الخط الاجتماعي
في فكر القدِّيس إكليمنضس السكندري
القمص تادرس يعقوب ملطى
كنت أود أن أقدم الخط الاجتماعي في فكر كثير من آباء الكنيسة، لكنني اكتفيت بأمثلة لبعض آباء الكنيسة، مثل القدِّيس إكليمنضس السكندري من رجال القرن الثاني، والقدِّيس باسيليوس الكبادوكي أحد كواكب آباء الكبادوك.
القدِّيس إكليمنضس السكندري والخط الاجتماعي
كان القدِّيس إكليمنضس فيلسوفًا يرتدي بلين الفلاسفة وهو عميد مدرسة إسكندرية المسيحية، وكان يعتز بالفلسفة كطريقٍ للإيمان، جنبًا إلى جنب مع الناموس. يرى أن الفلسفة في عناصرها الصادقة هبة من الله مقدمة للأمم، كما قُدم الناموس هبة لليهود.
يرى القدِّيس أن الإيمان المسيحي ليس قبولاً لأفكار فلسفية نظرية، وإنما تمتع بالحياة عمليًا، كعضوٍٍ حيٍّ في المجتمع يتمتع بعربون السماء. ففي كتابه المُربِّي Paedagogus يقدم لنا السيِّد المسيح كمهذِّبٍٍ يهتم بنا لممارسة حياة اجتماعية سوية، خلال الاتحاد معه والتمتع بالعربون السماوي. لا يفصل بين الحياة الزمنية والفكر السماوي.
فيما يلي لمسات خفيفة مما ورد في كتاب المُربِّي عن الخط الاجتماعي الروحي في حياة المؤمن.
1- مربِّي سماوي ومعلم اجتماعي
– المُربِّي عملي وليس نظريًا، يهدف إلى النمو بالروح، مدربًا إياها لكي تسمو في الحياة الفاضلة، وليس فقط التلقين الذي يهبها فضيلة عقلانية… يحثنا (المُربِّي) على ممارسة التزاماتنا.
يدعونا القدِّيس إلى التمتع العملي بالشركة مع السيِّد المسيح محب البشر، فنحمل حبًا لكل إنسانٍ، وهذا هو أساس الخط الاجتماعي.
– ليس نورًا ذاك الذي لا يضيء… ولا محبة ذاك الذي لا يحب، وليس صالحًا من لا يفيد غيره ولا يقوده إلى الخلاص.
المساواة بين الرجل والمرأة
– لندرك أن فضيلة الرجل هي بعينها فضيلة المرأة، لأن إله الاثنين واحد، وسيد الاثنين أيضًا واحد؛ كنيسة واحدة، حكمة واحدة، تواضع واحد، غذاء واحد لكليهما. والزواج رابطة يخضع له الكل في مساواة. أنفاسهم وبصائرهم وأسماعهم ومعارفهم وآمالهم وطاعتهم جميعًا متشابهة. أولئك الذين لهم الحياة في شركة، لهم نفس النعمة وذات التفكير، شركاء في الخلاص، شركاء معًا في المحبة والتعليم، لأنه يقول: “أبناء هذا الدهر يزوجون ويتزوجون” (لو 20: 34). هذا القول فيه تمييز بين الرجل والمرأة، لكن في الدهر الآتي لا يحدث هذا مرة أخرى. هناك يكون الجزاء على هذه الحياة الاجتماعية المقدسة المؤسسة على الرباط الروحي لا ترتبط بالرجل والمرأة بل بالإنسان، حيث تختفي الفوارق الجنسية التي تميز بين الرجل والمرأة، وتصير كلمة “إنسان” تعبر عن المرأة والرجل.
سمات المسيحي وسط المجتمع
1- دعوة للتجديد
– أُطلق على الخلق الجديد “الشعب الجديد”… هم في مقتبل العمر (روحيًا) اكتسبوا المعرفة ببركات جديدة، وحيوية، وتدفق خبز الحياة، لا يعرفون الهموم بل هم دومًا شباب، متواضعون، دومًا في تجديدٍ، نحيا في نموٍ مستمرٍ نحو النضوج العقلي، لأنهم وهم شركاء في “الكلمة” يليق بهم أن يكونوا مجدِّدين… نعيش العمر كله في ربيع دائم… نعيش شباب لا يدركنا الهم ولا يمسنا، بل تظل الحكمة بداخلنا مزدهرة أبدًا.
2- دائم الفرح
يرى القدِّيس أن سارة تعني “قوة الاحتمال” و”الصلابة”، إذ بالمداعبة الحكيمة (مع إبراهيم) (تك 26: 8) أنجبت اسحق الذي يعني “الضحك”. وكأنه يليق بالنفس الصلبة أن تمتلئ فرحًا.
– أرواح هؤلاء الأولاد التي اتسمت بالصلابة أن تكون أيضًا في فرح في المسيح.
– يليق بالإنسان الفاضل والصالح أن يمارس رياضة الله، محتملاً كل ما هو خير ليعيش في احتفال مع الله… يلزمنا أن نبتهج كإسحق بالخلاص.
– الكنيسة، الوحيدة التي تظل عبر الأجيال فرحة أبدًا، تستمد بقاءها من قوة احتمالنا نحن جماعة المؤمنين، أعضاء جسد المسيح. إنها تشهد لأولئك الذين تحملوا إلى النهاية في فرحٍٍ. هذه هي الرياضة المقدسة والخلاص المصحوب بالعزاء الجميل الذي يمدنا بالعون.
يربط القدِّيس إكليمنضس بين الحياة الجادة التي تتسم بالصلاة وطول الأناة، وحياة الفرح. فإسحق الذي اسمه معناه “ضحك” حمل خشب المحرقة وسلك طريق الألم. فليس من فرحٍ روحيٍ ننعم به دون الجدية في الحياة والاحتمال في الرب.
الطعام والخط الاجتماعي
لا نعجب إن كان مدير مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، هذا الذي ينطلق بأفكارنا وقلوبنا لنتمتع بخبرة الحياة السماوية، يخصص فصلاً كاملاً عن الطعام في كتابه الثاني عن “المُربِّي”. ففي نظره أن السيِّد المسيح، كلمة الله المتجسد جاء ليصعد بنا إلى السماوات دون تجاهل لحياتنا الزمنية من كل جوانبها. فالحياة البشرية وحدة واحدة، لا يمكن فصل خلاصها الأبدي على سلوكها الاجتماعي، بل وعن اهتمامها بالصحة الجسدية.
والعجيب أن ما ينصحنا به هذا القدِّيس في القرن الثاني صار بعض رجال العلم في القرن الحادي والعشرين يحثُّوننا عليه.
– بعض الناس – في الواقع – يعيشون لكي يأكلون، غير مدركين كمخلوقات سوى أن حياتهم هي بطونهم ليس إلاَّ. والمُربِّي يحثنا أن نتناول الطعام لكي نحيا، ولا يكون الطعام هو هدفنا الذي يشغلنا، ولا هو متعتنا في هذه الحياة، بل هو وسيلة لهذه الحياة التي يديرها الرب الكلمة، ويقودنا إلى الأبدية. لهذا يليق بنا أن يكون لدينا نوع من التمييز فيما يخص الطعام، بحيث يكون الطعام بسيطًا، عاديًا جدًا، مناسبًا للأولاد البسطاء… يقود ويمهد لحياة تقوم على أمرين أساسيين هما الصحة والقوة. فالطعام البسيط غير المُعقد يؤدي إلى سهولة الهضم، ويجعل الجسد رشيقًا، وبه يتحقق النمو والصحة.
– التنوع والإفراط في أكل اللحوم أحد العوامل للإصابة بالأمراض .
– لم يدركوا أن الله أعطى مخلوقه الإنسان الطعام والشراب لكي يحيا، ويستمر في الحياة، وليس من أجل اللذة. فإن الجسم البشري لا ينال أية فائدة من البذخ في أصناف الطعام. وإنما على العكس الذين يتناولون الحد الأدنى من الأطعمة هم أكثر قوة وأفضل صحة… لنرى كيف أن الخدم أحسن صحة من سادتهم، والفلاحين أصح بدنًا من أصحاب الأراضي.
– الفلاسفة أحكم من الأغنياء لأنهم لا يدفنون عقولهم تحت أكوام الطعام، ولا يخدعون أنفسهم باللذَّات والمُتع، ولكن وليمة المحبة “أغابي” هي في الطعام السماوي، في وليمة العقل والتفكير السليم.
– الطعام الزائد عما يكفي الإنسان يؤذيه، ويسبب له تدهورًا روحيًا، ويعرض جسمه للأمراض.
– يمكننا أن نقول إن الذين يُفرطون وينغمسون في حب الطعام يشبهون الذباب.
– تقول الحكمة “لا تتلذذ بكثرة المآدب” (ابن سيراخ 18: 32) .
– يحثنا على أن نتحكم ونسيطر على الغذاء، لا أن نكون عبيدًا للطعام. وإنه لأمر جدير بالإعجاب، أن نرفع أعيننا إلى فوق، إلى ما هو حق وصدق، ونهدئ أنفسنا بالتأمل اللانهائي في ذاك ال1ي هو بالحق كائن وبذلك نتذوق ونستمتع بما هو حق مبهج ومفرح وطاهر ونقي، لأن هذه هي المحبة (أغابي) الحقيقية، الطعام الذي من المسيح، والذي يليق بنا أن نشترك فيه.
– نحن لا نلغي العلاقات الاجتماعية (إقامة موائد محبة)، والاتصالات بين الناس، لكننا ننظر بريبة شديدة إلى العادات التي تمثل مصائد للناس، وتؤدي بهم إلى كارثة.
– الطعام الصادق الحق هو الشكر لله، فمن يشكر الله ويحمده لا ينشغل باللذات والمتع. وإذا كنا نريد أن نشجع رفاقنا من الضيوف، على سبيل الفضيلة، علينا أن نبتعد عن الأطباق الفاخرة الغنية. بذلك نظهر أنفسنا كنماذج واضحة متألقة بالفضيلة.
– يا له من غباء أن يجلس هؤلاء على المتكآت لكي يدفنوا وجوههم في أطباق الطعام، ويمدوا رقابهم من فوق متكآتهم، وكأنهم طيور تمد رؤوسها من أعشاشها.
آداب المائدة
– يليق بنا أن نمد أيدينا إلى ما يُقدم لنا بطريقة مهذبة راقية… محتفظين بوجوهنا بشوشة ووقورة، مراعين ألاَّ يصدر منا أي خروج عن السلوك السوي أثناء تنازلنا الطعام. لنمد أيدينا من وقت لآخر بأسلوب منظم مهذب.
– يجب أن نتجنب الحديث أثناء الطعام.
– ألسنا سادة على المخلوقات، وأكثر قربًا وارتباطًا بالله، لأننا أكثر حكمة؛ لقد خلقنا لا لنأكل ونشرب، وإنما لنكرس أنفسنا لمعرفة الله.
– البطن الشريرة لا تشبع أبدًا (راجع أم 13: 5)، إذ هي مملوءة بالشهوة التي لا تشبع أبدًا، ولا ترتوي.
– إنفاق الأموال لا يقصد به المتعة فقط (بالطعام) بل وإقامة علاقات اجتماعية.
الأطعمة المفضلة
– أليس لدينا في حدود الأطعمة الصحية والبسيطة، وفي إطار الاعتدال أصنافًا عديدة يمكن أكلها؟ الأبصال والزيتون وبعض أنواع الأعشاب الخضراء، واللبن، والجبن، والفواكه، وجميع أنواع الأطعمة المطهية ببساطة دون إضافة صلصات. وإذا رغبنا في اللحم فليكن مشويًا بدلاً من المسلوق… أنسب الأطعمة ما هو يصلح أن يستخدم فورًا دون أن يدخل النار، لأن هذه أكثرها قربًا من الطبيعة وسهلة.
– ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان (مت 15: 11)، فمن ينظر إلى طعامٍ أنه نجس يخطئ، لأنه عندما خلق الله الإنسان، قال: “كل دابة حية تكون لكم طعامًا (تك 9: 3). “أكله من البقل حيث تكون المحبة خير من ثورٍ معلوفٍ ومعه بفضة (أم 15: 17).
– البقول والأعشاب ليست هي المحبة، بل يلزم أن نتناول وجباتنا بالمحبة. ذلك ما نقصده بالأغابي أو وليمة المحبة.
الشراب المُفضل
– الشراب الطبيعي المناسب والضروري للعطشان هو الماء.
– إني أقدَّر الذين أخذوا موقف الشدة والصرامة في حياتهم، هؤلاء المغرمون بالماء، الدواء الشافي المؤدي إلى الزهو. هؤلاء يبتعدون إلى أقصى مدى من الخمر، ويتجنبونها كمن يتجنبون نارًا خطرة. يليق أن نُبعد الأولاد والبنات ما أمكن عن ذلك العقار.
– ليس من المناسب أن نشرب الماء بكميات كبيرة (أثناء الطعام)، حتى لا يغرق الطعام في فيض من السوائل، بل يلزم طحنه جيدًا حتى يتم هضمه.
يرى القدِّيس إكليمنضس أنه يجوز استخدام الخمر بكمية قليلة بسبب المرض أو البرد الشديد، أو في سن الشيخوخة. ويشترط ألاَّ يشرب الإنسان حتى فقدان الوعي أو الذاكرة أو ترنح الجسم. يُفضل مزج الخمر بالماء بأكبر قدر ممكن، ولا نتناوله بكثرة وبتكرار حتى لا نسقط في الإدمان.
– جاء في الكتاب المقدًّس كيف سكر نوح، ولكي يساعدنا كتب بصراحة عن هذا الخطأ لكي نحرص بكل قوتنا ألاَّ نفعل مثل هذا. وقد بارك الله اللذين سترا عاره وخزيه في سكر” (سام ويافث). ويقدم لنا الكتاب المقدَّس هذه الحكمة في عبارة واحدة: “الإنسان المدرب المتعلم، يستغنى عن الخمر، ليهدأ مستريحًا في فراشه” (سي 31:22) .
المبالغة في العطور
– يلزمنا ألاَّ نظهر خلال التجمعات بمظهر الغباء والحمق، كما يظهر البعض وقد تعطَّروا وتجمَّلوا بصورة صارخة ملفتة للأنظار، لكي يؤثروا على الناس، في حين أنهم في داخلهم أشقياء أشرار. وهو (الرسول) يوضح ذلك بالأكثر عندما يقول: “فأقول أيها الإخوة، الوقت منذ الآن مقصر، لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم… والذين يشترون كأنهم لا يملكون” (1 كو 7: 29-30).
مفهوم الغنى
– أفضل الغنى هو الفقر في الشهوات. والعظمة الحقيقية ليست في التفاخر بالمال، بل في احتقاره. التفاخر بما في حوزة الإنسان دناءة مطلقة، لأنه من الخطأ الصريح أن نهتم كثيرًا بما يمكن أن نشتريه من الأسواق، لأن الحكمة لا تُشترى بالكلمة الأرضية، ولا تُباع في الأسواق، بل هي في السماء، تُشترى بعملة الحق والصدق، بالذهب الملوكي السماوي، بالكلام الأبدي الذي لا يموت.
آداب السلوك في الولائم
يعتبر القدِّيس إكليمنضس داعية لحياة الفرح الحقيقي، لذلك يطالبنا بالتمييز بين الفرح النابع من القلب واللهو والمرح المبالغ فيه.
– ليته لا تصاحَب تسليتنا العاقلة العربدة والشهوات الحمقاء التي تذخر بالمرح الذي يتعدَّى الحدود، ويتجاوز الاعتدال.
– كما أننا نُكافأ على سكرنا بالغناء القبيح النابي الألفاظ، هكذا إذ نقضي ليلة في شرب الخمر فستؤدي بنا إلى إدمانه… ويثير فينا الشهوات، ونقترف أعمال الخزي والعار. وإذا شغل قوم وقتهم بآلات النفخ الموسيقية، والأدوات ذات الأوتار، والمغنين المنشدين، والراقصين والمصفقين، مثل هذه الممارسات الحمقاء الخارجة تحوِّلهم إلى قومٍ لا حياء لهم، وبلا كرامة.
ليس ما يشغلهم سوى الضرب على الطبول والصنوج، صانعين ضجيجًا يفسد العقل… يقول الرسول: “قد تناهى الليل، وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد” (رو 13: 12-13).
إساءة استخدام الموسيقى
يحذرنا القدِّيس إكليمنضس من إساءة استخدام الموسيقى لئلا نكون مثل ذكور الأيائل التي تسحرهم أصوات الناي، فتستدرجهم الموسيقى للسقوط في الشباك التي ينصبها لهم الصيادون، أو مثل إناث الخيل التي يُعزف لها موسيقى لإثارتهن فيتم تلقيحهن.
يرى القدِّيس إكليمنضس أن الروح القدس يميز بين الأغاني المثيرة للفساد، وبين الموسيقى التي يضربها الروح القدس عندما تُسبِّح الكنيسة الله. أما أدوات الموسيقى فهي الإنسان نفسه.
يقول: [الإنسان في حقيقته آلة موسيقى للسلام، في حين أن بقية الآلات الموسيقية متى بُحثت نجدها آلات للحرب والقتال، تُلهب المشاعر نحو الشهوات أو لحمل السلاح، أو لإثارة الغضب والسخط.]
– الآلة الوحيدة التي هي من أجل السلام، فهي الرب الكلمة وحده، ذاك الذي يليق بنا أن نستخدمه لنُسبِّح الله (الآب)، ولن نستخدم بعد ذلك الطنبور القديم، ولا الصور، ولا الدف، ولا الناي، تلك التي كان يستخدمها من ليس لهم خوف الرب فيهم. يستخدمونها في اجتماعاتهم ومهرجاناتهم، بقصد إيقاظ أذهانهم المنحرفة بتلك الأنغام. لتكن مشاعرنا المهذبة منسجمة مع الناموس.
– يليق بنا ألاَّ نغني أغاني العشق والغرام، بل نقتصر على التسبيح لله. وكما قيل: “ليُسبحوا اسمه برقصٍ، بدفٍ وعودٍ، ليُرنِّموا له” (مز 149: 49) .
– يليق بنا أن نبتعد ما استطعنا عن تلك الألحان المائعة… التي تغري الإنسان نحو الميوعة والتخنُّث والبذاءة. أما الألحان الرصينة الجادة المهذَّبة، فتطرد أثر الخمر من شاربه، وتردُّه إلى رشده.
الابتسامة الدائمة دون الضحك المثير
– يجب أن يُطرد من مجتمعنا الأشخاص الذين يقلِّدون الهزليين، والذين يجلبون الضحك والسخرية على أنفسهم .
– إن كنا لا نتحمل أن نجعل من أنفسنا أضحوكة وهزءًا، كما نرى البعض يصنعون في الاستعراضات والمواكب، فكيف نجعل من أنفسنا ومن ضمائرنا موضوعًا للسخرية، بأن نظهر للناس بشكلٍ مُزري، كما يجب ألاَّ نتخذ أشكالاً مثيرة للهزء والسخرية بإرادتنا ورغبتنا.
– البشاشة والمرح لا بأس بهما، ولكن ليس التهريج. كذلك يجب أن يكون للضحك حدود. فإن استخدمناه في أصوله يدل على الأدب وحسن التربية، أما إذا لم نتحكم فيه يصبح بلا رابطٍ ولا ضابطٍ، فإن هذا معناه انفلات الزمام والتسيُّب.
– القهقهة هي ضحك همجي قبيح. فالأحمق يرفع صوته عندما يضحك (ابن سيراخ 21: 23)، إما الشخص الحريص فيبتسم بشكلٍ لا يلفت النظر، ويُسمى مثل هذا الإنسان حكيمًا، لأنه في هذا يختلف عن الغبي الأحمق. ومن الجانب الآخر، لا يليق بالإنسان أن يكون مكتئبًا متجهِّمًا، بل أن يكون فقط جادًا. فإني أُفضِّل من له قسمات جادة مع الابتسامة، فذاك خير ممن يضحك بلا داعٍ، فيصير موضع استهزاء.
– لئلاَّ نُتهم بأننا نتشفَّى فيمن هو متألم، يلزمنا أن نُظهر الحزن لا السعادة… فإننا إن أبدينا السرور تجاه المتألم، نثير الريبة بأننا قساة وغلاظ القلوب.
– يجب ألاَّ نضحك مع الكل دون استثناء، ولا في كل مكانٍ، ولا لكل أحدٍٍ، ولا لكل شيءٍ، لأن هذا من خاصِّية الأطفال والنساء.
الأحاديث الهزلية
يحذرنا القدِّيس إكليمنضس من الاشتراك في الأحاديث الهزلية، مع أخذ الموقف الإيجابي وهو الاشتراك في الحديث والحوار مع الصدِّيقين.
– يلزمنا أن نتجنب تمامًا الحديث الرديء، كما يلزمنا أن نُخرس الأفواه التي تنطق بمثل هذا، وذلك بأن نحرجهم بنظرات حازمة، وندير وجوهنا عنهم… يلزم إقامة حراس على الأسماع حتى لا تخترق تلك الأسماع أصوات الفجور والدعارة، فتؤذي الروح… لنا أن نسأل: تُرى من هم هؤلاء الحراس الذين يحرسون الأسماع؟ وما هي تلك التعليمات والتوجيهات التي تضبط العيون الزائغة؟ أليست هي تبادل الحديث والحوار مع الصدِّيقين، فنشغل آذاننا، ونقوِّي أسماعنا ضد أولئك الذين يريدون أن ينحرفوا بنا بعيدًا عن الصدق.
– يلزمنا أن نبتعد تمامًا عن كل ما هو مخجل، سواء كان مسموعًا أو مرئيًا.
– يلزمنا أن نحفظ أنفسنا من حديث الافتراء والأخبار الكاذبة، تلك التي يجب ألاَّ تجد أذنًا صاغية من الذين آمنوا بالمسيح يسوع. لهذا يبدو لي أن المُربِّي لا يسمح لنا أن نتفوَّه بما لا يليق، كي نقوِّي أنفسنا مبكرًا ضد الفجور والدعارة… فإن النطق بألفاظ الدعارة والفسق مدعاة لارتكاب الفعل الفاضح. بينما مراعاة الحياء والتقوى في الألفاظ والكلمات يعتبر تدريبًا على ضبط الإنسان من الانزلاق في فعل الخطية ونتائجها.
– يجب أن نُخرس تمامًا كل حديث فيه مزاح وثرثرة وسوء أدب، فقد قيل: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل” (أم 10: 9).
– الذي يثرثر في حديثه ينجس روحه.
الجسم صالح!
– يجب أن تعتبر (الأعضاء التناسلية) مصدرًا للحياء، وليس مدعاة للخزي والخجل. لكن ما هو مخجل هو استخدام مثل هذه الأعضاء فيما هو محرَّم. ذلك ما يدعو إلى الفضيحة والتأنيب والعقاب. فإن ما هو مخجل بحقٍ هو ذلك الشر وما يتبعه من أعمال. لذلك فالحديث عن أفعال الشر يُسمَّى بحقٍ قذارة وقبحًا.
آداب السلوك الاجتماعي
1- الرقَّة في التعامل في الولائم
– يُحكم على الإنسان ليس فقط من خلال أعماله، بل ومن أقواله أيضًا. عندما تكون في وليمة لا توبِّخ قريبك، ولا توجِّه إليه كلمة تأنيب (ابن سيراخ 31: 12).
– إن كان اجتماع الناس في الحفلات والولائم مظهرًا من مظاهر المحبة، وغايته إظهار الصداقة والود لمن نلتقي بهم، يصاحب ذلك الأكل والشرب معًا، فكيف لا يسير الحديث في تعقُّل وحكمة، فلا نربك السامعين بأسئلة تؤثر على صحبتهم لنا. فإن كنا نلتقي معًا لتعزيز أواصر المحبة وإيجاد النوايا الطيبة بيننا، فكيف نثير عداوات بالنقد الجارح. من الأفضل أن نظل صامتين عن أن ننتقد… مبارك هو الإنسان الذي يتكلم بما لا يجرح مشاعر أحدٍ.
2- يحذر القدِّيس إكليمنضس من أن يستغل إنسان الوليمة ليجالس امرأة متزوجة، ويتناول معها الطعام، ويتباسط معها في الحديث ويسكر معها!
3- يطالب النساء بالاحتشام، ليس فقط في مظهرهن، وإنما في أعماقهن.
– وليكن احتشامهن ظاهرًا فيما يرتدونه، وباطنًا في سلوكهم المهذب.
4- تناول الطعام باعتدال.
– الشخص المنضبط الحكيم خلال تناوله الطعام أو الشراب يأخذ قدرًا قليلاً في طبقه، وإن احتاج يأخذ مرة ثانية… لكن في اعتدال، وبغير لهفة، سواء كان ذلك في أول المأدبة أو أثناء تقديم مختلف الأصناف. ويليق به أن يترك المائدة مبكرًا، ليُظهر تعففه وعزّة نفسه.
– إذا جلست وسط جمع من الناس، لا تمد يدك إلى ما هو موضوع أمامهم (ابن سيراخ 9: 22)، ولا تندفع بالنهم، كما لا تبدأ بالطعام قبل الآخرين. فإنه بإظهار نهمك إلى الطعام تكشف أنك لا تستطيع أن تسيطر على شهواتك.
– يجب ألاَّ تبدو في وسط المأدبة كالوحش الذي يلتهم طعامه التهامًا، ولا ممعنًا في التناول من أنواع الصلصات والمشويات. لأن الإنسان بالطبيعة ليس معدًا لتناول هذه الأطعمة الدسمة، بل هو بطبيعته يأكل الخبز.
– إن كان التلاميذ قد حرصوا على تجنب خدمة الموائد (أع 6: 2)، فإنهم بالحري قد ابتعدوا عن النهم والإفراط في تناول الطعام.
– يليق بنا أن نتحفظ من السكر كما نتحفظ من تناول السم والشيكران (الأعشاب السامة)، لأن كليهما يؤدي إلى الهلاك.
الاعتدال في الضحك كما في سكب الدموع
– يلزمنا أن نتحكم في الضحك الزائد عن الحد، ونحدّ من ذرف الدموع… كلاهما يعتبران خروجًا عن الأدب، ولا يتَّفقان مع كلام الله.
اعتدال في الكلام
+ اعتقد أنه يجب أن توجد حدود حتى في حديث الحكماء المنضبطين، عند تبادلهم الحديث مع من يريد أن يحاورهم.
– ليكن كلامكم مختصرًا في كلمات قليلة، وليكن الحديث المتبادل بين اثنين في الإطار المحدد للخطاب.
– يلزمنا ألاَّ نتحدث في إسهاب، كلامًا مطوَّلاً كثيرًا، كما يليق بنا ألاًّ نتحدث في عصبيةٍ وحِدَّةٍ.
– “لا تردد الكلمات في صلاتك” (ابن سيراخ 7: 15)، كذلك فإن أصوات الشقشقة والصفير والطرقعة بالأصابع التي بها نستدعي الخدم، هذه كلها من علامات الحماقة، التي لا يلجأ إليها إنسان حكيم.
– إذا هوجم إنسان بنوبة من العطش أو الفواق (التثاؤب)، يلزمه ألاَّ يفزع القريبين منه بطريقة مثيرة.
– الذين يضغطون على أسنانهم حتى إدماء اللثَّة يؤذون أنفسهم ويقززون من هم حولهم. كذلك الهرش في الأذن وتهييجها الذي يسبب العطس، هذه الممارسات جديرة بالخنازير.
– يجب أن يكون المظهر مستقرًا ووقورًا، كذلك لتكن النظرات وحركة العنق واليدين خلال الحديث بأناقة. باختصار يتميز الإنسان المسيحي بالتماسك والسكينة والهدوء والسلام.
المبالغة في العطور
– يُدهن الموتى بالطيب، أما الدموع فهي للخطاة التائبين، الذين آمنوا بالرب.
– في حين أن ملوك اليهود كانوا يستخدمون الذهب والأحجار الكريمة والتاج الموشَّى، فإن الذين مُسحوا يلبسون المسيح على رؤوسهم، وهم بذلك – ودون أن يشعروا – يُزينون برأس الرب نفسه. الحجر الكريم واللؤلؤ يشير إلى الكلمة نفسه. فالذهب هو الكلمة الحيّ الذي لا يفسد، والذي لا يسمح بفسادٍٍ، لذلك أحضر له المجوس الذهب وقدموه عند ولادته، كرمزٍ للملك.
– يستخدم البعض أنواعًا لا حصر لها من العطور، حتى يفوح منهم عطر بالغ في الفخامة، وهم يبخرون ملابسهم ويرشونها بالعطور، ويصنعون هكذا بالفراش والمنازل، بل وتصل الرفاهية إلى تعطير جميع أوانيهم أيَّا كان استخدامها بالعطور المختلفة. يوجد البعض يضايقهم الاهتمام الزائد بمثل هذه الأمور. ويبدو لي أنهم في ذلك محقّون، إذ يكرهون العطور، لأنها تسبغ على الرجال خنوثة وميوعة، حتى أنهم يطردون من يصنع تلك العطور عن ولاياتهم المنتظمة وأيضًا الذين يقومون بتركيبها وبيعها.
– ليكن عطر المرأة ذاك الذي تفوح منه رائحة ملوكية حقيقية، أي رائحة المسيح، وليست رائحة صادرة عن مساحيق معطَّرة. لتكن رائحتها دومًا صادرة عن طهرها ووداعتها، فتجد لذَّتها في المراهم المقدسة التي للروح. هذا هو دهن العطر الذي يعدّه المسيح للتلاميذ، مصنوع من مكونات ذكية له رائحة سماوية.
– التعطر الزائد عن الحد يليق بالجنازات وليس بالحياة الزوجية.
– كما نبتعد عن الترف في الأكل، يلزمنا أيضًا أن نتجنب الشهوة في النظر وفي الشم، حتى لا يتسلل الإفراط إلى أرواحنا، وبالجري وراء المتعة خلال حواسنا، وكأنها أبواب مفتوحة بلا حراسة.
– للزهور جمال، يمتع الناظرين إليها. وأننا نمجد الله الخالق العظيم عندما نستمتع بالنظر إلى كل ما هو جميل من الأشياء. لكن استخدام هذه الزهور بهذا الشكل (المبالغ فيه) فهو مؤذٍ، وسرعان ما ينتهي بالندم، وسرعان ما تذبل، سواء من جهة شكلها أو رائحتها.
الاعتدال
– يلزمنا أن نسير على هدى الكتاب المقدس، صادقين مع أنفسنا، مستمتعين في اعتدال، وكأننا في الفردوس.
فائدة العطور
– يقول الكتاب المقدس: “أعطِ الكرامة للطبيب من أجل نفعه، لأن العليّ هو الذي خلقه. كما أن فن الشفاء هو من الله” (ابن سيراخ 28: 1-2). والذي يخلط العطور يصنع المزيج الطيب، لأن العطور تُعطى للفائدة، وليس للشهوة. يلزمنا ألاَّ نهتم بالصفات المثيرة للعطور، لكننا نختار ما هو مفيد منها، لأن الله سمح بأن يوجد زيت لتخفيف آلام البشر.
استخدام الأصباغ والمبالغة في العطور
– النساء الحمقاوات اللواتي يصبغن شعرهن الأبيض ويعطِّرن خصلاته، يسرعن نحو الشيب بالعطور التي يستعملنها، لأنها تزيد من جفاف الشعر، كما أن الجفاف يُزيد من شيبتهن.
– كما أن للجذور والنبات صفاتها وخصائصها، هكذا أيضًا الزهور. فالبعض نافع والآخر ضار؛ البعض خطر والآخر مهدئ… البعض يخدِّر الأعصاب، أما خلاصة الورد والبنفسج فمهدِّئان خفيفان، لهما أثرهما الطيب في تخفيف الصداع والحد من حدوثه.
أكاليل الزهور
أساء الوثنيون استخدام أكاليل الزهور، فقدموها للغالبين في ألعاب عنيفة يمارس فيها القتل، كما قدموها كجزء من العبادة الوثنية.
– خُلقت الزهور أصلاً من أجل البشر، إلاَّ أن قومًا لا يعقلون أساءوا استخدامها وانحرفوا عما خلقت من أجلها، واستخدموها لخدمة الشياطين. لهذا يليق بنا أن نرضي ضمائرنا ونبتعد عنها… إنهم يكللون الموتى والأصنام، وكأنهم يدللون على أنها ميتة. أما المعربدون فيُحيون حفلاتهم الماجنة باستخدام أكاليل الزهور، عندا يُحاطون بالزهور، وهم في قمة الهياج.
– من غير المعقول بالنسبة لنا نحن الذين سمعنا أن الرب توِّج بإكليلٍ من شوك (مت 27: 29) أن نتوِّج أنفسنا بالزهور. بهذا نوجه الإهانة إلى آلام ربنا يسوع المسيح المقدسة. وقد جاء في النبوات أننا نحن الذين كنا مجرَّدين صرنا إكليل الرب، حيث التففنا حوله خلال الكنيسة التي هو رأسها.
النوم
خصص القدِّيس إكليمنضس فصل 9 من الكتاب الثاني لعمله “المُربِّي” عن النوم. يكشف في مقدمته عن مشاعر المؤمن في نهاية الله، أنه قضى يومًا سعيدًا، قُدم له كهبة من الله. يقول: [بعد تناولنا لطعام العشاء نتوجه بالحمد والشكر لله، إذ تفضَّل علينا بقضاء يومٍ سعيد.]
– النوم عل الرياش الناعمة مضر، لأنه أجسامنا تسقط (وسط الفراش) وكأنها في داخل حفرة متثائبة، وذلك بسبب نعومة الفراش.
– الأسرَّة ذات الجوانب الفضية والمصنوعة من العاج، هي للمباهاة والتفاخر، مما يجعلها لا تليق بالذين تقدَّسوا؛ وهي مدعاة للكسل وتفضيل راحة الجسم على الأمور الروحية.
– لدينا يعقوب (مثال)، هذا الذي افترش الأرض نائمًا، وكان الحجر بمثابة وسادة لرأسه، ومع ذلك تأهل لرؤيا فوق مستوى أي إنسانٍ. لذلك يلزم أن يكون فراشنا بسيطًا، ليس فيه إسراف، مُصممًا بطريقة يتفادى التطرف في الرفاهية من ناحية، والصلابة من الناحية الأخرى.
– الفراش المتوسط النعومة يناسب الرجولة على وجه الخصوص، لأن النوم يلزم ألا يكون من أجل الخمول الجسد تمامًا، بل لمجرد الاسترخاء… فالنوم ليس من أجل الرفاهية أو الكسل، بل من أجل الراحة بعد النشاط. يليق بنا أن ننام بحيث يسهل إيقاظنا.
– لكي لا يؤذينا النوم، إلاَّ بقدرٍ قليل، فلا تكون كمن يسبحون وقد تعلَّقت بهم أثقال كثيرة فيغرقون في القاع. ومن الجانب الآخر ليكن الاعتدال هو ما يرفعنا من الهوَّة السحيقة، ويبلغ بنا إلى مكاسبٍ نجنيها في اليقظة.
النوم الكثير لا نفع له، لا للجسد ولا للروح.
– لننم باعتدال وتعقُّل، فإن من لهم الله الكلمة الذي لا ينام، ساكنُا فيهم، يليق بهم ألاَّ يناموا الليل كله، إنما يلزمهم أن يقوموا بالليل، خاصة عندما تكون أيامهم قد اقتربت من نهايتها. فعلى البعض أن يكرسوا أنفسهم لقراءة الأدب، والآخرين يبدأون فنونهم وصناعتهم، والنساء يتناولن مغازلهن. وليحارب كل منا النعاس، مدرِّبين أنفسنا على ذلك بالتدريج وفي هوادة.
بهذا تكون لنا يقظة وصحوة فنسهم؟؟ في الحياة، ونعيشها زمانًا أطول، ونمو في أعمارنا.
التمطِّي (تمطُّع) والتثاؤب ممارسات قلقة، تل على عدم استقرار النفس وعلى قلقها.
– لو توقفت الروح عن النشاط في داخلها يكون ذلك هلاكًا لها. لذا يليق بنا أن نتأمل على الدوام في الله بمخاطبته والحديث معه، محصنين الجسد بالسهر واليقظة، بذلك نسمو ببشريتنا إلى مستوى الملائكة. وبممارسة اليقظة ننال الحياة الأبدية.
الأخلاقيات
– يصرخ المُربِّي قائلاً: “الإنسان الذي يتعدَّى على فراشه قائلاً في نفسه: من يراني؟ حولي الظلمة، والحيطان تسترني، ولا أحد يراني، فماذا أخشى؟ إن العلي لا يذكر خطاياي” (ابن سيراخ 23: 25-26)؛ ملعون مثل هذا الإنسان أكثر من الجميع، ذاك الذي يخشى أعين البشر فقط، ويظن أنه سيهرب من رؤية الله له، “لأنه لا يعرف شيئًا. يقول الكتاب: “لأن أكثر بهاءً ولمعانًا من ضوء الشمس آلاف المرات عينا العليّ، ذاك الذي يراقب كل طرق البشر، ويخترق ببصره كل ما هو خفي”.
مرة أخرى يتوعدهم المُربِّي ، قائلاً بإشعياء: “ويل للذين يتعمَّقون لكي يكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم في الظلمة، ويقولون: من يبصرنا؟ ومن يعرفنا؟” (إش 29: 15). لأن الإنسان يمكن أن يهرب من الضوء المحسوس المنظور، أما من نور العقل فلن يستطيع أن يهرب. وكما يقول هيراقليطس Heraclitus: كيف يمكن لإنسان أن يهرب من مراقبة من لا يغفل ولا ينام؟ لذلك يلزمنا ألاَّ نلجأ إلى الظلم لكي نستر به أعمالنا، لأن بداخلنا نور ساكن فينا، وكما قيل: “والظلمة لم تدركه” (يو 1: 5)، والليل الدامس نفسه يستنير بالعقل الرزين المعتدل.
– كل من يرتكب خطية الزنا، لا يؤذي قريبه ولا يسيء إليه، بل يسيء إلى نفسه، إلى جانب انه يُحقِّر من قدره ويسيء إلى سمعته. لأنه من يرتكب الخطية، يزداد سوءًا قدر الخطية التي يرتكبها، وينحط قدره مما كان عليه.
الصداقات الشريرة
– ينذرنا المُربِّي في صراحةٍ وبوضوحٍ “لا تجري وراء شهواتك، وابتعد عن نزواتك” (ابن سيراخ 18: 30). لأن الخمر والنساء يفقدان الحكمة. “أما ذاك الذي يصاحب الساقطات، فسيصير أكثر جراءة على الخطية، ويكون مصيره الهلاك، والتهام الدود له، ويكون أمام الجماهير علامة على الخزي والعار (ابن سيراخ 19: 2-3، 5). وأيضًا: “أما الذي يُبعد ناظريه عن المتع فقد توَّج حياته بإكليل”.
الملبس
– لا يحتاج الإنسان إلى ملبسٍ إلا كغطاء لجسمه، يحميه من البرد الشديد، والحر الشديد، حتى لا تؤذينا تقلبات الجو. طالما كان هذا هو الغرض من الملبس، فليس من داعٍ أن يكون للرجال نوع من الملابس، وللنساء نوع آخر، إذ أنه من الطبيعي أن يغطي كل منهما جسمه تمامًا، كما من الطبيعي لكل منهما أن يأكل ويشرب.
– ليكن (للنساء) ملابسهن أكثر نعومة ورقًّة (مما للرجال)، ولكن ليبتعدوا تمامًا عن النسيج المبالغ في رقته وشفافيته، والنسيج الغريب، مع الابتعاد تمامًا عن التزين بالذهب والحرير الهندي.
– لا يليق أن تكون حياتنا ليست إلاَّ استعراضًا للألوان… فقد اُخترعت أنواع من الألوان بجهدٍ وهمَّة كبيرة، لا لشيء سوى إثارة الشهوات الشريرة، فهي لم تُصنع لحماية الجسم وتغطيته، وإنما للَفْت الأنظار، تمامًا مثل الثياب الموشَّاة بالذهب… تلك الثياب المعطَّرة والملوَّنة المغموسة في الزعفران، الثمينة والمتعددة الألوان، المصنوعة من أنسجة مثيرة.
كل هذا يلزمنا أن نودِّعه أبديًا، سواء الأقمشة ذاتها، أو الفن الذي يهتم بهذا كله… ينذرنا المُربِّي بجلاء قائلاً: “لا تتفاخر بثيابك وملبسك، ولا تنتفخ بأي مجدٍ، فإن ذلك خطية” (ابن سيراخ 11: 1). لهذا يسخر من الذين يرتدون الفاخر من الثياب في الإنجيل: “هوذا الذين في اللباس الفاخر والتنعم هم في قصور الملوك” (لو 7: 25)؛ أي في القصور التي تبيد وتغنى حيث حب المظاهر، وحب الشهوة، والنفاق والخداع.
أما الذين ينتظرون في الساحات الملكية السماوية، ويحلِّقون في الملكوت حول ملك الملوك، فهم مقدَّسون في ثياب الروح القدس التي لا تُبلى ولا تفنى، أي الجسد النوراني، بذلك يصيرون في عدم فساد.
الحليّ والزينة
– أعتقد أن الزوجات التقيَّات المؤمنات، حينما يكرِّسن حياتهن لأزواجهن يخدمن الله بإخلاص، ولكن إذا أغرقت إحداهن نفسها بالحلي والزينة، فإنها بهذا تبتعد عن الله وعن رباط الزوجية المقدَّس، إذ تستبدل زوجها بالعالم. ذلك مثل الغانية الأرجيفية Argive المدعوَّة أريفيلAriphyle التي اعتبرت الذهب عندها أغلى من زوجها.
– إن كان الله الكلمة يتغنى بفم داود، قائلاً: “وبنات الملوك يقدمن لكَِ الكرامة لمسرَّتك، وتقف الملكة عن يمينك، مرتدية ثيابًا موشَّاة بالذهب، مزينة بشراريب ذهبية” (راجع مز 45)، فهو لا يتحدث هنا عن ملبسٍ فاخرٍ، إنما يعبِّر عن زينة الأبدية المنسوجة من الإيمان. هؤلاء الذين غُفرت لهم خطاياهم، أي أبناء الكنيسة، الذين يتألق في وسطهم يسوع البار، الذي كالذهب بلا دنس. الشراريب الذهبية هم المختارون.
– من يرتدي ثيابًا (طويلة) تزحف على الأرض من قبيل التأنق والتحذلق، بجانب أنها تعوق عن السير بهمة ونشاط، فإن الثياب تكنس ما على الأرض من قاذورات وكأنها مكنسة.
– يليق بنا أن نضيف أن الثوب الذي نرتديه هو ربنا يسوع المسيح، الذي ينسدل حتى أقدامنا، والألوان المتعددة التي لهذا الثوب هي ألوان زهور الحكمة والأسفار المقدسة والأناجيل المتنوعة التي لا تبهت ولا تضيع ألوانها مع الزمن… كما قيل “اللابس النور كثوبٍٍ” (مز 104: 2). لذا يليق بنا عند تفصيل ملابسنا أن نبتعد عن كل ما هو غريب. وعندما نستخدم تلك الملابس نراعي الاقتصاد، وننأى عن الإسراف.
الأحذية
– حقًا إنها أشياء منحطَّة، تلك النعال المحلاَّة بحلي ذهبية. لكن تبدو ذات قيمة تلك المسامير التي تُثبَّت في نعالهن في صفوف متعوِّجة، وبعضهن يطبعن على نعالهن أشكالاً ومناظر للحب والغرام، وكأنهن ينقلن إلى الأرض حركة متناغمة، ويطبعن خطواتهن بما في أرواحهن من خفّةٍ وطيشٍ.
– يلزم أن نترك تمامًا كل أنواع الطلاء المذهب والترصيع بالحجارة الكريمة وكل باقي أصناف الزينة السيئة التي للنعال الخفيفة والأحذية ذات الرقبة الطويلة… لأن استخدام الأحذية يهدف إلى تغطية الأقدام من ناحية، ومن ناحية أخرى حمايتنا من التعثر في الأشياء، وحماية باطن القدم من الاحتكاك بالسطح الخشن للطرق الجبلية.
– لبس النعال قريب من لبس القيود، والانطلاق حفاة الأقدام يناسب الرياضة، وهو صحي وميسر للحياة، إلاَّ إذا اقتضت الضرورة غير ذلك.
المبالغة في الحليّ والجواهر
اللؤلؤ الكثير الثمن غزا مخدع المرأة في إسرافٍ شديدٍ، وهو من نتاج محارة تشبه القواقع، يبلغ حجمها أحيانًا ما يوازي عين سمكة من النوع الكبير، ولا تخجل هذه البائسة من الاهتمام العظيم بمثل هذه القواقع، بينما تستطيع أن تزين نفسها باللؤلؤة القدوس، الله الكلمة، الذي قال عنه الكتاب المقدس أنه لؤلؤة، يسوع الطاهر النقي المضيء، العين التي تراقب الجسد، الكلمة الكلِّي الصفاء، الذي به يصبح الجسد غالبًا وثمينًا عندما يتجدد بماء الحياة.
يقارن القدِّيس إكليمنضس بين استخراج اللؤلؤ من القواقع – هذا اللؤلؤ المحاط بجسد من كل جانب، وهو في وسط مياه البحار والمحيطات – وبين أسوار أورشليم وأبوابها الاثنى عشر، كل باب لؤلؤة، يسكنها المؤمنون الذين تجددوا بمياه المعمودية المقدسة، وتقدست أسامهم.
يقول إن البحار تخبئ اللآلئ في داخلها، بينما لا يطلب البشر الرب، اللؤلؤة الكثيرة الثمن. عوض طلبهم الله يبحثون عن الذهب الدفين في باطن الأرض، واللآلئ التي ينقب عنها أولئك الذين مصيرهم هو الموت.
الملكية الخاصة
– يقول الرسول بولس إن الله أعطى جنسنا البشري الشركة عندما منحنا ما هو له، إذ أعطانا كلمته لنا جميعًا، وخلق كل الأشياء لكل الناس، لذلك فإن كل الأشياء مشاعة لكل الناس، وليس للأغنياء أن يأخذوا منها نصيبًا غير عادلٍ. لذلك فالقول:
“إني أملك، وأملك الكثير، فلماذا لا أتنعم؟” ليس بلائقٍ بالإنسان، ولا بالمجتمع. ولكن جدير بالمحبة أن يقول الإنسان: “حسنًا إني أملك، فلماذا لا أعطي الذي يحتاج؟”، فإن مثل هذا الإنسان يطيع الوصية التي تقول: “وتحب قريبك كنفسك”، بذلك يكون إنسانًا كاملاً… لقد حتًّم الله أن يكون النفع عامًا بيننا، وأنه لشر عظيم ووحشية أن يعيش بعضنا في رفاهية ووفرة، بينما يوجد كثيرون في عوزٍ شديدٍ.
– أليس من التعقل والحكمة أن نصرف أموالنا على البشر، بدلاً من أن نبددها على المجوهرات والذهب. كم تكون في أكثر جمالاً وأناقة بأن يكون لنا أصدقاء أوفياء عن أن نقتني حليًا من الجماد! ومن انتفع بتملك أراضي أكثر من تقديم خدمات وصُنع المعروف؟
– يليق بنا أن نسعى في امتلاك ما يمَكِّن الوصول إليه بسهولةٍ ويسر،ٍ ونترك نهائيًا الكماليات الفارغة.
– الإنسان الجميل في شكله هو الإنسان الفاضل، لأن الصلاح هو الجمال وليس شيء آخر… ليس من جمال بدون فضيلة.
– تميُّز الإنسان يكمن في برِّه وعذوبة طبعه ونضوجه وتقواه ومخافة الرب. فالإنسان الجميل هو العادل والمستقيم والرزين، وفي اختصار الصالح، وليس الغنى الواسع الثراء. لكننا للأسف نرى الآن حتى الجنود يحبون التحلي بالذهب.
– أي شيء جميل في تلك الزينة أيتها النساء، عندما تبدون كأنكن رهن الأغلال والقيود.
– في حرصهن على التبرج، يشوِّهن عطايا الله، ويقلِّدن صنيع الشيطان.
– النسوة اللواتي تدرَّبن على تعليم السيِّد المسيح، يليق بهن أن يزيِّن أنفسهن لا بالذهب، بل بالكلمة من خلاله وحده، فيظهر ذهب الروح، ويتألق النور .
– مما يدعو للعجب، يقول الرسول: “وكذلك إن النساء يزيِّن ذواتهن بلباس الحشمة مع ورعٍ وتعقُّلٍ، لا بضفائرٍ أو ذهبٍ أو لآلئٍ أو ملابسٍ كثيرة الثمن، حتى يصبحن نساء تقيّات يعبدن الله بأعمالٍ صالحةٍ” (راجع 1تي 2: 9-10). لهذا يلزمنا ألاَّ ندع أي نوع من الفن ينافس الجمال الطبيعي، وذلك يجب ألاَّ يُمزج الغش بالصدق .
– من اللائق بالنسبة للنساء اللواتي يخدمن المسيح أن يتمسَّكن بالبساطة، لأن البساطة تؤدي إلى القداسة، بل وتقلل من الفروق بين البشر، وتساعد على تحقيق المساواة، فترثن القناعة والرضا بما في اليد، ويتحفظن من الجري وراء الكماليات .
– الذين يستخفٌّون بالثروة، ويتصدقون بها في حرية، يجتهدون إذ يلبسون في أقدامهم أحذية هي استعداد إنجيل السلام والعمل الصالح والسهر على طريق البرّ. القناعة والطهارة هما قلائد وعقود وسلاسل من صنع الله القدوس.
– يقول الروح على لسان سليمان: “طوبى للرجل الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي ينال الفهم، لأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص، هي أثمن من اللآلئ، وكل جواهرك لا تساويها” (أم 13: 13-15).
لأنها في ذاتها هي الزينة الصادقة الحقيقية… ليس للأذن أجمل من زينة التعليم الصادق، الذي يجد طريقه خلال السمع، أما العيون فكحلها هو الكلمة. ما يخترق الآذان هو الإدراك الذي يجعل الإنسان سامعًا في كل ما هو إلهي ومتأملاً فيه، ومقدسًا… بهذا يبدع لنا الله الكلمة بالجمال الحقيقي “الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن” (1 كو 2: 9).
لإلهنا كل مجد + كرامة + عزة + سجود إلى الأبد آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post