القديس كيرلس الأورشليمي
مقالته عن الأسرار
الباب الثالث: مقالاته عن الأسرار
المقال التاسع عشر: الأسرار: المعمودية
مع درس من رسالة بطرس الأولى: “تعقلوا واصحوا”..(إلى آخر الرسالة)
فاعلية عمادكم
1. كنت من زمن بعيد أرغب أن أعظكم بخصوص هذه الأسرار السمائية والروحية، أيها الأولاد الحقيقيون الأعزاء، لكن حيث علمت جيدًا أن الرؤية أكثر إقناعًا من السمع، فقد انتظرك إلى الوقت الحاضر. فإذ أجدكم مفتوحي الذهن تتأثرون بكلماتي بسبب خبرتكم الحالية “فأقودكم” بيدكم إلى روضة الفردوس المنيرة الذكية التي أمامنا.
خصوصًا وقد جُعلتم متأهلين لتناول الأسرار المقدسة بعد أن وُجدتم جديرين بالعماد المقدس المعطى للحياة. وحيث ينبغي أن نبسط أمامكم مائدة من أكمل التعاليم، فدعوني أعلمكم هذه الأشياء بتدقيق حتى تعلموا بفاعلية ما قد عُمل لكم مساء عمادكم.
كأنكم أمام الشيطان تجحدونه
2. فأولاً دخلتم دهليز المعمودية، وهناك اتجهتم نحو الغرب، وأنصتّم للأمر ببسط أيديكم، وكأنكم أمام الشيطان تجحدونه. يجب أن تعلموا أن هذه الصورة وُجدت في العهد القديم. فإن فرعون ذلك الظالم القاسي المرّ مُضطهد لشعب العبرانيين الحر الأصيل، وأرسل الله موسى ليخرجهم من العبودية المكروهة، حينئذ مسحوا قوائم الأبواب بدم حمل، حتى هرب المُهلك من البيوت التي عليها علامة الدم. ونجا العبرانيّون بمعجزة، فتبعهم العدو بعد نجاتهم ونظروا البحر ينشطر لهم، ومع ذلك تقدم تابعًا خطواتهم وفي الحال غرقوا في البحر الأحمر.
بين الخروج والعماد
3. ولننتقل من القديم إلى الجديد، من الرمز إلى الحقيقة، فهناك أُرسِل موسى من الله لمصر. هنا أرسل الله ابنه الوحيد يسوع المسيح إلى العالم. هناك يقود موسى شعبًا مضطهدًا ويخرجهم من مصر. وهنا يُخلص المسيح الذين ظُلموا في العالم بالخطية.
هناك دم حمل بمثابة التعويذة ضد المهلك. وهنا دم الحمل الذي بلا عيب يسوع المسيح يُرعب الأرواح الشريرة.
هناك كان الظالم يتبع الشعب القديم حتى إلى البحر. وهنا الروح الحاسد الشائن أصل الشر يتبعكم حتى ينابيع الخلاص. الظالم القديم غرق في البحر. وهذا الحاضر يتبعكم في مياه الخلاص ويختفي فيها.
أجحدك أيها الشيطان
4. مع ذلك تأمرون بالقول بذراع ممدودة نحوه كأنه حاضر “أجحدك أيها الشيطان” أريد أن أقول إنكم تقفون مواجهين الغرب، لأنه ضروري مادام الغرب منطقة الظلام المحسوس. ولما كان هو في الظلام، فسيطرته هي في الظلام. لذلك تنظرون إلى الغرب بمعنى رمزي، تجحدون ذلك المسيطر المظلم الكئيب.
فماذا إذن؟ كلمنكم وقف وقال “أجحدك أيها الشيطان” أيها الظالم القاسي الشرير، بمعنى إنني لا أخاف قوتك بعد الآن لأن المسيح قد قهرك، إذ شاركني في اللحم والدم، وبالموت داس الموت، حتى لا أكون تحت العبودية إلى الأبد.
“أجحدكِ” أيتها الحيّة الخبيثة الماكرة. “أجحدك” بمؤامراتك تحت قناع الصداقة، إذ اخترعتِ كل مخالفة وكل عمل مارق لأبوينا الأولين.
“أجحدك أيها الشيطان” الصانع لكل سوء والمحرض عليه.
وكل أعمالك
5. وفي عبارة ثانية تتعلم أن تقول “وكل أعمالك” فكل أعمال الشيطان خطية، يجب أن تنبذها كإنسان هرب من الظالم ومن أسلحته أيضًا بالتأكيد. فكل الخطايا بجميع أنواعها تدخل في أعمال الشيطان. اعلم هذا فقط أن كل ما نقوله في هذه الساعة الرائعة يُكتب في كتب الله. فإذا صنعت شيئًا بعكس هذه المواعيد تُحاكم كمخالف. إذًا فقد نبذت أفعال الشيطان، أعني كل الأعمال والأفكار ضد التعقل.
وكل قوتك
6. ثم تقول: “وكل قوتك” والآن كل قوة الشيطان هي جنون المسارح وسباق الخيل والصيد وكل أمثال هذا الباطل، الذي يطلب القديس من الله أن ينقذه منها، فيقول: “حول عيني عن النظر إلى الباطل”[2]. لا تسروا أيها الأحباء بجنون المسارح. حيث تشاهد الإشارات العابثة للاعبين، مصحوبة بالاستهزاء وبما لا يليق، ورقص الرجال المخنثين المهووس. وفي جنونهم في الصيد يعرّضون أنفسهم للحيوانات المتوحشة حتى يُشبعوا هواياتهم التعسة. والذين لكي يشبعوا بطونهم من اللحم يصبحون حقًا لحمًا لبطون الوحوش.
ولنتكلم بالعدل من أجل إلههم (بطونهم)، فيرمون حياتهم بتهورٍ في منافسات فردية. تحاشى أيضًا سباق الخيل المدمر للنفس بمنظره الجنوني. فكل هذه قوة الشيطان!
أطعمة باسم الشيطان
7. علاوة على ذلك الأشياء المعلقة في ميدان ومهرجان الأصنام. أما اللحم أو الخبز أو الأشياء الأخرى النجسة بتلوات الأرواح النجسة تحسب في سلطان الشيطان.
لأن الخبز والخمر للمتناولين قبل سرّ حلول الثالوث القدوس كانا خبزًا وخمرًا عاديين بينما بعد الحلول يصير الخبز جسد المسيح، وهكذا في مثل هذه الأحوال. هذه الأطعمة تخص “قوة الشيطان” ولو أنها بسيطة في طبيعتها لكنها تصير دنيوية بتلوات روح الشر.
وكل خدماتك
8. بعد هذا نقول “وكل خدماتك”، فخدمات الشيطان هي الصلاة في هياكل الأصنام والأشياء التي تعمل لإكرام الأصنام التي بلا حياة: إيقاد المصابيح أو إحراق البخور بجانب الأنهار والينابيع، أو كما يُخدع بعض الأشخاص بالأحلام أو بالأرواح الشريرة. (يتعهّدون بهذا) ظانين أنهم يجدون دواء حتى لعللهم الجسدية.
لا تذهب وراء هذه الأشياء: مراقبة الطيور (التطّير)، أو علم الغيب، أو الفأل، أو الأحجبة أو السحر المكتوب على أوراق الشجر، أو التنجيم، أو أي فن شرير… الكل من خدمات الشيطان، لذا تجنبهم. لأن بعد جحد الشيطان وشركتك مع المسيح، إن سقطت تحت تأثيرهم، ستجد الظالم أشد مرارة. لأنه عاملك في الماضي كأنك ملكه وأراحك من عبوديته القاسية. لكنه الآن وقد آثار حنقه عليك، وهكذا تُمنع من المسيح وتجرب من الآخر. ألم تسمع بالتاريخ القديم الذي يخبرنا عن لوط وبناته؟ عندما وصل إلى الجبل بينما تحوّلت زوجته إلى عمود ملح، واقفة كالتمثال إلى الأبد تذكارًا لإرادتها الفاسدة واستدارتها للوراء.
لذلك خذ حذرًا لنفسك، “لا تلتفت إلى ما وراء” (في 2:13) مادمت قد وضعت يدك على المحراث. لا تلتفت إلى الوراء لطعم الملح في أمور هذه الحياة. لكن اهرب إلى الجبل للمسيح يسوع، الحجر الذي لم يُنحت بأيادٍ، الذي ملأ العالم.
التحول من الغرب إلى الشرق
9. لذلك عندما جحدت الشيطان وكسرت كل عهودك معه. (هذا الميثاق القديم مع الهاوية إش 28: 15) هناك انفتح لك باب فردوس الله الذي زرعه نحو الشرق، حيث طُرد أبونا الأول لتعدّيه. ويرمز لهذا بالتحول من الغرب إلى الشرق إلى مكان النور، حينئذ أُخبرت أن تقول: “أؤمن بالآب والابن والروح القدس، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا”. خلعتم الإنسان العتيق وستحفظون اليوم المقدس
10. أما الآن وقد تحصنت بهذه المقالات، فتعقل “لأن إبليس خصمنا” كما قُرئ الآن “كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه”. ولو أن الموت كان في الأزمنة الماضية قويًا ومبيدًا، ففي غسل الميلاد المقدس “يمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه” (إش 35: 15). لأنكم لن تنوحوا بعد إذ خلعتم الإنسان العتيق وستحفظون اليوم المقدس. “قد ألبسني لباس الخلاص” حتى يسوع المسيح.
إعلان عن المقالات القادمة
11. كل هذه الأمور عُملت في الحجرة الخارجية. لكن إذا أراد الله في المقالات المتتابعة عن الأسرار لما دخلنا إلى قدس الأقداس، سنتعلم معنى الأمور التي تمت هناك. ولنقدم إلى الله الآب والابن والروح القدس المجد والعظمة إلى أبد الآبدين آمين.
________________________________________
[2]مز 119- 37 (بيروتى) في الترجمة القبطية “أردد عيني لئلا تعاين الأباطيل”.
المقال العشرون: الأسرار: العماد
“أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته. لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة” (رو 4: 3، 14)
1- هذه المقدمات الطويلة في الأسرار والتعاليم الجديدة، التي هي إعلان الحق الجديد نافعة لنا، وبالأحرى لكم أنتم الذين تجدّدتم من حال قديم إلى حال جديد. لذلك فمن الضروري أن أبسط أمامكم ملحق لمقال الأمس، حتى تتعلموا الأمور (التي عُلمت لكم في الحجرة الداخلية) وما تحمله من معانٍ.
خلع الثياب
2. حالما تدخلون وتخلعون ثيابكم وهذه صورة “لخلع الإنسان العتيق مع أعماله”، خلعتم وصرتم عرايا. وفي هذا نتشبه بالمسيح الذي عُري على الصليب،إذ بعُريه “جَرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه” (كو 2:15). إذ أن القوات الشريرة سكنت في أعضائك، فلا تلبس هذا الثوب فيما بعد. لا أعني هذا الثوب المنظور، لكن “الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور”.
نرجو أن النفس التي خلعته، لا تخلعه ثانيًا أبدًا. لكن نقول مع عروس المسيح في نشيد الأناشيد “خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟” (نش 5: 3) شيء عجيب! هل كنتم عرايا أمام الجميع ولا تخجلوا. لأنه حقًا أشبهتم آدم أول الخليقة. الذي كان عريانًا في الفردوس ولا يخجل.
مُسحتم بالزيت المصلى عليه
3. ثم عندما خلعتم ثيابكم مُسحتم بالزيت المُصلى عليه، من شعر رؤوسكم إلى أقدامكم، وصرتم شركاء في الزيتونة المقدسة بيسوع المسيح. إذ قطعتم من الزيتونة البرية، وطُعِّمتم في الشجرة المقدسة، وأصبحتم شركاء في دهن الزيتونة الحقيقية، فقد أصبح هذا لتلاوة تطرد كل أثر لسلطان الشرٍ، كما أن نفخات القديسين واستدعاء اسم الله تحرق الشياطين كاللهب المضطرم وتطردهم.
وهكذا أيضًا هذا الزيت المقدس يأخذ قوة بالتوسل إلى الله والصلاة حتى أنه يحرق الخطية وينظف آثارها، كما يطرد كل القوات الشريرة غير المنظورة.
العماد بالتغطيس
4. بعد هذه الأشياء اُقتُديتم للبِركَة (الجرن) المقدسة للعماد الإلهي، كما حُمل المسيح من الصليب إلى القبر الذي هو أمام عيونكم. لقد سُئل كلمنكم هل يؤمن باسم الآب والابن والروح القدس وتممتم هذا الاعتراف الخلاصي. ونزلتم ثلاث مرات في الماء، وصعدتم ثانيًا. هنا أيضًا تشيرون برمز للثلاثة أيام التي دفن فيها المسيح. لأنه كما قضى مخلصنا ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في قلب الأرض، هكذا أنتم أيضًا في أول صعودكم تقتدون اليوم بالمسيح في الأرض.
بنزولكم تمثلون الليل، لأنه كما في الليل لا يرى الإنسان مطلقًا، لكن من في النهار يبقى في النور؛ لم تروا شيئًا. وهكذا كما في النزول كما في الليل لم تروا شيئًا. لكن في الصعود ثانية كنتم كمن بالنهار. وفي نفس اللحظة كنتم تموتون وتولدون، وأن مياه الخلاص كانت قبركم وأمكم في وقت واحد. وما قاله سليمان عن الآخرين يناسبكم أيضًا، إذ قال: “للولادة وقت وللموت وقت” (جا 3: 2)، لكن بالنسبة لكم كان الأمر مختلفًا. كان الوقت لتموتوا، والوقت لتولدوا. لكن الآن يتم الأمرًان معًا في وقت واحد، إذ سارت ولادتكم جنبًا إلى جنب مع موتكم.
الموت مع الرب
5. أمر عجيب لا يدركه عقل! حقًا لم تمت ولم تُدفن. لم تُصلب ولم تقم ثانيًا. لكن حدث هذا لنا في مثال الرب، وصار خلاصنا حقيقة. صُلب المسيح فعلاً ودُفن فعلاً. وقام حقًا/ وكل هذه الأشياء انعم بها بسخاء علينا، حتى أننا نشترك في آلامه، ونربح خلاصًا في الحقيقة. يا للمحبة المترفقة المتجاوزة كل حدٍ. أخذ المسيح مسامير في يديه الطاهرتين وقدميه وتعذب بالألم، بينما بدون ألم وتعب وبسخاء أصبغ على الخلاص بشركة آلامه.
نِعَمْ العماد
6. فلا يظن أحد أن العماد لنعمة مغفرة الخطايا فقط أو بالأحرى للتبني. فعماد يوحنا كان يهب مغفرة الخطايا، أما نحن كما نعلم تمام العلم أن العماد كما يطهر خطايانا ويُقدم لنا موهبة الروح القدس، فهو أيضًا يحمل مشاركة في آلام المسيح. لهذا السبب يصرخ بولس عاليًا: “أم تجهلون إنما كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت” (رو 6: 3). هذه الكلمات قيلت لبعض الذين فكروا أن العماد يخدمنا لمغفرة الخطايا وللتبني فقط وليس للشركة والامتثال بآلام المسيح الحقيقية.
مشاركة في آلام المسيح
7. لذلك لكي نتعلم أنه مهما احتمل المسيح من أجلنا ومن أجل خلاصنا، فقد تألم حقًا وليس خيالاً، وأننا صرنا شركاء في آلامه، صرخ بولس بكل قوته وبكل إتقان الحق: “لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته” (رو 6: 5).
حسنًا قال: “متّحدين معه”، إذ أنه مادامت الكرمة الحقيقية قد زُرعت في هذا المكان، فنحن أيضًا بالمشاركة في عماد الموت، كنا مزروعين معه.
ثبت عقلك بانتباه كثير على كلمات الرسول فإنه لم يقل: “لو كنا قد زُرعنا معه بموته” لكن “بشبه موته”، لأنه في حالة المسيح كان موتًا حقيقيًا، لأن نفسه انفصلت عن جسده. ودفن حقًا، لأن جسده المقدس لُف بكتان نقي، وكل شيء حدث حقًا له. لكن في حالتكم كان شبه موت وآلام فقط، لكن تم الخلاص لا في تشبيه بل حقيقة.
احفظوا التعاليم في ذاكرتكم
8. أما وقد تعلمنا بما فيه الكفاية عن هذه الأمور أحفظوها في ذاكرتكم. ولو إنني غير مستحق أن أقول إني أحبكم، لأنكم تذكروني دائمًا وقد ثبتم في التقاليد التي سلمتها إليكم. والله الذي أخرجكم من عداد الموتى، قادر أن يمنحكم القوة لتسيروا في تجديد الحياة…
لأن له المجد والقوة من الآن وإلى الأبد. آمين .
المقال الحادي والعشرون: الأسرار: المسحة
“وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه” (1 يو 2: 20)
قبلتم مسحة المسيح
1. إذ قد “اعمدتم في المسيح، ولبستم المسيح” (غل 3: 27)، أصبحتم على مثال صورة المسيح ابن الله، “لأن الله سبق فعيننا للتبني” (أف 1: 5). “جعلنا لنكون على صورة جسد مجده” (في 3: 21)، حيث أننا نصبح “شركاء المسيح” (عب 3: 14). وبحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: “لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي” (مز 105: 15). جُعلتم مسحاء بقبولكم ختم الروح القدس. وكل الأشياء عُملت فيكم امتثالاً (بالمسيح)، لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن ونشر معرفة ألوهيته في الماء، وصعد منه وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده، وحلّ كذلك عليه.
ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من بركة المياه المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسحَ به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: “روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني” (إش 61: 1)
مسحه بالروح القدس
2. لأن المسيح لم يمسحه إنسان بزيتٍ أو دهنٍ مادي، لكن الآب عينه من قبل ليكون مخلصًا للعالم أجمع، مسحه بالروح القدس، كما قال بطرس: “يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحة الله بالروح القدس” (أع 10: 8).
صرخ داود النبي أيضًا قائلاً: “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرّ وأبغضت الإثم، لذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك” (مز 45: 6، 7).
وإذ صُلب المسيح ودُفن وقام حقًا، أنتم في العماد حُسبتم جديرين أن تُصلبوا وتُدفنوا وتقوموا معه على مثاله، هكذا في المسحة أيضًا. وكما مُسح بزيت مثالي “زيت الابتهاج”، لأنه منشئ الفرح الروحي، هكذا أنتم مُسحتم بدهن، إذ أصبحتم شركاء للمسيح وأتباعه.
بالدهن المنظور تُقدس نفسك بالروح القدس المحيي
3. لكن احذروا أيضًا لئلا تظنوه دهنًا بسيطًا، لأنه كما في خبز الإفخارستيا بعد حلول الروح القدس لا يصير خبزًا عاديًا بعد، بل جسد المسيح، هكذا هذا الدهن لا يكون دهنًا بسيطًا أو عاديًا بعد الصلاة، لكن هي موهبة المسيح بالنعمة وبحلول الروح القدس أصبح لائقًا لمنح طبيعته الإلهية.
بهذا الدهن مُسحت رمزيًا على جبهتك وحواسك الأخرى. وإذ يرشم جسدك بالدهن المنظور تُقدس نفسك بالروح القدس واهب الحياة.
بالمسحة السرية لبستم كل سلاح الروح القدس
4. رٌشمت على الجبهة كأنك تتخلص من العار الذي حمله الإنسان الأول معه في كل مكان، وأنه بوجه مكشوف كما في مرآة ناظرين مجد الرب” (2 كو 3: 18). ثم على آذانك حتى تتقبل الآذان سريعًا سماع الأسرار الإلهية التي قال عنها إشعياء النبي: “أعطاني الرب أذنًا للسمع” (إش 1: 4). وقال سيدنا الرب يسوع المسيح: “من له أذنان للسمع فليسمع” (مت 11: 15؛ مت 13:9).
ثم على الأنف حيث تتقبل الدهن المقدس، فيمكنك أن تقول: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون” (2 كو 2: 15). بعد ذلك على صدرك حيث “قد لبستم درع البرّ” (أف 6: 14)، حتى تقدروا “أن تثبتوا ضد مكايد إبليس” (أف 6: 11).
لأن المسيح بعد عماده وحلول الروح القدس ذهب وغلب الشرير، هكذا أنتم أيضًا بعد العماد المقدس والمسحة السرية، إذ لبستم كل سلاح الروح القدس لكي تقفوا ضد قوة الشرير وتقهروه قائلين: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في 4: 13)
نلتم اللقب الشريف
5. وإذ حُسبتم جديرين لهذه المسحة المقدسة، دُعيتم مسيحيين وبميلادكم الجديد أيد شرعية هذا الاسم، إذ قبل أن تكونوا مستحقين هذه النعمة، لم يكن لكم حق صحيح في هذا اللقب الشريف. لكن كنتم تتقدمون في طريقكم حتى تصيروا مسيحيين.
مثال المسحة في العهد القديم
6. علاوة علي ذلك يجب أن تعلموا أن في الكتاب المقدس يوجد رمز لهذه المسحة. لأن من وقت أن عَرّف موسى أخاه الرب وجعله كاهنًا أعظم، وبعد استحمامه ودُعي هارون مسيحًا بوضوح أو مدهونًا بالزيت الرمزي. هكذا أيضًا صنع رئيس الكهنة في تقديم سليمان للمملكة مسحه بعد استحمامه في نهر جيحون (1 ملوك 1:39).
وهكذا حدثت لهم هذه الأمور في شبه خيال لكن ليست في خيال، لكنها حقيقة. لكن مُسحتم حقًا بالروح القدس وابتدأ خلاصكم المسيح. لأنه باكورة الثمر، وأنتم العجين. فإن كان الثمر مقدسًا فواضح أن قداسته تنتقل إلى العجين كله أيضًا (رو 11: 16).
احفظوا هذه المسحة خالية من العيوب
7. احفظوا هذه المسحة خالية من العيوب، إذ ستعلمكم كل الأشياء إذا سكنت فيكم، كما سمعتم بوضوح من المطوّب يوحـنا: “وأعطانا كثيرًا بخصوص هذه المسحة” (1 يو 2: 20). لأن هذه المسحة المقدسة صيانة روحية للجسد، وخلاص للنفس. وعنها يتنبأ إشعياء المبارك منذ قديم الزمان فيقول: “على هذا الجبل” الآن يدعو الكنيسة “الجبل”. وفي موضع آخر يقول: “يكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا” (إش 2: 2). وأيضًا “ويصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن، وليمة خمرًا، تبشرون فرحًا، يمسحون أنفسهم بدهن” (راجع إش 25: 6)
ولكي يؤكد لكم اسمعوا ما يقول عن هذا الدهن في أنه سري “سلموا كل هذه الأمور للشعوب، لأن مشورة الرب هي لكل الشعوب”.
وإذ قد دُهنتم بهذا الدهن المقدس احفظوه فيكم غير مدنس لا عيب فيه، متقدمين في الأعمال الحسنة، عالمين كل ما يرضي رئيس خلاصكم يسوع المسيح، الذي له المجد الدائم إلى دهر الدهور. آمين
المقال الثاني والعشرون: الأسرار: جسد المسيح ودمه
“لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزًا” (1 كو 11: 23)
جسد حقيقي ودم حقيقي
1. تعليم المطوّب بولس كافٍ ليعطيكم حتى من نفسه تأكيدًا كاملاً بخصوص “الأسرار الإلهية” التي صرتم مستحقين لها، وصرتم من نفس الجسد والدم مع المسيح. لأنكم سمعتموه الآن فقط يقول بوضوح: “إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها أخذ خبزًا وشكر وكسر وقال: خذوا كلوا هذا جسدي. كذلك أخذ الكأس وشكر وقال: خذوا اشربوا هذا هو دمي” (1 كو 11: 23-26). وحيث أنه بنفسه أوضح وقال عن الخبز: “هذا هو جسدي”، فمن يتجاسر ويشك بعد ذلك؟ وإذ هو بنفسه أكد وقال: “هذا هو دمي” فمن الذي يتردد ويقول إنه ليس دمه؟
2- في قانا الجليل حوّل الماء مرة إلى خمر قريب من الدم. فهل لا يمكن تصديق أنه يقدر أن يحوّل الخمر دمًا؟
صنع هذا العمل المدهش بمعجزة عندما دُعي إلى عرس دنيوي، وعندما يهب “بني العُرس” (مت 9: 15) أن يتمتعوا بجسده ودمه، أفلا نعترف به بالأكثر؟
أصبحنا شركاء الطبيعة الإلهية
3. لنشترك إذا بكل ثقة في جسد المسيح ودمه. لأنه في شكل الخبز يعطي جسده لك، وفي شكل الخمر دمه، حتى بمشاركتك جسد المسيح ودمه تتحد في نفس الجسد ونفس الدم معه، لأنه هكذا نحمل المسيح في داخلنا. الآن جسده ودمه وُزِّعا في أعضائنا. وهكذا حسب قول المطوّب بطرس “أصبحنا شركاء الطبيعة الإلهية” (2 بط1: 4).
غضب اليهود
4. وعظ سيدنا المسيح اليهود في مناسبة معينة، وقال: “إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فليست لكم حياة فيكم” (يو 6: 53). وغضبوا ولم يسمعوه بطريقة روحية، ورجعوا ظانين أنه يدعوهم ليأكلوا لحمًا (ماديًا).
بين خبز التقدمة والإفخارستيا
5. في العهد القديم أيضًا كان خبز التقدمة، لكن انتهى ما يخص العهد القديم. أما في العهد الجديد فيوجد خبز السماء وكأس الخلاص، مطهرين النفس والجسد، لأنه كما يمتزج الخبز بالجسد كذلك الكلمة توافق أنفسنا.
كن واثقًا دون شك أن الجسد والدم تنازلا لك
6. تأمل الخبز والخمر لا في ماديتهما، لأنهما كما أوضح الرب هما جسد المسيح ودمه. لأنه حتى لو أوحت إليك الحواس بهذا، فدع الإيمان يؤسِّسك. لا تحكم على الأمر من الذوق بل من الإيمان، كن واثقًا دون شك أن الجسد والدم تنازلا لك.
رتبت قدامي مائدة
7. وينصحك المطوّب داود بهذا قائلاً: “تُرتب قُدّامي مائدة تجاه مضايقيَّ” (مز 23: 5). وما يقوله يعنى هذا قبل مجيئك. رتبت الشياطين مائدة للناس، نجسة ومدنسة ومملوءة من النفوذ الشيطاني، لكن منذ مجيئك يا رب “رتبت قدامي مائدة”. وعندما يقول الإنسان “رتبت قدامي مائدة”، فعلى ماذا يدل إلاّ على هذه المائدة السرّية الروحية التي رتبها الله لنا؟ رتبها ضد الأرواح الشريرة. وحقًا. لأن ذلك اختلاط بالشياطين، أما هذا فشركة مع الله.
“مَسحت بالدهن رأسي” (مز 23: 5) بالزيت مسح رأسك على الجبهة، لأن الختم الذي أخذته هو من الله، حفر الختم قداسة لله.
“وكأسك أسكرتني” لأنها قوية. نرى أن الكأس التي يتكلم عنها هنا هي التي أخذها المسيح في يديه وشكر وقال “هذا هو دمي الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت 26: 28).
يجب أن تكون مكسوًا بالثياب البيضاء اللامعة الروحية
8. لذلك يقول سليمان مشيرًا إلى هذه النعمة: “تعالوا كلوا خبزكم بفرح” (أي الخبز الروحي) تعالوا هنا (ينادي للحكمة والخلاص) اشربوا كأسكم بقلب فرح (أي الخمر الروحي) ودعوا الزيت يُسكب على رأسكم (نرى أنه يشير حتى إلى الزيت السري)، واجعلوا أثوابكم بيضاء دائمًا، لأن الرب سُر بأفعالكم. لأنه قبل مجيئكم للعماد كانت أعمالكم باطل الأباطيل، لكن الآن إذ خلعتم أثوابكم العتيقة ولبستم هذه البيضاء روحيًا، يجب أن تكون مكسوًا بثياب. بالطبع لا تعني هذا إنك يجب أن تلبس ثيابًا بيضاء، لكن يجب أن تكون مكسوًا بالثياب البيضاء اللامعة الروحية، حتى تقول مع المطوّب “فرحًا أفرح بالرب، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البرّ” (إش 6: 10)
9- إذ قد تعلمنا هذه الأشياء، وتأكدنا تمامًا أن ما يبدو خبزًا ليس خبزًا، ولو أنه مساغ في الطعام لكنه جسد المسيح. وأن ما يبدو خمرًا ليس خمرًا ولو أن مذاقه كذلك لكنه دم المسيح. وعن هذا ترنم داود البار قديمًا “لإخراج خبز تفرح قلب الإنسان لإلماع وجه أكثر من الزيت” (مز 104: 15)
“قوِّ قلبك باشتراكك روحيًا، واجعل وجه نفسك يلمع”، ومع جعل وجهك مكشوفًا بضميرٍ طاهرٍ تعكس كمرآة مجد الرب، وتنتقل من مجدٍ إلى مجدٍ في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد والكرامة والقوة من الآن وإلى دهر الدهور. آمين
المقال الثالث والعشرون[1]: الأسرار (4): الليتورجيا المقدسة والتناول
” فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة” (1 بط 2: 1 )
1- بمحبة الله وتحننه سمعتم ما فيه الكفاية بخصوص العماد والمسحة والشركة في جسد المسيح ودمه، والآن من الضروري أن ننتقل إلى ما يلي هذا في الترتيب، يعني أن تتوج البناء الروحي لثقافتك.
غسل اليدين وتطهيرنا من كل عمل خاطئ
2. إنك ترى الشماس (الدياكون) الذي يعطي الكاهن ليغتسل والكهنة الواقفين حول مذبح الله. أنه لا يعطيه الماء لأجل قذارة الجسد، لأننا لا ندخل الكنيسة بأجسام قذرة، لكن غسل اليدين يشير إلى ضرورة تطهيرنا من كل عملٍ خاطئٍ غير لائقٍ، لأن اليدين رمز الحركة، فبغسلهم يتضح أننا نقدم طهارة خلقنا غير الملوم.
ألم تسمع المطوّب يفتح هذا السرّ ويقول: “أغسل يدي بالنقاوة، وأطوف بمذبحك يا رب”، إذ يرمز غسل الأيدي إلى الحصانة من الخطية.
القبلة المقدسة
3. ثم يصرخ الشماس عاليًا قائلاً: “قبِّلوا بعضكم بعضًا”، ولنقبل بعضنا بعضًا. لا تظنوا أن هذه القبلة عامة، التي تقوم بين الأصدقاء، ليست هكذا. بل هذه القبلة تمزج النفوس ببعضها، وتحفظ لها غفرانًا عظيمًا. والقبلة علامة على أن نفوسنا قد اختلطت ببعضها، ومحت كل تذكر للأخطاء. لهذا قال السيد المسيح: “فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وتذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت 5: 23). فالقبلة صُلح ولهذا السبب هي مقدسة. وكما يقول المطوّب بولس: “سلِّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (1 كو 16: 20). وأيضًا بطرس تحدث عن قبلة الإحسان (1 بط 3: 15).
ارفعوا قلوبكم
4. بعد هذا يصرخ الكاهن عاليًا: “ارفعوا قلوبكم”. لأنه حقًا يجب علينا في هذه الساعة المهيبة أن تُرفع قلوبنا في الأعالي مع الله، ولا نكون في الأسفل مفكرين في الأرض والأمور الأرضية. وبذلك يأمر الكاهن الكل في هذه الساعة أن يطردوا كل اهتمامات هذه الحياة، من جهة المنزل أو القلق في أي شيء، ويجعلوا قلوبهم في السماء مع الله الرحيم. حينئذ تجيبون “هي عند الرب”، موافقين عليها باعترافكم. لكن، ليمتنع أي واحد من الحضور هنا من يقول بفمه: “هي عند الرب”، بينما أفكارهم مشغولة باهتمامات هذه الحياة. فالأفضل أن يكون الله في فكرنا في كل وقت. لكن إن كان هذا مستحيلاً بسبب نقصنا البشري، ففي هذه الساعة فوق كل شيء يجب أن نراعي سلوكنا بهمة.
فلنشكر الرب
5. ثم يقول الكاهن “فلنشكر الرب”… فإننا حقًا ملزمون أن نقدم الشكر لأنه دعانا ونحن غير مستحقين لهذه النعمة العظيمة، إذ صالحنا عندما كنا أعداءه حتى تلطف لنا بروح التبني حينئذ نقول “مستحق وعادل”، لأننا عندما نقدم الشكر نصنع شيئًا باستحقاق وعدل. لأنه لم يعمل لنا الحق بل أكثر من الحق، إذ جعلنا مستحقين لهذه الفوائد العظيمة.
شركة تسبيح مع السمائيين
6. بعد هذا نذكر السماء والأرض والبحر، الشمس والقمر والنجوم وكل الخليقة، العاقل وغير العاقل، المنظور وغير المنظور، عن الملائكة ورؤساء الملائكة الفضائل، السيادات، الزعماء والقوات، العروش، الشاروبيم ذا الوجوه الكثيرة كأنه يعيد هذا النداء لداود: “عظموا الرب معي” (مز 37: 3). نذكر السيرافيم الذي رآه إشعياء بالروح القدس واقفًا حول عرش الله، وبجناحين يغطون وجوههم، وباثنين يغطون أرجلهم، ويطيرون باثنين، صارخين قائلين: “قدوس، قدوس، قدوس رب الصباؤوت” (إش 6: 2-3). إننا نردد هذا الاعتراف: الذي سُلم إلينا من السيرافيم حتى نكون مشاركين في الأعالي للقوات في ترنمهم بالتسبيح.
التحول بالروح القدس
7. وإذ قدسنا أنفسنا بهذه الترانيم الروحية، نطلب رحمة الرب، ليرسل روحه القدوس على الهبات الموضوعة أمامه، أن يجعل الخبز جسد المسيح والخمر دم المسيح. فكلما يلمسه الروح القدس يتقدس ويتغير بالتأكيد.
ابتهالات وطلبات
8. ثم بعد إتمام الذبيحة الروحية، تتم الخدمة غير الدموية. وخلال ذبيحة الكفارة هذه نلتمس الله السلام العام لجميع الكنائس لخير العالم. نطلب عن الملك والجند، والمربوطين والمرضى والمتضايقين. وبالاختصار نصلي عن كل من يحتاج إلى الخلاص ونقدم هذه الذبيحة.
صلاة المجمع وعن الراقدين
9. ثم نحتفل بذكرى الذين رقدوا قبلنا. أولاً البطاركة (الآباء) والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين لكي بصلواتهم وشفاعتهم يقبل الله التماساتنا. ثم نطلب الآباء القديسين والأساقفة الذين رقدوا قبلنا، وعن كل من رقدوا من المؤمنين لتكون فائدة عظيمة للنفوس التي نتوسل من أجلها، خلال هذه الذبيحة المقدسة والمهيبة موضوعة.
الصلاة عن الراقدين
10. وأرغب في إقناعكم في هذا الصدد. فإني أعلم أن كثيرين يقولون ماذا تنتفع نفس فارقت هذه الدنيا بذنوب أو بدون ذنوب، إذا ذُكرت في الصلوات؟ فإذا رغب ملك في إبعاد أشخاص ضايقوه فصاغ أهلهم تاجًا وقدموه له مراعاة لهؤلاء الذين تحت العقاب، ألاّ يمنح عفوًا لقصاصهم؟ فبنفس الطريقة عندما نرفع له توسلاتنا لمن رقدوا ولو كانوا مذنبين. نحن لا نصنع تاجًا: بل نرفع المسيح مقدمًا لذنوبنا، متوسلين لربنا الرحيم من أجلنا ومن أجل نفوسهم.
أبانا الذي في السماوات
11. ثم بعد هذه الأمور نقول هذه الصلاة التي سلمها المخلص لتلاميذه بضمير نقي، مخاطبين الله أبينا قائلين: “أبانا الذي في السماوات”. يا لعظمة محبة الله المترفقة التي جاوزت كل حد على الذين عصوه وكانوا في تعاسة قصوى، أنعم عليهم بهذا الغفران الكامل لأعمالهم الشريرة، ومشاركة النعم العظيمة حتى يستطيعوا أن يدعوه “أبانا”. والذين يحملون صورة السماوات، هم أيضًا سماوات حيث يسكن الله، ويمشي فيهم.
12- “ليتقدس اسمك”. اسم الله في طبيعته مقدس إن قلنا أم لم نقل. لكن حيث يُكفر به في بعض الأوقات بين الخطاة كما قيل: “لأن اسمي يُجدف عليه بسببكم بين الأمم” (رو 2: 24). فنصلي أن يتقدس اسم الله فينا. ليس لأنه يتقدس من كان ليس مقدسًا، لكن لأنه يصير مقدسًا فينا عندما نصير مقدسين ونعمل أعمالاً تليق بالقداسة.
13- “ليأت ملكوتك” تستطيع النفس النقية أن تقول بدالة: “ليأتِ ملكوتك”. لأن من سمع بولس يقول: “إذا لا تملكنّ الخطية في جسدكم المائت”، وطهر نفسه في الفعل والفكر والقول، يقول ليأت ملكوتك.
14- “لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض”. ملائكة الله المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره” (مز 103: 24)، وعلى هذا نعني بالصلاة: “كما في الملائكة تكون مشيئتك، هكذا لتكن على الأرض فيّ يا رب”.
15- “خبزنا كفافنا، أعطينا اليوم” هذا الخبز البسيط ليس خبزًا ضروريًا، لكن هذا الخبز المقدس أساسي، معين لأساس النفس، “لأن هذا الخبز لا يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج” (مت 15: 17)، لكن يوزع على جهازك كله لفائدة النفس والجسد. ويعني بـ”اليوم” كما قال بولس “مادام يدعى اليوم”.
16- “واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” إذ لنا ذنوب كثيرة لأننا نسيء بالقول والفكر وأشياء كثيرة جدًا نعملها نستحق عليها القصاص. “فإن قلنا ليس لنا خطية، نضل أنفسنا، وليس الحق فينا” كما قال المطوّب يوحنا (1 يو 1: 8)
فنصنع مع الله عهدًا نستعطفه، ليغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن لإخواننا ذنوبهم، مترجين ذلك فيما نتقبله، مستبدلين به غفراننا للآخرين، فلا نهمل أو نتأخر في تسامح بعضنا بعضًا. فالإساءات التي تُرتكب ضدنا خفيفة وزهيدة وتنتهي بسرعة. لكن التي تُرتكب ضد الله عظيمة وتحتاج إلى رحمة كرحمته فقط. لذلك انتبه لئلا من أجل الذنوب الزهيدة الطفيفة، تمنع عن نفسك غفرانًا من الله لخطاياك المحزنة.
17- “ولا تدخلنا في تجربة”. هل هذا ما يعلمنا الرب أن نصلي لكي لا نُجرّب أبدًا؟ فكيف إذن يُقال في موضع آخر: “الرجل غير المُجرب، يعلم قليلاً” (سي 34: 10، رو 5: 3-4)، وأيضًا يقول يعقوب: “احسبوا كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2)
لكن هل يعني الوقوع في التجربة ألا يدع التجربة تغمرنا وتجرفنا؟ لأن التجربة كسيل الشتاء يصعب عبوره. لذا فهؤلاء الذين لا يغرقون فيها يمرّون مظهرين أنفسهم سبّاحين ممتازين، ولم يُجرفوا في تيارها أبدًا. بينما الآخرون يدخلون فيها ويغرقون. مثلاً دخل يهوذا الإسخريوطي في تجربة حب المال، فلم يَسبح فيها بل غَرق، وشُنق نفسه بالجسد والروح (مت 27: 5). وبطرس دخل في تجربة الإنكار، لكنه دخل ولم يُسحق بها. لكن كرجل سبح فيها ونجا منها. أنصت ثانية في موضع آخر إلى جماعة من القديسين لم يُصابوا بضررٍ يقدمون الشكر لنجاتهم من التجربة. جربتنا يا الله – جربتنا بالنار كتجربة الفضة – وضعتنا في الشبكة، وضعت عذابات على ظهورنا.
جعلت الناس يركبون على رؤوسنا. “جزنا في النار والماء لكن أخرجتنا إلى موضع راحة” (مز 65: 10-12). فخروجهم إلى موضع راحة يعني نجاتهم من التجربة.
18- “لكن نجنا من الشرير”. إذا كان القول “لا تدخلنا في تجربة” يتضمن عدم الدخول في التجربة بالمرة، فالقول: “لكن نجنا من الشرير” فيعني أن نصلي لكي ننجو من الشرير عدونا إبليس. ثم بعد إتمام الصلاة تقول: “آمين” التي تعني “هكذا يكون”. تضع ختمك على ابتهالاتك في الصلاة ذات التعليم الإلهي.
القدسات للقديسين
19. بعد هذا يقول الكاهن: “القدسات للقديسين”. القرابين المقدمة على الهيكل هي مقدسة، بعد قبولها حلول الروح القدس عليها. كذلك أنتم قديسون لأنكم استحققتم الروح القدس.
لذلك فالأشياء المقدسة تتصل بالأشخاص المقدسين. حينئذ تقول: “واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس”. واحد هو القدوس، واحد هو الرب يسوع المسيح، لأنه حقًا بالطبيعة قدوس. ونحن أيضًا قديسون، ليس بالطبيعة، لكن بالشركة والتكريس والصلاة.
الدعوة للتناول
20. بعد هذا تسمع المرتل يدعوكم بلحنٍ مقدسٍ للتناول من الأسرار المقدسة قائلاً: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز 34: 8). لا تسلموا الحكم للفم الجسدي، بل للإيمان الذي لا يشك. لكن من يؤمروا أن يذوقوا لا يذوقون خبزًا وخمرًا بل جسد المسيح ودمه اللذين يمثلانه.
الحرص في التناول
21. لذلك في التقدم لا تأت برسغيك ممدودتين أو أصابعك منفردة، لكن اجعل يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، كأنك تستقبل ملكًا، وقد جوّفت راحة يدك لتقبل جسد المسيح قائلاً: آمين. وهكذا بعد أن قدست عينيك بعناية بلمس الجسد المقدس اشترك فيه منتبهًا لئلا يُفقد جزء منه…
اخبرني، إن أعطاك أحد حبوبًا من ذهب ألاّ تمسكها بكل عناية حارسًا لها من الضياع والخسارة؟ أليس بالأولى إذن أن ننتبه حتى لا يسقط فُتات مما هو أغلى من الذهب والحجارة الكريمة؟
الشركة في دم المسيح
22. ثم بعد أن تشترك في جسد المسيح، تقرب أيضًا إلى كأس دمه، ليس بمد يديك لكن بالانحناء بروح العبادة والإجلال قائلاً: “آمين”، مقدسًا نفسك بالمشاركة أيضًا في دم المسيح. وبينما تكون شفتاك مازالتا رطبتين ألمسهما بيديك، وقدس عينيك وجفنيك وأعضاء الحواس الأخرى. ثم انتظر نهاية الصلاة، وقدم الشكر للذي حسبك مستحقًا لهذه الأسرار العظيمة.
لا تحرموا نفوسكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية
23. تمسكوا بهذه التقاليد بلا دنس، واحفظوا نفوسكم من المعصية، لا تحرموا تنفصلوا عن الشركة، ولا تحرموا نفوسك بدنس خطاياكم عن هذه الأسرار المقدسة الروحية. “وإله السلام يقدسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1 تس 5: 23)، الذي له المجد والكرامة والقدرة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى الأبد[2]. آمين”.
——————————————————————————–
[1] ترجمة السيدة يان جرجس فيلوثاوؤس.
[2] The world without end
No Result
View All Result
Discussion about this post