذعناً للقصاص الذي أستحقه لسيري في طريق الشر لعلي أحب طرفك المستقيمة .
لا تدع الأساتذة والتلاميذ اللذين ليس لهم بضاعة سوي أن يتاجروا في علم النحو والصرف أن يصيحوا في وجهي إذا قلت لهم إن القراءة والكتابة أفضل من كل علومكم لأنني إذا سألتهم عما إذا كان إينياس قد ذهب حقاً في وقت ما إلي قرطاجنة كما يقول الشاعر فإنهم دائماً يختلفون فيما بينهم ويجيب أصغر علمائهم بأنهم لا يعرفون ، ويجيب أكبرهم [انه لم يذهب مع أنني لو سألتهم عن الأحرف التي يُكتب بها الاسم إينياس بالنسبة إلي الروم التي اصطلح عليها البشر لما اختلفوا فيما بينهم و لأجابني كل من درس هذه الرسوم الإجابة بالضبط .
لا بل إذا سألت عن أيهما يمكن أن يتغافل عن دراسته بدون ضرر يذكر أعي القراءة والكتابة أم تلك الخرافات الشعرية ؟ إنني أدرك مقدماً ما يجيب به العقلاء … إذن أخطأت وأنا صبي إذ فضلت الدراسات التي لا قيمة لها علي تلك الدراسات العظيمة الأهمية . لقد كان جمع 1+1=2 ، و2+2=4 لقد كان هذا العمل نشيد أنشاد منبوذ عندي أما قصة ( الحصان الخشبي الذي اختبأ فيه الجنود المسلحون ) و( حريق تروي) و )روح كروزا ) و ( التشبيه المحزن ) لقد كانت هذه كلها المشهد الثمين الذي أتيه به فخوراً .
-22-
لقد أبغضت العلماء اليونانيين الذين حاكوا قصصاً مماثلة لتلك القصص اللاتينية التي كنت شغوفاً بها . لماذا ؟ بلا شك إن هوميروس قد حاك بمهارة فائقة خرافاته التي كان مزهواً بها جداً ومع ذلك فإن ما كتبه كان مراً لمذاقي الصبياني … هكذا كان شعوري عندما كنت أُُجبر علي قراءة هوميروس ولا شك أن الأطفال اليونانيين كانوا يشعرون بنفس الشعور عندما كانوا يجبرون علي دراسة فرجيل .
وفي الواقع أن الصعوبة كانت صعوبة دراسة لغة أجنبية فإنها وإن امتزجت بكل ما في الخرافةاليونانية من عزوبة فإني كنت أبغضها لأني لم أكن أفهم منها شيئاً لذلك فقد أجبروني إجبارا قوياً وهددوني تهديداً قاسياً وعاقبوني أشد العقاب حتى حملوني علي أن أحفظها .. لما كنت طفلاً لم أكن أعرف اللاتينية ولكن هذه تعلمتها بدون عذاب ورعب ، لقد تعلمتها بالملاحظة المجردة وقت تقبيل أقاربي لي داخل مخدعي ووقت المزاح مع أحبائي الذين كانوا يبتسمون لي ويشجعونني أثناء اللعب علي أن أتعلمها فتعلمتها بدون إجبار ولا عقاب .
لقد دفعني قلبي علي أن أتعلمها وكل ما قدرت علي أن أتعلمه قد تعلمته عن طريق حفظ الألفاظ التي كان يتكلم بها معي من علموني أن أعبر باللفظ عن كل إشارة أشير بها أمامهم فكان الفضل في تعليمي لهم ولم يكن الفضل لمن علموني بالمدرسة .. فالرغبة البحتة في المعرفة هي أقوي أثراً فيمن يدرس من ذلك الإكراه المخيف وإن كان الإكراه لازماً لقمع أوهام الحرية التي نجدها في نواميسك يا إلهي والتي لا يمكن ردعها إلا بقصاص كل من ينحرف عن الناموس أو قصاص كل من يدفعنا إلي الانحراف عنه , فنواميسك وإن بدت ممزوجة بالمر إلا إن فيها الشفاء لنا لأنها تدعونا إليك مخلصة إيانا من تلك الشهوات المميتة التي أغوتنا عن طريقك .
-23-
ويل لك أيتها الشهوة إنك تسودين علي البشر وتجرفينهم في تيارك ، من يقدر أن يقف في طريقك ؟ إلي متي لا تضعف قوتك ؟ إلي متي تدفعين أبناء حواء في خضم محيطك الواسع المخيف ؟ ذلكالمحيط الذي لا يقدر أن يعبره إلا الذي يقدر أن يحتمل البلايا !! ومع ذلك فهو لا يعبره إلا بالجهد .
أيتها الشهوة لقد تبينت سلطانك في أسطورة المشترى { إله الرومان الأكبر } ! لقد كان ساخطاً عليك رغم فجوره ، ومع أنه لا يوجد المشترى إلا في عالم الخيال إلا أن مُلفق أسطورته قد وضعها في صورة الرعد المزعج الذي يدفع الناس بخبث إلي السير في طريق الفجور الحقيقي .. إذا قال طالب في مدرستنا لأحد أساتذته الذين يرتدون الجلباب ( إن هذه الأساطير من عمل هوميروس والدليل علي ذلك إنه كان ينسب للآلهة أموراً بشرية ولم يأت لنا بدليل من عند الآلهة يؤيد زعمه ) .إذا قال طالب هذا لأساتذته فإنهم لا يلتفتون إليه ومع ذلك لابد أن يقول أحدهم وهو في ذلك يقول الحق (لاشك إن هذه الأساطير هي خرافات لأنها تنيب أعمال البشر الشريرة إلي الطبيعة الإلهية وبذلك تدفع الناس إلى الفسق فلا يكون الفسق فسقاً لأن من يرتكب الفسق حينئذ يعتقد أنه لا يرتكب شراً وإنما يقتدي بالآلهة العلويين ) .
-24-
أيتها الشهوة أنت سيل شرير يطرح البشر أنفسهم في تيارك وهم يلقون بأنفسهم فيك بحجة أنهم يتعلمون علماً وهذا العلم لا يتحصلون عليه إلا بـأفدح الأثمان !! حتى إذا وصلوا إلي أعلي درجاته نالوا شرفاً لا يناله بقية الطلبة فتقام لهم الاحتفالات الفخمة في الساحة العامة بروما ويكرمونهم لأنهم تعلموا القوانين، والحقيقة أنهم لم يتعلموا القوانين إلا ضمن ما تعلموه عنك .
ويل لك أيتها الشهوة أنت تلطمين صخورك وتزمجرين لكي تضمني النجاح أخيراً !! أنت تدسين السم في آرائك وتضعين في قلوب البشر أن يتعلموا هذه الأساطير لكي يحفظوا ألفاظاً يتعلمون بها البلاغة ولكن هل يلزم الإنسان لكي يكون بليغاً أن يعرف هذه الألفاظ : غيث ذهبي – حضن – مخدع – هياكل علوية . وغيرها من الألفاظ التي تشابهها … هل لابد لكي نتعلم البلاغة أن نعرف أن ترنس قد أستحضر شاباً فاسقاً علي مكان عال .. هل لابد لكي نتعلم البلاغة أن نعرف بأن الإله المشترى قد أغوي شاباً مثل ما عمل ترنس ؟ … ما الفائدة من حفظ مثل هذه الأشعار : هــــــــا أنــــا أنـــــظر تمثـــــــالاً مكتوبـــــاً عليـــــــه الأسطورة
لقد نزل المشترى في غيث ذهبي لقد نزل إلى حضن دانا ليغويها
لاحظ يا من تقرأ اعترافاتي كيف أن كاتب الأسطورة يتعمد أن يلذذ نفسه يذكر تلك الألفاظ القبيحة ناسباً ما فيها إلي القدرة العلوية التي يخاطبها بعد هذا قائلاً : – من هو الله ؟… هو المشترى الكبير ! ..هو يدبر بصوته الهياكل العلوية السمائية ! فلماذا لا أعمل مثله أنا الإنسان المسكين المائت ؟ .. سأعمل !! وبكل قلبي سأعمل ! .
* * *
لقد تعلمنا من هذه الأساطير ألفاظاً كثيرة ، ومن هذه الألفاظ تعلمنا القبائح ومع ذلك فقد حفظنا هذه الألفاظ بصعوبة كبيرة حتى إذا حفظناها ارتكبنا القبائح بدون أي خجل . لست أذم الألفاظ التي تعلم القباحة في حد ذاتها مهما اُختيرت بعناية إلا أنني أقول أن مثل هذه الألفاظ هي أوعية الإثم وخمرالخطية . لقد شربنا تلك الخمرة من أساتذة ثملين ، وعندما كنا نرفض الشرب كانوا يضربوننا دون أن نجد قاضياً منصفاً نستغيث به . أعترف في حضرتك الآن يا إلهي – بدون ألم – أنني من سوء حظي أنني تعلمت باختياري وبعزم كبير هذه الألفاظ وهذه القبائح حتى إذا برعت فيها قالوا عني ( إنه صبي يُرجى منه ) .
-25-
احتملني يا إلهي عندما أتكلم قليلاً عن ذكائي الذي هو عطيتك! هذا الذكاء الذي أضعته في الغرام الدنس ، لقد تسلطت علي فكرة جعلتني أهتم بالذم والمدح . وعندما كنت أتلو كلمات جينو { وهو إله وثني } كنت أخاف أن أقع في الشرك التي وقع فيها كما ورد في أسطورته : -هـــــــذا الأمـــــيــــر تــــروجـــان قــــــد عـــــاد مـــن لتـــــيوم
إن الألفاظ التي نسبت إلي جينو في تلك الأسطورة ، لم يقلها مطلقاً ومع ذلك كنا مجبرين علي أن نضل في خطوات تلك الخرافات الشعرية ، وأن نقول نثراً كثيراً مما نطق به شعراً . لقد كان كلامه عذباً للغاية ، لقد تجلت فيه آلام الغضب والحزن بدرجة فائقة جداً وكانت عباراته متسربلة بألفاظ مناسبة جداً للمحافظة علي شرف الأخلاق . ولكن ماذا استفدته أنا من هذه الأسطورة يا إلهي يا حياتي المستقيمة ؟ ماذا استفدت من كون مقالاتي التي كتبتها في ذلك الوقت كانت أفضل من مقالات الكثيرين ممن هم في سني ومنزلتي ؟ ؟ … أليس كل هذا بخار وهواء ؟ ؟ … ألم يكن هناك علم آخر أتعلمه لأختبر به ذكائي ولساني ؟ أليست تسابيحك المدعمة بكتبك المقدسة يا رب هي الضربة السريعة النهائية التي أنفتح لها قلبي فسار في طريق الهداية بعد أن كان غنيمة دنسة لطيور السماء وسط هذه العلوم التافهة التي يقدم بها البشر أنفسهم ذبائح للملائكة الماردين.
-26-
لقد أضلتني بعد ذلك أباطيل العالم وخرجت من كنفك يا إلهي ولم يكن ذلك الأمر عجيباً ، لأنني لم أري أمامي نماذج أقتدي بها إلا أولئك الناس ، الذين كانوا يحدثونني عن أعمالهم – التي وإن تكن غير شريرة في حد ذاتها إلا أنه كان من الخطأ أن يتحدثوا بها أمامي – لأنها تكشف أمام عيني أموراً ما كان يجب أن أعرفها !! فلما قوبل عملهم هذا باللوم والتقريع خجلوا من عملهم وأخذوا يتحدثونعن أنفسهم حديثاً طويلاً منمقاً للغاية قابله الناس بالثناء والمديح انتفخت له أوداجهم … أما أنت يا رب فقد كنت تبصر كل هذا صامتاً- لأنك طويل الأناة وصادق كثير الرحمة – ولكن هل تسكت إلى الأبد؟ لقد أخرجت من هذا الطريق المخيف تلك النفس التي كانت تبحث عنك !! تلك النفس العطشى إلى ينابيعك العذبة !! لقد نادتك من أعماق القلب قائلة ” لك أطلب ولوجهك يا رب ألتمس ” .
* * *
إن الميول المظلمة ليست بخافية عليك ، ولا هي بعيدة عنك . فالبشر إنما يبتعدون عنك ويعودون إليك بإرادتهم لا بأقدامهم ولا بتغيير المكان . فالابن الأصغر لم يبتعد عنك لأنه نظر المركباتوالخيول أو المراكب فسارع إليها ، كما أنه لم يبتعد عنك سائراً على قدميه إلي كوره بعيدة لينفق بإسراف كل ما أعطيته له عند سفره . وإنما ابتعد عنك عندما انصرف إلى شهواته وجرى وراء ميوله المظلمة . فهنا يكون البعد الحقيقي عنك ومع ذلك عندما أعطيته ما أعطيته له عند سفره كنت له أباً محباً ، وعندما عاد إليك فارغاً كنت له أكثر حباً .
-27-
تطلع أيها الرب من عليائك . تطلع بطول أناة كما هي عادتك ! تطلع إلي بني البشر كيف أنهم يحفظون بعناية زائدة القواعد المتفق عليها للحروف ومقاطع الكلمات التي تسلموها ممن سبقوهم متغافلين عن ذلك الميثاق الأزلي للخلاص الأبدي الذي سلمتنا إياه ! لذلك نري أساتذة اللغة وطلاب القوانين الوضعية للنطق يغضبون الناس ويثورون عليهم إذا أخطأوا في القراءة وخالفوا قواعد النحو، فإذا قال إنسان بدلا من عبارة (وجود الإنسان) عبارة ( وجو الإنسان ) فإنهم يبغضونه مع أنهم في أنفسهم يتمنون عدم ( وجود الإنسان ) الأمر الذي يكرهه أنت يا الله . وهذه البغضاء التي تثور في نفوس أولئك لا تقتصر علي مجرد البغض ، بل تتعداه إلي حد محاولة إيذاء من يبغضونه علماً بأن حقدهم وبغضائهم يسيئان إليهم أكثر مما يسيئان إلي العدو الذي يضطهدونه .
إن معرفة النطق ليست مسألة غريزية في الإنسان بعكس شهادة الضمير . ومع ذلك فإنه إذا وقف عالم بشري لا وازع لـــه من ضمير أمام قاض مشتكياً خصمه بحضور جمع من الناس ، فإنه يعمل على إجادة النطق بالألفاظ محاذراً أن يخطئ في قواعد النحو فينطق عبارة ( وجود الإنسان ) جيداً في الوقت الذي ينساق فيه في غضبه فلا يحذر أن يقضي على ( وجود الإنسان ) بعمله على القضاء على خصمه ، لأنك أنت يا إلهي فد أنسيته الحكمة . حقاً يا لعمق حكمتم يا الله !ما أعظمك لأنك أنتالعظيم وحدك ! إنك في سموك تجلس صامتاً ، وتقضي – بشرع غير محلل – بالجهل على كل منانحرف عن طريقك ، وانساق وراء رغباته الشريرة.
-28-
هكذا كان حال العالم الذي من بابه دخلت أنا التعيس في دور صباي . هذا هو الميدان الذي خشيت فيه أن أرتكب خطأ في قواعد اللغة مع إني ارتكبت شراً أعظم لأني كنت أحسد الذين لا يخطئون فيها .. إنني أتكلم عن هذه الأشياء معترفاً أمامك يا إلهي بأنني كنت أعتبر كل ما يمدحني الناس لأجله ، وكل ما يسرهم ، إنما هو الصالح دون أن أعرف في أية هاوية ترديت ، حتى صرت مكروهاً أمام عينيك … أما قبل ذلك فقد كنت أكثر غباوة حتى إنني كنت أكدر نفسي بأكاذيب لا حصر لها . وكنت أخدع مهذبي ووالدي وأساتذتي بطرق متنوعة لألهو كما أريد .
أما المناظر الباطلة فقد كنت شغوفاً بمحاكاتها مهما كلفني ذلك من ثمن ، حتى إنني لم أكن أتردد في سرقة مؤونة والدي ومائدتهما ، وأعطي ما أسرقه للأطفال حتى يبيعوني لعبهم مع أن حبهم فيها لم يكن أقل من حبي لها ، كل هذا بدافع طمعي وأنانيتي … لقد كنت ألهو وألعب وحتى في لعبي لم أكن أقنع نما هو حق ، بل استولت علي رغبة الزعامة الباطلة . فكنت أقسو علي الآخرين وأعيرهم إذا أخطأوا مع أني كنت لا أتحمل منهم المثل إذا أخطأت ، فعندما كان يوبخني أي إنسان علي خطأ ، كنت لا أذعن للحق وأختار أن أخاصمه علي أن أستسلم لتوبيخه …… هل هذه هي براءة الصبا ؟ إنها ليست كذلك . استغيث برحمتك يا إلهي من هذه الأثام التي نمت بذرتها في نفسي عندما صرت أكبر سناً .
لقد كانت هذه آثامي مع مهذبي وأساتذتي فصارت مع الحكام والملوك . لقد كانت هذه الآثام تظهر عند النزاع علي عصفور أو بندقة أو كرة ، وعندما كبرت صارت تظهر في النزاع علي الذهب والأراضي والعبيد . وهكذا تغيرت أيضاً عقوبة آثامي فحل محل الضرب بالعصا التي يعاقب بها الصبي عقوبات أخرى أكثر صرامة . لقد كانت آثام صباي تدعي وقتئذ بساطة الطفولة التي تكني عن المسكنة التي مدحتها يا ملكنا عندما قلت ” إن لمثل هؤلاء ملكوت السموات ” .
-29-
ومع ذلك أيها الرب خالق المسكونة وقاضيها ، أنت أيها الفائق جداً والصالح جداً هو الذي يليق بك الشكر يا إلهنا لأنك منحت هذا الامتياز للأولاد فقط لأنني وأنا منهم قد عشت وسقطت في الخطية ورغم ذلك فإنني قد تحصلت علي تلك الذخيرة الثابتة إذ كنت متحداً بك اتحادا سرياً ولقد أدركت سر ذلك الاتحاد بإحساسي الداخلي وأنا أفكر في تلك الأمور الدقيقة التي كانت تتتابع أمامي فأشعر بها وأفكر فيها . لذلك تعلمت أن أبتهج بالحق وكرهت أن أضل .
لقد كانت لي رغم صغر سني تلك الذاكرة القوية التي وهبتها لي والتي تجلت في الخطابة ، وإذ كنت أحب الناس وأحب أن أكون لطيفاً معهم فقد تجنبت الأذى والخسة والجهل … ما أعجب هذا وما أغربه !! ولكن هذه كلها مواهبك لي يا إلهي التي لم أمنحها لنفسي . هي مواهب صالحة وهي معاً معي هي أنا نفسي .
صالح إذن الذي خلقني وهو صلاحي وأمامه أتهلل بكل شئ حسن كان عندي وأنا صبي . لقد كانت خطيتي – وليست خطيتي أنا وحدي ، بل خطايا كل مخلوق أخر – لقد كانت خطيتي إنني سعيت في الحصول علي الملذات والمجد الباطل مع إني كنت أطلب الحق وهكذا سقطت بنزق في الأحزان والاضطرابات والزلات .
الشكر واجب لك يا إلهي يا فرحي وفخري ورجائي . الشكر واجب لك علي عطاياك فهل ستديمها لي ما دمت ستحافظ علي ؟ إن هذه الأشياء التي أعطيتني إياها ستزداد وتكمل وأنا نفسي سأكون معكما دمت أنت قد وهبتني أيضاً هذه المواهب !!
الكتاب الثاني
أمراض أخرى ساقته إليها البطالة ولم تنكشف إلا في السادسة عشرة من عمره .
مصائب المعاشرات الرديئة التي انقاد بسببها إلى السرقة .
-1-
اندفاع القديس وراء شهواته
سأتذكر الآن شروري القديمة وشهوات نفسي الدنسة لا لأنني أحبها ولكن لعلي أحبك يا إلهي حباً عظيماً . سأتصفح في ذاكرة نفسي الحزينة الشرور العظيمة التي ارتكبتها لعلك تتراءف بي ( يا منلا تفني حلاوتك ، أيها المبارك يا من حلاوتك هي الحلاوة الحقة ). أنت الذي أختطفتني من طرق الخلاعة التي كنت فيها تائها شريداً منصرفاً عنك أيها الإله الصالح وحده . لقد أبحت لنفسي كل منكر لأن نفسي كانت تميل إلي الاستمتاع باللذات الدنيا، فتجرأت علي أن أنساق في تيارها هائماً بشتي الأوهام الحالكة الظلام حتى ذبل جمالي وصرت مكروهاً أمامك لأن نفسي تلذذت بمحبة العالم .
-2-
لقد كانت غاية مناي أن أحب وأن أكون محبوباً . ولكني لم أجعل مقياس حبي هو الصداقة البريئة الممزوجة باحترام آراء الغير بل جعلت مقياس حبي هو شهوة الجسد الترابية وغرور الشباب الباطل ، فأفسحت مجالاً في قلبي لحب الأحزان فتراكمت عليه ، وفقدت القدرة علي التمييز بين بهاء المحبة النقي وضباب الشهوة الملوث الذي كان يثير اضطرابي ويدفع بشبابي السابح فوق هوة الرغبات الدنسة إلي الغرق في خليج القباحة . لقد تجمع علي غضبك ولم أدر به لأن أذنيَ قد صٌُمتا برنين قيود الموت الذي هو عقاب كل متكبر النفس فازددت ضلالا فوق ضلال. أما أنت فقد بقيت صامتاً وتركتني أتخبط وحدي في المجون والعهارة .
آواه يا إلهي ….. يا نهاية أفراحي لقد زادني صمتك في ذلك الوقت ضلالا وبعداً عنك ، وقد ضللت أكثر فأكثر عندما تشامخت بتلك الأحزان المرة عديمة الفائدة التي سببت كآبتي وضجري واضطرابي .
-3-
كلمة الله تخفف أحزانه الناجمة عن الاندفاع وراء الشهوات
آه يا ألهي ….. لقد أرسلت إلي في ذلك الوقت مَن لطف أحزاني ، وعَدد لي ما فقدته من جمال بشروري ، كي أعود وأسير في طريق الخير الذي خلقتنا لأجله ، فوضع هذا حداً لشهوات شبابي ، فلما لم أستطع أن أقمعها فكرت في أن أتزوج ، وعزمت فعلا علي تكوين أسرة كما فرض ناموسك يا رب ، يا من اخترت هذه الوسيلة لتقيم من موتنا نسلاً ، وأنت القادر أن تخفف بيدك الحنون وخز الأشواك التي طردنا بسببها من الفردوس .
إن قوتك يا رب ليست بعيدة عنا ، ونحن لسنا بعيدين عنك ، وكان يجب علي أن أحذر جيداً وأصغي إلي ذلك الصوت الآتي من السماء القائل : ” مثل هؤلاء يكون لهم ضيق في الجسد وأما أنا فأشفق عليكم . حسن للرجل أن لا يمس امرأة . غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب وأما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضي امرأته ” { 1 كو 7 : 33 } .
-4-
كان من الواجب أن أصغي وأن أنتبه جيداً لهذه الكلمات ، وأن أنتظر بكل سرور معانقاتك لي ، لأني كنت مفروزاً لأجل ملكوت السموات ، ولكني … أنا الشقي المسكين … قد أزبدت مثل بحر مضطرب تارة أعلو وطوراً أنخفض … نابذاً إياك متجاوزاً كل أوامرك ومع ذلك فلم أستطع أن أنجو من سياط تأديبك . ولم يقدر البشر أن يعملوا بي شيئاً لأنك وإن كنت صارماً معي ، فقد كنت رحيماً بي ، لذلك مزجت لذاتي المحرمة بمرارة الحزن كي أبحث عن لذة لا كدر فيها … ولكن أين أجد هذا ؟ لم أجدهذا إلا فيك يا رب يا من بأحزاننا تدربنا ، يا من تجرحنا لتشفينا ، وتميتنا لتحيينا ، حتى إذا متنا فإننا لا نموت بعيداً عنك .
في أي مكان كنت موجوداً ؟ وإلى أي مدي كنت منفياً عن مسرات بيتك عندما كنت في السادسة عشرة من عمري خاضعاً لسلطان جنون الشهوة . مطلقاً لجسدي العنان حتى تمرغ في الإثم مخالفاً شرائعك ؟ لقد أسلمت نفسي لشهوات الجسد …. ولم يكن هناك بين أصدقائي من يسعي لإنقاذي لأن كل اهتمامهم كان منصرفاً في أن أبرع في علم الكلام كي أصبح فيما بعد خطيباً يشار إليه بالبنان .
-5-
انقطاعه مؤقتاً عن الدراسة
في تلك السنة التي تلت عودتي من مادورا { كانت مدينة كبيرة في شمال أفريقيا وقد صارت الآن قرية صغيرة } وهي إحدى المدن المجاورة التي كنت أتعلم فيها علم البيان والصرف . في تلك السنة انقطعت عن دراستي مؤقتاً لأن أبي عجز عن تزويدي بنفقات الرحلة إلي قرطاجنة التي كان يريد أن أتعلم فيها . لقد كانت نفقات الرحلة فوق طاقته لأنه لم يكن من الأغنياء بل كان من أحرار (ساجستة ) الفقراء . ومع ذلك فإن عجزه لم يمنعه من إعداد نفقات رحلة أخري . لمن أقول هذا ؟ لست أقول هذا لك يا إلهي لأنك تعرف نسبي وإنما أقول هذا لذلك العدد القليل من البشر الذي قد يعثرعلي كتاباتي هذه .
ولكن لأي سبب أقول هذا ؟ إنني أقوله لكي يعرف من يقرأه إنني كنت أصرخ إليك من الأعماق لأنه ليس هناك ما هو أفضل ولا ما هو أقرب إلي أذنيك من قلب معترف وحياة مؤمنة .
من لا يعظم أبي ؟ لقد تمكن بمهارته أن يمدني بكل ما يلزم كثيرين غيره من ضروريات لأجل الدراسة ، لقد توافرت لدي مواطنين كثيرين غيره إمكانيات مادية أكثر منه ولكنهم لم يصنعوا مع أبنائهم مثل ما صنع بي أبي ، ومع ذلك فإن أبي لم يعبأ كثيراً بأن يجعلني واحداً من أبنائك الأطهارحتى أنه بالرغم من أنني قد صرت خطيباً مفوهاً فإنني كنت غير لائق لخدمتك يا الله يا من أنت هو الحق وحده ، والرب الصالح لأن يحتل سويداء قلبي .
-6-
في السادسة عشرة من عمري ، في تلك الفترة التي تعطلتها عن الدراسة بسبب حرج مركز والدي المالي ، كنت أعيش مع أسرتي فازدادت وخزات الرغبات النجسة ، وتمكنت بشدة من نفسي دون أنتمتد يد لتخلصني منها . لقد كنت في سن البلوغ ، وكان شبابي فائراً ، فكنت أذهب إلي الحمامات وهناك كان أبي يراني فيذهب إلي أمي مسروراً ويخبرها بفرح عما كان يشاهده ، لقد كان يود أن أشب علي شاكلته ، فكانت تسعده تلك الاحساسات الرديئة التي كنت أشعر بها ، تلك الاحساسات التي جعلت العالم ينساك أنت الخالق ويُفتن بخليقتك عوضاً عنك ، لقد سكرت بأبخرة تلك الخمر غير المنظورة ، وتمكنت من نفسي مشاهد النجاسة فخررت ساجداً لها .
أما أنت فقد وضعت من قبل في قلب أمي أن تعدني لأكون هيكلك المقدس ، وبيتاً صالحاً لسكناك ، ولم يكن أبي قد تعمد بعد وإن كان قد ترشح أخيراً للعماد لذلك كانت أمي منزعجة وخائفة خوفاً ظاهراً ومرتعدة ، لقد أزعجتها تلك الطرق الملتوية التي يسلكها من يديرون لك ظهورهم رغم أنني لم أكن قد تعمدت .
-7-
ويلي … لأنني تجرأت وقلت إنك لزمت الصمت يا إلهي عندما تماديت أنا في ضلالي بعيداً عنك … أحقاً أنك لزمت الصمت نحوي ؟ ولمن سواك إذن كانت تلك الكلمات التي رنمت بها في أذني بواسطة أمي المؤمنة بك دون أن يستقر في قلبي شئ منها لأعمل به ؟ … إنني أتذكر جيداً كيف أنها كانت بغاية اللهفة تنذرني في الخفاء قائلة : ” لا ترتكب فسقاً وعلي الأخص لا تدنس أبداً زوجة رجل آخر ” .
لقد كانت هذه الأقوال تظهر لي إنها نصائح نساء وكان يجب علي أن أشعر بالخجل من نفسي إذا أطعتها ، فلم أطعها لأنني لم أكن أعلم إنها إرشاداتك . وهكذا ظننت أنك كنت صامتاً عني فكنت أهزأبإرشادات أمي أنا أبنها .. أنا أبن أمتك دون أن أعلم هذا.
لقد اندفعت بنزق وغباوة في طريق الفسق حتى إنه كان يخجلني أن أكون أقل أندادي فسقا ورغماً من أنهم عندما كانوا يفاخرون بفسقهم كان مقامهم يزداد انحطاطا إلا أنني تلذذت بصحبتهم . لمأتلذذ فقط بالفسق معهم بل تلذذت أيضاً بالمديح ، ولما لم يكن هناك ما يستوجب المديح سوي الرذيلة فقد بالغت في وصف الرذائل التي كنت أنسبها لنفسي ، لقد صورت نفسي بأشر مما كنت عليه لكي لا أُذم حتى إنني في الوقت الذي لم أكن قد ارتكبت فيه شيئاً من المنكر كنت أنسب لنفسي ما لم أعمله لئلا أُحتقر لبراءتي وعفافي .
-8-
لقد سرت مع رفقائي وما أدراك أي رفقاء كانوا ؟ ! لقد سرت معهم في شوارع بابل وتمرغت فيالحمأة كما لو كانت وادي أطياب وعطور ثمينة ! لقد ناء على ذلك العدو الخفي بكلكله وأغواني حتى وصلت بسرعة إلي قرار الحمأة ، وقد ساعد علي ذلك أن أمي بالجسد لم تكن معي ( لقد فرت هاربة من وسط بابل ولكنها لم تتقدم بسرعة إلى التخوم ) لكم نصحتني أمي أن أعيش طاهراً .. لقد علمت بسلوكي مما سمعته من زوجها وكانت خضوعاً منها له مضطرة لأن تغض الطرف عن كلامه ( إذ لم يكن من السهل وهي زوجته أن تعارض رغباته ) .
لقد كانت تفكر في ربطي برباط الزوجية على أساس مكين . ولكنها خشيت أن يكون في الزواج خطر عليَ وعلي مستقبلي في ذلك الوقت ، فلم تسارع إلى زواجي حتى لا تقف الزوجة حاجزاً ومانعاً يمنعني من تحقيق آمالي . ولم تكن هذه الآمال هي آمال الدهر الآتي ، بل كان أملها في أن أبلغ شأواً بعيداً في الحصول علي العلوم التي كان أبي وأمي تائقين إلي أن أتعلمها .
إن أبي في ذلك الوقت لم يكن بعد قد فكر فيك ، وكانت التصورات الباطلة هي التي يفكر لي فيها . أما أمي فكانت تظن أن إقبالي علي العلم يبعدني عن الزواج وقد يقربني قليلاً منك . هذا هو الترتيب الذي أعده لي والدي والذي لا زلت أتذكره جيداً . لقد كانت الأعنة إذ ذاك مرخاة لي وكان يجب قمعي بكل شدة ممكنة لكي لا أضيع وقتي في الطرب والمجون وفي كل ما كنت أشتهيه . في سحابة هذه الأوهام كلها احتجب عني ضياء حقك يا إلهي فأفتضح إثمي وكان عظيماً .
-9-
كيف كنت أسرق الكمثري ؟
ليس ناموسك فحسب هو الذي يعاقب علي السرقة ، وإنما أيضاً الناموس الطبيعي المطبوع علي قلوب البشر لا يقر هذا الإثم، فأي لص يقبل أن يساكن لصاً ؟ وأي لص ثري يسلب عن غير احتياج ؟ ومع ذلك فإنني اشتهيت أن أسرق فسرقت ,لم أكن مسوقاً إلى السرقة بدافع الجوع أو الفقر ولكن بدافع حب الإثم ، لأن ما كنت أسرقه كان لديَ منه الكفاية بل ما هو أفضل منه ، لذلك لم يكن يسعدني ما أسرقه بل كانت سعادتي بالسرقة ذاتها وبالإثم نفسه.
هناك بالقرب من كرمنا كانت توجد شجرة كمثري مليئة بالثمار التي كنت مغرماً بسرقتها ! ! إنني لا أعلم السر بغرامي في سرقة هذه الكمثري !!؟ أكان ذلك راجعاً إلى جمال لونها ؟؟ أم لذيذ طعمها ؟؟ ففي ليلة ليلاء بعد أن تجولنا حسب عادتنا في شوارع المدينة متنزهين إلى وقت متأخر مضيت معبعض أتباعنا إلى الشجرة وسرقناها وحملنا منها أحمالاً ثقيلة لا لنأكلها ولكن لنرميها بعد أن نتذوقها الخنازير . هكذا كنا نسرق لا لسبب إلا لكون السرقة أمراً ممنوعاً ! .
ها هو ذا قلبي يا الله ! ها هو ذا قلبي الذي رحمته ! ! لقد كان في قاع هاوية لا قرار لهل فدعه – بعد أن تنظر إليه – أن يخبرك عما كنت أبغيه بهذا العمل حتى كنت أقدم على ارتكابه مختاراً ورغم عدم ميلي إلى الشر فقد طلبت الشر بعينه ، لقد كان شراً ومع ذلك أحببته ! ! لقد أحببت أن أهلك ! ! لقد أحببت إثمي الخاص ليس الإثم الذي استحققت اللوم بسببه بل أحببت الإثم نفسه . نفس شريرة ساقطة من علياء سمائك لتنشر الهلاك غير باحثه عما قد يُخجل بل طالبة الخجل نفسه .
-10-
لماذا يطلب الناس الأدنى ويرفضون الأسمى ؟
إن للذهب والفضة وغيرها من الأشياء الجميلة جاذبية تأسر النفوس لذلك تتأثر الشعور بلمسها كما يتأثر بها بقية الحواس بحسب ما تجد فيها من مآرب خاصة .. كذلك للمجد العالمي وحب السيطرةوالاعتزاز بالنفس لها أيضاً جمالها . وكذلك للانتقام دوافعه ومراميه فليس من يسعي إليه بلا سبب . ولا يتأتي للإنسان أن يصل إلى بغيته من هذه الأشياء جميعاً ما لم يخالفك ويعرج عن ناموسك … إن لهذه الحياة التي نحياها سحراً خاصاً في بعض المناسبات الخاصة وذلك عندما تقترن بها تلك الأشياء الجميلة .
كذلك للصداقة البشرية جمالها ولا يكون ذلك إلا عندما ترتبط أرواح الكثيرين برباط متين توحد بينها.. هذه الأشياء جميعاً هي سبب الخطيئة وبسببها يرتكب الإثم . لأننا عندما نهوي هذه الأشياء الجميلة الدنيئة نرفض ما هو أفضل وأسمى ، الذي هو أنت أيها الرب إلهنا . ونرفض حقك وناموسك . إننا نسر بهذه الأشياء الصغرى التي لا يمكن أن يعد السرور بها شيئاً مذكوراً إذا قيس بسرورنا بخالقها الذي به يبتهج البار وهو فرح مستقيم القلب ! .
-11-
لو قال قائل إن حب هذه الأشياء الدنيا يسبب الشر ، فإننا لا نصدقه إلا إذا لمسنا الشر بأيدينا لأن الفائدة التي نرجوها من وراء هذه الأشياء حتى ولو كانت قليلة تحببنا فيها ، فنخاف أن نفقدها مع ما فيها من حُسن وجمال ، ومع هذا فإننا إذا قارنا فوائد هذه الأشياء بالفوائد الأكثر سمواً وبهجة فإنها تكون حقيرة ودنيئة
لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ؟؟؟
إنه يقتله إذا هام بزوجته ! أو طمع في عقاره أو أختلس شيئاً من ماله لأجل معيشته أو هاجمه قاصداً الإساءة إليه ، ولكن أيمكن أن يرتكب أحد الناس جريمة قتل بلا سبب ولمجرد السرور فقط بالقتل؟ من يصدق هذا ؟ … إن الإنسان الشرير والجائر الذي يقتل عندما يثور بوحشية من تلقاء نفسه إنما يفعل ذلك لأنه نشأ شريراً عاطل اليد والفكر . ولكن إلى أي مدي يندفع في طريقه ؟؟ لا شك أنه إذا هاجم مدينة من المدن فإن شروره لن تقف إلا إذا أستولي عليها واغتصب مُلكها وغنم كل ما فيها وشعر بأنه قد أصبح بعيداً عن سطوة القوانين وارتباكات الضرورات العائلية وإحساس الشعور بالمسئولية . لذلك فإن ( كاتلين) لم يحب شروره ولكنه ارتكبها لسبب أخر .
-12-
لماذا أحب سرقة الكمثري ؟
ماذا أحببت فيك – أنا التعيس – أيتها السرقة يا صنيعة غبائي ؟! أنت لم تكوني حسنة لي – عندما كنت في السادسة عشرة من عمري – لأنك أنت هي السرقة . ولكن كيف أخاطبك هكذا ؟ أأنت شئ حي ؟ ؟ … إن الكمثري التي كنا نسرقها كانت جميلة لأنها خليقتك يا الله وأنت أبهي الكل ، خالق الكل ، أنت الإله السامي الصلاح وصلاحه حق …. جميلة كانت تلك الكمثري ، ومع ذلك فإن نفسي الشقية لم تمل إليها لقد كنت أجمع أجمل ما علي الشجرة لمجرد السرقة وبعد أن أجمعه كنت ألقي به للخنازير، وكانت لذتي الوحيدة في هذا كله هو إثمي الذي كنت في غاية السرور لأن أتلذذ به والذي لم أكنأشعر بعذوبته إلا عندما أضع الكمثري في فمي .
والآن إني أتساءل أيها الرب إلهي عما سرني في السرقة التي لم يكن لها أي جمال , ولست أعني بالجمال مثل ذلك الجمال الذي في الحق والحكمة ، أو ذلك الجمال الموجود في العقل والذاكرة والعاطفة وحياة البشر الحيوانية ، أو ذلك الجمال الموجود في النجوم البهية التي تتلألأ في أبراجها ، أو ذلك الجمال الموجود في الأرض والبحر المملوئين بأجنة الحياة والتي تستبدل بتناسلها نسلا جديداً عوضا عن ذلك النسل الذي يفني ، ولا أيضا ذلك الجمال الخيالي الكاذب الذي يكون في ارتكاب بعض الرذائل الخاصة .
-13-
أنت وحدك يا الله هو الإله المتسامي فوق الكل . ومهما تكبر الإنسان فإنه لا يمكن أن يدانيك في سموك .
إن الطموح يدفع الإنسان للسعي وراء الكرامة والمجد ولكن أنت وحدك الممجد والمكرم إلى الأبد فوق كل الأشياء .
إذا قسي العظيم فإن قسوته تقابل بالاستسلام والطاعة . ولكن من يجب أن يُطاع بسرور واستسلام سواك وحدك يا أعظم العظماء ؟ ! يا من لا يقدر أحد أن يغتصب حقه في أي زمان ومكان
إذا تحنن الظالم فإن حنوه وعطفه يدعي محبة .ولكن أيوجد ما هو أكثر حناناً من محبتك ؟ أيوجد شئ يمكن أن يُحب كما يجب أن يُحب حقك الذي يتلألأ ساطعا فوق الجميع ؟؟
الرغبة في المعرفة والرغبة في التعلم متشابهتان ولكن مهما بلغ الإنسان من العلم والمعرفة فلا يمكن أن يصل إلي سمو معرفتك.
الغباء والجهل يستتران تحت أسم الوداعة وعدم الرغبة في إيذاء الغير ولكن أيوجد هناك ما هو أكثر منك وداعة يا أيها العالم بكل شئ ؟؟ مهما قل الضرر الذي يصيب الخاطئ فإن ضرره لا يتأتي إلا من أعماله .
الكسل يدفع الإنسان إلي طلب الراحة ، ولكن أين توجد الراحة الدائمة إلا بقربك أيها الرب ؟؟ لا تلذذ إلا في الراحة وسعة العيش ، ولكن أنت وحدك كمال الكثرة غير الزائلة للملذات غير الفاسدة
التبذير يشير إلي السخاء ، ولكنك أنت المعطي كل صلاح بأكثر وفرة .
الطمع يجعل الإنسان يشتهي امتلاك أشياء كثيرة ولكنك مع كونك لست طماعا تملك كل شئ
الحسد يجعل الإنسان يحسد أخاه الإنسان لأجل الفخر ، ولكن أي فخر يعادل فخارك أنت الذي لا يحسدك أحد ؟؟
الغضب يولد في النفس الرغبة في الانتقام ولكن من يقدر أن ينتقم بحق أكثر منك أيها المنتقم الجبار ؟؟
الخوف يجعل الإنسان قلقاً بسبب كل أمر مفاجئ غير مألوف فيتبصر في العواقب لضمان السلامة ، ولكن هل يوجد ما يفاجئك ؟؟ أو ما هو غير مألوف لديك ؟ وهل يستطيع أحد أن ينزع منك ما تحبه يا من لا توجد السلامة الدائمة إلا بقربه ؟؟
الحزن يكون بسبب الحسرة علي ما فُقد مع ما فيه من بهجة ولذة ، فهل تساوي هذه البهجة واللذة بهجة ولذة جمالك ؟.
-14-
كل نفس تبتعد عنك ترتكب الفسق وتطلب الدنس والفساد حتى تعود إليك . الذين يسيرون في طريقالفساد يشبهون الذين يحيدون بعيداً عنك ويحاربونك . وكل من يتشبهون بك يفتخرون بأنك خالق الكون ولا يعرفون مكانا يلتجئون إليه بعيداً عنك . إذن ماذا أحببت فيك أيتها السرقة ؟ وفي أي شئ بارتكابك شابهت ربي ؟ .. أكان ذلك لأني أردت أن أظهر قدرتي علي كسر ناموسك فسرقت ؟ ؟ أم كان ذلك لأنني وقد كنت مغلوباً على أمري ولم أجد ما أستطيع أن أقلدك فيه إلا أن أعمل سدي مل لا يسوغ لي أن أعمله وأمثل تلك المهازل متمتعاً بحرية مشلولة ما كان من حقي أن أتمتع بها قاصداً بهذا أن يكون لي صورة غامضة من جبروتك !؟
ها هو ذا خادمك قد هرب من سيده بعيداً عن كل شر . آه من فساد الحياة ووحشتها
آه ما أعمق الموت !! لقد قدرت أن أحب ما لم أكن أحبه لأنني لم أقدر أن أحبه .
-15-
بماذا أكافئ الرب ؟ لأن نفسي الآن تتذكر هذه الأشياء جميعها، ومع ذلك لا أخاف منها ؟؟ أحبك يا رب وأشكرك وأعترف لأسمك لأنك قد غفرت لي هذه الكبائر . لقد ذابت آثامي كما لو كانت ثلجاً بفضل حرارة إحسانك ورحمتك . لإحسانك الفضل فيما لم أفعله من شر . لأن كل ما لم أفعله من شر لم أفعله إلا بإرشادك . لأنه من هو الإنسان الذي يتجاسر – رغم إحساسه بضعفه – أن ينسب إلى نفسه الفضل في طهارته وبره ؟؟ ومن يفعل هذا إلا غير المحتاج إلى رحمتك التي تغفر بها آثام الخطاة التائبين لذلك فهو لا يحبك كثيراً بل يحبك أقل من كل شئ .
لا تجعل كل من تدعوه ويتبع صوتك ويتجنب ارتكاب ما قرأه عن تلك الخطايا التي أعترف بها أمامك ، لا تجعله يحتقرني أنا الذي كنت مريضاً فشفاني ذلك الطبيب الذي صرت بمعونته كأنني لم أكن مريضاً أو بالأحرى صرت أخف مرضاً … دع الإنسان الذي يقرأ هذا يحبك كثيراً !! بل ليزدد حبه لك أكثر جداً عندما يراني وقد شفيت من إثمي العميق ، لأنه سيري نفسه أيضا وقد شفي بواسطتك من إثمه المماثل لإثمي .
-16-
ماذا جنيت – أنا الإنسان الشقي – من وراء تلك الأشياء التي ذكرها يبعث الخجل في نفسي وخصوصاً تلك السرقة التي أحببتها لذاتها دون أن يكون فيها ما يعتد به ، ومع ذلك فلي أرتكبها بمفردي . أجل ! إنني لم أكن أسرق في ذلك الوقت بمفردي بل كنت أسرق مع آخرين حتى أحببت في السرقة محفل رفقاء السوء الذين كنت أسرق معهم . إنني لم أكن أحب شيئاً حينذاك أكثر من السرقة وحدها . أفلم يكن إذن لظروف الصداقة المقترن بها وزن أو اعتبار ؟؟
لا يقدر أن يدلني عن هذا إلا ذاك الذي يضئ قلبي ويكشف ما بأركانه الظلمة لأستطيع أن أفحص ما بعقلي و أحلله و أتأمله إذ إنني لو كنت في ذلك الوقت أحب الكمثري التي أسرقها لأتلذذ بها لسرقتها بمفردي ، ولو كنت أسرق بدافع الحاجة لاكتفيت بسرقة ما يكفي لإشباع نفسي دون أن أكون في حاجة لأن ألهب شوق رغباتي بشغف رفقاء السوء . ولكن الحقيقة أن لذتي لم تكن في الكمثري بل في نفس الضرر الذي يسببه محفل رفقائي المجرمين.
-17-
أي شعور إذن كان هذا الشعور ؟ إنه بلا شك كان شعوراً معيباً جداً ! فويل لي لأن هذا الشعور كان شعوري . أي شعور كان هذا الشعور ؟ من يقدر أن يعرف آثامه وخطاياه ؟ لقد ملأ الطرب قلوبنا فخدعنا !! ولو أننا فكرنا قليلا فيما كنا نفعله لاشمأزت نفوسنا .. لماذا إذن كانت لذتي العظيمة في أن لا أسرق وحدي ؟ السبب في ذلك هو ما جرت عليه العادة في أن من يضحك لا يضحك وحده .
هكذا جرت العادة ومع ذلك ففي بعض الأحيان يغلب الضحك علي البشر فرادي إذا ما خطر علي الشعور أو البال شئ مضحك جداً ومع ذلك فإني لم أسرق وحدي !! وحدي لم أسرق أبداً وها هي ذي أمامك يا إلهي الصورة الواضحة لنفسي . لم أرتكب أبداً السرقة منفرداً وما سرقته لم أتلذذ به ولكنني تلذذت لأنني سرقت. إن السرقة وحدها لم تحببني في ارتكابها ولم أحب أنا وحدي أن ارتكبها .
آه من التواد الذي بلا وداد كهذا !! أنت أيتها الشهوة لا يمكن إدراكك . إنك تغرين النفس وتصنعين من المزاح والسرور شروراً إنك ظمأى لهلاك الآخرين دون فائدة ترجي ، أو انتقام يبغي ، ولكن عندما كان يقال لنا ( دعنا نذهب ، دعنا نسرق ) فإننا لم نكن نستحي أن نكون بلا حياء .
-18-
يا لها من مشاكل ملتوية عسيرة الحل . إنها تقف في طريقي لذلك أكره أن أتأملها أو أفكر فيها . إنني مشتاق إليك يا الله أيها البر والطهارة لأنك جميل وظريف لكل العيون الطاهرة ولا يمكن أن يشبع أبداً منك .
فيك السلام التام والحياة الدائمة ومن يدخل إليك يدخل إلى فرح سيده بلا خوف ، ويصير فاضلاً في الله فائق الكل … لقد تذللت بعيداً عنك وتهت وضللت كثيراً – يا عضدي – في تلك الأيام، أيام شبابي حتى صرت لنفسي أرضاً جدباء .
الكتاب الثالث
1- إقامة القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره وظل فيها حتى التاسعة عشرة .
2- مصادر ارتباكاته :
أولا – حب المناظرات .
ثانياً – التقدم في الدراسات ومحبة الحكمة .
ثالثاً – عدم التلذذ بالكتاب المقدس .
رابعاً – الضلال مع المانويين ودحض بعض عقائدهم .
3- حزن أمه مونكا علي ضلاله .
4- صلواتها من أجل هدايته .
5- الله يوحي لها بهدايته في حديث لها مع أحد الأساقفة .
-1-
( أوغسطينوس يبحث عن العشق )
في السابعة عشرة من عمري ذهبت إلي قرطجنة وقد كانت تدوي في أذنيِ مجموعة من أصوات غرامياتي الدنسة ، ومع أنني لم أكن قد وقعت في شباك الغرام إلا أنني رغبت في أن أعشق حتى كرهت حياتي لأنني لم أجد فيها ما أعشق رغم إني أبحث عن العشق … لقد أبغضت أن أهيم بالعشق وأبغضت كل طريق توجد فيه مكائده ، لأنه كانت توجد في نفسي مجاعة إلي ذلك الطعام الروحي الذي هو أنت يا إلهي . ومع ذلك فإنني لم أطلب هذا الطعام لا لأنه كان لدي منه ما يكفيني بل لأنني لم أكن أشتهيه، لم أكن أشتهي ذلك القوت الذي لا يفني بل اشتهيت كل ما كان باطلاً لأن نفسي كانت عليلة وغارقة في أحزان كثيرة .
لقد ابتعدت نفسي التعيسة بعيداً عنك يا إلهي ! لقد ضلت في هوي حواسها ، تلك الحواس التي كانت بلا روح .. !
إن لذاتي كانت في أن أعشق وأُُعشق ، وكانت هذه اللذة تزداد كلما كنت أخضع نفسي لشهوات الجسد ودنست أصل الصداقة وبهائها بنجاسة الشهوة وسعيرها … وهكذا كنت أنا التعيس القبيح أفٌرَح نفسي بلا لياقة لأكون محتالا ولأكون أديباً في الزهو الفائق حتى لقد سقطت بنزق في شراك الهوى الذي اشتهيت أن أقع فيه وبلغت أقصي ما كنت أتمناه من متعة جسدية . ولكنك يا إلهي يا رحمتي قد مزجت هذه المتعة بمرارة لطفك ، وأوثقتني بأربطة الحزن ، فتمنيت أن أجلد بسياط ملتهبة من الحديد لتحترق أغصان الحسد والشكوك والمخاوف والسخط والمنازعات .
-2-
( الأحزان التي تسببها التمثيليات المسرحية )
كم من أفكار محزنة كانت تجيش بنفسي بسبب تلك التمثيليات التي كنت أشاهدها علي المسرح ، تلك التمثيليات التي سلبتني شقاوتي ، وخففت من وقيد تأججي .
يرغب الإنسان في بعض الأحيان أن يبدو كئيباً شاغلاً عقله بتلك الأفكار السوداء التي تؤلم نفسهوتثيرها فيها مشاهدة هذه الروايات المحزنة حتى تكون لذته في الحزن الذي ينجم عن المشاهدة . لماذا كل هذا ؟ أليس هذا نزق وضيع لأنه كلما ازداد الإنسان تأثراً بما هو محزن فقلما يستطيع أن يحرر نفسه من العواطف الحزينة ، وكلما تألم في نفسه فإن نفسه تستعذب التعاسة والألم ، وكلما أشفق على آخرين فإنه يصبح رحيماً !! ولكن أي حزن وأي شفقة تسببها تلك الآلام المسرحية الملفقة ؟؟
* * *
إن الإنسان عندما يدعي لمشاهدة تلك الروايات ، لا يذهب إليها ليروح عن نفسه بها ولكن لقبضها . وكلما زيد في مدح ممثلي تلك الخزعبلات كلما ازداد انقباضها وإذا كانت مصائب أشخاص الرواية -سواء أكانوا خياليين أم حقيقيين – لا تهيج الدمع في مقلتيه ، فإنه ينطلق بعد مشاهدتها ، ضجراً مندداً بها .
-3-
ولكن أهكذا يحب الإنسان تلك الأحزان ؟ الواقع أن الجميع يحبون الأفراح ولا يوجد إنسان يرغب في أن يكون تعيساً ، بل كل إنسان يرغب أن يكون مسروراً ومع ذلك فإنه يحب أيضاً أن يكون رحيماً . ولما كان لا يمكن أن يثير الرحمة في قلب الإنسان سوى آلام أخيه الإنسان لهذا فإن الإنسان يحبهذه الآلام ، التي تثير الرحمة في قلبه .
ولكن هذه الرحمة التي تثيرها الآلام الملفقة أيمكن أن تكون قد نبعت من شريان الصداقة ألحقه ؟ لا يمكن هذا لأن منبع هذه الرحمة هو المجاري غير الطبيعية للشهوة الدنسة التي تغير الصداقة وتدنس بهاءها الفائق فتجعل الإنسان يحب مشاهدة آلام الغير وأحزانهم لأنها تثير الحزن في نفسه … احذري يا نفسي الدنس لأنك تحت حراسة إلهك ، إله آبائنا ، الذي به يليق التسبيح والتعظيم إلى الأبد فوق كل شئ . لذلك فاحذري الدنس .
* * *
إنني إلى الآن لا أكف عن الرثاء من أجل ذلك الوقت الذي كنت أبتهج فيه مع العشاق الذين يمثلون فوق المسارح عندما كنت أراهم فرحين باجتماع شملهم حتى إذا افترقوا وأضناهم الفراق وأحزنهم ، حزنت أنا أيضاً معهم ، لقد كنت أتلذذ بالفرح والحزن علي حد سواء ، مع أن هذا كله تمثيل وهراء في هراء … إنني الآن لا أحزن على الإنسان الذي يظن أنه يتألم لفقده لذة قصيرة أو مسرة صغيرة قدر حزني على ذلك الإنسان الذي يفرح بفجوره ، وحزني هذا ليس مصدره الحزن ولكن مصدره الرحمة الحقيقية .
إن الإنسان الذي يحزن مع الحزانى يٌمدح علي عمله باعتباره رحمة !! ومع ذلك فإن هذا الإنسان لا يُعد رحيماً حقاً إلا إذا كان حزنه من أجل أحزان الغير صادقة وبنية خالصة . الأمر الذي لا يكون عندما يتمني أن يوجد الحزن كي يحزن من أجله … أنت وحدك أيها الرب الإله هو الذي يحب الأرواح أكثر من حبنا لها ، وترحمها رحمة دائمة لأنك تحبها حباً طاهراً ، إلا أنها مع ذلك تجلب لنفسها الأحزان ( ومن هو كفء لهذه الأمور ) .
-4-
لقد كانت نفسي – أنا التعيس – تبحث في ذلك الوقت عما يحزنها ، وتحب أن تكتئب من أجل كآبة غيرها ، تلك الكآبة التي تلفق تلفيقاً وتمثل تمثيلاً يسيل الدمع من العين إلي أكبر حد . فمثل هذا التمثيل هو التمثيل الذي كنت أشتاق إليه كثيراً . لذلك فلا عجب أن يضل ذلك الحمل – الذي هو أنا – من قطيعك ويجزع من حراستك ويمرض بأمراض قبيحة . لقد أفسدته محبة الأحزان، وسيطرت علي نفسه الرغبة في مشاهدة الآلام ، حتى أنه عندما كان يسمع هذه الخزعبلات التي تنشب مخالبها المسممة في وجهه ، كانت نفسه تنتفخ انتفاخاً وتلتهب التهاباً حتى يصبح كقرحة عفنة . فهل كانت مثل هذه الحياة معتبرة حياة يا إلهي ؟؟
-5-
ومع ذلك فإن رحمتك الصادقة قد رفرفت عليَ من بعيد … لقد أفنيت نفسي في خطايا أليمة ، لقد نبذتك وانتهكت حرمة مقدساتك و أشبهت المشرفين علي هاوية الموت ، وعبادة الشياطين الخادعين التي قدمت سيئاتي ذبيحة لهم !! ومع ذلك كله فإنك لم تنسني، بل عاقبتني .
بينما كان أبناؤك يحتفلون بخدمة الأسرار المقدسة داخل كنيستك تجاسرت وعملت عملاً استوجب قصاص الموت من أجل نتائجه … ولكنك لم تميتني بل عاقبتني بعقوبات صارمة . ولكن تهون بجوار خطيئتي . إنك رحمتي الفائقة يا إلهي … إنك منقذي من كل تلك المهالك الفظيعة ، التي كنت فيها هائماً برقبة غليظة ، ومبتعداً بعيداً عنك ، عاشقاً طرقي لا طرقك ، عاشقاً حرية زائفة .
-6-
اشتغاله ناظراً لمدرسة البيان
إن البشر الأغبياء لم يكن لديهم من الدراسات ما يستوجب المدح والثناء سوى تلك الدراسات التي قصد بها التفوق في ميادين المجادلات ، حيث يكون أكثرهم خبثاً هو أكثرهم مدحاً . إنهم لغباوتهميفتخرون بجهالاتهم … لقد كنت في ذلك الوقت ناظراً لمدرسة البيان فانتفخت أوداجي وكنت أتيه عجباً . ومع أنني كنت بعيداً عن تخريبات المخربين { لقد كانت خطيئة التخريب دليل الشجاعة في ذلك الوقت } الذين كنت أعيش بينهم إلا أنني لم أكن مثلهم ، ملطخاً بالعار بلا خجل .
لقد كنت أعيش بين هؤلاء مسروراً بصداقتهم ، ولم أبغض أبداً أعمالهم أو تخريباتهم عندما كانوا يمزحون بالاعتداء علي عفة الغرباء ، مشبعين رغبات الشر الكائنة في نفوسهم ، بأعمال ليس هناك ما يشابهها سوى أعمال الشياطين أنفسهم ، فهل هناك لفظ يستحق هؤلاء أن نطلقه عليهم سوى لفظ ( المخربين ) لأنهم كثيراً ما خربوا ، لقد كانت أرواح الظلمة تسخر بهم في الخفاء وتضللهم ، وكانوا يبتهجون بأن يسخروا من الآخرين ويخدعوهم.
-7-
ما سببته دراسته للفلسفة
في وسط تلك الأمور وفي ذلك السن المضطرب ، حفظت كتب البلاغة ، وتمنيت أن أكون مشهوراًفي غرض غير مجيد ومرذول، في الفرح بأباطيل البشر . وفي أثناء فترة الدراسة السنوية هاجمت كتاباً لسيكيرو الذي كان كل حديثه – تقريباً – حكماً هكذا كان حديثه وأما قلبه فلم يكن كذلك .
لقد كان هذا الكتاب يحوى أسرار الفلسفة وكان يدعي (هورتنسنس) . هذا الكتاب غير أميالي . وأعاد صلواتي إليك يا إلهي ، وجعلني آمل في آمال أخري . لقد صارت الآمال الباطلة خسيسة أمامي . واشتهيت برغبة لا تُُصدق أن تدوم لي الحكمة . فابتدأت أن أستيقظ لعلي أرجع إليك ، لقد استخدمت هذا الكتاب انتفعت بموضوعه دون أسلوبه ، حيث كنت في سن التاسعة عشرة من عمري وكان أبي قد مات منذ سنتين .
-8-
في ذلك الوقت التهبت نفسي بالرغبة في أن أرتقي إليك وأن ارتفع فوق هذه الأشياء الأرضية دون أن أعلم ما أردت أنت أن تفعله بي . إن معك الحكمة ، ومحبة الحكمة تدعي باليونانية ( فلسفة ) وتلك هي التي أضرمني بها ذلك الكتاب … ومع هذا توجد في الحكمة أشياء مضللة مخيفة تحت أسماء شريفة وعظيمة وهادئة لتحجب ما فيها من أخطاء . حتى إن كل الذين عاشوا في تلك الأحقاب وما قبلها لم يجدوا ما يخفون به أخطاءهم سوي ستار الفلسفة وإن كانت الفلسفة في ذلك الكتاب ملومة لوماً واضحاً .. في ذلك الكتاب قد فسرت تلك النصيحة الشافية التي لروحك بواسطة خادمك الصالح والتقي الذي قال ( انظروا أن لا يسبيكم أجد بالفلسفة وبغرور باطل حسب المسيح الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ) .
وأنت يا ضياء قلبي تعلم أن رسائل الكتاب المقدس لم تكن في ذلك الوقت معروفة لديَ فابتهجت بذلكواستيقظت بقوة عزم كي أحب وأجتهد وأتحصل وأملك دون أن أقبل هذا المذهب أو ذاك بل قبلت الحكمة نفسها مهما كانت .. ولما كانت الحكمة خالية من اسم المسيح فقد حملني هذا علي أن أقف أمامها مضطرباً . لأن هذا الاسم – تبعاً لرحمتك يا رب – هو للمخلص ابنك – ملك فلبي الحنون ، الذي امتصصته بورع مع لبن أمي الذي كنزته لي بكثرة فائقة فلم أقبل مطلقاً كل ما كان بدون ذلك الاسم مع أنه لم يكن أبداً حاذقاً أو ظاهراً أو حقيقياً .
-9-
في ذلك الوقت عزمت علي مطالعة الكتب المقدسة لعلي أستطيع أن أدرك كنهها ولكني لم أستطع أن أفهمها لأن ما فيها لم يكن يتفق مع طبائع المتكبرين أو حديثي العهد بالإيمان ، لقد كانت معانيها سامية ، ومنطوية علي أسرار خفية لم أقدر أن أصل إليها أو أحني هامتي لأتتبع خطواتها .
عندما بدأت في مطالعة الكتب المقدسة لم أكن كما أنا الآن حتى لقد كانت تبدو أمامي أنها غير جديرة بأن تقارن بمفاخر (توللي) إن وداعتها لا تليق بانتفاخ كبريائي وتواضعها المتزايد كان أسميمن أن يتغلغل فيه ذكائي الذي كان خارقاً . لقد كنت أحتقر أن أكون متواضعاً لأني وقد كنت منتفخاً بالكبرياء قد أردت أن أجعل نفسي عظيماً
-10-
انحرافه وراء الأباطيل
لذلك لم يكن عجيباً أن أقع بين أناس أولعوا بالكبرياء ، وانصرفوا إلي إرضاء شهواتهم ومهذارين ، حتى لقد كانت تبدو في أفواههم مكائد إبليس مسربلة بخليط من مقاطع اسمك واسم يسوع المسيح ربنا واسم الروح القدس معزينا … إن أفواههم لم تكف عن ترديد هذه الأسماء ولكن قلوبهم كانت خالية من الحق ويصيحون ( الحق . الحق ) دون أن يكون الحق فيهم ، بل كانوا يتكلمون كذباً عنه ، عنك أنت أيها الحق كما كانوا يتكلمون كذباً عن عناصر العالم التي هي خلائقك .
كان يجب عليَ أيضاً أن أجتاز بالفلاسفة الذين تحدثوا بالصدق عن خلائقك ، محبة فيك يا أبي يا فائق الصلاح ، وجمال كل الأشياء الجميلة ، أنت أيها الحق . حتى لقد لهث جوهر روحي كثيراً في باطني سعياً وراء معرفتك ، عندما تكلموا عنك كثيراً في أذني بأشكال مختلفة ولكن ما كانوا يرددونه عنك في أحاديثهم أو كتاباتهم الكثيرة لم تكن إلا صدى الحق .
* * *
هذه هي الأطباق التي كانت تقدم إلي أنا الجائع إليك ، أما هم فبدلاً من أن يعبدوك قد عبدوا الشمس والقمر وأعمالك الجميلة ولم يعبدوك أنت صانع هذه الأعمال . إن أعمالك الروحية كانت قبل أعمالك المادية ولكني لم أجع ولم أعطش حتى إلي أعمالك الروحية ولو كانت سمائية ومضيئة ، لأن شوقي كان متجهاً إليك وحدك أنت أيها الحق الذي لا يمكن أن يعتريه تغيير ولا ظل دوران … كم كانت تبدو أعمالك الروحية متلألئة أمامي في تلك الأطباق التي كانت تُقدم لي ، لقد كانت عبادتها برغم ما فيهامن ضلال أفضل عندي من عبادة الشمس لأنني ظننت أنك هو أعمالك الروحية لذلك تغذيت بها دون أن أكون راغباً فيها ، لأنك لم تكن تلك الأباطيل التي لم أشبع بها ولم ألبث أن لفظتها ونبذتها .
لقد كان مثلي في هذا الشأن مثل الجوعان الذي يحلم بأنه يأكل الطعام ، فمع أن الطعام الذي يراه في النوم يشبه الطعام الذي يراه في اليقظة ، إلا أن الجائع لا يشبع بما يحلم أنه يأكله أثناء النوم ، كذلك لم أشبع بتلك الأباطيل لأنها كانت شيئاً آخر خلافك كما أدركتك بعد هدايتي .. تكلم الآن معي يا رب .. إن تلك الأباطيل كانت مجرد أجسام خيالية اشتهاها جسدي الذي لم يشته تلك الأجسام المادية – سمائية كانت أو أرضية – التي كنا نراها بأعيننا، والتي لم يكن هناك شك في وجودها ، لأننا نحس بها كما تحس بها الحيوانات والطيور ، ولا جدال في أن الإيمان بما هو موجود أفضل من الإيمان بما ليس لــــه وجود حتى ولو تخيلناه جسماً عظيماً لا حد له ولا نهاية .
لقد كانت تلك القشور التي تغذيت بها في ذلك الوقت عديمة القيمة ، لذلك لم أشبع ، ولكن عندما فتشت عنك يا حبيب قلبي وجدت فيك شبعاً ورياً .. أنت شئ آخر غير تلك الأجسام المادية التي نبصرها في كبد السماء ، ما ظهر منها وما أستتر لأنك خالقها جميعاً دون أن تفضلها بشيء عن سائر مخلوقاتك .. إنك فوق كل ما يمكنني أن أتصوره عن تلك الأجسام المادية التي كنت أسبح بخيالي فيها دون أن يكون لما تخيلته عنها ظل من الحقيقة لأن هذه الأشياء لم تكن سوي أجساماً جامدة ، ولا يمكن أن تكون أنت هي كما لا يمكن أن تكون الروح التي هي حياتها ، لأن حياة تلكالأجسام وإن كانت أعظم من الأجسام ذاتها ، إلا أنك لم تكن أنت هي لأنك لست حياة الأجساد بل حياة الأرواح وحياة الأحياء التي حياتها فيك يا من لا تتغير يا حياة نفسي .
-11-
أين كنت مني في ذلك الوقت؟! وعلي أي بعد كنت ؟!
لقد كنت تائهاً بعيداً جداً عنك وكنت محروماً حتى من الخرنوب الذي تقتات به الخنازير التي كنت أطعمها … لأنه حتى خرافات الشعراء وعلماء اللغة كانت أفضل من تلك الأشراك التي وقعت فيها . أجل إن دراسة النظم والشعر … وميديا الطائر هي أنفع بلا شك من دراسة عناصر البشر الخمسة المستترة تحت أقنعة مختلفة ، مناسبة للكهوف الخمسة المظلمة التي لا وجود لهل ومع ذلك تٌهلك من يعتقد بها !! { لا نعرف ما يقصده المؤلف بخمسة عناصر البشر المستترة تحت أقنعة مختلفة للكهوف الخمسة المظلمة ، ويظهر أنها إحدى الأساطير المعروفة في ذلك الوقت.} … إن الإنسان عندما يدرس النظم والشعر قد يجد فيه غذاء نفسياً حقيقياً ، بالرغم من عدم إيمانه بوجود الكائنات ، موضوع هذه الأشعار كميديا الطائر وغيرها التي يتغنى بها أو قد يستمع إلي إنشادها … بعكس عناصر البشر الخمسة التي كنا نؤمن بوجودها دون أن يكون لها في الحقيقة ظل من الوجود .
* * *
ويل لي .. ثم ويل..إلى أي درجات الهاوية كنت مُساقاً .. وكم تعبت وتلفت سعياً وراء الوصول إلي الحق .. وأخيراً حصلت عليك يا إلهي . إنني أعترف بذلك أمامك يا من رحمتني .. ولم أكن من قبل معترفاً كما أنا الآن … إنني أعترف بسعي في سبيل الوصول إليك دون أن أهتدي في ذلك بعقلي البشري الذي جعلني أعتقد بأني أسمى من الحيوانات ، ولكن الذي هداني هو روحك الذي كان في داخلي مستتراً أكثر من كل ما هو مستتر جداً وأعلى من كل ما هو عال .
* * *
وقبل ذلك كنت أسير مندفعاً وراء شهوات جسدي ، فصادفتني تلك المرأة الشريرة . ولما كنت جاهلا وغبياً ، فإنني لم أدرك أنها تلك المرأة التي عناها سليمان بقوله ( إنها جالسة عند الباب تقول كُل خبز الخفاء طوعاً وأشرب المياه المسروقة فهي حلوة ) لقد أغوتني تلك المرأة لأنها أدركت من عينيَ أنهما زائغتان وأن نفسي تشتهي طعاناً كهذا الطعام الذي كنت أتلذذ به .
-12-
بعض مشاكل الكتاب المقدس التي اعترضته
هنالك شئ آخر قد صنعته ولم أكن أدرى أكان صواباً أم خطأ ..! لقد كنت في حدة الذكاء وكنت في خطر الوقوع في أحابيل المضللين الأغبياء عندما سألوني :
-1- من أين أتي البشر ؟
-2- هل الله – سبحانه وتعالي – جسم محدود وله شعر وأظافر ؟
-3- كيف يمكن أن يكون باراً ذلك الذي يتزوج عدة نساء في وقت واحد معاً ؟ وكيف يمكن أن يكون باراً ذلك الذي يقتل النفس التي حرم الله قتلها أو يقتل نفساً حية ليقدمها ذبيحة لله ؟؟
لقد أزعجتني هذه المشاكل لجهلي ورغم إنني كنت بعيداً عن الحق فقد سعيت إلي معرفة هذه الأشياءوكل ما استطعت أن أعرفه عن الشر والخير في ذلك الوقت لم يكن سوي أن الشر هو عدم الخير و أنه سوف يأتي ما يبطل الشر والخير فلا يكون لهما وجود . كذلك كنت أظن في ذلك الوقت أن الله جيماً وأن هذا الجسم قد أمتد فقط إلي الأجسام كما أمتد من عقلي إلي خيالي ولم أكن أعلم أن الله روح وليس جسماً له أطراف ممتدة طولاً وعرضاً بشكل جسيم … ذلك إن كل قطعة في الجزء هي أصغر من كل قطعة في الكل ، فإذا كان الله غير محدود فإنه إذا وجد في مكان محدود فإن الجزء الموجود في المكان المحدود يكون أصغر من الجزء الموجود في المكان غير المحدود ولا يمكن أن يقال هذا القول بالنسبة للروح القدس أو الله الأب !!… ونحن ماذا وجد فينا مشابهاً لله حتى يصدق القول الإلهي ( ليكون الإنسان علي صورة الله ) . لقد كنت في ذلك الوقت أجهل كل هذا .
-13-
إنني لم أكن أعلم أن الخير هو في البر الذي لا يقاس بمقياس عادات الناس بل يقاس حسب الناموس الذي لا حد لكماله الذي لله القادر علي كل شئ . وأن هذا الناموس الذي وضعه الله وإن كان واحداً إلا أنه كان يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة لأن عبارة (أثناء ذلك ) إن كان لها نفس المعني الذي لعبارة ( في كل حين ) إلا أن عبارة (في كل مكان ) ليس لها نفس المعني الذي لعبارة ( شئ واحد في مكان واحد وشئ آخر في مكان آخر ) … فتبعاً للناموس الذي وضعه الله كان إبراهيم وأسحق ويعقوب وموسى وداود أبراراً لأن الله مدحهم بفمه وإن كان البشر الأغبياء قد حكموا عليهم بأنهم أشرار فذلك لأنهم حكموا حسب ناموس البشر، وقارنوا عاداتهم الحقيرة بالعادات الصالحة للجنس البشري بأكمله.
مثلهم في هذا مثل إنسان لا دراية لـــه باستعمال الأسلحة فمثل هذا الإنسان إذا دخل مخزن أسلحة فإنه قد يغطي رأسه بأذرع وقاية الساقين أو ينتعل في قدميه الخوذة التي يُغطي بها الرأس ثم يشكو بعد هذا أن تلك الأسلحة غير صالحة للاستعمال . أو مثل إنسان يفتح حانوته بعد ظهر أحد الأيام التي يجب أن تقف فيها جميع الأعمال بعد الظهر حتى إذا أمروه بغلق محله استشاط غضباً لأنه لم يُسمح لــــه بالاستمرار في فتح حانوته الذي كان مفتوحاً من قبل . أو مثل إنسانغريب لم يأذن لـــه أمين أدوات الموائد والمشروبات بأن يتداخل إذا وجد الخدم يتداولون استعمالها فيغضب هذا الإنسان إذا رأى أحدهم قد حمل بعض هذه الأدوات خارج المنزل أو خارج غرفة الأكل بحجة أنه ما كلن يصح أن تنقل الأدوات الخاصة بأحد المنازل أو إحدى الأسرات إلى غيرها .
هذه هي حالة من يغضبون عندما يسمعون أن أناساً أبراراً عملوا أعمالاً كانت محلله في أيامهم وقد أصبحت الآن محرمة أو يغضب لأن الله لأجل اعتبارات زمنية أمر بعض الناس بأمر مخالف لما أمر به غيرهم مع أن كلا الأمرين خاضع لبر واحد .
لقد كان يكفي لإقناع هؤلاء المعارضين أنهم يشاهدون دائماً اختلاف الأشياء في الإنسان الواحد وفي اليوم الواحد وفي البيت الواحد وما في هذا الاختلاف من تناسب مع الأشياء المختلفة . فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن لا يباح اليوم ما كان مباحاً بالأمس و لا عجب أن الشيء الذي كان مسموحاً ومأموراً به في زمان ما قد أصبح ممنوعاً ومحرماً في زمن آخر فإذا عمله إنسان عوقب عليه .. أيمكن أن يقال بعد هذا أن العدل متقلب أو متغير ؟
كلا ولكن الأزمنة التي تسود عليه هي المتغيرة . ولأن البشر قصار الأعمار والأفكار لا يقدرون أن يوفقوا بين أسباب الحوادث التي وقعت في أجيال سابقة مع شعوب آخرين ، كما لا يقدرون أن يدركوا بسهولة ما هو مناسب لكل عضو وجزء وفرد وشخص لعدم إلمامهم بهذه الأسباب أو تلك البواعث بالنسبة للشخص الواحد وفي نفس الجسم الواحد أو الأسرة الواحدة أو اليوم الواحد ومعذلك فهم يعترضون علي هذا ويسلمون بذاك .
-14-
في تلك الأوقات لم أكن أعلم كل هذا ولم ألحظه لأنني كنت أحارب وحدي في جميع الميادين ، لقد نظمت قصائد مختلفة من الشعر ، ولكنني لم أستطع أن أضع وزناً شعرياً واحداً لها جميعاً ، لأن القصائد كانت مختلفة في أوزان مختلفة ولم يكن لها وزن واحد ، وذلك بخلاف كتبك المقدسة التي صيغت بمهارة فائقة حتى إنه بالرغم من احتوائها علي حالات مختلفة ، فإن أساسها ليس مختلفاً ، لأنها جمعت كل هذه الحالات في وزن واحد حتى إنني إلي الآن لست أفهم كيف يمكن أن يكون البر الذي أطاعه بشر صالحون وقديسون قد تضمن في أمر واحد كل هذه الأشياء التي أمر بها الله دون أن يكون هناك أي اختلاف في أي جزء من أجزاء هذا الأمر ، بالرغم من أن التشريعات التي صدرت في الأزمنة المختلفة لم تصدر في مجموعة واحدة ولكنها صدرت علي دفعات متعددة إذ كان يؤمر في كل زمن من الأزمان بما يلائمه ولأنني كنت أجهل هذا فإنني قد لمت الآباء القديسين لا لأنهم استفادوا بأوامر الله أو بما أوحي إليهم به ولكن لأنهم تنبأوا بأوامر مستقبلة كان الله قد أوحي لهم بها .
-15-
ولكن … أيمكن من الظلم في أي زمان وأي مكان أن ( تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك وتحب قريبك كنفسك ) كلا بالطبع ولذلك كانت تلك الخطايا البشعة التي هي ضد طبيعة البشر كخطايا رجال سدوم مكروهة ومبغوضة حتى إن العقاب واجب لكل من يرتكبها في كل زمان وكل أمة كناموس الله الذي لم يأمر البشر بأن يهتكوا بعضهم بعضاً .
ليس ذلك فحسب ، بل إن تلك الصلة التي يجب أن تقوم بيننا وبين الله لا يوجد ما يقطعها قدر تدنيسنا تلك الطبيعة بزيغان الشهوة، لأن تلك الطبيعة قد أبدعها الله فينا وتلك الآثام التي تدنسها هي ضد طباع الرجل حتى إن شرائع البشر تقاومها وتعمل علي استئصالها ولو باستعمال العنف مع من يرتكبها . وتأسيساً على هذا فإن كل ما هو متفق عليه طبقاً للعرف الجاري أو الشرائع السائدة في أية مدينة أو أمة لا يمكن التحلل منه لمجرد لذة غير مباحة لأي إنسان سواء أكان وطنياً أم أجنبياً لأن كل ما لا يتفق مع العرف أو الشريعة فإنه يزعج المجموع .
أما الله فإنه عندما يأمر بأي عمل فإن هذا العمل يجب أن ينفذ، حتى ولو كان هذا العمل ضد عوائد الناس ، أو ضد الاتفاقات التي عقدوها مع أي شعب من الشعوب حتى ولو لم يكن قد سبق عمله أو سبق فرضه أو كان قد سبق فرضه ثم أوقف تنفيذه ، فهذا العمل يجب أن ينفذ من جديد وأن يعتبر مفروضاً من وقت صدور الأمر به لأنه إذا كان من المقرر أن لكل ملك في مملكة أن يأمر بما لم يأمر به أحد أو بما لم يأمر هو به من قبل ومع ذلك تكون طاعة هذا الأمر واجبة تحقيقاً للأمن والسلام اللذين لا يسودان إلا بطاعة أوامر الحكام ، لأن طاعة الحكام هي الميثاق العام للهيئة الاجتماعية فمن باب أولي تكون طاعة أوامر الله واجبة علينا ، لأن الله هو المتسلط وحده على كل الكائنات ، وكما أنه في سيادات البشر تكون السلطة الأعظم سيادة واجبة الطاعة والتفضيل على ما هو دونها فكذلك يجب أن يطاع الله ويفضل علي كل شئ لأنه فوق الجميع .
-16-
لا يلجأ الإنسان إلي العنف إلا عندما تثور في نفسه الرغبة في الإيذاء والإضرار بالغير لذلك فهو يلجأ إلي القتل أو التخريب … كذلك قد يدفع حب الانتقام الإنسان إلي استعمال العنف مع عدوه كما قد مدفعه إلي ذلك رغبته في الحصول علي فائدة من إنسان آخر كما يحدث من اللص مع المسافرين . بل إن أعمال العنف قد تُرتكب لشر يخشى وقوعه كما يحدث من الإنسان الخائف ، أو لمجرد الحسد كما يحدث من الحسود عندما يجد غيره أكثر سعادة منه .
ليس ذلك فقط بل إن أعمال العنف قد تُرتكب لمجرد بعث السرور في نفوس الغير كما يفعل مصارعو السيوف أو الذين يسخرون بغيرهم ويعيرونهم … إن من يعملون هذه الأعمال هم الزعماء الذين تأصل في نفوسهم الشر نتيجة لشهوة الجسد أو شهوة العين أو شهوة حب الرئاسة ، سواء أكانوا فرداً أم جماعة، متفرقين أم متحدين . وهكذا يعيش البشر سقماء لعدم إصغائهم للثلاثة والسبعة التي تكون القيثارة ذي العشرة أوتار التي هي وصاياك يا الله يا من كلك حلاوة وأعلا من كل ما هو عال .
* * *
ولكن أيمكن أن يلحقك شئ من هذه القبائح يا من لا يمكن لأحد أن يدنسك ؟ وهل توجد هنالك أعمال عنيفة يمكن أن تضرك يا من لا يمكن لأحد أن يضرك ؟ وإذا كان لا يوجد هنالك شئ من هذا ، فلماذا إذن تنتقم من البشر عندما يخطئون ؟ … إنك تنتقم من البشر لأنهم يرتكبون ما يضرهم ، ناظراً إلي أنهم عندما يخطئون إليك إنما يخطئون أيضاً ضد أنفسهم ، وهم بإفراطهم في استعمال أشياء مباحة أو ليست مباحة كتلك العادة التي هي ضد الطبيعة ، إنما يسيئون إلي أنفسهم ، لأن هذا الشر يفسد طباعهم التي خلقتها أبدعتها .
كذلك عندما يكفر الناس بألسنتهم وقلوبهم بك ، رافسين المناخس وكاسرين وتد الهيئة الاجتماعية ، بسعيهم في إثارة الفتنة طمعاً في فائدة يربحونها ، أو ضرر يسيئون به إلي الغير إنما يسيئون إلي أنفسهم بعملهم هذا ، وفي الوقت نفسه يعتدون عليك يا مصدر الحياة ، لأنك أنت وحدك الخالق الوحيد وأنت وحدك الإله حاكم المسكونة …
لذلك يجب علينا أن نصلي بكل تذلل لنرجع إليك ، لتطهرنا من خطايا عاداتنا الشريرة
لأنك رحوم وتغفر خطايا الذين يعترفون لك وتسمع أنين الأسير وتحلم من قيوده التي يقيد بها نفسه ، إن كان لا يضادك ولا يرفع أعلام الحرية الباطلة ، فيخسر كل شئ عندما يشتهي ما لغيره ، ويحب خيره الخاص أكثر من حبك يا خير الجميع .
-17-
زيادة علي آثام القباحة والعنف والمظالم يوجد هناك آثام أخري يعملها الناس جملة بمهارة ويذمها أولئك الذين يحكمون بعدل حسب ناموس الكمال . ومع ذلك فإن الناس عندما يرتكبون هذه الآثام يُمدحون باعتبار ما سوف يعملونه مستقبلاً من خير ، شأنهم في هذا شأن من يرجو القمح من السنبلة إذا نمت واخضرت … كذلك توجد أعمال أخرى تشبه أعمال العنف ، ومع ذلك فإنك لا تعتبرها خطايا ، لأنها لا تغيظك أيها الرب إلهنا ، ولا تضر الهيئة الاجتماعية ، ومن هذه الأعمال اقتناء الأشياء والأموال وادخارها لمستقبل الأيام ، لاستخدامها في شئون الحياة. كذلك من بين تلك الأعمال العقوبات ، التي توقعها السلطة الزمنية بالمجرمين ، لتقويمهم لا لضررهم .
إذن توجد هناك ثمة أعمال يذمها البشر وتمدحها شهاداتك يا رب ، كما توجد أعمال كثيرة يمدحها البشر وأنت تشهد بأنها مذمومة ، لأن غرض العمل ورأي من يعمله واختلاف الأزمنة المجهولة كلها تتناقض مع بعضها . لذلك فلا عجب إذا ما أمرت الناس بأمر شاذ أو غير مألوف لأنك سبق أن نهيت عنه في وقت من الأوقات دون أن تبين سبباً لهذا الأمر الذي قد يكون ضد شرائع فريق من البشر ولا عجب إذا ما خالف الناس هذا الأمر وامتنعوا عن تنفيذه مبررين مخالفتهم له بأنهم لا يريدون مخالفة شريعتك السابقة لأنهم متفانون في عبادتك .
يا رب إن الذين يعرفون وصاياك هم السعداء ، وكل ما يعمله خدامك إنما يعملونه ليظهروا علانية ما هو ضروري وجدير بالاتباع في الوقت الذي يعيشون فيه والأزمنة المستقبلة التي يتنبأون عنها .
-18-
ولكوني كنت جاهلاً بهذه الأمور ، فقد هزأت بأبنائك وخدامك القديسين ، ولكني لم أربح من وراء هذا سوى ازدرائك بي … لقد كنت مدفوعاً إلي تلك الجهالات تدريجياً ورويداً رويداً ، حتى لقد كنت أعتقد أنني إذا قطعت شجرة التين فإنها تبكي عند قطعها ، وأنه إذا فُصل غصن عنها فإنها تريق من أجله دموعاً لبنية وتظل حزينة منتحبة حتى يأتي قديس مانوى ويأكل منها ويمزجها بأحشائه فعندئذ تجف دموعها ويخف حزنها إذ أن القديس المانوى عندما أكل منها قد حلل ذرات اللاهوت الموجودة فيها ، في كل تأوه أو أنين يصدر منه في صلاته ( لقد كانت العقيدة أن ذرات اللاهوت محجوزة في شجرة التين حتى يعتقها منها أسنان أو جوف قديس مانوى مختار ) .
لقد اعتقدت أنا التعيس أن الرحمة واجبة لثمار الأرض أكثر من وجوبها للبشر الذين خلقت من أجلهم هذه الثمار ، فإذا وجد إنسان – غير مانوى – جائع والتمس تينة ليأكلها فإني كنت أشفق على تلك التينة التي كانت تظهر في عينيَ كأنها محكوم عليها بالموت.
-19-
الله يوحي إلي أمه في رؤيا بهدايته
أما أنت يا رب فقد أرسلت لي معونتك من الأعالي وخلصت نفسي من تلك الهاوية العميقة لأن أمي المؤمنة بك كانت تبكي إليك من أجلي ، وكان بكاؤها يفوق بكاء الأم الثكلى علي فقد وحيدها … لقد كانت أمي مؤمنة بك وممتلئة من روحك القدوس ، فأدركت خطر الموت الذي كنت متمسكاً به ، وأنت يا رب قد استجبت لها ، ولم تهزأ بدموعها ، لأنها عندما كانت تصلي كانت تروي بدموعها أرض المكان الذي تصلي فيه.
لقد استجبت لها يا رب ، وأريتها تلك الرؤيا التي عزيتها بها ، وعندما تعزت سمحت لي بأن أعيش معها ، وآكل علي مائدتها في ذلك المنزل الذي كانت قد بدأت في كراهيته كارهة معه تجديفي وضلالي … لقد كانت رؤيا أمي أنها وجدت نفسها جالسة علي قاعدة خشبية ثابتة فلم يلبث أن ظهر أمامها شاب مشرق بهيج يبتسم لها آخذاً في الاقتراب منها .
لقد كانت نفسها مكتئبة غارقة في الأحزان ، حتى إذا ما سألها إنسان عن سبب حزنها ودموعها التي لا تنقطع ، كانت تجيب أنها تندب هلاكي ، أما هم فكانوا يعزونها ويقولون لها – وهم في غاية السرور – بأن تتأمل جيداً في رؤياها وكيف أنني كنت في المكان الذي هي كانت فيه ، وكيف أنها عندما تطلعت إليَ وجدتني واقفاً بجوارها ، في نفس النظام الذي كانت تقف هي فيه … من أين كانت لأمي هذه التعزيات إلا منك ، لأن أذنيك مالتا إلي قلبها حقاً ، لأنك صالح جداً وقادر علي كل شئ ، يامن تعتني بكل واحد منا كما لم يكن لك أحد آخر تعتني به غيره ، وتعتني بنا جميعاً كما لو كنا فرداً واحداً فقط .
-20-
لقد أخبرتني أمي برؤياها فقلت لها ( إن تلك الرؤيا تعني أنه يجب عليها ألا تيأس من أن تكون ذات يوم حيث كنت أنا ) فلم تلبث أن أجابتني في الحال وبلا أدني تردد ( كلا إنني لم أُخبر بأنني سأكون حيث يكون هو ولكنني أُخبرت بأنه حيثما تكونين أنت سيكون هو أيضاً ) .
أعترف لك يا رب علي قدر وعي ذاكرتي – وطالما تحدثت عن هذا – بأن إجابتك لأمي كانت في الوقت الذي كانت فيه مستيقظة، حتى إنها لم ترتبك بتعليل تفسيري غير الصحيح ، وأبصرت سريعاً ما يجب رؤيته وما لم أفطن إليه قبل أن أتكلم معها حتى إنني تأثرت في ذلك الوقت بكلامها أكثر من الرؤيا نفسها ، تلك الرؤيا التي أفرحت أمي القديسة ، ولم يلبث فرحها أن صار كاملاً لأجل تعزية ألمها الذي ظل وقتاً طويلاً لأني ظللت بعد ذلك تسع سنوات كاملة متمرغاً في حمأة الهاوية العميقة ورغم إنني كثيراً ما حاولت أن أنهض ولكنني في كل مرة كنت ازداد هبوطاً إلى أغوار الأحزان وظلمة النفاق وكانت تلك الأرملة الوديعة التقية الوقورة التي أحببتها حزينة في كل حين من أجلي ولكنها لم تلبث أن صارت فرحة برجاء خلاصي مستقبلاً . وإن كان هذا لم يقلل من دموعها إذ لم تنقطع عن النواح إليك من أجلي فدخلت صلواتها إلي حضرتك ومع ذلك فقد سمحت لي بأن أكون محاطاً وغارقاً في بحار الظلمة .
-21-
لم تكن وحدها إجابتك لأمي ، فقد أجبتها إجابة أخرى لا أتذكرها جيداً ، لأنني كنت أمر مراً سريعاً بتلك الأشياء التي دفعتني على أم أعترف لك بها ، وكثيراً من الأمور الأخرى غيرها … لقد أجبتها في ذلك الوقت بواسطة أحد خدامك ، وهو أسقف أمين تربي في كنيستك ، وقد درس جيداً في كتبك . لقد توصلت أمي إلي مقابلة ذلك الأسقف وطلبت إليه أن يتنازل ويحدثني ويفند ضلالاتي وينهاني عن شري ويعلمني أشياء نافعة لحياتي لأن هذه كانت عادته عندما يجد في بعض الناس رغبة في الإصغاء إلى حديثه . ولكونه كان حكيماً فقد رفض – كما لاحظت بعد ذلك – وأجابها قائلاً ( بأنه مازال غير قابل للتعليم ) ذلك لأنني كنت أبالغ في مدح تلك البدعة التي كنت أعتقد بها حتى لقد أجبرت أناساً كثيرين غير حاذقين علي أن يعتقدوا هم أيضاً بها عن طريق مناقشتي معهم فيها .
لقد أخبرتني أمي بأنه قال لها ( دعيه وحده ، وصلي إلي الله لأجله وسوف يعرف من نفسه حقيقة تلك الضلالة وسوف يعرف بالقراءة ما فيها من إلحاد عظيم ) . لقد قال لها في نفس الوقت كيف أنه هو نفسه عندما كان صغيراً قد أسلمته أمه المخدوعة إلي المانويين ، وإنه لم يقرأ كتبهم فحسب بل قرأها كلها تقريباً . ولكن لم يلبث ودون أن يناقش أحداً من الناس فيها أو يسمع منهم دليلاً أو برهاناً يفندها لم يلبث أن شعر أن واجبه يحتم عليه أن يبتعد عن تلك الشيعة وقد أبتعد فعلاً عنها … ولكن أمي لم تقتنع بهذا بل زادت في إلحاحها عليه بتوسلات ودموع كثيرة عله يراني ويتحدث معي ، حتى إذا أزعجته لجاجتها أجاب قائلاً لها :
(انصرفي إلي سبيلك . الله يباركك . إنه غير ممكن أن يهلك ابن هذه الدموع )
أية إجابة رائعة حصلت عليها أمي – كما ذكرت مراراً في حديثها معي – لقد كانت تعتقد أنها قد التقطها من السماء .
الكتاب الرابع
حياة أوغسطينوس من التاسعة عشرة حتى الثامنة والعشرين .
إغواءه الناس لاعتناق مذهب المانويين .
انقياده انقياداً جزئياً للزهو وحب الأثم .
استشارته للعرافين .
فقده صديقاً قديماً ورثاءه له .
تأملات في الأحزان والصداقة الحقة وغير الحقة وسعيه وراء الشهرة.
أقوال عن ( الحسن والمناسب ) وهو كتاب ألفه القديس .
قبوله بعض التصورات الخاطئة عن الله .
-1-
إغواء الناس لاعتناق مذهب المانويين
لقد قضيت السنوات التسع التالية من عمري – ما بين التاسعة عشرة والثامنة والعشرين – ضالا ومضلا ، خادعاً ومخدوعاً في شهوات مختلفة كنا ندعوها علانية باسم ( العلوم الحرة ) ، وسراً ندعوها باسم ديني مزيف … لقد كنت في ذلك الوقت متكبراً ومنساقاً وراء الخرافات ، مفتخراًومزهواً بنفسي في كل مكان ساعياً وراء المديح العام عن طريق الفوز بجوائز الشعر والمناظرات لأحصل علي أكاليل الزهر الخضراء ، وحماقات المناظر الباطلة وفجور الشهوات . ولما كنت أريد أن أتطهر من هذه النجاسات فقد كنت أحمل الطعام لأولئك الذين كنا ندعوهم ( مختارين) و ( قديسين) حتى إذا تناولوا تلك الأطعمة تحولت إلي ملائكة وآلهة قد نتطهر بها ، وهكذا اقتفيت أثر هذه البدعة ومارستها مع أصدقائي المخدوعين بواسطتي والمخدوعين معي بها .
ليتك كنت يا رب قد سمحت لأولئك المتكبرين أن يهزأوا بي ولكنهم لأجل فائدتهم لم يهزأوا !! ليتك قد تركتهم يهزأون بي أنا المضروب و المذلول منك يا إلهي ، فإنني مازلت اعترف أمامك بفضيحتي ، وأتوسل إليك ، أن تحتملني وأن تهبني نعمة لأعبر عما بخاطري من ضلالات ذلك الزمن الماضيوأقدم ذبيحة الشكر لك لأن نفسي بدونك لم تكن تحمل سوي دليل سقوطها إنني الآن أمامك وبالجهد لست إلا طفلا يمتص اللبن الذي أعطيته إياه ويقتات بك أيها الطعام الذي لا يفني . إن أي رجل منا مهما كان الجنس البشري الذي ينتسب إليه ليس إلا رجلا ضعيفاً يضحك منه الأقوياء والمقتدرون وأما نحن المساكين فدعنا نعترف بإثمنا لك.
-2-
انقياده انقياداً جزئياً للزهو وحب الأثم .
في تلك السنين كنت أُعلم علم البيان ، ولما كنت طماعاً فقد أقمت للثرثرة سوقاً عظيمة ، ومع ذلك فإنني كما تعلم يا رب فضلت الطلبة الأمناء – حسب ظني – وهؤلاء علمتهم الخداع بدون قصد لا لكي يستعملوه في إهلاك البرئ وإنما لكي يستعملوه أحياناً في إنقاذ المذنب . وأنت يا الله قد لاحظت من بعيد كيف كنت أتعثر في تلك المسالك الزلقة فأرسلت إليَ أشعة إيمانك – وسط دخان كثيف- لتهديني وخلصتني من محبة الزهو الكاذب .
لقد كنت أعاشر في تلك السنين امرأة بلا زواج ، وكانت تلك المرأة لا تميز في عشقها الجامح بين إنسان وإنسان ومع ذلك فلم يبق وفياً لها سواي . وبواسطة هذه المرأة اختبرت الخلاف القائم بين الميثاق اللازم لإنجاب النسل وبين محبة الشهوة حيث يولد الأطفال ضد إرادة والديهم مع أنهم يجبرون علي محبتهم عندما يولدون .
-3-
استشارته العرافين
إنني أتذكر كيف أنه في ذلك الوقت وعندما أردت أن أتقدم لكتابة قائمة إحدى الجوائز التقليدية ، أتذكر أنه جاءني أحد العرافين سائلاً إياي ماذا أعطيه لكي يرشدني إلي ما أعمله لكي أربح تلك الجائزة . ولما كنت أبغض ذلك العراف وأبغض كل أسراره القبيحة فقد أجبته بأنه لو أمكن أن يتحول إكليل الزهر الذي يُمنح جائزة إلى إكليل من الذهب الخالص فإنني لا أقبل أن أربحه عن طريق القتل حتى ولو كان ما يقتله ليس إلا ذبابة واحدة، ذلك لأن عادته كانت أن يستعين بقتل بعض المخلوقات الحية ليقدمها ذبائح للشياطين ليدعوها لمساعدتي .
لقد رفضت هذا الشر العظيم ، ولم يكن هذا الرفض خالصاً من أجل محبتك يا إله قلبي لأنني لم أكن بعد قد عرفت كيف أحبك أنا الذي لم أكن أعرف كيف أتخيل إمكان وجود أي شئ خلف مادة منيرة !! أفلا يمكن أن ترتكب الفسق مثل هذه النفس المتنهدة علي تلك الخرافات ، أو تعتقد في أمور باطلة وتتغذى بالهواء ؟؟… إنني مازلت إلي الآن أرفض أن تقدم عني ذبائح إلي الشياطين ومع ذلك فإنني قدمت نفسي ذبيحة لهم باعتناقي تلك الخرافة لأنه ليس هناك ما هو أشر ممن يقتات بالهواء لكي يشبع الشياطين بزيغانه ويصبح تسليتهم وهزئهم .
-4-
في ذلك الوقت وبلا أدني تردد استشرت أولئك المحتالين الذين أطلق عليهم اسم علماء الرياضيات ،لأنهم حسب عقيدتهم – كما كان يظهر لنا – لا يقدمون ذبائح ولا يصلون إلي أي روح . إن هذه العقيدة كانت مشجوبة من كل المسيحيين ، لأنها تتنافى مع كل صلاح حقيقي . إنني أعترف بأنني قد استشرت هؤلاء المحتالين لأنه من الخير لي أن أعترف بذلك قائلا ارحمني واشف نفسي لأنني أخطأت إليك ، من أن استهين برحمتك متذكراً كلمات الرب ( ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر).
لقد جري مذهب أولئك المحتالين علي الاجتهاد في هدم كل رأي سليم إذ أنهم يقولون ( إن سبب الإثم مقدر من السماء ، وهو من عمل الزهرة {وهي آلهة الحب} وزحــــــل {وهو إله الزمان} والمريخ { وهو إله الحرب } ) ، فأخذاً بهذا الرأي يكون الإنسان الفاسد المتعجرف ، والمخلوق من دم ولحم ، بلا لوم ، لأن اللوم يقع علي خالق السماء والنجوم . ومن هو الخالق إلا إلهنا ، الذي هو العذوبة الحقة ومنبع الصلاح ، الذي يعطي كل إنسان بحسب أعماله ، ولا يرفض القلب المنكسر والمنسحق ؟؟
-5-
في تلك الأيام أيضاً قابلت رجلاً حكيماً وماهراً جداً في الطب ، حتى ذاعت شهرته بين الناس . ولم يكن سبب هذه الشهرة هو طبه ، بل كان سببها أنه كان حاكماً رومانياً . لقد وضع هذا الرجل بيده إكليل الكفاح فوق رأسي السقيمة بذلك المرض ، الذي لا يستطيع شفاءه سواك وحدك ، يا من تقاوم المتكبرين ، أما المتواضعون فتعطيهم نعمة.
فهل استخدمت أنت هذا الرجل العجوز لإهلاكي ، أم أنك امتنعت فقط عن شفاء نفسي ؟؟
لقد لازمت هذا الرجل عندما عرفته ، وكنت أواظب علي سماع أحاديثه الطلية ، وعباراته الواضحة القوية . لقد استنتج من حديثي معه ، إنني كنت مغرماً بكتب علماء الفلك ، فنصحني بلطف وكأب أن أنبذ هذه الكتب ، وأن لا أقيم وزناً لهذه الأباطيل ، وأن أعتني وأجتهد بما هو ضروري ولازم ، قائلاً لي إنه درس في صغره الطب ليتخذ منه مهنة يعيش منها ، ظاناً إنه بدرسه كتب” ابقراط ” يمكنهأن يفهم سريعاً علماً كهذا .
ومع ذلك فإنه لم يلبث أن نبذها وتركها لا لسبب سوي أنه وجدها ملفقة تلفيقاً ، وإنه كرجل لا يود أن يكسب عيشه بإغواء الناس حتى لقد قال لي : ( إن لديك علم البيان ومن ورائه تستطيع أن تكسب عيشك فعليك بتعليم هذا العلم المباح ، وأعطني شهادة بأنني قد درسته – أنا الذي قد تعبت في إجادة تحصيله – كي أربح من ورائه عيشي ) ولما سألته كيف يمكن لعلم البيان أن يوصلني إلي حقائق الأمور، أجابني على قدر استطاعته قائلاً ( أن قوة الصدفة الكائنة في نظام الكون، كفيلة لأن توصلك إلي الحقائق، وذلك إنك عندما تقلب صفحات ديوان أحد الشعراء الذين نظموا الشعر، وفكروا في أشياء تخالف ما تفكر فيه ، فإنك كثيراً ما تجد بيتاً من الشعر يطابق تمام المطابقة وبنوع عجيب لما يجول في فكرك ، ويدور في ذهنك ، وهذا لا يمكن أن يكون مجرد صدفة تثير عجبك ! أما الإنسان الذي لا يدرك من روحه ما يحل محل الصدفة ، فكثيراً ما ترشده غريزته الطبيعية إلي الإجابة الواضحة ، ويكون هذا عن طريق الصدفة لا بمهارة السائل في حرفته أو عمله ) .
-6-
وهكذا يا رب أعطيتني عن طريق هذا الرجل ، ما أفحصه في ذاكرتي فيما بعد . ومع ذلك فإن هذا الرجل لم يستطع هو و نبرودس { أحد أصدقاء القديس أوغسطينوس وكان محبوباً لديه جداً ، كما كان صالحاً صلاحاً كبيراً وله مهابة ووقار وكان يحتقر جماعة العرافين } أن يستميلاني إلي أنأطرح جانباً نفوذ الفلكيين، الذي كان سائداً ، ومع إنني حتى الآن لم أجد أي برهان حقيقي لما كنت أظن أن الشك لا يمكن أن يتطرق إليه . حقاً إن ما أنبأني به هذان الرجلان المعتبران كان نتيجة الصدفة وليس من فن مراقبي النجوم .
-7-
حزنه لموت أحد أصدقائه
في تلك الأيام عندما بدأت في تعليم علي البيان في وطني اتخذت لي صديقاً ، وكان هذا الصديق دون جميع الأصدقاء عزيزاً جداً عندي ، وكان في مثل سني في بداءة مطلع الصبا . لقد نشأنا معاً أطفالاً ، كما كبرنا نحن الاثنان معاً وتزاملنا في الدرس و اللعب .
ولكن صداقة اليوم لم تكن كصداقة الأمس غير مؤكدة ، لأن الصداقة لا يمكن أن تكون قوية ما لم تأتلف بصديقك وتلتصق به بتلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المعطَي لنا . ولقد نشأت تلك الصداقة مجرد صحبة رقيقة ، ثم زاد من حرارتها تلك الدراسات ، التي كانت من نوع واحد وكنا ندرسها معاً ولم يلبث أن أرتد عن الإيمان الصحيح – لأنه إذ كان شاباً فإنه لم يدرس حقائق الإيمان جيداً وتماماً – إلي بدعة أولئك المحتالين بسبب إغرائي له بها ، الأمر الذي تأسفت من أجله أمي .
لقد ضل هذا الشاب في الطريق الذي ضللت فيه ، وارتبطت نفسي به ارتباطاً قوياً ، ولكنك يا رب يا من لا تتخلى عن أبنائك الذين يبتعدون عنك ، أنت يا إله النعمة ونبع المراحم ، رددته إليك بوسائلك المحيية ، أنت أخذته من هذه الحياة عندما أتم سنة كاملة معي في صداقة نادرة ، حتى كانت حلاوته عندي أحلي من كل حلاوة ذقتها في حياتي .
-8-
من يقدر أن يحصي كل الأعمال التي يختبرها الإنسان في نفسه ويسبحك من أجلها ؟ ماذا فعلت معي يا إلهي في ذلك الوقت؟ حقاً ما أبعد آراءك عن الفحص وحكمتك عن الاستقصاء ، لقد تركت صديقي نائماً فوق فراش المرض بلا حراك، بين الحياة والموت، وقد جعلته الحمي في غيبوبة طويلة ، فلما يئسوا من شفائه عمدوه دون أن يدري . أما أنا فلم أهتم بمعموديته ، معتقداً أن نفسه ستُحفظ سالمة بفضل ما تعلمه مني لا بما ناله وهو في غيبوبته ، ولكن الذي حدث كان علي عكس ذلك تماماً ، فإنه عندما تقوي وابتعدت عنه الحمي وأصبحت قادراً علي أن أتكلم معه بعد أن استطاع أن يتكلم ، لأني لم أفارقه مطلقاً أثناء مرضه، في ذلك الوقت أردت أن أمزح معه ظاناً أنه هو أيضاً يريد أن يمزح معي بتلك المعمودية التي حصل عليها عندما كان لا يعي شيئاً ، ولكنه إذ كان قد عرف أنه قد تعمد احتقرني كأنني عدوه ، وطلب مني بصراحة عجيبة وغير متوقعة ، بأنني إذا أردت أن أحافظ علي صداقته ، فيجب علي ألا أتكلم بهذه اللغة معه . ولما كنت في غاية الدهشة والعجب ، كظمت ما بنفسي حتى يشفي تماماً ويكون في صحة تامة تمكنني من أن أعاتبه كما أريد .
ولكنك يا رب أبعدته عن هذياني ، وأخذته لتحفظه معك لأجل راحته ، إذ بعد أيام قليلة عندما كنت غائباً بعيداً عنه ، عاودته الحمي ثانية ومات.
-9-
لقد نزلت علي نفسي تلك المصيبة نزول الصاعقة، فأنقبض لها قلبي انقباضاً شديداً، فما كنت أبصر أمامي سوي ظلام الموت، لقد صارت مدينتي لي ألماً وصار بيت أبي لي غماً وهماً ، وأصبح كل شئ كنا قد اشتركنا فيه معاً عذاباً أليماً . لقد فتشت عنه في كل مكان ولكني لم أره ، ولم تستطع عيناي أن ترشداني إلي أنه قادم كما كان يحدث في غيابه عندما كان حياً .
لقد أصبحت لي نفسي لغزاً معقداً ، وسألتها (لماذا هي هكذا حزينة ولماذا تئن في) ؟ ولكنها لم تكن تعلي بماذا يجيب ، وعندما كنت أقول لها ( ترجي إلهك ) كانت لا تطيعني، وكانت علي حق ، لأن ذلك الصديق العزيز جداً كان رجلاً مخلصاُ ن وكان من ذلك الطيف الذي زادت نفسي في الاعتقاد به … إن الدموع وحدها هي التي استعذبتها فكانت حلوة لي ، لأنها حلت محل صديقي في أثمن عواطفي .
-10-
والآن يا رب ، وقد اجتزت هذه الأمور ، وقد سَكَن الزمن جراح قلبي المصدوع . أفيمكن أن أتعلم منك أيها الحق ؟ أيمكنني أن أقرب أذني فؤادي نحو فمك ، لعلك تخبرني لماذا يحلو البكاء للحزين ؟ وهل أنت أيها الموجود في كل مكان رميتني في تعاستي وحزني بعيداً عنك ؟… أنت وحدك الدائم في نفسك، أما نحن فتتقاذفنا مصائب كثيرة ، وإن لم نبك في أذنيك فلن يكون لنا رجاء.
إن الثمار الحلوة لا تُجمع إلا من شجرة الحياة المرة ، ومن الأنين ومن الدموع ومن التنهدات ومن الشكايات ! فإذا كان لنا رجاء في أنك تستجيب لنا، فإن هذا يجعل الحياة حلوة في أنظارنا.
وهذا لا يأتي إلا من الصلاة إليك ، التي توجد فينا الشوق للاقتراب منك ، ولكن أيوجد هذا الشوق عندما نفقد أحداً ؟ أكان هذا الشوق موجوداً في الحزن الذي كنت مغموراً فيه في ذلك الوقت ، الذي لم أكن أتوقع فيه عودة صديقي ثانية إلي الحياة ولم أبك من أجل عودته إليها ؟! إنني بكيت وحزنت لأنني كنت تعيساً وفقدت كل سبب للفرح ، فهل يكون البكاء حقاً أمراً محزناً ، وهل نبكي من أجل محبة الأشياء التي كنا نُسر بها قبلاً ، وهل عندما نشمئز منها نُسر في ذلك الوقت ؟!
-11-
بماذا أجيب عن كل هذا ؟ لأن هذا وقت الاعتراف وليس وقت السؤال !! لقد كنت تعساً وكانت نفسي كذلك تعسة لأنها كانت مرتبطة بحب أشياء فانية ، فلما فقدتها شعرت بالبؤس الذي كانت فيه قبل أن تفقدها .
هكذا كان الأمر معي لذلك بكيت مر البكاء ، ووجدت الراحة في الحزن فشقيت ن لقد اعتبرت هذه الحياة التعسة أغلي من صديقي، لذلك فإنه رغم أنني كنت أود أن أغيرها عن طيب خاطر ، فإنني لم أود أن أتركها ، وكنت أفضل البقاء فيها علي أن أكون حيث هو . وفي الحقيقة إنني لا أدري هل كنت أود أن أترك الحياة لأجله كما قيل – إن كان ذلك صدقاً – ” بيلادوس ” و ” أورستس ” اللذين كانا يودان بكل سرور أن يموتا لأجل بعضهما ومع بعضهما ، لأنهما كانا يعتقدان أن حياة أحدهما بدون الآخر أسوأ من الموت . ولكن شعوراً خفياً اشرق في قلبي متعارضاً مع هذا العمل حتى إننيبالرغم من كراهيتي للحياة فقد خشيت الموت وكرهته كعدو قاس جداً أبعدني عن صديقي ، الذي أحببته كثيراً وتصورت أنه سيقضي على جميع الناس سريعاً ما دام قد قضي علي صديقي … هكذا كانت حالتي .
هوذا قلبي يا إلهي ، أنظر إليه وافحصني ، لأنني أتذكر ذلك جيداً يا رجائي ، يا من تطهرني عندما أتطلع إليك بكلتا عيني من دنس هذه العواطف ، أخرج من الشرك قدمي لأنني ضللت عندما وجدت أناساً كثيرين كانوا علي شفا الموت ونجوا ، ومات صديقي الذي كنت أحبه وكنت أتمني ألا يموت أبداً .
إنني أتعجب من نفسي كيف تمكنت أن أعيش بعد موت صديقي الذي كنت له أشبه بظله ، لقد قال ليأحد أصدقائنا ( أنت نصف روحه ) ، لأنني كنت أشعر أن نفسينا كانتا ( روحاً واحداً في جسدين ) ، لذلك فإن حياتي بعده كانت مروعة لي ، لأنني لم أكن أود أن أعيش مشطوراً ، كما أنني خفت أن أموت ، لئلا يموت كل الذي أحببته !!
-12-
آه من غباء الإنسان الذي لا يعرف كيف يحب أصدقاءه كما يحب بقية الناس بعضهم البعض !! كم كنت غبياً في ذلك الوقت ، وكم كنت أكابد من أحزاني وآلامي !! لقد اضطربت وتنهدت وبكيت، لقد كنت مضطرباً وحائراً دون أن أعثر علي شاطئ أرسو عليه ، وكانت نفسي منزعجة ومنتفخة ودامية ، فلم تستطع أن تنال الراحة … إن الغابات الهادئة لم يكن فيها ما يطمئنني، والموسيقي العذبة لم يكن فيها ما يشجيني، كذلك لم يكن في جمال البساتين ما يسرني ، ولم يكن في بهجة الحفلات ما يطربني . أما الكتب والأشعار فكنت لا أجد فيها عزاء ، والانغماس في إرضاء الشهوات لم يكن لي فيه متعة أو لذة .
إن كل شئ – حتى منظر الضوء – كان يبدو أمامي مشابهاً لمنظر الموت ، وكل ما كنت أراه كان يظهر علي غير حقيقته ، أما نفسي فكانت تكره كل شئ ما عدا الدموع والأنين والتأوهات فهي وحدها التي كنت أجد فيها بعض الراحة والعزاء ، حتى إذا ما تخليت عنها شعرت بأني أنوء تحتثقل جميع بلايا العالم وأرزائه، وإن هذه البلايا والأرزاء تغوص بي إلي أعماق الهاوية .
* * *
إنني لو تطلعت يا رب إليك ، لوجدت الفرح بقربك ، لقد أدركت هذا ، ولكن نفسي لم ترغب في أن تذهب إليك ، فلما فكرت فيك لم يكن لهذا التفكير صدي في نفسي ، لأنها لم تعرفك علي حقيقتك ، بل كنت عندها مجرد خيال عابر … لقد ضللت لعدم معرفتك ، ولهذا فشلت عندما حاولت أن أزيح عن عاتقي ثقل أحزاني ، وكان الثقل ينزلق متسللاً إلى أسفل مطبقاً علي قلبي ! فيزيد ألمي وتعبي.
آواه من تلك الأحزان … لقد صارت رقعة سوداء أمامي ! لا أستطيع أن أجد لنفسي منها مهرباً …لأني لا أستطيع أن أهرب من قلبي ونفسي ..!! ومع ذلك فقد هربت إلى خارج وطني … إلي قرطجنة حيث لم تكن عيناي قد اعتادتا أن تنظراه ، فكان سعيهما إلى التفتيش عنه أقل من سعيهما للتفتيش عنه في وطني” ثاجستا “.
-13-
إن الأزمنة لا يمكن أن ينقص منها زمان ، كما لا يمكن أن يطوي باطلاً أي زمن من الأزمنة ، وليس هناك ما يفعل بأفكارنا أو يؤثر تأثيراً عجيباً في إحساساتنا خير من الزمان … إن زمن الأحزان أخذ يمر يوماً فيوماً، وبمروره بدأ زمان جديد يحل محله، وبدأت ترتسم في عقلي تصورات أخرى وخواطر أخرى ، وهكذا أخذت أعود شيئاً فشيئاً إلى حياتي القديمة وأفراحي القديمة ، وانفثأت أحزاني فلم أسر وراء أحزان أخري ، وإن كنت قد سرت وراء بواعث الأحزان .
إن الحزن القديم قد وصل إلي أعماقي ، حتى سكبت نفسي في التراب محبة في ذلك الإنسان الذي كان لابد أن يموت ، ومع ذلك فإني حزنت عليه كأنه لا يموت أبداً . لقد أبرأني من حزني القديم علي أصدقاء آخرون ، فأحببت معهم ما أحببت دون أن نحبك يا إلهي ، لأن نفوسنا كانت مدنسة بخرافة عظيمة و أكذوبة شائعة ، وهي أن ندع المذاهب وراء ظهورنا ، وأن نكتفي بعمل الخير… فكنا ندنس أنفسنا بالفسق الذي كانت آذاننا تشتاق إلي التلذذ بالتحدث عنه ، وكنا نداعب بعضنا بعضاً ، ونقرأ معاً كتباً كلها ملق، كما كنا نمزح مع بعضنا ، ونغار على بعضنا ، فتارة نفترق وطوراً نجتمع ، فإذا افترق أحد عنا اشتاقت إليه نفوسنا ، وإذا عاد إلينا رحبنا بعودته لنا .
-14-
هذا ما منا نحبه نحن الأصدقاء ، ولهذا كانت ضمائرنا مستريحة ، ما دمنا نحب من يحبنا ، ولا نحب من يبغضنا ، غير مهتمين بهذا الشيء أو ذاك ، بل كنا مهتمين بما يربطنا من روابط الألفة والمحبة ، فإذا مات أحدنا انغمست قلوبنا في الأحزان ، وغرقنا في النواح والكدر ، وتحول كل ما كان عذباً إلى مرار ، فيعيش الحي ميتاً بعد فقد الذي كان حياً .
ولكن طوبى لمن يحبك يا إلهي ، ويجعلك وحدك صديقه فيعادي من يعاديك ، ويحب من يحبك ، فمثل هذا الإنسان لا يموت لديه أبداً عزيز ، لأن من يحبهم إنما يحبهم فيك ، أنت الذي لا تموت … أنت وحدك إلهنا !!! أنت وحدك الإله الذي يملأ السماء والأرض ، ومادمت تملأهما فأنت هو خالقهما ، وأنت وحدك الذي لا يخسرك إلا من يبتعد عنك ، ولكن إلي أين يذهب وإلي أين يهرب ؟ هل يمكن أن يُسر بالبعد عنك ؟ أو يحزن بالقرب منك ؟!! أنت وحدك هو الحق وناموسك هو حق .
-15-
كتابات عن الحَسن والمناسب
أيها الرب إله الجنود تطلع إلينا ، وأرنا وجهك فنحي. إن نفوسنا ستظل قلقة ما دامت منحرفة عنك ، كما ستظل مثقلة بالأحزان ما بقي تعلقها بحب الكائنات الجميلة ومع ذلك فإن هذه الكائنات هي منكلأنها لا تقدر أن تكون ما لم تكن آتيه منك . إن هذه الكائنات الجميلة تظهر و تتكاثر ولكنها لا تلبث أن تزول ، إنها تنمو ويستمر نموها حتى يبلغ حد الكمال ، ولكنها لا تلبث أن تفني ، إنها جميعاً لا تبلغ مرتبة الشيخوخة ، ولكنها جميعاً لابد أن تموت .
إن كل كائن منها يرغب في أن يكون جميلاً ، بل يرغب في أن يصل إلي أعلي مراتب الجمال بسرعة حسب الناموس الذي أعطيته , ومع ذلك فإن جميع أجزائه لا تظهر دفعة واحدة ، ولابد أن يزول جزء قبل أن يظهر جزء آخر ، ومن تعاقب أجزاء بعض الكائنات وزوال غيرها يتم تكوين عالمنا هذا ، مثل ذلك مثل الكلام الذي ننطق به فإنه لا يظهر إلا عندما ننطق به علانية ومع ذلك فإنه لا يتم إلا عندما ننطق بآخر كلمة لئلا يكون هناك كلام بعدها .
دع نفسي تسبحك من أجل هذه الكائنات يا خالق الكل، ولكن لا تدعها متعلقة بحبها ، لأنها إذا تعلقت بحبها فإن هذا الحب سيفسدها ولا يجعلها تستريح إلا من دوام وجودها ، وهي لن تدوم لأنها لابد أن تمضي إلي حيث يجب أن تكون في المكان الذي حددته لانطلاقها لأنها بكلمتك أبدعت وبكلمتك تسمع الحكم عليها بأن تمضي إلي نهايتها المحتومة ( من هنا إلي هنا ) .
-16-
آه يا نفسي كوني عاقلة ولا تدعي غوغاء الحماقة تغلق أذني قلبك ، فإن الكلمة يناديك أن ترجعي إليه حيث ركن الراحة الركين …
إن جميع الكائنات تزول وتخلفها كائنات أخري تحل محلها ليكتمل نظام هذا الكون ، ولكن إلي أين تنطلقين يا نفسي ؟ إن كلمة الله يقول لك : ( هناك يثبت مسكنك . ثقي يا نفسي بكل ما هناك ، إنك ألان تنوئين بالأباطيل فثقي بالحق ، وثقي بأنك لن تفقدي شيئاً هناك ، لأن كل ما هناك هو من الحق . هناك سوف تزدهر شيخوختك ،وتشفي كل أمراضك ، وتتجدد كل أطرافك الميتة فتحيين وتبقين إلي الأبد أمام الله الذي يدوم ويثبت إلي الأبد).
-17-
لماذا تضلين يا نفسي وتتبعين أهواء الجسد ؟ توبي وأتبعي ربك فإنه يعلم كل ما تعملين، وإن ما تعملينه ليس إلا جزءاً مما يعلمه هو ومع ذلك فإنك تبتهجين بما تعملين.
إن الله يعاقب الإنسان بعل عندما يحرمه من بعض ما يريده ، لأن كل ما هو موجود في العالم مصيره إلي الزوال ولن يتبقى إلا الكل ، الذي به يكون فرح الإنسان فرحاً حقيقياً . لأن الإنسان إذا استمع إلى كلمة من الكلمات فإنه لا يدرك المقصود بها ، إذا كان هناك نقص في مقاطع هجائها ، فهو لذلكلا يود سماعها إلا وقد اكتملت مقاطعها ، وهكذا شأن الإنسان بالنسبة لما في العالم من كائنات ، فإنه لا يسر إلا بوجودها معاً ، وسروره بوجودها معاً يكون أكثر من سروره بواحد منها ، أو سروره إذا نقص شئ منها … إن الله هو خالق جميع الكائنات وهو أفضل من هذه الكائنات، إنها تزول لتحل محلها كائنات أخرى ، أما هو فإنه لا يزول ولا يوجد من يستطيع أن يحل محله .
-18-
إذا كان هناك بين الكائنات ما يسرك ، فسبح الله من أجله وأرجع محبتك له لأنه هو الذب خلقه ، وإلا انقلب سرورك حزناً إذا فقدته .
إذا كانت هنالك روح تسرك فأحببها باعتبارها جزءاً من روح الله ، لأن أرواح الكائنات متقلبة ولا ثبات لها إلا في روح الله ، وبدونه يكون مصيرها إلي الفناء . فلتحب ما تحب في الله ولتحمل إليه معك ما تقدر أن تحمله من الأرواح ولتقل لها فلتحبي الله، فلتحبي الله إنه هو خالق كل شئ ، إنه ليس بعيداً عنا ، إنه لم يمت بعد أن خلق ما خلق ولكنه لا يزال باقياً ، وكل شئ منه وفيه يظل باقياً أيضاً . انظري فإن الله موجود في كل مكان يحب فيه الحق ، إنه داخل القلب ومع ذلك فهل يزوغالقلب عنه ؟ ارجعوا إلى قلوبكم أيها الخطاة وتمسكوا بثبات في الله الذي خلقكم. قفوا معه فتثبتوا ، اسكنوا معه فتكونوا في سلام . إلي أي سبل وعرة تمضون ؟ وإلى أين تذهبون ؟ إن الحسن الذي تحبونه هو من الله وهو الحسن والسرور وإذا ابتعدتم عنه وأحببتم غيره، فإن الحسن الذي تحبونه يكون ممزوجاً بالمرارة ، لأنه ليس من العدل أن نحب شيئاً ونرفض الله بسبب محبتنا لهذا الشيء . إلي متي تودون أن تسيروا في تلك المفاوز المتعبة التي مازلتم تسيرون فيها ، إن الراحة لا توجد في أي مكان تبحثون عنه في تلك المفاوز . فتشوا وابحثوا عما تريدون ، ولكن أعلموا أنه لا توجد راحة حيث تفتشون وتبحثون ، لأنه لا توجد حياة سعيدة في أرض الموت، إن الحياة السعيدة لا توجد هناك ، إذ كيف يمكن أن توجد الحياة السعيدة حيث لا يمكن أن توجد الحياة ذاتها ؟!
-19-
إن الله الكلمة – حياتنا الحقيقية – نزل إلى الأرض وأنزعج ملاك الموت وزلزل سلطانه بقوة حياته ، لقد نادي بصوت عال كالرعد ، لقد نادانا بأن نرجع من أرض الموت ، إلى ذلك المكان الخفي الذي أتى منه متجسداً في الحشاء البتولى ، خاطباً إليه الخليقة البشرية – التي هي جسدنا المائت – حتى لا نموت إلى الأبد . إنه كالعريس الخارج من خدره وكجبار راكض في طريقه غير متردد بل اندفع منادياً بصوت عال ، بكلام وأعمال ، بموت وحياة ، بنزول وصعود ، آمراً إيانا بأن نعود إليه ثم غاب عن أعيننا لعلنا نرجع إلي قلوبنا ، وهناك نجده وإن كان قد مضي . لأنه لم يرد أن يمكث معنا على الأرض طويلاً ، ومع ذلك فإنه لم يتركنا ، لأنه ذهب إلى ذلك المكان الذي لم يفارقه مطلقاً مع كونه كان على الأرض ، لأن العالم به كون وهو كان في العالم ، وقد أتي إلي هذا العالم ليخلص الخطاة ، وله تعترف نفسي وهو يبرئها، لأنها أخطأت إليه .
آه يا بني البشر ، حتى متى تثقل قلوبكم ؟ وحتى بعد نزول الحياة إليكم لا تنهضون وتحيون ؟ إلي أين تصعدون عندما تتشامخون وترفعون أنوفكم نحو السماء ؟ تواضعوا لعلكم ترتفعون وتصعدون إلي الله ، لأنكم لم تسقطوا إلا لأنكم تشامختم. فليصغ المتشامخون إلي هذا ، لعلهم يبكون في وادي الدموع فيرتفعون إلى الله ، لأني إذ أتكلم معهم فإني أتكلم بروح الله متقداً بنار المحبة .
-20-
في ذلك الوقت لم أكن قد أدركت هذه الأشياء ، فأحببت الكائنات الجميلة الأرضية ، فهبطت إلي قرارالأعماق قائلاً لأصدقائي : لا نحب شيئاً سوي الجميل ، فمن هو الجميل وما هو الجمال ؟ وما هي الأشياء التي تغوينا و تستميلنا إلي الكائنات التي نحبها ؟ لأنه إن لم يكن في الكائنات التي نحبها حسن وجمال ، فإنها لا تقدر أن أبداً أن تجذبنا إليها .
لقد فطنت ولاحظت أنه يوجد جمال في أجساد الكائنات ، لأنها مكونة من طبقة من الكل ، ولأنها تكون طبقة أخري من الأشياء المتفقة والمتشابهة و المتبادلة معها مثلما يتطابق أحد أعضاء الجسد مع الجسد كله ، أو مثلما يتطابق حذاء مع قدم أو ما شابه ذلك … لقد نبت هذا التأمل في عقلي ، نابعاً من أعماق قلبي ، وأتذكر إنني كتبت كتابين أو ثلاثة عن ( الحسن و المناسب ) ، وأنت تعلم يا رب أن هذه الكتابات قد فُقدت مني لأنها لا توجد عندي ولا أعلم كيف فُقدت .
-21-
ولكن ما دفعني أيها الرب إلهي أن أهدي هذه الكتب لـ “هيريوس ” وهو أحد خطباء روما الذي أحببته دون أن أقابله بسبب ما أشتهر به من علم ؟ لقد سمعت بعض كلماته فأعجبتني. لقد أبهجني كثيراً ما سمعته عنه كما أبهج آخرين سواي فمجدوه كثيراً ، وأدهشوا لأنه وهو سوري الجنس قدتملك أعنة البلاغة اليونانية ، ثم أصبح فيما بعد خطيباً لاتينياً لا يشق له غبار ، كما أصبح أكبر عالم في العلوم و الفلسفة ، حتى مدحه الجميع ، مع أن أكثر من مدحوه وأحبوه لم يشاهدوه .
ولكن أيمكن أن تدخل المحبة في قلب السامع من فم المادح ؟ إن الأمر ليس كذلك إذ أن المحبة تدخل بواسطة أحد المحبين الذي يضرم الآخرين بمحبته ، ولذلك يُحب الممدوح بتمجيد المادح المخلص عندما يمدح من أحبه .
-22-
في ذلك الوقت أحببت أولئك الناس الممدوحين من البشر ، وليس الممدوحين منك يا إلهي ، يا من لا ينخدع فيك إنسان ، ومع ذلك لم أحب أولئك الناس بسبب ما تميزوا به من الصفات العامة التي أحبهم الناس من أجلها في كل جهة وكل جانب ، مثل ما يحبون الحوذي المشهور أو مصارع الوحوش في الملعب إذ أن الأمر عكس ذلك إلي حد بعيد ، فإنني وإن اشتقت أن أمدح فإنني لم أرغب في مديح مثل ذلك المديح الذي يكال للممثلين الذين وإن كنت قد أحببتهم ومدحتهم ، فإنني كنت أود أن أكون مغموراً من أن أشتهر كما اشتهروا ، وكنت أود أن أكون منبوذاً من أن أكون محبوباً مثل حبهم.
وإذا كان الأمر كذلك فما هي الأسباب التي تحرك أنواع الحب المختلفة في النفس الواحدة ، وإذا كنا جميعاً بشراً متساوين ، وإذا كنت لا أبغض أحداً ، فلماذا أحب صفة في شخص آخر لا أود أن يكون لي مثلها ؟؟ إن هذا الأمر لا يُحتمل !! لأنه إذا كان كل جواد يود أن يكون مثل ذلك الجواد الأصيل المحبوب من الجميع فهل أكون أنا وحدي الإنسان الذي يحب في إنسان صفات يكره أن تكون له .حقاً إن الطبيعة البشرية لغز يعسر حله ؟ ولا يستطيع أحد أن يسبر أغوارها سواك ن يا من تحصي شعورنا فلا تسقط واحدة منها علي الأرض إلا بإذنك ، ومع ذلك فإنه قد يسهل علينا أن نحصي شعور رؤوسنا ، دون أن نستطيع إحصاء إحساساتنا وضربات قلوبنا .
-23-
ولكن ذلك الخطيب الذي أحببته ، كان من النوع الذي كنت أنا نفسي مشتاقاً لأن أكون مثله ، حتى لقد ضللت في إعجابي العظيم به ، وتقاذفتني الرياح من كل جانب ، ولكنك أنت يا رب كنت في الخفاء جداً تدبر أموري .
من أين أعرف ، وكيف أعترف لك بأنني أحببت ذلك الخطيب بسبب حب مادحيه له ، أكثر من حبي له ، بسبب الصفات التي مدحوه من أجلها ، فلما ذمه مادحوه أنفسهم وأخبروني عن سبب ذمهوازدرائه ، فترت محبتي له وصرت غير متأثر به ، ومع أن السباب التي ذموه من أجلها لم تكن جديدة عليه ، كما أنه لم يصبح شخصاً آخر ، ولكن الذي تغير هو شعور المتحدثين عنه .
تطلع يا رب وأنظر إلى نفسي الضعيفة ، لأنها حتى الآن لم تتدعم بعدالة الحق ، بل هي مثل تلك الثورة التي تقوم في صدر الحقود فيندفع لسانه في هذا الاتجاه أو ذاك ، نافثاً سموم حقده تارة بسرعة وطوراً ببطء ، قالباً النور ظلاماً حاجباً الحق عن العيان.
لقد كنت مهتماً اهتماماً كبيراً بأن يعرف ذلك الرجل مقالتي ومقدار ما عانيت في تسطيرها ، وكنت مضطرباً جداً ، لمعرفة ما يستحسنه خاشياً أن يستقبح عملي فيجرح قلبي الخالي من حكمتك. ومع ذلك فإني تمعنت وعاينت كتابي الذي كتبته إليه ( الحسن والمناسب) الذي لم يعن إنسان بالالتفات إليه حينذاك .
-24-
قبوله تصورات خاطئة عن الله
ومع هذا فإنني لم أتحول بسبب ذلك الأمر الخطر إلي حكمتك ، أنت أيها القادر علي كل شئ ، وصانع العجائب وحدك . لقد طافت بعقلي صور جسدية ، وأدركت السر فيما هو (حسن) و (مناسب) اللذين لا يكون لهما جمال إلا في مطابقة الشيء للشيء الآخر .
ولقد دعمت هذا الرأي بأمثلة جسدية ، وكنت منقاداً في هذا بعقلي ، ولكن الشعور الكاذب عن الأشياء الروحية الذي كان مسيطراً علي لم يدعني أري الحق ، ولكن قوة الحق ذاتها قد بهرت عيني وأبعدت من نفسي التفكير في الأجسام غير المادية إلي المناظر والألوان والأشياء كثيرة الأهمية . ولكوني كنت عاجزاً عن إدراك هذا بعقلي ، ظننت إني لا أقدر أن أدرك كنه عقلي . لقد أحببت في الفضيلة السلام ، وكرهت في الشر الخصام ، لأني لاحظت في الأول اتفاقاً ، ووجدت في الثاني انشقاقاً . وفي ذلك الاتفاق أدركت النفس العاقلة ، وطبية الحق ، وطبيعة الخير الرئيسي الذي يجب أن أتحصل عليه ، كما أدركت وجود الطبيعة الأولي للشر ، التي لا يمكن أن تكون مادة ، بل هي أيضاً حياة حقيقية ، وقد أدركت أن هذه الحياة لم تؤخذ منك يا إلهي يا من أُخذت منك كل الأشياء لقد دعوت طبيعة الخير (موناد) { ومعناها جزء لا يتجزأ} و اعتبرتها روحاً بلا جسد ، ودعوت طبيعة الشر ( دوؤاد) { وهو الذي يرتكب أعمال العنف والقباحة بغضب } غير عالم بحقيقة ما كنت أتكلم عنه ، لأنني لم أكن أعلم أو أعرف أن الشر هو مادة ، ولا أن نفوسنا هي في ذلك الحسن الرئيسي الثابت .
-25-
إن أعمال العنف لا تظهر إلا عندما تفسد النفس وتضطرب ، وحينئذ تنشب معركة شديدة تهيج النفس بعتو وعناد ، كذلك تثور الشهوات عندما يختل توازن هوي النفس ، فتجد الملذات الجسدية ما يغذيها ويقويها .
إن الضلالات والآراء الفاسدة تفسد النفس العاقلة، كما أفسدت نفسي في ذلك الوقت، إلى أن أدركت إنني في حاجة لأن أضيئها بنور آخر ، لعلها تكون مشاركة للحق ، وأنت أيها الرب أضأت سراجي وأنرت ظلمتي ، لأن من امتلائك نحن جميعاً أخذنا ، لأنك أنت هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آتياً إلى العالم ، ولا يوجد فيك تغيير أو ظل دوران .
-26-
لقد سعيت إليك مدفوعاً بك لعلي أعرف طريق الموت فأتجنبه. إنك يا رب تقاوم المتكبر ، فهل كان هناك من هو أكثر تكبراً مني أنا الذي أردت – بنزق مكروه – أن أجعل نفسي علي طبيعتك ومثالك .
لقد كنت أرغب بشدة في أن أكون حكيماً ، واشتقت لأن أصير في حالة أفضل من حالة الشر التي كنت فيها ، لذلك كنت مضطراً لأن أغير طبيعتي فاخترت أن أتصورك معرضاً للتغيير ، من أن أتصورنفسي علي غير طبيعتك . أما أنت فقد قاومتني وقاومت قساوة نفسي الباطلة ، لقد تصورتك نفسي في صور وأشكال مادية، ولم أرجع إليك ، بل صرت مثل ريح عابرة ، وسبح تفكيري في أشكال ليس لها ظل منك أو من الناس ، ولم تخلقها لفائدتي ، وإنما اخترعتها في صور وأشكال مادية .
لقد اعتدت أن أسأل – بغباوة – أولئك المؤمنين الذين كانوا يقيمون في بلدتي والذين لم أكن أعرفهم ، لقد اعتدت أن أسألهم أسئلة كثيرة تافهة ، مثل ( لماذا تخطئ النفس التي خلقها الله ؟ ) وذلك لأني لم أجرؤ أن أسأل ( لماذا إذن أخطأ الله ؟ ). وبهذه الأسئلة أكدت أن جوهرك غير المتغير قد أخطأ في إكراهنا علي عمل الشر. وهكذا كنت أفضل هذه الأسئلة على أن أعترف بتقلب طبيعتي الضالة، وإنك لأجل تأديبي قد أسلمتني إلى الضلال .
-27-
لقد كنت في سن السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين تقريباً عندما كتبت تلك المجلدات ، وقد ترددت في داخلي ورنت في أذني قلبي تخيلات جسدية ، ولكني لم ألبث أن رجعت عنها إلي نعمتك الباطنة يا أيها الحق العذب.
لقد تأملت في ( الحسن والمناسب ) استطعت أن أقف وأستمع إليك وأبتهج بصوت العريس ، ولكنني لم أقدر أن أدخل العرس ، لأن نغمات ضلالاتي أسرعت وألقت بي خارجاً ، فهبطت سريعاً إلي أعماق الهاوية بتأثير ثقل كبريائي ، إنك لم تدعني أسمع فرحا وسروراً ، ولم تبهج عظامي لأنها لم تتواضع إلي الآن .
-28-
في الثامنة والعشرين من أيامي القليلة ، وقع في يدي كتاب لأرسطوطاليس يــــدعي ( الأحوالالعشرة ) فتعلقت نفسي بذلك الكتاب ، كما لو كان شيئاً نفيساً سامياً . إن أستاذي في علم البيان في قرطجنة قد نبذ هو وعلماء آخرون – بعجرفة وكبرياء – هذا الكتاب . أما أنا فقد قرأته وفهمته ، دون أن أستعين بأحد ، ولما تفاوضت مع آخرين فيه قالوا إنهم لم يشرحوه شرحاً لفظياً فقط ، ولكنهم شرحوه مستعينين في شرحه برسومات على الرمال ، ولهذا كان في مقدورهم أن يفهموني ما لم أستطع أن أفهمه بمفردي .
لقد كان هذا الكتاب ، كما بدا لي ، يتكلم بوضوح عن الأجسام مثل رجل ، وعن الصفات مثل شكل الرجل ، ومن أي نوع هو ، وعن القامة أي مقدار ارتفاعه ، وعن نسبه من هو أخيه ، وعن مسكنهأين يقم وغير ذلك من الأحوال أين ولد ، وهل هو واقف أم جالس ، وهل ينتعل شيئاً ، وهل يتسلح بشيء ، وهل هو يعمل عملاً ، وهل يتألم من شيء . كما كان هذا الكتاب يتكلم عن الأشياء الفائقة الحصر ، التي تندرج تحت تلك الحالة الرئيسية للمادة التي أعطي لها بعض النماذج .
-29-
ماذا استفدت من هذه الأشياء التي كنت أنظر إليها ، وكانت تعيقني عنك ؟ إنني كلما كنت أتصور أن كل ما في الإنسان يندرج تحت هذه الأحوال العشرة كنت أحاول أن أختبر وأدرك وحدانيتك العجيبة الدائمة يا إلهي ، كما لو كنت أنت أيضاً قد أخضعت نفسك لعظمتك أو لجمالك ، كأحد الأجسام التي تندرج تحت تلك الأحوال العشرة ، غير عالم أنك أنت نفسك هو عظمتك وجمالك أما الجسد غير العظيم والجميل فهو جسد ، حتى إنه لسبب عدم عظمته وجماله يجب ألا يكون جسداً .
إن ما تصورته عنك يا إلهي كان كذباً ولم يكن حقاً ، لأن ما تصورته لم يكن سوي خرافات تناسب تعاستي ، دون أن يكون حقائقاً تلائم سعادتك، لأنك قد أمرت – وما قد أمرت به قد نفذ في – إنه يجب علي الأرض أن تخرج لي شوكاً وحسكاً ، وأنه بعرق جبيني آكل خبزي !
-30-
ماذا استفدت من تلك الكتب التي قرأتها والتي كانت خاصة بالمهن التي كانت تُعرف بالمهن الشريفة؟ لقد قرأت هذه الكتب بنفسي ، وفهمتها أنا الخبيث الأسير للأميال القبيحة . لقد قرأت هذه الكتب وفرحت بها لأن ما فيها كان محققاً ومؤكداً دون أن أعلم من أين أتي الكل ؟ لأن ظهري كان نحو النور أما وجهي فكان نحو الأشياء المنيرة ، لذلك كلن وجهي الذي كنت أنظر به الأشياء المنيرة غير مضيء !!
لقد قرأت من نفسي وبدن أستاذ ، كل كتب العلوم ، من بيان ومنطق وهندية وموسيقى وحساب، وقد فهمت كل هذه بلا صعوبة كبيرة ، كما تعلم أنت أيها الرب إلهي، لأن كل ما كان لدي من مواهب الذكاء وسرعة الفهم ، كان منك يا إلهي . ومع ذلك فإنني لم أقدم مواهبي قرياناً لك ، لذلك لم تجعلني أستخدمها لفائدتي ، بل بالأحرى لهلاكي ، عندما مضيت لأحصل على نصيب وافر من هذه العلوم لأخبئه في ذاكرتي ، دون أن أحفظ طاقتي لك ، بل زغت عنك إلى كورة بعيدة لأتلف طاقتي في الفسق ، دون أن أستفيد من القوي الحسنة التي لم أستخدمها في الأعمال الحسنة .
إنني لم أشعر أن تلك العلوم صعبة ، حتى إنه لا يمكن للمُجد في الدروس أن يتحصل عليها إلا بمشقة ، إلا بعد أن حاولت أن أفسرها لذلك الإنسان الذي عندما برع فيها تركني ولم يقبل في الاستمرار معي لسيري البطيء .
-31-
ما الذي دعاني أن أتخيلك يا إلهي جسماً عظيماً مضيئاً ، وأن أتخيل نفسي جزءاً من ذلك الجسم ؟ إنه ضلالي الكبير ، لأنك لم تكن هكذا !! … إنني لا أستحي أن أ‘ترف لك يا إلهي بمراحمك نحوي ، وأن أدعوك أنا الذي منت أعوي مقابلك وأجدف عليك . ماذا استفدت من ذكائي الخارق في هذه العلوم ؟ و ماذا استفدت من كل تلك المجلدات المعقدة جداً التي فسرتها بدون مساعدة أحد؟ لقد أدركت الآن إنني كنت ضالاً عن تعاليم التقوى، وانتهكت بخزي حرمة الأشياء المقدسة . إن صغارك الذين كانوا أقل ذكاء مني لم يضلوا بعيداً عنك ، بل كانوا يطيرون بأمان في صحن كنيستك بأجنحة المحبة ، ويتغذون بطعام الإيمان السليم .
أيها الرب إلهنا دعنا نستظل تحت ظل جناحيك ، احفظنا وضمنا لأنك تضمنا جميعاً إليك إذا تواضعنا ، ,أيضا تضمنا إلي أن تشيب شعورنا . إنه حينما تكون أنت ثباتنا فعندئذ يكون هناك الثبات ، ولكن عندما يكون الثبات ثباتنا فعندئذ يكون القلق والاضطراب .
لا صلاح لنا إلا منك ، فإن أعرضنا عنك فإننا ارتد عن الصلاح .
دعنا الآن نعود إليك يا رب لئلا نضل. لأن فيك يدوم صلاحنا بلا انحلال . وإذا كنت أنت هو صلاحنا فلا نخشى الفاقة .
دعنا نرجع إليك لئلا لا نجد مكاناً نرجع إليه . لقد سقطنا من صلاحك ، وفي خلال غربتنا على الأرض حفظت لنا مسكننا الذي هو أبديتك .
No Result
View All Result
Discussion about this post