القديس كيرلس الأورشليمي :
مقالاته لطالبي العماد
المقال الرابع عشر: وقام من الأموات
في اليوم الثالث وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب . “وأعرفكم أيها الاخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به… وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” (1كو 15: 1-4)
ليمتلئ فمنا فرحًا وتهليلاً به
1- افرحي يا أورشليم. اصنعوا عيدًا عظيمًا يا جميع محبي يسوع لأنه قام.
افرحوا يا من نُحتم من قبل، حين رأيتم جسارة اليهود وشرّهم، لأنه قد قام ذاك الذي حنقوا عليه.
وإذ كان المقال عن الصليب محزنًا، فليفرح السامعون بأخبار القيامة المبهجة. ليتحول الحزن إلى فرحٍ، والنوح إلى سرورٍ، وليمتلئ فمنا فرحًا وتهليلاً به، إذ قال بعد قيامته “افرحوا”[2].
وإذ أعلم حزن أصدقاء المسيح في هذه الأيام الماضية، إذ توقف مقالنا (السابق) عند صلبه ودفنه دون أن نذكر أخبار القيامة السارة، لهذا تعلقت أذهانكم لكي تسمعوا ما تشتاقون إليه. الآن قد قام الميت الذي كان”حرًا بين الأموات” وهو مخلص الأموات. ذاك الذي أُهين محتملاً بصبر إكليل الشوك. لقد قام مُتوّجًا بإكليل النصرة على الموت.
شهادة الكتاب المقدس عن قيامته
2- وكما تحدثنا قبلاً عن الشهادات الخاصة بصليبه، فلنتحقق الآن من الأدلة الخاصة بقيامته، مادام الرسول سبق فأكد: “أنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” (1 كو 15: 4). فإذ يرجعنا الرسول إلى شهادات الكتب، جيد لنا أن نعرف كل شيء يخص رجاء خلاصنا، وأن نتعلم أولاً ما تخبرنا عنه الأسفار المقدسة بخصوص قيامته، إن كانت في الصيف أو الخريف أو بعد الشتاء، وفي أي موضع قام المخلص، وما أعلنه الأنبياء العجيبون بخصوص اسم مكان قيامته، وعن فرحة النسوة اللواتي بحثن عنه ولم يجدنه، وحين وجدنه تهللن، حتى إذ ما قرأنا البشائر لا نأخذ هذه القصص على أنها تلفيقات أو مجرد حكايات.
بخصوص دفن المخلص
3- فبخصوص دفن المخلص، سمعتم في المقال السابق بوضوح ما قاله إشعياء “دفنه في سلام”[3]. إذ في دفنه صنع سلامًا بين السمائيين والأرضيين، مقدمًا الخطاة في حضرة الله، و“من وجه الشر يُضم الصديق” (إش 57: 1)…
جاءت أيضًا نبوة يعقوب في الكتاب المقدس تقول “جثا وربض كأسد وكلبؤة، من ينهضه؟!” (تك 49:9) وجاء أيضًا في سفر العدد نفس القول: “جثم كأسد ربض كلبؤة من يقيمه؟!” (عد 24: 9) وأيضًا المزمور الذي تسمعونه كثيرًا يقول: “وإلى تراب الموت تضعني” (مز 22:15). وقد درسنا هذا الموضوع بالأكثر حين اقتبسنا القول “انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم” (إش 51:1).
أما الآن فلنحمل في طريقنا البراهين الخاصة بالقيامة.
البراهين الخاصة بالقيامة
4- أولاً يقول المزمور الحادي عشر:“من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب” (مز 12: 5). لكن هذه العبارة لا زال يشك البعض في تفسيرها إذ غالبًا ما يقوم الرب أيضًا في الغضب لينتقم من أعدائه[4].
تعالوا إذن إلى المزمور الخامس عشر الذي يقول: “احفظني يا الله، لأني عليك توكلت” (مز 15). وبعد هذا يقول“لا أجمع مجامعهم من الدماء، ولا أذكر أسماءهم بشفتيّ” إذ رفضوني طالبين قيصر ملكًا لهم”. وأيضًا ما جاء بعد ذلك: “تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني كي لا أتزعزع”، وما جاء: “وأيضًا إلى الليل أدبتني كليتاي”. عندئذ يتكلم بوضوح جدًا “لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدوسك يرى فسادًا”. إنه لم يقل “لا تدع قدوسك يرى موتًا”، وإلا ما كان قد مات، لكنه يقول: “فسادًا” أي لا يرى فسادًا ولا يبقى في الموت. ثم يكمّل “قد عرّفتني سُبل الحياة”… تأملوا أنه يكرز بوضوح عن الحياة بعد الموت!
تعالوا معي أيضًا إلى المزمور التاسع والعشرين: “أعظمك يا رب، لأنك احتضنتني ولم تشمت بي أعدائي” (مز 29). ما الذي حدث هل أُنقذت من أعداء أم نجوت مما كنت تضرب به؟ لقد أعلن بوضوح: “يا رب أصعدت من الجحيم نفسي”. (في المزمور السابق) ينطق متنبأ: “لا تترك نفسي في الجحيم”، أما هنا فيتحدث عما يتم كأنه قد حدث فعلاً “أصعدت… خلصتني من الهابطين في الجب”. متى حدث هذا؟ “في العشاء يحل البكاء، وبالغداة السرور”، لأنه في المساء حزن التلاميذ، وفي الصباح فرحوا بالقيامة.
أتريد أيضًا أن تعرف المكان؟
5- يعود فيقول في نشيد الأناشيد “نزلت إلى جنة الجوز” (نش 6: 11)، إذ صُلب السيد في البستان (يو 19: 41). فإنه وإن كان الموضع الآن مزينًا بالهبات الملكية، لكنه كان قبلاً بستانًا، ولا تزال العلامات والآثار قائمة.
إنه “جنة مغلقة، وينبوع مختوم” (نش 4: 12). هؤلاء الذين قالوا: “تذكّرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم، فمرْ أن يُضبط القبر” وعلى هذا “مضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر” (مت 27: 63، 65). ويخبر واحد عن هذا بدقة قائلاً: “وفي النهاية تدينهم”[5]. من هو هذا الينبوع المختوم الذي يعني “ينبوع الماء الحيّ”؟! إنه المخلص نفسه الذي قيل عنه: “لأن ينبوع الحياة عندك” (مز 36: 9).
شهادة صفنيا عن القيامة
6- ولكن ماذا يقول صفنيا في شخص المسيح للتلاميذ؟ “تهيأوا، استيقظوا عند الفجر. كل بقاياهم محطمة”[6]. إنه لم يبقَ لليهود عنقود واحد ولا تُرك لهم بقايا للخلاص، إذ قُطعت كرمتهم.
انظر كيف يقول للتلاميذ “تهيأوا، استيقظوا عند الفجر”، في الفجر انتظروا القيامة.
يقول أيضًا في نفس السفر: “لذلك فانتظروني يقول الرب إلى يوم أقوم في الشهادة”[7]. ها أنت ترى أن النبي سبق فرأى مكان القيامة أيضًا، فدعاه “الشهادة”. لأن ما السبب في أن مكان الجلجثة والقيامة لم يدعَ كنيسة كباقي الكنائس بل بـ “الشهادة” إلاّ لأن النبي قال: “إلى يوم أقوم في الشهادة؟!”[8]
صفنيا يقدم علامة عن القيامة
7- من هو هذا إذن؟ وما هي علامة الذي يقوم؟
يقول النبي بوضوح فيما بعد: “لأني حينئذ أقدم للشعوب لغة”[9]. إذ بعد القيامة أُرسل الروح القدس، وأعطيت موهبة الألسن “ليعبدوه بكتف (نير) واحد”. لذلك تنبأ النبي نفسه قائلاً: “ليعبدوه بكتفٍ واحد، ومن عبر أنهار كوش يقدمون تقدمتي” (صف 3:10).
إنكم تعلمون ما جاء في سفر الأعمال حينما جاء الخصي الحبشي عبر أنهار أثيوبيا “كوش”.
فإذ تُخبركم الكتب عن وقت قيامته وطبيعة مكانها والعلامة التي تبعتها فليتقوَ إيمانكم في القيامة، ولا يزحزحكم أحد عن الاعتراف بأن “المسيح قام من بين الأموات”.
صرت حرًا بين الأموات
8- خذوا لكم شهادة أخرى، المزمور السابع والثمانين[10]، حيث يتكلم المسيح في الأنبياء (هذا الذي بعدما تكلم هكذا حلّ بيننا)، “يا رب إلهي بالنهار والليل صرخت أمامك”. ثم أكمل بعد قليل: “صرت مثل إنسان ليس له معين، صرت حرًا بين الأموات”.
لم يقل “صرت إنسانًا ليس له معين”، بل قال:”صرت مثل إنسانٍ ليس له معين”. لأنه بالحقلم يُصلب عن ضعف بل صلب بإرادته، وما كان موته عن ضعف لا إرادي.
“حسبت مثل الهابطين في الجب”. وما هي العلامة؟ “أبعدت عني معارفي”. ثم يتحدث بعد قليل قائلاً: “صرخت إليك يا رب. بالغداة أقف أمامك”. انظروا كيف يتحدث بدقة عن الوقت وعن الآلام القاسية وعن القيامة!
تحديد مكان القيامة (كهف الصخرة)
9- ومن أين قام المخلص؟ يقول في نشيد الأناشيد “قم يا قريبي وتعال”[11]، وبعد ذلك “في كهف الصخرة” [12]. إنه يدعو ذلك الكهف الذي كان قبلاً أمام باب قبر المخلص وقد نُحت في الصخرة نفسها، كما كانت العادة هنا قبلاً…
ولكن أين هي الصخرة التي كان فيها الكهف؟ هل هي في وسط المدينة أم ملحقة بالأسوار والحدود؟! هل هي بداخل الأسوار القديمة، أم داخل الأسوار الخارجية التي بنيت فيما بعد؟! يقول في النشيد “في كهف الصخرة قريبًا من السور الخارجي”[13].
تحديد فصل السنة
10 في أي فصل قام المسيح؟ هل في فصل الصيف أم في فصل آخر؟! جاء في نشيد الأناشيد قبل الكلمات السابق اقتباسها “لأن الشتاء قد مضى، والمطر مرّ وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب” (نش 2:11، 12). أليست الأرض ملآنة بالزهور الآن؟ أما تُحصد الكروم الآن؟ ألا ترون أن الشتاء قد مضى لأنه متى حل شهر نيسان Xanthicus[14] حيث يكون الربيع. هذا هو الفصل أو الشهر الأول عند العبرانيين الذي فيه تم العبور كرمز للعبور الحقيقي…
في هذا الفصل قال الله: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك 1: 26)، فأخذ الإنسان الصورة، وبالعصيان أفسد الشبه. وفي ذات الفصل استرد الإنسان الشبه ثانية.
في نفس الموسم الذي فيه طُرد الإنسان المخلوق من الفردوس بسبب عصيانه، رجع إليه الإنسان المؤمن خلال طاعته. فخلاصنا حدث في نفس الوقت الذي فيه كان سقوطنا، إن “الزهور ظهرت وبلغ أوان القضب”.
تحديد مكان القيامة (في البستان)
11- في بستان كان دفنه، حيث زُرعت هناك كرمة، إذ قال عن نفسه: “أنا هو الكرمة” (يو 15: 1). لقد زُرع في الأرض لكي يقتلع اللعنة التي حلّت بسبب آدم، حيث سُلِّمت الأرض للشوك والحسك. لقد طلعت الكرمة من الأرض، ليتم القول: “الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء اطلع” (مز 84:10).
وماذا يقول ذاك المدفون في البستان؟ “قطفتُ مرّي مع طيبي” (نش 5:1). وأيضًا “مرْ وعود مع كل أنفس الأطياب” (نش 4:14). وهذه هي علامات للدفن، إذ جاء في الأناجيل “أتين (النسوة) إلى القبر حاملاًت الحنوط الذي أعددنه” (لو 24:1). “وأحضر نيقوديموس أيضًا خليطًا من مرّ وعود” (يو 19: 39)، ومكتوب أيضًا: “أكلت خبزي مع عسلي”[15]. إذ أكل المر قبل الصليب والعسل بعد القيامة.
بعد القيامة دخل والأبواب مغلقة، وإذ لم يصدقوا أنه هو إذ ظنوا أنهم رأوا روحًا (لو 24:37)، قال لهم “جسّوني وانظروا” (لو 24:39). ضعوا إصبعكم في آثار المسامير كطلب توما “وبينما هم غير مصدقين من الفرح متعجبون، قال لهم: “أعندكم ههنا طعام؟! فناولوه جزء من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل فأخذ وأكل قدامهم” (لو 41:24، 42).
انظروا كيف تحقق القول “أكلت خبزي مع عسلي”!
بحث مريم عن القائم من الأموات
12- لكن قبل أن يدخل والأبواب مغلقة، بحثت النسوة النبيلات الشجاعات عن عريس النفوس وطبيبها. لقد أتت هؤلاء المباركات إلى القبر، وبحثن عن الذي قام ودموعهن تسيل من أعينهن مع أنه كان يجب عليهن بالأولى أن يرقصن فرحًا من أجل الذي قام.
بحسب ما جاء في الإنجيل جاءت مريم تحدثه فلم تجده. لقد سمعت الملائكة أولاً وبعد ذلك رأت المسيح… هل هذه الأمور سبق أن كُتب عنها؟ يقول نشيد الأناشيد “على فراشي طلبت من تحبه نفسي”. في أي وقت؟ “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي” (نش 3: 1). وقد قيل:“جاءت مريم والظلام باقٍ” (يو 10: 1)، “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته”. وفي الأناجيل تقول مريم “أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه؟!” (يو 20: 13)
وإذ كان الملائكان موجودان لمعالجة نقصها في المعرفة، قالا لها “لماذا تطلبين الحيّ بين الأموات؟!” (لو 24:5) إنه ليس فقط قام بل وأقام معه موتى (مت 27: 52). أما هي فلم تفهم ذلك. ويقول سفر نشيد الأناشيد في شخصها متحدثة مع الملائكة: “أرأيتم من تحبه نفسي؟! فما جاوزتهم إلاّ قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي، فأمسكته ولم أُرخِه” (نش 3:3، 4).
فرح النسوة بالقائم من الأموات
13- بعد رؤية الملائكة جاء يسوع كوعد ملاكه، وتقول الأناجيل: “إذا يسوع لاقاهما، وقال: سلام لكما، فتقدمتا وأمسكتا بقدميه” (مت 28: 9). أمسكتا به حتى يتم القول: “فأمسكته ولم أُرخه”. فمع أن المرأة كانت ضعيفة حسب الجسد، لكن روحها كانت مملوءة رجولة. “مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها” (نش 8: 7). لقد كانت تبحث عن من كان ميتًا، لكن رجاء القيامة لم ينطفئ.
يقول لهن الملاك ثانية: “لا تخفن أنتن”، لكنني لا أقول للجنود “لا تخافوا” بل لكُن لا تخفن. فهم يليق بهم أن يخافوا، فيتعلموا مختبرين شاهدين قائلين: “بالحقيقة كان هذا ابن الله” (مت 27:54). أما أنتن فلا تخفن “لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج” (1 يو 4: 18).
“اذهبا سريعًا قولا لتلاميذه أنه قد قام… فخرجتا… بخوف وفرح عظيم” (مت 28: 7). هل هذا أيضًًا مكتوب؟ نعم فإن المزمور الثاني الذي يتكلم عن آلام المسيح يقول “اعبدوا الرب بخشية، وهللوا (افرحوا) له برعدة” (مز 2: 7). افرحوا للإله القائم، لكن برعدة من أجل الزلزلة والملاك الذي ظهر مضيئًا!
عرف الأنبياء ضعف إيمان رؤساء الكهنة
14- ومع أن رؤساء الكهنة والفريسيين ختموا القبر عن طريق بيلاطس، لكن النسوة تطلعن إلى ذاك الذي يقوم. وقد عرف إشعياء ضعف إيمان رؤساء الكهنة وقوة إيمان النسوة، فقال: “أيتها النسوة الآتيات، انظرن هنا لأن ليس شعبًا ذا فهم”[16]. هوذا رؤساء الكهنة يحتاجون إلى الفهم، بينما صارت النسوة شاهدات عيان.
وعندما أتى الجنود إلى المدينة وأخبروهم بكل ما حدث، قالوا لهم: “قولوا أنتم إن تلاميذه جاءوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام” (مت 28: 13). هل سبق إشعياء فتنبأ عن هذا؟ إنه يقول “أخبرونا وانسبوا لنا خديعة أخرى”[17].
الذي قام من الأموات مرتفع، لكن بالنقود خدعوهم. إنما لا يقدرون أن يخدعوا ملوك أيامنا هذه. لقد باع الجنود الحق بالفضة، لكن ملوكنا الصالحين بنوا كنيسة قيامة الرب ومخلصنا المقدسة مرصعة بالفضة والذهب، هذه التي نجتمع نحن فيها، وقد تزينت بكنوز الفضة والذهب والأحجار الكريمة.
“وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه” (مت 28: 14). حقًا لقد أقنعتم الجنود، لكنكم لن تقنعوا العالم، لأنه لماذا لم يُحاكم الحراس الذين حرسوا يسوع المسيح، بينما دين حراس بطرس حين هرب من السجن؟ حراس بطرس عاقبهم هيرودس لجهلهم، إذ ليس لهم ما يدافعون به، أما حراس القبر الذين رأوا الحقيقة وأخفوها بالمال، فقد احتموا برؤساء الكهنة. ومع أن قليلاً من اليهود اقتنعوا بذلك، لكن العالم كله أطاع (الحق). الذين أخفوا الحقيقة اختفوا، أما الذين قبلوها فقد ظهروا بقوة المخلص الذي قام من الأموات، بل وأقام الموتى بنفسه. هؤلاء الذين يقول على لسانهم هوشع النبي: “يُحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه” (هو 6:2).
كيف ينكر اليهود العصاة قيامة مخلصنا؟!
15- لكن مادام اليهود العصاة لا يقتنعون بالأسفار المقدسة، بل ينسون كل المكتوب وينكرون قيامة يسوع، فجيد أن نسألهم هكذا: على أي أساس تقولون إن إليشع وإيليا أقاما موتى، بينما تنكرون قيامة مخلصنا؟! أليس لدينا شهادات حيّة من هذا الجيل لما نقول؟ حسنًا وأنتم تقدمون شهادة التاريخ عن ذلك الوقت.
إن كان مكتوبًا عمّا تقولونه فإنه مكتوب أيضًا عن هذا (قيامة المخلص)، فلماذا تقبلون شهادة دون الأخرى؟ إن الذين كتبوا التاريخ هم عِبرانيون، والرسل جميعهم عبرانيون، فلماذا لا تصدقونهم؟
متى كتب الإنجيل بالعبرية، وبولس المبشر كان عبرانيًا، والاثنى عشر جميعهم عبرانيون، والخمسة عشر أسقفًا لأورشليم الذين رسموا بالتتابع كانوا عِبرانيين[18]. فلماذا تقبلون ما هو لكم، وترفضون ما هو لنا الذي كتبه عبرانيون منكم؟!
القيامة ممكنة
16- قد يقول قائل: يستحيل أن يكون ميتًا!
لقد أقام إليشع ميتًا مرتين، مرة وهو حيّ، وأخرى وهو ميت. فهل تصدق أن إليشع وهو ميت أقام الميت الذي ألقي عليه ولمسه ولا تصدق أن المسيح قام؟!
لكن في تلك الحالة حين لمس الميت إليشع قام بينما بقيَ إليشع ميتًا… وأمّا هنا فقد قام الميت الذي نتحدث عنه، وأقام معه كثيرين من الموتى دون أن يلمسوه. لأنه “قام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة (واضح أنها ذات المدينة التي نحن فيها الآن) وظهروا لكثيرين” (مت 27:52، 54).
لقد أقام إليشع ميتًا، لكنه لم يهزم العالم. لقد أقام إيليا ميتًا، لكن الشياطين لا تخرج باسم إيليا.
إننا لا نقول شرًا في الأنبياء، لكننا نعظم سيدهم بالأكثر جدًا، فإننا لا نكرم عجائبنا بامتهاننا عجائبهم، بل نحن نكسب ثقة أكثر بما حدث معهم.
يونان في الحوت كرمزٍ للقيامة
17- لكنهم قد يقولون أيضًا: جثة ميتة في الحال يقيمها حي، لكن أرنا كيف يمكن لميت أن يقوم بعد ثلاثة أيام، بعدما يدفن يقوم بعد ثلاثة أيام؟ إن كنا نطلب شهادة من الكتاب لإثبات هذه الحقيقة، فقد سبق الرب يسوع المسيح نفسه فأمدّنا بها في الأناجيل قائلاً: “لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال” (مت 12: 40). وإذ نفحص قصة يونان نجد شبهًا عظيمًا. فقد أرسل يسوع ليكرز بالتوبة، وهكذا كان يونان. لكن الواحد هرب غير عالم بما آتٍ عليه، والآخر بإرادته جاء ليعطي توبة للخلاص.
يونان كان نائمًا في السفينة، غارقًا في النوم وسط البحر العاصف، بينما نام يسوع أيضًا، وبدأ البحر – بعنايته وتدبيره – يرتفع ليعلن قدرة ذاك النائم.
قيل للواحد:“ما لك نائمًا؟! قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك!” (يونان 1: 6) أما الثاني فقالوا له: “يا رب نجنا” (مت 8: 25، 29).
هناك يقول”اصرخ لإلهك” وهنا يقولون: “نجنا أنت”.
الواحد يقول:“خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم” (يونان 1: 12)، أما الآخر فبنفسه “انتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم” (مت 8: 25، 26).
أُلقي الواحد إلى بطن الحوت، والآخر بإرادته نزل هناك حيث يوجد وحش الموت غير المنظور، نزل بإرادته لكي يطرد الموت خارجًا عن أولئك الذين ابتلعهم، كما هو مكتوب: “من قوة القبر أفديهم، من يد الملاك أخلصهم”[19].
بقاء يونان حيًا في بطن الحوت والقيامة
18- في هذه النقطة من مقالنا، دعونا نتأمل أيهما أصعب أن يقوم إنسان من الأرض بعد ثلاثة أيام من دفنه، أم ينجو من الهلاك من دخل في بطن الحوت في الهياج العظيم الذي لهذا المخلوق الحيّ، لأنه من لا يعرف أن هياج أحشاء عظيمة كهذه كفيلة بتحطيم العظام التي تُبتلع؟!…
لكن يجيب اليهود قائلين إن قوة الله نزلت مع يونان حين ألقي في الجحيم. فهل يعطي الله حياة لعبده بمساندته بقوته، ولا يعطيها لنفسه أيضًا؟!…
إنني أرى أن كليهما جديران بالتصديق، أنا أصدق أن يونان قد حُفظ لأن “عند الله كل شيء مستطاع” (مت 19: 26). أؤمن كذلك أن المسيح قام من الأموات، إذ لنا شهادات كثيرة من الكتب الإلهية، ومن القوة العملية في اليوم الذي قام فيه ذاك الذي نزل إلى الجحيم وصعد بصحبته كثيرون، إذ نزل إلى الموت وخلاله “قام كثير من أجساد القديسين الراقدين”.
المسيح ينزل الجحيم
19- لقد صُدم الموت برعدة، إذ رأى زائرًا جديدًا ينزل الجحيم دون أن يرتبط بسلاسله. ما لكم يا حراس الجحيم ارتعبتم عند رؤيته؟! ما هو هذاالخوف غير المعتاد الذي تملككم؟! الموت هرب وبهروبه انكشف جبنه.
لقد جرى إليه الأنبياء القديسون وموسى مستلم الشريعة، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وأيضًا داود وصموئيل وإشعياء ويوحنا المعمدان الذي شهد له حين سُئل: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ لقد أفتدى كل الصالحين الذين ابتلعهم الموت. إنه يليق بالملك أن يخلص مرسليه النبلاء، فيقول كل منهم: أين غلبتك يا موت؟! أين شوكتك يا قبر؟! لأن الغالب قد خلصنا.
يونان مثال السيد المسيح في الجحيم
20- كان النبي يونان في هذا مثالاً لمخلصنا عندما صلى في بطن الحوت، وقال:“دعوت من ضيقي”، وأيضًا: “صرخت من جوف الجحيم” (يونان 2: 2). ومع أنه كان في داخل الحوت، لكنه يقول إنه في الجحيم، لأنه كان مثالاً لمخلصنا الذي كان لزامًا أن ينزل إلى الجحيم.
وبعد قليل يتحدث في شخص المسيح بوضوح جدًا، قائلاً: ” نزلت (رأسي) إلى أسافل الجبال” (يونان 2:6). لقد كان في بطن الحوت، فأي جبال تحيط بك؟ إنه يقول إنني أعلم أنني مثال لذاك الذي يُدفن في قبرٍ منحوتٍ في الصخر. ومع أنه كان في البحر يقول يونان إنه نزل إلى الأرض، إذ كان مثالاً للمسيح الذي نزل في قلب الأرض.
كما يتنبأ يونان عن أعمال اليهود الذين أقنعوا الجنود أن يكذبوا قائلين لهم: “قولوا إنهم سرقوه”، إذ يقول النبي “الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون رحمتهم (نعمتهم)” (يونان 2: 8)، لأن الذي كان رحيمًا معهم جاء وصلب وقام ثانية، واهبًا دمه الغالي لليهود والأمم، أما هم فقالوا: “قولوا إنهم سرقوه” مستخدمين أباطيل كاذبة.
أما عن قيامته، فيقول إشعياء أيضًا: “هو الذي أقام من الأرض راعي الخراف العظيم”[20]. لقد أضاف كلمة “العظيم” حتى لا يظن أنه في مستوى الرعاة الذين سبقوه.
شهود قيامة السيد المسيح
21- فإذ لنا النبوات، فليثبت معنا الإيمان. يسقط غير المؤمنين ماداموا يريدون هكذا، أما أنتم فلتثبتوا على صخرة الإيمان بالقيامة. لا تتركوا هرطوقي يتكلم بشرٍ عن القيامة، لأنه حتى هذا اليوم يقول المانيّون إن قيامة المخلص كانت كخيالٍ وليست حقيقة، غير منتبهين إلى قول بولس: “الذي صار من نسل داود من جهة الجسد… بقيامة ربنا يسوع المسيح من الأموات” (راجع رو 1:3، 4)، كذلك يقصدهم قائلاً: “لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء؟! أو من يهبط إلى العمق، أي ليُصعِد المسيح من الأموات” (رو 10:6، 7).
وبنفس الطريقة يحذر في موضع آخر: “اذكر يسوع المسيح المُقام من الأموات” (2 تى 2: 8). وأيضًا: “وإن لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا، وباطل أيضًا إيمانكم، ونوجد نحن أيضًا شهود زور لله، لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح وهو لم يقمه” (1 كو 15: 14-15). ويكمل بعد ذلك: “ولك الآن قد قام المسيح من الأموات، وصار باكورة الـراقدين” (1 كو 15: 20)، “وظهر لصفا ثم للاثني عشر” (1 كو 15: 5)، حتى إن لم تصدقوا شهادة واحد فلكم اثنا عشر شاهدًا. “وبعد ذلك ظهر ليعقوب” أخيه أسقف أورشليم الأول.
فإن عرفت أن هذا الأسقف رأى المسيح يسوع حين قام فلا تشك أنت تلميذه. لكنكم تقولون إن أخاه يعقوب لم يشهد بوضوح. يقول الرسول: “وآخر الكل ظهر لي أنا” (1 كو 15: 8) بولس عدوه. وأية شهادة لا تُصدق إن كان العدو يشهد بها؟! “أنا الذي كنت قبلاً مضطهدًا” (1 تي 1: 13)، أكرز الآن بأخبار القيامة المفرحة.
شهادة الأمور المادية لقيامة المخلص
22- يوجد أيضًا شهود كثيرون يشهدون بقيامة المخلص: الليل مع ضوء القمر الساطع (إذ كانت في الليلة السادسة عشرة)[21]، صخرة القبر الذي تقبله، فستقف الصخرة شاهدة ضد اليهود… الحجر الذي دحرج يحمل شهادة عن قيامة المخلص، وهو لا يزال إلى يومنا هذا. ملائكة الله الذين شهدوا بقيامة الابن الوحيد، بطرس ويوحنا وتوما وبقية الرسل، بعضهم جرى إلى القبر ورأى الأكفان التي كان ملفوفًا بها باقية كما هي بعد القيامة، وآخرون لمسوا يديه ورجليه وتحسسوا آثار المسامير. والكل تمتع بنفخة المخلص هذه، وتأهلوا أن يغفروا الخطايا بقوة الروح القدس. النسوة أيضًا كن شاهدات، فقد أمسكن بقدميه وأحسسن بزلزلة قوية، بهاء الملاك الذي وقف بهن شاهدًا بالقيامة، الملابس الكتانية الذي كان ملفوفًا بها وقد تُركت حين قام، الحراس والنقود التي أُعطيت لهم، هذا المكان الذي ترونه، وهذه الكنيسة المقدسة التي تذكرها الإمبراطور قسطنطين في محبته، فبناها وزينها كما ترون.
طابيثا تشهد لقيامة المخلص
23- يوجد أيضًا دليل على قيامة يسوع هو طابيثا التي باسمه قامت من الأموات (أع 9: 40). كيف لا يُصدق أن المسيح قام من الأموات، إن كان حتى اسمه أقام الموتى؟!
البحر أيضًا يشهد بقيامة المسيح كما سمعتم قبلاً، والسمك المُصطاد والحجر والسمك الموضوع هناك وبطرس الذي أنكره ثلاث مرات ثم اعترف به أيضًا ثلاث مرات بعد قيامته فأوصاه أن يرعى غنمه الروحي.
إلى يومنا هذا يقف جبل الزيتون أمام أعين المؤمنين جميعًا شاهدًا للذي صعد إلى السماء من هناك، من المكان الذي بدأ فيه آلامه بين الناس وانتهى بتتويجه بينهم.
ها هي شهادات كثيرة: مكان القيامة ذاته، موضع الصعود نحو المشرق، الملائكة الذين شهدوا أيضًا، السحابة التي صعد عليها، الرسل الذين كانوا هناك.
صعود المخلص يشهد لقيامته
24- قادنا الحديث في تعليمنا عن قانون الإيمان إلى الحديث عن الصعود. وقد دبرت نعمة الله أن تسمعوا بالأمس في يوم الرب عنه بأكثر توسع حسب ضعفنا… وما قد قيل وُجه إلى الجميع، إلى المؤمنين المجتمعين جميعهم، لكنه كان بالأكثر يخصكم أنتم.
والسؤال هو: هل انتبهتم إلى ما قيل؟ إذ كلمات قانون الإيمان تعلمكم “الذي قام من الأموات في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب”.
أظن أنكم تذكرون التفسير، لكنني استرجع أذهانكم إلى ما قيل. تذكروا ما قاله المزمور بوضوح: “صعد الله بهتاف” (مز 47: 5). تذكروا أيضًا ما جاء في المزمور من حديث القوات الإلهية مع بعضها البعض “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم” (مز 24: 7). تذكروا أيضًا المزمور القائل: “صعد إلى العلا وسبى سبيًا” (مز 68: 18). تذكروا النبي القائل: “الذي يبنى صعوده نحو السماء…”[22]. وغير ذلك من الأمور التي سبق ذكرها بسبب مغالطات اليهود.
الصعود ورموزه
25- فإذ يتكلمون ضد صعود المخلص كأمر مستحيل، فليذكروا كيف حمل ملاك حبقوق من شعر رأسه[23]، فبالأحرى جدًا يستطيع إله الملائكة والأنبياء أن يصعد على سحابة من جبل الزيتون بقوته الخاصة.
يمكنكم أن تتذكروا عجائب كهذه لكن لتعط المكانة الأولى لله صانع العجائب. فهؤلاء رُفعوا أما هو فرافع كل الأشياء.
تذكروا أن أخنوخ نقُل أما يسوع فصعد.
تذكروا ما قيل بالأمس عن إيليا أنه أُصعد في مركبة نارية (2 مل 2: 11)، أما مركبات المسيح فربوات ألوف (مز 68: 17).
إيليا أخذ ناحية شرق الأردن، أما المسيح فصعد شرق وادي قدرون.
إيليا ذهب كما إلى السماء، أما المسيح ففي السماوات.
إيليا قال أن يُعطى لتلميذه الطوباوي نصيب مضاعف من الروح القدس، أما المسيح فمنح رسله نعمة الروح القدس هكذا حتى أنهم لم يأخذوه لأنفسهم وحدهم بل وهبهم أن يمنحوا المؤمنين أن يشتركوا معهم فيه بوضوح الأيدي.
الرسل ليسوا بأقل من الأنبياء
26- ولكن حينما تناضلون مع اليهود هكذا، وحينما تجاوبونهم بأمثلة متشابهة يلزمكم بالأحرى أن تُظهروا عظمة مجد المخلص، إذ هؤلاء خدام أما هو فابن الله. وهكذا يمكنكم أن تذكروا سموه بالتفكير في أن خادم المسيح قد بلغ السماء الثالثة. فإن كان إيليا قد بلغ السماء الأولى فإن بولس بلغ الثالثة، فحصل على كرامة أعظم.
لا تخجلوا من رسلكم! أنهم ليسوا أقل من موسى، ولا يأتون بعد الأنبياء. إنما هم نبلاء بين نبلاء، نعم بل وأكثر نبلاً. لأنه حقًا أُخذ إيليا إلى السماء، ووُهب بطرس مفاتيح ملكوت السماوات. إذ سمع هذه الكلمات “ما تحلِّه على الأرض يكون محلولاً في السماء” (مت 16: 19).
إيليا أُخذ إلى السماء أما بولس فإلى السماء والفردوس (2 كو 12:2، 4)، (إذ يليق أن يكون لتلاميذ المسيح نعمة مضاعفة)، “وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسانٍ أن يتكلم بها”. لكن بولس نزل ثانية من فوق ليس لعدم استحقاقه أن يبقى هناك، إنما لكي ما بعد أن تمتع بالأمور التي تعلو على الإنسان يعود ويكرز بالمسيح ويموت لأجله فيأخذ إكليل الشهادة…
الجلوس عن يمين الآب
27- تذكروا أيضًا ما كنت أتحدث عنه كثيرًا بخصوص جلوس الابن عن يمين الآب، حيث جاء في قانون الإيمان: “وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب”.
ليتنا لا نتطفل في معرفة معنى “العرش”، لأنه غير مدرك. لكننا لا نقبل أبدًا القائلين كذبًا أن الابن بدأ يجلس عن يمين أبيه بعد صلبه وقيامته وصعوده إلى السماوات، لأن الابن لم يتمتع بالعرش بالتقدم (أي ترقى إليه)، بل هو دومًا على العرش حيث كائن. وقد عرف إشعياء النبي هذا العرش قبل مجيء المخلص في الجسد فيقول “رأيت السيد جالسًا على عرش عالٍ ومرتفع” (إش 6:1). وقد قيل أن الآب لم يره أحد قط (يو 1: 18)، فكأن النبي رأى الابن.
يقول أيضًا المرتل: “كرسيك مثبت منذ القدم، منذ الأزل أنت” (مز 93: 2). وإذ توجد أدلة كثيرة على هذا لكن لسبب تأخر الوقت اكتفي بما قلته.
قال الرب لربي اجلس عن يميني
28- لكن الآن يجب أن أذكركم بقليل من كثير مما يُقال بخصوص جلوس الابن عن يمين الأب، فالمزمور المائة والتاسع يقول: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئ قدميك” (مز 109: 1). ويؤكد المخلص هذا في الأناجيل، ذاكرًا أن داود لم ينطق بهذا من نفسه بل بوحي الروح القدس قائلاً: “كيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلاً: قال الرب لربي أجلس عن يميني؟!” (مت 22:43)، وقد استخدم بطرس والأحد عشر رسولاً هذا الدليل بنفس كلمات المزمور المائة والتاسع في سفر الأعمال في يوم البنطقسطي (حلول الروح القدس) عندما وقف ووعظ الإسرائيليين.
شهادات أخرى خاصة بجلوس الابن عن يمين الآب
29- لكن يليق بنا أن نذكركم بشهادات أخرى خاصة بجلوس الابن عن يمين الآب.
جاء في إنجيل متى: “وأيضًا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة…” (مت 26: 64). وتبعًا لهذا يكتب الرسول بطرس قائلاً: “بقيامة يسوع المسيح الذي هو في يمين، الله إذ قد مضى إلى السماء” (1 بط 3: 21، 22).
ويكتب الرسول بولس إلى أهل رومية: “المسيح هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله” (رو 8:34).
وإلى أهل أفسس: “حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه…” (أف 1: 19، 20). كما علّم أهل كولوسي بهذا: “إن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” (كو 3:1). وفي الرسالة إلى العبرانيين يقول: “بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي” (عب 1: 3). ثم أيضًا: “لمن من الملائكة قال قط: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟!” (عب 1:13) ثم أيضًا: “أما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرًا بعد ذلك حتى يُوضع أعداؤه موطئًا لقدميه” (عب 10:12). وأيضًا “ناظرين إلى رئيس إيماننا ومكمله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله” (عب 12:2).
ربنا يسوع المسيح يملك العرش عن يمين الآب قبل كل الدهور
30- بالرغم من أنه توجد نصوص أخرى كثيرة بخصوص جلوس الابن الوحيد عن يمين الله، إلاّ أننا نكتفي بهذه الآن، مكررًا ملاحظتي أن الابن لم يحصل على كرامة هذا المكان بعد مجيئه بالجسد بل الابن الوحيد ربنا يسوع المسيح قبل كل الدهور يملك العرش عن يمين الآب على الدوام…
إذًا اثبتوا غير متزعزعين في رجائكم في الذي قام. قوموا معه جميعًا من خطاياكم المميتة إلى عطيته السمائية.
احسبوا أنفسكم أهلاً للاختطـاف في السحب لملاقاة الرب في الهواء” (1 تس 4: 17)، في حينه، حين يأتي وقت ظهوره الثاني المجيد. اكتبوا أسماءكم جميعًا في سفر الحياة ولا تمسحوها أيضًا (لأن أسماء الكثيرين تُمحى بسقوطهم).
ليهبكم جميعًا أن تؤمنوا بالذي قام، وتتطلعوا إلى الذي صعد وسيأتي (ولكن ليس من الأرض، إذ يلزمك أن تحترسوا من الكذابين الذين سيأتون)، إنما يأتي ذاك الذي يجلس في العلا وهو معنا جميعًا، “ناظرًا ترتيبكم ومتانة إيمانكم” (كو 2: 5). فلا تظنوا أنه بغيابه بالجسد غائب عنا بالروح، بل هو موجود في وسطنا، يسمع ما يُقال عنه، متطلعًا إلى أفكاركم الداخلية، فاحصًا القلوب والكلى (مز9:7)، الذي هو الآن مستعد أن يحضر الآتين إلى العماد، بل ويحضركم جميعًا في الروح القدس للآب، قائلاً: “ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله” (عب 2:13، إش 8:18). هذا الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
________________________________________
[2] مت 28: 9 “سلام لكم” التحية المعتادة باليونانية “Xaipete” أي افرحوا.
[3] إش 57: 4. الترجمة البيروتية “يدخل السلام”.
[4] مز 7: 6 “قم يا رب بغضبك”.
[5] أي 18: 7 الترجمة السبعينية أما البيروتية فهي “وكل لحظة تمتحنه” وقد ترجمت الترجمة السبعينية كلمة “Wink” أنها “في النهاية” وليس “لحظة” .
[6] صف 3: 7 الترجمة السبعينية “بكروا وافسدوا جميع أعمالهم”.
[7] صف 3: 8 كلمة الشهادة تشبه كلمة “السلب” في العبرية.
[8] قبل إلقاء هذه المقالات بعشرة سنوات تحدث يوسابيوس عن اكتشاف القبر المقدس (حياة قسطنطين 3: 28)، فدعاه “شهادة قيامة المخلص أعلى من أي صوت آخر”.
[9]صف 3: 9 الترجمة السبعينية: “لأني حينئذ أحوال الشعوب إلى شفة نقية”.
[10] الطبعة البيروتية مز 88.
[11] نش 2: 10 “قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالى”.
[12] نش 2: 14 “في محاجئ الصخر”.
[13] نش 2: 14 “في محاجئ الصخر في ستر العاقل”.
[14] الشهر السادس من التقويم المكدوني ويقابل نيسان تقريبًا في التقويم اليهودي.
[15] نش 5: 1 “أكلت شهدي مع عسلي”.
[16] إش 27: 11 “فتأتي النسوة وتوقدها. لأنه ليس شعبًا ذا فهم”.
[17] إش 30: 10 “كلمونا بالناعمات، انظروا مخادعات”.
[18] هذه العبارة ربما أخذها عن يوسابيوس (التاريخ الكنسي 4: 5) أو “السجلات المكتوبة” حيث تعلم أنه إلى حصار اليهود الذي تم في حكم أدريان كان هناك 15 أسقفًا بالتتابع من أصل عبراني.
[19] هو 13: 4 “من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم”.
[20] إش 63: 11 “أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه؟!”
[21] كان الصليب في 14 نيسان فتكون ليلة القيامة 16 نيسان.
[22] عا 9: 6 “الذي بني في السماء علالية”.
[23] جاء في حزقيال 8: 3 “ومد شبه يد وأخذني بناصية رأسي ورفعني روح بين الأرض والسماء فأتى بي في رؤى الله”
المقال الخامس عشر: سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء
“كنت أرى أنه وضعت عروش، وجلس القديم الأيام”، ثم “كنت أرى في رؤى الليل، وإذ مع سحب السماء مثل ابن إنسان آتي” (دا 7: 9-14).
المجيئان
1- لسنا نكرز بمجيء واحد للمسيح بل وبمجيء آخر فيه يكون ممجد جدًا أعظم من الأول. المجيء الأول أظهر صبره، والثاني فيحضر معه إكليل مملكته الإلهية. لأن تقريبًا كل شيء في ربنا يسوع المسيح يحمل جانبين: فله نسب مزدوج، مولود من الله قبل كل الدهور، ومولود من العذراء في ملء الدهر.
ونزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، “مثل المطر على الجزاز” (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظر. في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر “اللابس النور كثوب” (مز 104: 2). في مجيئه الأول “احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة ممجدًا[1].
فنحن لا نستندعلى مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا. وكما قلنا في مجيئه الأول: “مبارك الآتي باسم الرب” (مت 21: 9؛ 23: 39). سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني، فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: “مبارك الآتي باسم الرب”.
سيأتي لا ليُحكم عليه، بل ليدين من حاكموه. ذاك الذي صمت أثناء محاكمته يقول للأشرار الذي فعلوا معه هذه الجسارة: “هذه الأشياء صنعتم وسكت” (مز 50: 21).
إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون!
شهادة الكتاب المقدس
2- بخصوص هذين المجيئين يقول ملاخي النبي: “ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه”، هذا هو المجيء الأول. أما عن مجيئه الثاني، فيقول: “وملاك العهد الذي تسرون به هوذا يأتي قال (الرب القادر على كل شيء). ومن يحتمل يوم مجيئه؟! ومن يثبت عند ظهوره؟! لأنه يأتي مثل نار الممحص، ومثل أشنان القصار، وسيجلس ممحصًا ومنقيًا”. بعد هذا يقول المخلص نفسه: “واقترب إليكم للحكم، وأكون شاهدًا سريعًا على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين باسمي زورًا…” (مل 3: 5)
لهذا السبب يحذرنا بولس قائلاً: “إن كان أحد يبني على هذا ذهبًا فضة حجارة كريمة خشبًا عشبًا قشًا، فعمل كل واحدٍ سيصير ظاهرًا، لأن اليوم سيبينه، لأنه بنار يُستعلن” (1 كو 3:12، 13).
عرف بولس المجيئين حين كتب إلى تيطس قائلاً: “ظهرت نعمة الله المخلصة لجميع الناس، معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبرّ والتقوى في العالم الحاضر منتظرين الرجاء المبارك، وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح” (تى 2: 11-14). ها أنتم ترون كيف يتحدث عن المجيء الأول الذي من أجله يقدم تشكرات، وعن الثاني الذي نطلبه وننتظره. هكذا أعلن بولس نفس الإيمان الذي نعلنه، فنحن نؤمن بالذي صعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب، وأيضًا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء.
سماء جديدة وأرض جديدة
3- هكذا سيأتي ربنا يسوع المسيح من السماء، وسيأتي بمجد في نهاية هذا العالم، في اليوم الأخير.لأن هذا العالم له نهاية، ويتجدد عالم جديد[2]. لأنه حيث الفساد “والسرقة والفسق” (هو 4: 2). وكل أنواع الشرور حلت بالأرض ولحقت الدماء بدماء، فلا يعود بعد يبقى هذا المسكن العجيب المملوء شرًا، بل يمضي هذا العالم ليظهر العالم الأفضل.
أتريد شاهدًا على هذا من الكتاب المقدس؟
اسمع إشعياء النبي يقول: “تلتف السماوات كدرجٍ، وتسقط كل النجوم كأوراق من كرمة، وكأوراق تتساقط من شجرة تين”[3]. يقول الإنجيل أيضًا: “تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه، وتتساقط نجوم السماء” (مت 24: 29).
إذًا لا نحزن كأننا وحدنا نموت لأن النجوم أيضًا تزول… وسيلف الله السماوات لا لكي يفنيها، بل ليرفعها ثانية في أجمل مما هي عليه.
اسمعوا داود النبي يقول: “أنت يا الله في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى” (مز 102: 25). اسمعوا بأي معنى يقول “هي تبيد”؟ إنه يكمل “كلها كثوبٍ تذوب قِدَمًا،وكرداء تطويها فتتغير” (مز 102: 26)، إنها كالإنسان الذي يُقال عنه إنه “يُباد”. إذ مكتوب عنه: “باد الصديق وليس أحد يضع ذلك في قلبه” (إش 62: 1). هذا بالرغم من انتظار القيامة. هكذا انتظر كما لو أن هناك قيامة للسماوات.
“ستظلم الشمس، والقمر يتحول إلى دمٍ” (يوئيل 2: 31). فليتعلم أولئك الذين انحرفوا إلى المانيّة ولا يجعلوا من هذه الكواكب آلهة لهم، ولا يظنوا أن هذه الشمس التي تظلم هي المسيح، إذ يقول الرب: “السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول” (مت 24: 35)، لأن ليس للخليقة كرامة كلمات الرب!
علامات المنتهى
4- إذن ستزول الأشياء المنظورة وتأتي الأمور المقبلة التي هي أفضل. أما عن الزمن فليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” (أع 1: 7). فلا تتجاسروا في إعلان زمان حدوث هذه الأمور، وفي نفس الوقت لا تخافوا وتتهاونوا، إذ قيل: “اسهروا إذًا لأنكم في ساعة لا تتوقعونها يأتي ابن الإنسان” (راجع مت 24: 42، 44). ولكن إن كان لزامًا أن نعرف علامات المنتهى إذ ننتظر المسيح، فلا نموت مخدوعين ونضل بواسطة ضد المسيح الكذاب، فإن التلاميذ مدفوعين بإرادة إلهية وحسب ترتيب العناية الربانية قالوا للمعلم الحقيقي: “قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟” (مت 24:3) إننا نتطلع إليك وأنت آتٍ ثانية، لكن “الشيطان يغيّر نفسه إلى شبه ملاك نور” فاعطنا حرصًا حتى لا نعبد آخر غيرك. فتح السيد فمه الإلهي المبارك قائلاً: “انظروا لا يضلكم أحد”. وهذه العبارة تنذركم جميعًا أن تحذروا وتهتموا لما يُقال، لأنه لم يتحقق بعد بل يتنبأ عن أمور مقبلة حادثة بالتأكيد. إنه ليس لنا أن نتنبأ لأننا غير مستحقين لهذا، إنما نضع أمامكم الأمور المكتوبة، ونوضح لكم العلامات، لاحظوا أنتم ما قد تحقق منها فعلاً وما لم يتحقق بعد، وكونوا في أمان.
علامات المنتهى
5- “انظروا لا يضلكم أحد”، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح ويضلون كثيرون. لقد تحقق هذا جزئيًا فإن “سيمون الساحر” قال هذا، كذلك Menander[4] وآخرون من قادة الهرطقات قالوا بهذا. وسيقوم في أيامنا وفي الأيام المقبلة أيضًا من يقول بهذا.
علامة الحروب
6- العلامة الثانية: “تسمعون عن حروب وأخبار حروب”[5]. ألا توجد في أيامنا هذه حرب بين الفرس والرومان لأجل العراق؟ ألا تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة؟!
“وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة“. هذه الأشياء حدثت فعلاً. ثم أيضًا “وتكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء”[6].
إنه يقول “اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” (مت 24: 42).
علامة فتور المحبة
7- لكننا نبحث عن علاماتنا نحن الكنسيّين لمجيئه، التي تتناسب مع الكنيسة. يقول المخلص “وحينئذ يعثر كثيرون ويسلمون بعضهم بعضًا ويبغضون بعضهم بعضًا” (مت 24: 10). إن سمعتم عن أساقفة يضادون أساقفة، وإكليروس ضد إكليروس، وعلمانيين ضد علمانيين حتى الدم[7]، فلا تضطربوا لأنه سبق أن كُتب عن هذا.
لا تلتفتوا إلى ما يحدث الآن بل تأملوا ما قد سبق أن كُتب، حينئذ حتى إن هلكت أنا نفسي الذي أعلمكم لا تهلكوا أنتم أيضًا معي. كلاّ، بل قد يصير السامع أفضل من معلمه، والآخر يكون أولاً مادام السيد يقبل حتى أصحاب الساعة الحادية عشرة.
إن كان قد وجد بين الرسل خيانة، فهل تتعجبون إن وُجد بين الأساقفة كراهية؟!
هذه العلامة لا تكون بين القادة، فحسب بل وبين الشعب أيضًا، إذ يقول “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12)…
الكرازة ببشارة الملكوت في كل المسكونة
8- لكم هذه العلامة أيضًا: “ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى” (مت 24: 14).
وكما نرى أن العالم قد امتلأ كله تقريبًا ببشارة المسيح.
ظهور ضد المسيح
9- ثم ماذا يحدث بعد ذلك؟ يقول: “فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دنيال النبي قائمة في المكان المقدس. ليفهم القارئ” (مت 24: 15). وأيضًا “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك، فلا تصدقوا” (مت 24: 23). إن كراهية الإخوة تفسح الطريق لمجيء ضد المسيح، لأن الشيطان يصنع الانقسام بين الناس حتى يقبلوا المزمع أن يأتي. لكن الله منع أي خادم من خدام المسيح أن يذهب إلى هنا أو هناك نحو العدو.
وإذ يكتب الرسول بولس في هذا الأمر يعطى علامة واضحة إذ يقول: “لأنه لا يأتي (هذا اليوم) إن لم يأتِ الارتداد أولاً ويُستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا، حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله، مظهرًا نفسه أنه إله. أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا، والآن تعلمون ما يحجز إلى النهاية حتى يُستعلن في وقته، لأن سرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، وحينئذ سيُستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه. الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين” (2 تس 2: 3-10).
هكذا كتب بولس، وقد تم الارتداد، إذ ارتد الناس عن الإيمان المستقيم، فالبعض يتجاسر ويقول إن المسيح أُوجد من العدم. من قبل كان الهراطقة ظاهرين، أما الآن فالكنيسة مملوءة هراطقة مستترين، إذ ضل الناس عن الحق، وصموا آذانهم (2 تي 4: 3).
هل يوجد مقال مملوء بالمظاهر الكاذبة؟! الكل ينصت إليه بفرح!
هل توجد كلمة للإصلاح؟ الكل يتحول عنها!
تحول الغالبية عن الكلمات الصحيحة، واختاروا بالأحرى الكلمة الشريرة بدلاً من الصالحة. هذا هو الارتداد، والعدو يتطلع إليه. فقد أرسل جزئيًا رواده حتى يأتي فينقض على الفريسة.
اهتم بنفسك يا إنسان، ولتكن نفسك في أمان. الكنيسة تُحملك المسئولية أمام الله الحي، فهي تخبرك عما يخص بضد المسيح قبل أن يأتي. وإننا لا نعلم إن كان يأتي في أيامكم أو بعدكم، لكن يليق بكم إذ تعرفون هذه الأمور أن تحترسوا.
سيأتي ابن الإنسان على سحاب السماء
10- المسيح الحقيقي، ابن الله الوحيد، لن يأتي بعد من الأرض، فإن جاء أحد صانعًا أعمالاً مزيفة في البرية لا تذهبوا وراءه. إن قيل “هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا”. لا تعودوا تنظروا بعد إلى أسفل إلى الأرض، لأن الرب يأتي من السماوات، ليس وحده كما حدث من قبل، لكنه يأتي محاطًا بربوات الملائكة ليس سرًا “كالمطر على الجزاز” (مز 72: 6). لكن يأتي بلمعان مثل البرق، إذ قال بنفسه: “لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا أيضًا يكون مجيء ابن الإنسان”. وأيضًا “يبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍ، فيرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت” (مت 24: 30).
خداعً الشيطان والإعداد لظهور ضد المسيح
11- ولكن كما أنه كان يليق بهأن يأخذ الناسوت وكان منتظرًا أن يولد الله من عذراء. فقد خلق الشيطان خداعًا بإيجاد روايات عن آلهة كذبة تلد وتولد من النساء، لكي بوجود الأكاذيب لا يُصدق الحق. وهكذا أيضًا إذ يأتي المسيح مرة أخرى، فإن المقاوم يستغل فرصة انتظار البسطاء، خاصة الذين من أهل الختان، فيأتي رجل ساحر متفنن في فنون السحر والعرافة مخادع بمكر، ويأخذ لنفسه سلطان إمبراطور روما، ويُنصب نفسه مسيحًا كذابًا، وتحت اسم المسيح يخدع اليهود المنتظرين مجيء المسيح، ويغوى الأمم بأضاليله السحرية.
مُلك ضد المسيح ونهايته
12- هذا المسيح الكذاب السابق ذكره يأتي بعد انتهاء أزمنة إمبراطورية روما عندما تقترب نهاية العالم. سيقوم عشرة ملوك لروما ضد بعضهم، ربما يحكمون في مناطق مختلفة، لكنهم يقومون في زمنٍ واحدٍ، بعد هذا يأتي الحادي عشر أي ضد المسيح الذي بخداعه السحري يغتصب القوة الرومانية، ومن هؤلاء العشرة ملوك الذين كانوا يحكمون سابقًا “يذل ثلاثة ملوك” (دا 7: 24)، والسبعة يخضعهم لسطوته. في البداية يلبس مظهر اللطف الحقيقي والتعقل والحنو، وبالعلامات الكاذبة والعجائب السحرية المخادعة يخدع اليهود، كما لو كان المسيح المنتظر، بعد هذا يظهر كل أنواع الجرائم الوحشية والشرور، فيفوق كل الأشرار والملحدين الذين سبقوه، مستخدمًا روح قتال قاسي جدًا ضد كل البشرية خاصة المسيحيين، فيكون بلا رحمة مملوء غشًا.
وبعد ثلاثة سنوات وستة أشهر فقط تتحطم هذه الجرائم بالظهور المجيد لابن الله الوحيد ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الحقيقي من السماء، حيث يسحق ضد المسيح بفمه ويلقيه في نار جهنم.
13- لسنا نُعلم بهذا من اختراعنا، بل تُخبرنا به الأسفار المقدسة الإلهية التي في الكنيسة، خاصة ما جاء في نبوة دانيال التي قُرأت منذ قليل، كما فسرها رئيس الملائكة جبرائيل قائلاً: “الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض تفوق سائر الممالك”[8]. ومعروف في تقليد مفسري الكنيسة أنها مملكة الرومان. فكما كانت المملكة الأولى التي ذاع صيتها هي مملكة الأشوريين، والثانية هي مملكة المديانين والفرس معًا، وبعد هذا المملكة الثالثة هي المقدونيين، والرابعة هي مملكة الرومان.
ثم يستمر جبرائيل في التفسير قائلاً: “قرونه العشرة هم عشرة ملوك سيقومون ويقوم بعدهم آخر الذي يفوق الشر كل سابقيه” (ليس فقط يفوق العشرة، بل كل سابقيه) ويذل ثلاثة ملوك” (راجع دا 7: 24). واضح أنه من العشرة ملوك السابقين. وإذ يذل الثلاثة يصير هو الثامن “ويتكلم بكلام ضد العليّ” (دا 7: 25). إنه يكون مجدفًا وشريرًا، لا يأخذ المملكة عن آبائه، بل يغتصبها بالسحر.
استخدام آيات وعجائب كاذبة
14- من هو هذا؟ وما هو نوع عمله؟ فسر لنا يا بولس. يقول: “الذي مجيئه بعمل الشيطان، بل بقوة وبآيات وعجائب كاذبة” (2 تس 2: 9)، مظهرًا أن الشيطان يستخدمه كأداة عاملاً في شخصه وخلاله. فإذ يعلم أن دينونته لن تتأخر بعد كثيرًا، يصنع حربًا ليس خلال وكلائه كعادته، بل يصنعها علنًا من ذلك الحين فصاعدًا، مستخدمًا “آيات وعجائب كاذبة”. لأن أب الكذب يعمل أعمال الكذب، حتى يظن الناس أنهم يرون الميت يقوم وهو لم يقم، والعرج يمشون، والعمى يبصرون مع أنهم لم يشفوا حقيقة.
يجلس في هيكل الله
15- يقول أيضًا “المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا… حتى إنه يجلس في هيكل الله”. أي هيكل هذا؟ إنه يقصد هيكل اليهود[9]. حاشا لله أن يُقصد به هيكل مما نحن فيه.
لماذا نقول هذا؟ لئلا يُظن أننا نفضل أنفسنا، فإنه متى جاء لليهود على أنه المسيح راغبًا في أن يكون موضع عبادتهم، يعطي اهتمامًا عظيمًا للهيكل لكي يخدعهم تمامًا، مدعيًا أنه من نسل داود، وأنه سيبني الهيكل الذي شيده سليمان هذا الذي متى جاء ضد المسيح لن يجد فيه حجر على حجر كما حكم بذلك مخلصنا…
إنه سيأتي “بآيات وعجائب كاذبة”، رافعًا نفسه على كل الأصنام، فيتظاهر أولاً بمحبة الإحسان، لكنه يعود فيُظهر طبعه الذي لا يعرف الرحمة، خاصة ضد قديسي الله، إذ قيل: “وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين” (دا 7: 21). وفي موضع آخر قيل: “ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت” (دا 12: 1). مرعب هو هذا الوحش، تنين عظيم لا يهزمه إنسان، مستعد للافتراس. لنا أن نتكلم عن هذا الكثير مما ورد في الكتب الإلهية، لكننا نكتفي الآن بهذا حتى لا نتعدى حدود المقال.
مدة حكمه
16- وإذ يعلم الرب شدة الضيق الذي يبثه المقاوم ضد الأبرار قال: “حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال” (مت 24: 16). أما إذا كان أحد متأكدًا أنه قوي في مقاتلة الشيطان، فليقف وليقل: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟!” (رو 8:35) ليعمل الخائفون على سلامتهم (بالهروب)، أما الذين لهم شجاعة حسنة، فليصمدوا “لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون” (مت 24: 21).
شكرًا لله الذي حّدمن عظمة هذه الضيقة في أيام قليلة إذ يقول: “ولكن لأجل المختارين تقصر تلك الأيام” (مت 24: 22). سيحكم ضد المسيح لمدة ثلاثة سنين ونصف فقط. إننا لا ننطق بهذا من كتب غير قانونية بل يقول دانيال: “ويسلمون ليده إلى زمان وزمانين ونصف زمان” (دا 7: 25). الزمان هو السنة التي يكون فيها مجيئه يتزايد، والزمانان هي سنتا الشر الباقيتان، فيكون المجموع هو ثلاث سنوات، والنصف زمان هو الستة أشهر.
إذ يقول دانيال نفس الشيء في موضع آخر: “وحلف بالحيّ إلى الأبد أنه إلى زمان وزمانين ونصف زمان” (دا 12: 7). والبعض يرجع هذا إلى ما جاء بعد ذلك “ألف ومئتان وتسعون يومًا” (دا 12:11). لهذا فلنختفِ ولنهرب، لأنه ربما “لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان” (مت 10: 23).
شهداء عصر ضد المسيح
17- من هو الإنسان المطوب الذي يشهد للمسيح بغيرة في ذلك الوقت؟ لأني أقول إن شهداء ذلك الوقت يفوقون كل الشهداء. لأن هؤلاء يصارعون ضد أناس فقط، أما أولئك الذي في وقت ضد المسيح فسيناضلون الشيطان في شخصه هو.
الملوك المضطهدون السابقون كانوا يسلمون الشهداء للموت فقط، لكنهم لم يدعوا أنهم يقيمون الموتى، ولا صنعوا آيات كاذبة وعجائب، أما في ذلك الوقت فسيكون الإغراء الشرير بواسطة التهديد كما بالخداع “حتى يضلوا لو أمكن المختارين (جدًا) أيضًا” (مت 24:24).
لا يدخل في قلب أي إنسان حيّ هذا القول: “وماذا فعل المسيح أكثر من هذا؟” لأنه بأية قوة يعمل هذا الرجل هذه الأعمال لو لم تكن هي إرادة الله لما سمح له.
يحذركم الرسول قائلاً مقدمًا: “لأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال (أي يسمح لهم بذلك)، لكي يجدوا عذرًا، ولكن “لكي يدانوا” (2 تس 2: 11، 12) ولماذا؟ يقول “الذين لم يصدقوا الحق”، أي المسيح الحقيقي، “بل سروا بالإثم”، أي بضد المسيح. لكن كما في أثناء الاضطهادات التي تحدث من حين إلى حين هكذا يسمح الله بهذه الأمور ليس لأنه محتاج إلى قوة لكي يحميهم، بل ليتوج أبطاله خلال الصبر، كما صنع أنبياؤه ورسله الذين جاهدوا لقليل حتى النهاية فيرثون ملكوت السماوات الأبدي، وكما يقول دانيال: “وفي ذلك الوقت ينجّي شعبك كل من يوجد مكتوبًا في السفر (أي سفر الحياة)، وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي. والفاهمون يضيئون كالجلد والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور” (دا 12:1-4).
احذر ضد المسيح
18- حافظ على نفسك يا إنسان، فإنه يقدم لك علامات ضد المسيح. فتذكرها لا لنفسك فحسب، بل قدمها بوضوح للجميع. إن كان لك ابن حسب الجسد انذره بهذا الآن، وإن كنت قد ولدت إنسانًا حسب الإيمان (الوعظ) فأجعله أن يحترس لئلا يقبل الكذاب على أنه الحقيقي، “لأن سر الإثم الآن يعمل” (2 تس 2: 7.).
إنني أخشى حروب الأمم هذه. إنني أخاف الانشقاقات التي في الكنيسة. إني أخشى كراهية الإخوة المنتشرة.لكن يكفي في هذا الموضوع أن يمنع الله حدوث هذا في أيامنا. لكن لنكن محترسين. وهكذا يكفي جدًا بخصوص الحديث عن ضد المسيح.
مجيء المسيح على السحاب
19- لنتطلع إلى مجيء الرب من السماء على السحاب ونترقبه، ستصوت الأبواق الملائكية، حينئذ “الأموات في المسيح سيقومون أولاً” (1 تس 4: 16). وسيُختطف الأبرار الصالحون إلى السماء لينالوا جزاء أعمالهم الصالحة أفضل من الكرامة البشرية. ولقد كتب الرسول بولس: “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً، ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب” (1 تس 4: 16، 17).
سفر الجامعة يحذرنا
20- كان مجيء الرب هذا ونهاية العالم معروفين للمبشر الذي يقول: “افرح أيها الشاب في حداثتك… فأنزع الغم من قلبك، وأبعد الشر عن جسدك… اذكر خالقك… قبل أن تأتي أيام الشر… قبل أن تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم… وتظلم النواظر من الشبابيك (مظهرًا سهولة النظر)… قبل ما ينفصم حبل الفضة (قاصدًا تجمعات النجوم التي تشبه الفضة في منظرها)، أو تنسحق زهرة الذهب (هذا الحجاب يشير إلى الشمس الذهبية لأن نبات البابونج Camomèle المعروف له أوراق كثيرة مثل الأشعة تخرج منه وتحيط به) ويستيقظون على صوت العصفور، نعم وسينظرون بعيدًا من المكان العالي وستكون مخاوف في الطريق” (راجع جا 11: 9، 10؛ 12: 4، 5).
ماذا يريدون؟ “حينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء”، وتنوح قبيلة فقبيلة (مت 24: 30؛ زك 12:2).
وماذا يحدث عند مجيء الرب؟ “ستزهر شجر اللوز، وسينمو الجندب بكثرة، وتتكاثر براعم التوت جدًا” (راجع جا 12: 5). وكما يقول المفسرون اللوزة المثمرة تدل على رحيل الشتاء، وستثمر أجسادنا بعد الشتاء بزهور سمائية “وسينمو الجندب[10] بكثرة” (وهذا يعني الروح المجنح اللابس الجسد)، وتتكاثر براعم التوت جدًا، (إذ يكون الأثمة الذين هم كالشوك قد اندثروا).
مجيء الرب من خلال الكتاب المقدس
21- ها أنت ترى كيف تنبأ جميعهم عن مجيء الرب، كيف يُعرف صوت العصفور؟ لتعرف أي صوت من الأصوات هو هذا؟ “لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس الملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء” (1 تس 4: 16). سيعلن رئيس الملائكة قائلاً: للجميع: “قوموا للقاء العريس”.
مخيف هو مجيء مخلصنا، إذ يقول داود: “يأتي إلهنا ولا يصمت، نار قدامه تأكل وحوله عاصف جدًا” (مز 50: 3 لآساف). يأتي ابن الإنسان للآب كما يقول الكتاب الذي قُرأ “على سحب السماء” وبالقرب منه “نهر نار” (دا 7:10)، لاختبار أعمال كل أحدٍ. فإن وُجدت ذهبًا تلمع، وإن كانت قشًا تحترق بالنار.
وسيجلس الآب بلباس أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي (دا 7:9). لكن هذا الحديث بلغة بشرية. لماذا قيل هذا عنه؟ لأنه يملك على الذين لم يتنجسوا بالخطية، إذ يقول: “أجعل خطاياكم بيضاء كالثلج وكالصوف” (إش 1:18) إشارة إلى الصفح عن الخطايا أو عدم السقوط في الخطية.
لكن الذي يأتي على السحاب هو نفسه الذي صعد على السحاب، إذ يقول بنفسه: “ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجدٍ عظيمٍ” (مت 24:30).
علامة الصليب في السماء
22- لكن ما هي علامة مجيئه؟ لئلا تجرؤ أية قوة مقاومة على التضليل، يقول: “حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء” (مت 24: 30). علامة المسيح الحقيقي هي الصليب. فيتقدم الملك علامة الصليب المضيئة، معلنة بوضوح ذاك الذي صُلب. حتى إذ يرى اليهود الذين طعنوه وتآمروا عليه هذه العلامة ينوحون قبيلة فقبيلة (زك 12: 12)، قائلين: هذا هو الذي ضُرب ولُكم. هذا هو الذي بُصق على وجهه. هذا هو الذي قُيِّد بالسلاسل. هذا هو الذي صُلب ولم يُبالى به.
سيقولون: أين نهرب من وجه غضبك؟ لكن جيوش الملائكة تحضرهم، فلا يستطيعون الهروب إلى أي موضع. ستكون علامة الصليب رعبًا لأعدائه وفرحًا لأصدقائه الذين آمنوا به أو كرزوا به أو تألموا من أجله. فمن هو هذا المغبوط الذي يكون صديقًا للمسيح.
ومع أن الملك عظيم وممجد جدًا، ترافقه الملائكة الحراس، شريك الآب (واحد معه) في العرش، إلاّ أنه لن يزدري بخدامه الأخصاء. ولكي لا يختلط مختاروه مع أعدائه، “يرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع رياح” (مت 25:34).
إنه لم يزدرِ بلوط الذي كان وحيدًا، فكيف يزدري بأبرار كثيرين؟! إنه يقول للذين يركبون معه مركبات السحاب وتجمعهم الملائكة: “تعالوا يا مباركي أبي!”
الديان لا يحابي الوجوه
23- لكن قد يقول أحد الحاضرين: أنا إنسان مسكين، أو قد أكون في ذلك الوقت مريضًا على الفراش، “أنا امرأة، وأُخذت إلى الطاحونة، فهل أُرفض؟!” تشجع يا إنسان، فإن الديان لا يحابي الوجوه. “لا يقضي بحسب منظر الشخص، ولا حسب كلامه” (راجع إش 11: 3). لن يكرم المتعلمين فوق البسطاء، ولا الأغنياء أكثر من المحتاجين. إن كنتم في حقل تأخذكم الملائكة. لا تظنوا أنه يأخذ أصحاب الأراضي، ويترك الحارثين. حتى وإن كنت عبدًا أو فقيرًا لا تتضايق. لقد أخذ شكل العبد (في 2: 7)، فهل يرفض العبيد؟ حتى وإن كنت راقدًا على الفراش، إذ مكتوب: “يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر” (لو 17: 34). حتى وإن كنت مظلومًا تحت إلزام، رجلاً كنت أو امرأة، مكبلاً أو جالسًا بجوار طاحونة، فإن الذي بسلطانه أن يحلّ المقيدين لن يتجاوزك. الذي عتق يوسف من العبودية وأخرجه من السجن إلى المملكة، يفديك من ضيقتك إلى ملكوت السماوات.
يليق بك أن تفرح فرحًا حسنًا، وتعمل وتجاهد بغيرة، فإنك لن تفقد شيئًا من جهادك. كل صلاة هي لك. كل مزمور تتغنى به يُسجل لك. العفة من أجل الله تُحسب لك.
توهب الأكاليل الأولى للبتولية والطهارة فتضيء كالملاك.
وكما سمعتم بفرح عن الأمور الصالحة، اسمعوا أيضًا بغير تبرمٍ عن العكس. كل طمعٍ يُسجل عليكم، كل زنى، كل قسمٍ كاذبٍ، كل تجديفٍ وشعوذةٍ وسرقةٍ وقتلٍ، هذه جميعها تُسجل من الآن عليكم، إن فعلتم إياها بعد العماد كما كنتم قبله، لأن الخطايا السابقة قد مُحيت.
ستُدان أمام كل البشرية
24- يقول “متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه”. يا إنسان، أمام كم من الجموع تُدان. سيحضر كل أجناس البشرية. أحص عدد أفراد الأمة الرومانية، والقبائل البربرية الموجودة اليوم، والذين انتقلوا من مئات السنين الماضية من آدم إلى يومنا هذا. حقًا إنه لجمع عظيم، إلا أنهم قليلون إن قورنوا بالملائكة الذين هم أكثر بكثير، إذ هم التسعة والتسعون خروفًا والبشرية هي الخروف الواحد (لو 15:4؛ مت 18:12)… مكتوب: “ألوف ألوف تخدمه، وربوات وقوف قدامه” (دا 17: 10) ليس لأنه هكذا هي عظمة العدد بل لم يستطع أن يعبر أكثر من هذا. هكذا سيكون حاضرًا في يوم الدينونة الله أب الجميع، ويسوع المسيح جالسًا معه، والروح القدس حالاً، وسيجمعنا كلنا بوق ملائكي لنحضر أعمالنا معنا.
أما يليق بنا الآن أن نهتم بالأمر… لا تظنه أمرًا هينًا يا إنسان في العقاب أن يكون الحكم أمام جمع عظيم هكذا. أما تختار الموت دفعات كثيرة أفضل من أن تُحاكم في حضرة الأصدقاء؟!
ضمائركم تدينكم
25- لنرتع يا إخوة لئلا يديننا الله الذي لا يحتاج إلى فحصٍ ولا إلى أدلةٍ في المحاكمة. لا تقل إنني صنعت الفسق أو أعمال السحر أو شيئًا آخر في الليل ولم يكن معي أحد. فإن ضمائركم تدينكم، “وأفكاركم فيما بينها مشتكية أو محتجة في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس” (رو 2: 15، 16).
إن منظر الديان الرهيب يدفعكم أن تنطقوا بالحق، وإن لم تتكلموا، فإن أعمالكم نفسها تستذنبكم، إذ تقومون وأنتم لابسين أعمالكم الشريرة أو الصالحة.
وهذه يعلنها الديان نفسه، إذ المسيح هو الذي يدين. “لأن الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن” (يو 5: 22)، دون أن يتجرد الآب من سلطانه، بل يدين خلال الابن. فالابن يدين بإرادة الآب، إذ إرادة الآب والابن واحدة بذاتها ليس فيها اختلاف.
إذن ماذا يقول الديان بخصوص أعمالك؟ “ويجتمع أمامه كل الشعوب لأنه في حضرة المسيح، “تجثو كل ركبة مما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض” (في 2: 10). فيميز بعضهم من بعض “كما يميز الراعي الخراف من الجداء” (مت 25: 22). هل يقوم الراعي بالتميز بينهما؟ هل يفحص من هو خروف ومن هو جدي من كتاب؟ أو هل يميزهم بعلامات خاصة؟
أليس الصوف يظهر الخروف بينما الجلد الخشن المشعر يظهر الجدي؟! هكذا إذا تطهرتم من خطاياكم الآن تكون أعمالكم كالصوف النقي، ويبقى ثوبكم بلا دنس، وتقولون إلى الأبد: “خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!”[11] من منظركم تُُعرفون أنكم خراف. أما إن وجدتم كعيسو لكم شعر خشن وعقل شرير، الذي خسر بكوريته بأكلة، وباع امتيازه، حينئذ تكونون من الذين عن اليسار. ليحفظ الله كل الحاضرين هنا من أن يُلقى أحدنا بعيدًا عن النعمة أو يوجد بين صفوف الأشرار الذين عن اليسار بسبب شرهم.
مخيفة هي الدينونة
26- بالحق مخيفة هي الدينونة ومرعبة هي تلك الأمور المعلنة! ملكوت السماوات موضوع أمامنا والنار الأبدية معدة! قد يقول قائل: كيف أهرب من النار؟ كيف أدخل ملكوت السماوات؟ يقول (الرب) “جعت فأطعمتموني”. من هنا نتعلم الطريق. هنا لا توجد استعارة بل لتتمم ما قيل: “جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني، محبوسًا فأتيتم إليّ” (مت 25:35). هذه الأمور إن فعلتموها تدينون معه، وإن لم تفعلوها تُدانون.
ابدأ فورًا بعملها، ولتثبت في الإيمان، لئلا تكون مثل العذارى الجاهلات اللواتي إذ أبطأن في شراء الزيت أُغلق عليهن. لا تطمئن لمجرد امتلاكك المصباح، بل ليكن المصباح مشتعلاً، ليضيء نور أعمالكم الصالحة أمام الناس (مت 5: 16). لا تجعلوا اسم المسيح يُجدف عليه بسببكم. البسوا ثوب عدم الفساد المتألق بالأعمال الصالحة.
ما يوكِّلك الله عليه تاجر فيه بربح! هل استؤمنت على ثروات؟ وزعها حسنًا!
هل استؤمنت على كلمة تعليم؟ كن وكيلاً صالحًا.
هل تستطيع أن تصل إلى أرواح السامعين؟ اصنع هذا باجتهاد.
توجد أبواب كثيرة للوكالة الصالحة. ليته لا يُدان أحد منا ويطرد خارجًا حتى نستطيع أن نقابل المسيح الملك الأبدي بدالةٍ، هذا الذي يحكم إلى الأبد، هذا الذي يدين الأحياء والأموات، إذ مات من أجل الأحياء والأموات. وكما يقول بولس: “لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش، لكي يسود على الأحياء والأموات” (رو 14: 9).
ابغضوا الهراطقة المزدرين بالمسيح
27- يلزمكم ألاّ تنصتوا لمن يقول إن ملكوت السماوات له نهاية. ابغضوا الهرطقة. إنه رأس جديد للتنين ظهر أخيرًا في غلاطية. لقد تجاسر واحد أن يقول إنه بعد نهاية هذا العالم لن يحكم المسيح بعد. لقد تجرأ فقال إن الكلمة الذي من الآب يرجع إلى الآب مرة أخرى ولا يكون بعد.
إنه ينطق بهذه التجاديف لهلاكه، إذ لم يسمع للرب القائل: “الابن يبقى إلى الأبد” (راجع يو 8: 25). ولا سمع لجبرائيل القائل: “ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكة نهاية” (لو 1: 33). تأملوا هذه العبارة، فإن هراطقة هذه الأيام يعلمون مزدرين بالمسيح، بينما رئيس الملائكة جبرائيل يعلمنا سرمدية المخلص، فمن منهما يليق بنا أن نصدق؟!
اسمعوا شهادة دانيال في العبارة: “كنتُ أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان آتى وجاء إلى قديم الأيام… فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي، لن يزول، وملكوته لا ينقرض” (دا 7: 13، 14).
تمسكوا بهذه الأمور. صدقوها واطرحوا عنكم كلمات الهراطقة، لأنكم سمعتم بأكثر وضوح عن مملكة المسيح اللانهائية.
الكتاب المقدس يعلن عن أبدية ملكوت المسيح
28- هذا التعليم نجده أيضًا في تفسير “الحجر الذي قُطع من جبل بغير يدين” (دا 20: 45)، الذي هو “المسيح حسب الجسد” (رو 9: 5). “ولا تترك مملكته لشعب آخر”. ويقول داود أيضًا “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور” (مز 14: 6). وفي موضع آخر يقول: “أنت يا الله في البدء أسست الأرض… هي تبيد وأنت تبقى… وأنت هو وسُنوك لن تنتهي”. هذه الكلمات التي فسرها بولس أنها عن الابن.
يملك حتى بعد أن يضع جميع الأعداء تحت قدميه
29- أتريد أن تعرف كيف أسرع الذين يعلِّمون تعليمًا مناقضًا إلى جنون كهذا؟! إنهم يقرأون خطأ كلمة الرسول الحسنة: “لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه” (1 كو 15: 25)، فيقولون إنه حين يُوضع أعداؤه تحت قدميه حينئذ يكف عن الحكم. هذا الادعاء خاطئ ومملوء حماقة، لأنه إن كان يملك قبل أن يخضع له أعداؤه فكيف بالأحرى يكون ملكًا بعدما يتسلط عليهم؟!
خضوعه بالحب للآب
30- لقد تجاسروا أيضًا فقالوا إن الكتاب المقدس في قوله “ومتى أُخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه أيضًا سيَخضع للذي أُخضع له الكل” (1 كو 15:28). يقصد أن الابن ينتهي ويُمتص في الآب. هل أنتم تبقون يا من أنتم خليقة المسيح، يا من أنتم أشد الناس كفرًا، بينما يفنى المسيح خالقكم وصانع كل الخليقة؟ إنه تجديف، إذ كيف تخضع له الخليقة، أبِفنائها أم بقائها؟ هل تخضع له الأشياء الأخرى ببقائها وإذ يخضع هو للآب يفنى ويزول؟! إنه سيخضع له لا لكي يبتدئ يصنع إرادة الآب (إذ هو منذ الأزل يعمل الأعمال التي تسره) (يو 8: 29)، ولكنه كما كان أيضًا يطيع الآب ليس كرهًا بل طوعًا، إذ أنه ليس خادمًا يخضع بالقوة، بل ابن يطيع باختياره الحر بالحب الطبيعي!
معنى “حتى”
31- لنفحص ما معنى “حتى” (في العبارة السابقة). فبهذه الكلمة عينها اقترب إليهم وأظهر خطأهم، إذ تجاسروا قائلين إن العبارة “حتى يضع أعداءه تحت قدميه” تُعلن أنه هو نفسه له نهاية. لنفترض أن ملكوت المسيح الأبدي له حدود وسلطانه غير المنتهى له نهاية، تعالوا إذن لنقرأ العبارات المماثلة في كتابات الرسول: “لكن قد ملك الموت من آدم حتى موسى” (رو 5:14). هل معنى هذا أن الناس كانوا يموتون قبل ذلك، ولكن بعد موسى لم يمت أحد البتة؟! أو هل لا يكون موت بعد الناموس؟! حسنًا، هل أنت ترى أن كلمة “حتى” هنا لا تحدد الوقت…
معنى “حتى” (يتبع)
32- خذ أيضًا عبارة مشابهة. “لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق” (2 كو 2: 14، 15). فهل عبارة “حتى اليوم” تعني أنه إلى أيام بولس الرسول (فقط)؟ ألا تعني أنها إلى يومنا هذا، بل وتبقى إلى النهاية. وإذ قال بولس لأهل كورنثوس: “إذ قد وصلنا حتى إليكم أيضًا في إنجيل المسيح، راجين إذا نما إيمانكم لنبشر إلى ما وراءكم” (2 كو 10:14، 15، 16) فإنه من الواضح أن كلمة “حتى” لا تعني النهاية بل الاستمرار.
إذًا بأي معنى تفهم العبارة “حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه”؟ إنه كما يقول بولس في موضع آخر “عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يدعى اليوم” (عب 2: 13)، فإنه يعنى الاستمرار…
خاتمة
33- وبالرغم من وجود شهادات كثيرة في الكتاب المقدس تعلن أن ملكوت المسيح أبدي لا نهاية له، إلاّ أنني اكتفى الآن بما سبق ذكره، إذ قد تأخر النهار. أما أنت أيها المستمع فأعبده هو فقط كملكٍ لك، واهرب من أخطاء الهراطقة. وإذا سمحت لي نعمة ربنا فسأفسر لك بقية عبارات قانون الإيمان في فسَحة من الوقت.
ليحفظكم جميعًا إله كل العالم في أمان، متذكرين علامات المنتهى، غير خاضعين لضد المسيح. لقد عرفتم كل علامات المُخادع المزمع أن يأتي. لقد عرفتم علامات المسيح الحقيقي الذي يأتي بوضوح من السماء. فاهربوا من الأول الكذاب، وانتظروا الآخر الحقيقي.
لقد تعلمتم الطريق حتى تكونوا من أصحاب اليمين في الدينونة.
احفظوا الوديعة التي للمسيح. كونوا صاحين في الأعمال الصالحة حتى يمكنكم أن تقفوا بيقينٍ حسن أمام الديان – وترثوا ملكوت السماوات – الذي خلاله وله المجد مع الآب والروح القدس إلى أبد الأبد. آمين.
________________________________________
[1] ربما اقتبس القديس كيرلس المقارنة بين المجيئين عن الشهيد يوستينوس (دفاعه 1: 52؛ مع تريفو 110). أنظر أيضًا ترتليان (ضد اليهود 14) وهيبوليتس (ضد المسيح 44).
[2] إننا ننتظر سماءً جديدة وأرضًا جديدة ليست من المادة التي نراها، لكنها تليق بالجسد الروحاني الذي نلبسه والخلود مع الله بلا شمس ولا كواكب ولا مزروعات الخ، بل حياة سماوية، مجازًا نسميها أرضًا جديدة.
[3] إش 34: 4 “تلتف السماوات كدرج وكل جندها ينتثر كانتثار الورق من الكرمة والساقط من التين”.
[4] مقال 6: 14، 16.
[5] 24: 6. الحرب مع سابور الثاني ملك الفرس التي اشتعلت بعد موت قسطنطين مباشرة، واستمرت طوال حكم قسطنطيوس… وقد قامت معركة ستغارا العظيمة سنة 348م.
[6] لو 21: 11 يذكر جيروم في Chronicon حدوث زلزلة سنة 346م على أثرها خربت Dyrrachium وروما ومدن كثيرة في إيطاليا أصابها ضرر.
[7]عاصر القديس كيرلس الحروب التي أثارها الأريوسيون داخل الكنيسة… ومما سببوه من انقسامات ومشاحنات ومتاعب.
[8] دا 7: 23 “مخالفة لسائر الممالك”
[9] لا يعنى هذا أن هيكل اليهود حتمًا سيُبنى، لكن المسيح الكذاب يخدعهم ويثير اليهود الأشرار لبناء الهيكل القديم ليتربع فيه كإله يتعبدون له… إنما سيأتي ويكون الهيكل خرابًا كما أعلن السيد المسيح بخرابه.
[10] نوع من الجراد.
[11] نش 5: 3 كثيرًا ما يستخدم القديس كيرلس هذه العبارة في هذا المعنى… خلع ثوب الدنس، وهذه بغير ما جاءت في الكتاب المقدس كما نلاحظ ذلك بقراءة الأصحاح كله
المقال السادس عشر: الروح القدس الواحد المعزي، الذي تحدث في الأنبياء
“وأما من جهة المواهب الروحية أيها الاخوة، فلست أريد أن تجهلوا… فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح الواحد”(1 كو 12: 1، 4).
الحديث عن الروح القدس أمر مخيف
1- بالحقيقة إننا نحتاج إلى نعمة الروحانية لكي نتحدث عن الروح القدس، لا لكي نفي الموضوع حقه، فإن هذا مستحيل، بل حتى إذا ما تحدثنا بكلمات الكتاب المقدس نكمل مقالنا بغير خطرٍ. لأنه بالحقيقة أمر مخيف ما جاء في الأناجيل أن المخلص تحدث بوضوح قائلاً: “من قال كلمة على الروح القدس، فلن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 32).
يسود الخوف من أن يسقط أحد تحت هذا الحكم، إن تحدث بما لا يليق بخصوص الروح عن جهل أو وقار مزعوم. إن ديان الأحياء والأموات – يسوع المسيح – قد أوضح أنه ليس عنده غفران، لذلك فمن يخطئ أي رجاء يكون له؟!
حاجتنا إلى نعمة يسوع المسيح نفسه
2- إذن يليق بنا أن تعمل فينا نعمة يسوع المسيح نفسه حتى لا ننطق بعيب. كما يجب عليكم أن تسمعوا بتمييز، لأن التمييز لازم ليس فقط للمتكلين، بل وللسامعين أيضًا، لئلا يسمعوا شيئًا ويفهمون شيئًا آخر خطأ.
إننا لا نتكلم عن الروح القدس إلاّ بما هو مكتوب، وأما ما هو غير مكتوب فلا ننشغل به. الروح القدس نفسه تكلم في الكتب. وقد تكلم عن نفسه قدر مسرته أو قدر استطاعتنا في الأخذ. لنتكلم بما قالته الكتب، أما ما لم تقله، فلا نجسر أن نقوله.
روح قدس واحد
3- يوجد روح قدس واحد وحيد، المعزي. وكما يوجد الله الآب واحد وليس أب آخر، وكما يوجد ابن واحد وحيد كلمة الله الذي ليس له أخ، هكذا يوجد روح قدس واحد وليس هناك ثان مساوٍ له في الكرامة.
الروح القدس قوة غاية القدرة، (أقنوم)[1] إلهي لا يُستقصى، فهو حيّ عاقل. مقدس كل ما خلقه الله خلال الابن. إنه ينير أرواح الأبرار. كان في الأنبياء وفي رسل العهد الجديد. ممقوتون هم الذين يفصلون عمل الروح القدس (في العهدين)!
إنه يوجد الله واحد، الآب رب العهد القديم والجديد، ورب واحد يسوع المسيح الذي تنبأ عنه العهد القديم، وجاء في العهد الجديد، وروح قدس واحد كرز بالمسيح خلال الأنبياء، وحينما جاء المسيح نزل وأعلنه!
كنيسة الجلجثة أفضل للتحدث عن الروح القدس
4- ليته لا يفصل أحد بين العهد القديم والعهد الجديد. لا تسمحوا لأحد أن يقول أن الروح القدس في الماضي شيء، وفي الحاضر شيء آخر، لأنه بهذا يخطئ إلى الروح القدس ذاته، الذي يُكرَّم مع الآب والابن، ويُذكر كأحد الثالوث القدوس عند العماد المقدس. إذ قال ابن الله الوحيد للرسل بوضوح: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن، والروح القدس” (مت 28: 19). رجاؤنا هو في الآب والابن والروح القدس.
نحن لا نكرز بثلاثة آلهة.
ليبكم أتباع مرقيون، فإننا نكرز بالروح القدس خلال ابن وحيد، نكرز بالله الواحد.
الإيمان غير منقسم، والعبادة غير منفصلة. نحن لا نفصل الثالوث القدوس كالبعض، ولا نعمل مثل سابيليوس تشويشًا، لكننا بحسب التقوى نعرف أبًا واحدًا أرسل ابنه ليخلصنا. نعرف ابنًا واحدًا وعد أن يرسل لنا المعزي من عند الآب. نعرف الروح القدس تكلم في الأنبياء، وحلّ على الرسل في يوم البنطقستي على شكل ألسنة نار، هنا في أورشليم في كنيسة الرسل العليا، إذ لنا في كل شيءٍ امتيازات عظمى مختارة.
هنا جاء المسيح من السماء، وهنا حلّ الروح القدس على الرسل، وبالحق كان لائقًا جدًا أن نعظ هنا عن المسيح والجلجثة في الجلجثة، وكان يليق أن نتحدث عن الروح القدس في الكنيسة العليا (التي حلّ فيها الروح على التلاميذ).
ومع ذلك فإذ يشترك الذي حلّ هناك، فيمجد ذاك الذي صلب هنا. فإننا هنا أيضًا (في كنيسة الجلجثة) نتحدث عن ذاك الذي حلّ هناك، لأن عبادتهما غير منفصلة.
البدع ضد الروح القدس
5- نتكلم الآن عن بعض الأمور الخاصة بالروح القدس، لا لنوضح طبيعته كما هي، هذا مستحيل، وإنما نتحدث عن أخطاء البعض بخصوصه، حتى لا نسقط فيها عن جهلٍ، ولكي نغلق طريق الخطأ، فنسير في الطريق الملوكي. فإن كررنا بعض عبارات الهراطقة بقصد الحذر، فإن أقوالهم ترتد على رؤوسهم، ولا نكون نحن الذين نتكلم أو أنتم الذين تسمعون مخطئين.
سيمون الساحر والغنوصيون
6- لأن الهراطقة، الذين هم أنجس من كل شيء قد سنوا ألسنتهم (مز 140: 3) ضد الروح القدس أيضًا، إذ تجاسروا ونطقوا بأشياء مملوءة نفاقًا كما كتب إيريناؤس المفسر في توصياته ضد الهراطقة. إذ تجاسر البعض فادعوا أنهم هم أنفسهم الروح القدس. من هؤلاء سيمون الساحر المذكور في سفر الأعمال، لأنه حين طُرد أخذ ينادي بهذه التعاليم.
وأيضًا الغنوصيون أناس منافقون تكلموا بأشياء أخرى على الروح، وأتباع فالنتيان الأشرار يقولون بأشياء أخرى، وأيضًا ماني النجس تجرأ وقال إنه البارقليط المرسل من المسيح.
آخرون ادعوا أن الروح في الأنبياء يختلف عنه في العهد الجديد. حقًا إن خطأهم أو تجديفهم عظيم. لذلك أمقتوا هؤلاء، واهربوا من المجدفين على الروح القدس، الذين ليس لهم غفران. لأنه أية صداقة تكون لكم مع من لا رجاء فيهم، يا من ستتعمدون من الروح القدس؟! إن كان من يلتصق بلصٍ ويوافقه يتعرض للعقوبة، فأي رجاء لمن يخطئ ضد الروح القدس؟!
أتباع مرقيون
7- لتمقتوا أيضًا أتباع مرقيون الذين يفصلون بين أقوال العهد القديم والعهد الجديد، لأن مرقيون أعظم المنافقين زعم أولاً وجود ثلاثة آلهة، وإذ عرف أن في العهد الجديد شهادات الأنبياء عن المسيح ترك الشهادات المأخوذة من العهد القديم حتى ترك الملك (المسيح) بغير شهادة. امقتوا الغنوصيين السابق ذكرهم، الذين يدعون العلم وهم مملوؤون جهلاً، إذ تجاسروا وقالوا أشياء كهذه ضد الروح القدس لا أجسر أن أكررها.
أتباع فيريجيان مونتانيوس
8- لتبغضوا الكاتفرجيانس[2] ورئيس عصابتهم في الشر “مونتانيوس” وابنتيه المزعومتين ماكسيمالا وبرلسكيلا. لأن مونتانيوس هذا الذي فقد عقله كان مجنونًا بحق… إذ تجاسر وادعى أنه هو نفسه الروح القدس. ذاك الرجل البائس، المملوء من كل نجاسة ودعارة، لأنه يكفي التلميح إلى هذا من أجل النسوة الحاضرات (إذ لا يليق ذكر فضائحه أمامهن). فإذ امتلك ببيوزا Pepuzaالقرية الصغيرة جدًا في فريجيا دعاها كذبًا بـ”أورشليم”، وكان يقطع حناجر الأطفال الصغار البائسين ويقدمها كطعامٍ دنسٍ لما يسمونه “أسرار”… ومع كل هذا تجرأ ودعا نفسه الروح القدس، هذا الذي كان مملوء نفاقًا وقسوة بلا إنسانية وهو مدان بحكمٍ لا ينُقض.
ماني
9- وكما سبق أن قلنا إنه قد تلاه “ماني” الكافر، هذا الذي جمع كل شرور الهرطقات. هذا الذي يمثل هوة الدمار الدنيئة، جامعًا مبادئ كل الهراطقة، وعمل وعلَّم بأخطاء جديدة، وقد تجاسر ودعا نفسه “المعزي” الذي وعد المسيح أن يرسله. لكن المسيح حين وعد الرسل قال لهم: “فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي” (لو 24:49). هل يتجاسر أحد فيقول إنهم لم يمتلئوا على الفور من الروح القدس؟ بل أكثر من هذا مكتوب “حينئذ وضعا الأيادي عليهم، فقبلوا الروح القدس” (أع 8: 17). ألم يكن هذا قبل مجيء “ماني”؟ نعم قبله بمئات السنين حين نزل الروح القدس في يوم البنطقستي!
سيمون الساحر
10- لماذا دُين سيمون الساحر؟ أليس لأنه أتى للرسل قائلاً: “أعطياني أنا أيضًا هذا السلطان حتى أي من وضعت عليه يديّ يقبل الروح القدس؟!” (أع 8: 19) لأنه لم يقل “أعطياني أنا أيضًا شركة الروح القدس” بل “هذا السلطان” هل يمكن بيع ما لا يمكن بيعه… لقد قدم مالاً لمن ليس لهم مقتنيات، مع أنه رأى الناس يقدمون ثمن الأشياء المباعة، ويضعونها عند أرجل الرسل، إذ لم يأخذ في اعتباره أن هؤلاء الذين وطأوا تحت أقدامهم الثروة المقدمة لإعالة الفقراء ما كان محتملاً أن يعطوا قوة الروح القدس بالرشوة.
لكن ماذا قالوا لسيمون؟ “لتكن فضتك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تقتني موهبة الله بدراهم” (أع 8: 20)، لأنك صرت يهوذا الثاني، إذ ظننت أن تشتري نعمة الروح بالفضة. فإن كان سيمون يهلك لأنه رغب في أخذ القوة بثمن، فماذا يكون فجور ماني الذي ادعى أنه الروح القدس؟!
لنكره هؤلاء (الهراطقة) المستحقين للكراهية، ولنبتعد عن هؤلاء الذين يبتعد الرب عنهم، ولنقل نحن أيضًا بكل شجاعةٍ إلى الله عن الهراطقة، “ألاّ أبغض مبغضيك يا رب وأمقت مقاوميك؟!” (مز 139:21) لأنه توجد عداوة حقة،إذ مكتوب “سأضع عداوة بينك وبين نسلها” (تك 3: 15)، لأن الصداقة مع الحيّة تصنع عداوة مع الله وتوجد موتًا!
لنرجع إلى الأسفار المقدسة
11- يكفينا هذا بخصوص الخارجين، ولنرجع إلى الأسفار المقدسة لنشرب مياها من أحواضنا ومن آبارنا النابعة (راجع أم 5: 15). لنشرب من مياه حيَّة تنبع إلى حياة أبدية (راجع يو 4: 14). إذ قال المخلص “هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 38، 39). لاحظوا ماذا قال، “الذي يؤمن بي كما قال الكتاب (مرجعًا إياكم إلى العهد القديم) تجري من بطنه أنهار ماء حي”. ليست أنهارًا تُلمس بالحواس، وتروي الأرض بأشواكها وأشجارها، بل أيضًا تُحضر الأرواح إلى النور.وفي موضع آخر يقول: “الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية”، نوع جديد من الماء، ماء حيّ، ينبع للمستحقين.
الماء كرمزٍ للروح القدس
12- ولماذا دعا نعمة الروح ماءً؟ لأن كل الأشياء تقوم على المياه. فبالماء ينبت العشب وكل حيّ. لأن مياه الأمطار تأتي من السماء، تنزل مادة واحدة، لكنها تصير في أشكالٍ كثيرةٍ. عين واحدة تروي كل الفردوس، ومطر واحد ينزل على العالم كله، لكنه يصير أبيض في السوسن، وأحمر في الورود، وأرجوانيًا في الزهور… ويتعدد في أنواع مختلفة… ومع ذلك فطبيعته واحدة، غير مختلفٍ في ذاته، إذ لا يتغير، فيسقط تارة في شكلٍ، ومرة أخرى في مادة أخرى، إنما هو يشكل نفسه حسب تركيب الشيء الذي يستقبله، فيصبح لكل شيء حسبما يتلاءم معه. هكذا الروح القدس هو واحد، طبيعته واحدة لا تتغير لكنه يقسم لكل واحد نعمته كما يريد!
وكما أن الشجرة الجافة بعدما ترتوي بالماء تصنع فروعًا، هكذا أيضًا النفس في الخطية إذ بالتوبة تتأهل للروح القدس تنبت عناقيد البرّ. ومع أنه واحد في طبيعته، لكن الفضائل التي تنشأ بإرادة الله في اسم المسيح عديدة، فيؤهل لسان إنسان للحكمة، ويضيء نفس آخر بالتنبؤ، ويعطي آخر سلطانًا لإخراج الشيطان، وآخر يهبه أن يفسر الأسفار المقدسة. ويقوي ضبط النفس في إنسانٍ، ويعلم آخر طريق تقديم الصدقات، وآخر يعلمه الصوم وقمع نفسه، وآخر يعلمه احتقار الجسديات، ويهيئ آخر للاستشهاد. إنه متعدد في أناسٍ مختلفين، أما هو فلن يتغير. وكما هو مكتوب: “ولكن لكل واحدٍ يعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنه لواحدٍ يعطي بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الأرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولآخر ترجمة ألسنة، ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحدٍ بمفرده كما يشاء” (1 كو 12:7-11).
كلمة “روح” في الكتاب المقدس
13- وإذ جاءت كلمة “روح” عامة في الكتاب المقدس تحمل معان كثيرة، فهناك خوف من أن يسقط أحد في تشويش عن جهل، غير مدركٍ، أي روح هو المقصود به.من أجل هذا يليق بنا الآن أن نحدد لكم كيف يوضح الكتاب المقدس “الروح القدس”.
لأنه كما أن هرون يدعى مسيحًا، وهكذا داود وشاول وآخرون، ومع ذلك يوجد مسيح حقيقي واحد، هكذا كما أن اسم” الروح” يدعى به أشياء كثيرة، فبالحق يلزمنا أن نعرف أي منها يدعى على وجه التحديد “الروح القدس”.
فهناك أشياء كثيرة تدعى أرواح: فالملاك يدعى روحًا، والنفس تدعى روحًا، والريح الذي يهب يدعى روحًا، والفضيلة العظيمة تدعى روحًا، والعادة النجسة تدعى روحًا، والشيطان مقاومنا يدعى روحًا. لهذا كونوا حذرين عند سماعكم هذه الكلمات لئلا يختلط معنى في الآخر، لأن أسماءهم جميعًا مشتركة.
فبخصوص نفوسنا يقول الكتاب: “تخرج روحه فيعود إلى ترابه” (مز 146:4). ويقول ثانية عن نفس الروح: “وجابل روح الإنسان في داخله” (زك 12:1). وعن الملائكة يقول في سفر المزامير: “الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار” (مز 104:4). وعن الرياح يقول: “وروح عاصف بها تكسر سفن ترشيش” (مز 48:7)، وأيضًا “النار والبرد والضباب والروح العاصف” (إش 12: 2). وعن التعليم الصالح يقول الرب نفسه: “الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة” (يو 6: 63) بدلاً من أن يقول “هو روحي”. أما الروح القدس فلا ينطق به اللسان، إنما هو روح حيّ يهب الحكمة في الكلام متحدثًا وواعظًا بنفسه.
الروح القدس يتكلم ويقود ويرسل بسلطان
14- أتريد أن تعرف كيف يعظ الروح القدس ويتكلم؟ لقد نزل فيلبس بإعلان من الملاك إلى الطريق المؤدي إلى غزة حيث كان الخصيّ آتيًا، فقال الروح لفيلبس: “تقدم ورافق المركبة” (أع 8: 29). انظروا هنا إلى الروح فإنه يكلم واحدًا فيسمعه! أيضًا يقول حزقيال: “وحل على روح الرب وقال لي هكذا قال الرب” (حز 11: 5). وأيضًا “قال الروح القدس” للرسل الذين في أنطاكية: “افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه” (أع 13: 2). انظر كيف أنه الروح الحي يفرز ويدعو ويرسل بسلطان!
بولس أيضًا قال: “غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً: إن وثقًا وشدائد تنتظرني” (أع 20:23). فإنه مقدس الكنيسة ومعينها، معلمها الروح القدس المعزي، الذي قال عنه المخلص: “سيعلمكم كل شيءٍ” (ولم يقل فقط “سيعلمكم كل شيء” بل قال: “وسيذكركم بكل ما قلته لكم”، لأن تعاليم المخلص هي تعاليم الروح القدس بذاتها).
أقول إنه شهد لبولس مقدمًا عما سيصيبه حتى يتقوى قلبه أكثر.
أما الآن فقد كلمتكم بهذه الأمور بسبب العبارة “الكلام الذي أكلمكم به هو روح” حتى يمكنكم أن تفهموا هذا لا بكلام الشفتين، بل تفهموا التعاليم الصالحة التي لهذه العبارة.
الروح بمعنى مضاد
15- ولكن الخطية أيضًا تسمى روحًا، كما قلت، إنما بمعنى آخر مضاد. فمثلاً يُقال “روح الزنى أضلهم” (هو 4:12). كذلك اسم “روح” يطلق على الروح النجس “الشيطان” بإضافة كلمة “النجس”. إذا يليق بالاسم ما يميزه ويجدد طبيعته. فحينما يتكلم الكتاب عن روح الإنسان يضيف كلمة “الإنسان” إلى “روح”. وإذ قصد الرياح يقول “روح عاصف”. وإذا قصد الخطية يقول “روح الزنى”. وإذا قصد الشيطان يقول “الروح النجس”. وبهذا تعرف الروح الذي يتكلم عنه، وحتى لا تظنوا أنه يتكلم عن الروح القدس. حاشا لأن اسم “روح مشترك” في أمور كثيرة.
على أي الأحوال كل شيءٍ ليس له جسم يدعى على وجه العموم “روحًا”. فإذ لا تحمل الشياطين ذلك الجسم تُدعى أرواحًا. لكن هناك اختلاف عظيم، لأنه حين يدخل روح نجس إنسانًا (ليحفظ الله السامعين وغير الحاضرين أيضًا)، فإنه يأتي كذئبٍ يهجم على خروفٍ، متعطشًا إلى الدماء، ومتأهبًا للإهلاك. مجيئه قاس للغاية، أحاسيسه عنيفة جدًا، يظلم الذهن، هجومهم مملوء ظلمًا، يغتصب ممتلكات الغير، ويستغل بالقوة جسم شخص آخر وإمكانياته كما لو كانت له، فيسقط القائمين (إذ هو منتسب للذين سقطوا من السماء) (لو 10:18)، ويملأ الإنسان ظلامًا فتكون عينا الإنسان مفتوحتين ولكنه لا يرى. يدفع بهذا الإنسان إلى حافة الموت. حقًا إن الشياطين أعداء للناس إذ يستخدمونهم بحماقة بغير رحمة.
الروح القدس والروح النجس
16- مثل هذا ليس الروح القدس، حاشا! إذ أعماله عكس ذلك، فهو يعمل كل شيءٍ للخير وللخلاص. مجيئه لطيف، وحمله خفيف، يضيء عند قدومه أشعة نور المعرفة.
يأتي بأحشاء حب حقيقي، إذ يأتي ليخلص ويشفي ويعلم وينذر ويقويّ ويحذر ويضيء العقل. يضيء أولاً العقل الذي يقبله، ثم بعد ذلك عقول الآخرين خلاله.
وكما أن الرجل الذي يكون في ظلام ثم ينظر الشمس فجأة تستضيء بصيرته الجسدية ويرى بوضوح أمورًا لم يكن يراها من قبل، هكذا أيضًا من يُمنح له الروح القدس تستضيء روحه ويرى أمورًا فوق مرأى الإنسان، لم يكن يعرفها بجسده على الأرض، لكن تنظر روحه إلى السماوات. يرى مثل إشعياء “السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع” (إش 6: 1). ومثل حزقيال يرى “الذي على رأس الكاروبيم” (حز 10: 1)، ومثل دانيال يرى “ربوات ربوات وألوف ألوف” (دا 12: 10).
والإنسان الذي هو صغير جدًا يرى بداية العالم ويعرف نهاية العالم والأوقات التي بينهما، ويرى تسلسل الملوك، أمور لم يتعلمها قط، إنما المنير الحقيقي حاضر معه.
يكون في داخل أسوار بيته، لكن قوة معرفته تصل إلى بعيد، فيرى ما يصنعه الآخرون.
أمثلة
17- لم يكن بطرس حاضرًا مع حنانيا وسفيرة حين باعا ممتلكاتهما، لكنه كان حاضرًا بالروح، إذ يقول: “لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس؟” (أع 5:3) لم يكن بينهما، ولا شاهدهما، لكنه عرف ما قد حدث. “أليس وهو باقٍ كان يبقى لك. ولما بيع ألم يكن في سلطانك. فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر؟!” (أع 5:4) بطرس عديم العلم (أع 4: 13) عرف خلال نعمة الروح القدس ما لم يعرفه حكماء اليونان.
كذلك أيضًا إليشع حين شفى برص نعمان مجانًا أخذ جيحزي المكافأة، أخذ مكافأة عمل آخر. أخذ المال من نعمان، وأخفاه في الظلام، لكن الظلام غير مخفيٍ عن القديسين (مز 139: 12). فلما أتى سأله إليشع، وقال له كما قال بطرس: “قولي لي أبهذا المقدار بعتما الحقل”؟! هكذا تساءل إليشع: من أين أتيت يا جحيزي؟ لم يسأله عن جهل، لكنه في أسفٍ يسأله: “من أين أتيت” (2 مل 5: 25)، من الظلام أتيت، وإلى الظلام تذهب. لقد بعت شفاء الأبرص، يكون البرص ميراثك. كأن إليشع يقول إنني نفذت أمر القائل: “مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا” (مت 10: 8)، لكن أنت بعت هذه النعمة (المجانية). يقول إليشع: “ألم يذهب قلبي معك؟” (2 مل5: 26) لقد كنت هنا محصورًا بالجسد، لكن الروح الذي أعطاني الرب رأى الأمور البعيدة، وكشف لي بوضوح ما كان يحدث في موضع آخر.
انظروا كيف أن الروح القدس ليس فقط ينزع الجهل، بل ويهب المعرفة؟! انظروا كيف ينير أرواح الناس؟!
مثال آخر
18- عاش إشعياء منذ حوالي ألف عام ورأى “صهيون مثل مظلة”. لقد كانت المدينة قائمة جميلة، بأماكنها العامة، متسربلة بالجلال، ومع ذلك… يتنبأ عمًا يحدث الآن في أيامنا هذه. لاحظوا دقة النبوة، إذ قال: “فبقيت ابنة صهيون كمظلةٍ في كرم، كخيمةٍ في حقل خيار”[3]. وها هو الآن يمتلئ المكان بزراعة المقثاة.
انظروا كيف يضيء الروح القدس للقديسين. فلا تضلوا إذن إلى أمورٍ أخرى بسبب اشتراك الاسم (أي “الروح”)، بل تمسكوا بالمعنى الدقيق.
قوة الروح القدس في التعليم
19- فإذا خطر على ذهنكم وأنتم جالسون هنا فكر عن الطهارة والبتولية، فإن هذا من تعليمه. ألم يحدث أن هربت عذراء وهي على عتبة الزواج؟ ألم يحدث أن رجلاً مشهورًا في البلاط الملكي احتقر الثروة والجاه، بسبب تعليم الروح القدس؟ أما حدث أن شابًا أغلق عينه أمام الجمال وهرب من المنظر، تاركًا النجاسة (حيث عرضت عليه الخطية)؟!
قد تسألون: كيف حدث هذا؟ الروح القدس هو علمّ نفس الشاب.
العالم يعرض طرقًا كثيرة للطمع، والمسيحيون يرفضون حب الامتلاك. لماذا؟ بسبب تعليم الروح القدس!
بالحقيقة مستحق الروح القدس الصالح كل كرامة!
بالحقيقة نحن معمدون باسم الآب والابن والروح القدس. فيصارع الإنسان وهو في الجسد شياطين قاسية جدًا. والشيطان الذي لا يخضعه رجال كثيرون بعصًا من حديد يخضعه الإنسان بكلمات الصلاة بقوة الروح القدس الساكن فيه، بل يصير نفس هذا الإنسان المتكل على الروح القدس كنارٍ يحرق العدو غير المنظور.
لقد أعطانا الله حليفًا وحارسًا قديرًا، ومعلمًا عظيمًا للكنيسة، وبطلا قويًا لإعانتنا. فلا تخف إذن من الأبالسة، ولا من الشيطان، لأن الذي يحارب عنا أقوى منهم.
لنفتح له أبوابنا، إذ يبحث عمن يستحقونه ويفتش عمن يستطيع أن يهبهم مواهبه.
الروح القدس المعزي
20- إنه يدعى المعزي، لأنه يعزينا ويشجعنا ويعين ضعفنا. “إذ لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، لكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا يُنطق بها” (رو 8: 18)، أي يشفع أمام الله.
كثيرًا ما يُزدرى بالإنسان ويُهان ظلمًا من أجل المسيح، ويقترب الاستشهاد منه وتحيط به الآلام من كل جانب، من نارٍ وسيفٍ ووحوشٍ مفترسة وجبٍ، ولكن الروح القدس يهمس له بلطف: “انتظر الرب” (مز 27: 14؛ 37:34). يا إنسان ما يصيبك الآن قليل، أما المكافأة فعظيمة. احتمل إلى وقتٍ قليلٍ، فتكون مع الملائكة إلى الأبد. “آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو 8: 18). إنه يصوّر له ملكوت السماوات، ويعطيه لمحة عن فردوس النعيم. والشهداء الذين بالضرورة تتجه أنظارهم الجسدية تجاه القضاة، إلاّ أنهم بالروح يتجهون نحو الفردوس، فيحتقرون المتاعب المنظورة.
الروح القدس يسند المتألمين
21- أتريد أن تتأكد أن الشهداء يحملون شهادتهم بقوة الروح القدس؟! يقول المخلص لتلاميذه: “ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو ما تقولون، لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه” (لو 12: 11، 12). يستحيل أن يشهد إنسان كشهيدٍ من أجل المسيح، إلاّ إن شهد الروح القدس؛ لأنه إن كان “لا يستطيع أحد أن يقول عن المسيح رب إلاّ بالروح القدس” (1 كو 12: 3)، فكيف يستطيع أحد أن يبذل حياته من أجل يسوع المسيح إلاّ بالروح القدس؟
يعمل في كل أحد حسب حاجته
22- بالحقيقة عظيم وكلى القوة في مواهبه وعجيب هو الروح القدس!
انظروا كم عدد الجالسين هنا الآن؟! كم نفس حاضرة منا؟! إنه يعمل كما يلائم كل واحد، إذ هو حاضر في الوسط، ينظر إلى طبيعة الكل وإلى عقله وضميره وحديثه وفكره وعقيدته!
بالحقيقة قد أطلت الحديث ومع ذلك فهو قليل إذ أسألكم أن تفكروا بعقلٍ مستضيء كم مسيحي يوجد في هذه الأسقفية، وكم عددهم في ولاية فلسطين كلها، ثم انتقلوا بعقولكم إلى الإمبراطورية الرومانية، وبعد هذا فكروا في كل العالم…
أسألكم أن تأخذوا في اعتباركم كل أمة، والأساقفة والكهنة والشمامسة والمتوحدين والبتوليين والعلمانيين أيضًا. انظروا إلى حارسهم العظيم، وإلى موزع المواهب عليهم. كيف يهب في كل العالم لواحد عفة، ولآخر بتولية دائمة، ولآخر عطاء، ولآخر فقر اختياري، ولآخر قوة إخراج الأرواح المقاومة؟!
وكما أن النور بلمسة من إشعاعاته يهب ضياء لكل الأشياء، هكذا يضيء الروح القدس لمن لهم أعين. أما إذا لم يكن أحد قد أخذ نعمة بسبب عماه، فلا يلم الروح، بل يلوم عدم إيمانه هو.
الروح القدس المدبر الإلهي للسمائيين
23- لقد رأيتم قدرته في كل العالم. لا تمكثوا بعد على الأرض بل اصعدوا إلى العلا. أقول اصعدوا متأملين حتى في السماء الأولى، وانظروا هناك ربوات كثيرة جدًا من ملائكة لا تُحصى. ارتفعوا بأفكاركم إلى العلو قدر ما تستطيعون وانظروا رؤساء الملائكة. انظروا الأرواح أيضًا، فكروا في الفضائل[4]، تأملوا الرؤساء والقوات والعروش والسلاطين. إن المعزي هو المدبر الإلهي لهذه كلها، وهو المعلم والمقدس لها.
يحتاج إليه إيليا وإليشع وإشعياء بين البشر، كما يحتاج إليه ميخائيل وجبرائيل بين الملائكة! ليس في الخليقة من يساويه في الكرامة. لأن كل الطغمات الملائكية وجنودهم مجتمعين معًا ليس لهم كرامة الروح القدس. إن قوة المعزي كلي العظمة تظللهم جميعًا. جميعهم مرسلون للخدمة، أما هو فيفحص حتى أعماق الله. إذ يقول الرسول: “لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله، لأن مَنْ مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله” (1 كو 2: 10، 11).
الروح القدس غير منفصل عن الآب والابن
24- لقد كرز بالمسيح في الأنبياء، وهو الذي عمل في الرسل، وإلى يومنا هذا يختم الأرواح في العماد. حقًا إن الآب يعطي الابن، والابن يشترك مع الروح القدس. لأنه ليس من عندي هذا، بل يسوع نفسه يقول: “كل شيء دُفع إليّ من أبي” (مت 11: 27). كما يقول عن الروح القدس: “وأما متى جاء ذاك روح الحق… ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 13، 14).
الآب معطي كل نعمة خلال الابن مع الروح القدس. مواهب الآب ليست إلا مواهب الابن ومواهب الروح القدس. لأنه يوجد خلاص واحد، قوة واحدة، إيمان واحد، إله واحد الآب، ورب واحد ابنه الوحيد، وروح قدس واحد المعزي.
يكفى لنا أن نعرف هذا، وليس لكم أن تسألوا بشغفٍ عن طبيعته أو جوهره. لأنه لو كًتب عن هذا لتحدثنا عنه، أما وأنه لم يُكتب عنه، فليس لنا أن نخاطر فيه. إنه يكفي لخلاصنا أن نعرف أنه يوجد آب وابن وروح قدس.
الروح القدس في العهد القديم
25- لقد نزل الروح القدس على السبعين شيخًا في أيام موسى… وأنا أقول لكم هذا لكي أثبت لكم أنه يعرف كل شيء، ويعمل ما يريد (1 كو 12: 11).
لقد اُختير السبعون شيخًا، “فنزل الرب في سحابة وأخذ من الروح الذي على (موسى) وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ” (عد 11:25)، ليس بمعنى أن الروح القدس قد انقسم إنما وزّع نعمته حسب الأوعية وسعة القابلين. لقد كان حاضرًا ثمانية وستون شيخًا فتنبأوا، أما إلداد وميداد فلم يكونا حاضرين، من هنا يظهر أنه ليس موسى واهب العطية، بل الروح هو الذي عمل، إذ ألداد وميداد اللذين دُعيا مع عدم حضورهما في ذلك الوقت تنبآ أيضًا.
الروح القدس يوهب للجميع
26- اندهش يشوع بن نون الذي خلف موسى، فأتى إليه وسأل “ألم تسمع أن ألداد وميداد يتنبآن؟! لقد دُعيا ولم يأتيا يا سيدي موسى اردعهما” (عد 11:28). أجاب: لا أستطيع أن أردعهما، لأن هذه النعمة من السماء كلا! حاشا لي أن أمنعهما، بل أشكر الله على ذلك. إنني لست أظن أنك قلت هذا عن حسدٍ. هل أنت تغار لي. لأنهما يتنبآن وأنت لا تتنبأ إلى الآن؟! انتظر الوقت المناسب. يا ليت كل شعب الرب يكونون أنبياء حين يجعل الرب روحه عليهم! (عد 11: 29)
لقد نطق بهذا متنبأ “حين يجعل الرب روحه عليهم”. العبارة تقول: “إذ يجعل الرب” أي يجعله يحل على الكل… إنه سيعطى بسخاء. لقد لمح في السرّ إلى ما كان مزمعًا أن يحدث بيننا في يوم البنطيقستي، لأن الروح القدس بنفسه حلّ بيننا.
الروح القدس يملأ أصحاب القلوب الحكيمة
27- لقد حلّ أيضًا على كل الأبرار والأنبياء: أخنوخ ونوح وآخرين، إبراهيم وإسحق ويعقوب. أما بالنسبة ليوسف فحتى فرعون نفسه شعر أن ” فيه روح الله” (تك 41:38). أما عن موسى والأعمال العجيبة التي عملت بالروح في أيامه فقد سمعتم أكثرها.
هذا الروح كان لدى أيوب، هذا الذي كان أكثر الناس احتمالاً للآلام، وهكذا كل القديسين دون أن نكرر أسماءهم.
أيضًا أُرسل حين كانت خيمة الاجتماع تُقام، وهو الذي ملأ أصحاب القلوب الحكيمة الذين كانوا مع بصلئيل بالحكمة (خر 31: 1-6).
الروح القدس عمل في القضاة والأنبياء والملوك
28- بقوة هذا الروح حكم عثنئيل، كما نقرأ في سفر القضاة (قض 3: 10). وبه ازداد جدعون قوة، وانتصر يفتاح (قض 6: 34، 11:29)، وقامت دبورة المرأة بالحرب، وصنع شمشون أعمالاً تفوق قدرة البشر، حين كان يعمل بالبرّ، ولم يحزن الروح.
أما عن صموئيل وداود فنقرأ عنهم ما جاء في أسفار الملوك بوضوح كيف تنبأوا بالروح القدس وكانوا قادة الأنبياء. فكان صموئيل يدعى بـ “الرائي” (1 صم 9:9). ويقول داود بوضوح “روح الرب تكلم بي” (2 صم 23: 2). وفي المزامير يقول “وروحك القدوس لا تنزعه مني” (مز 51: 11). وأيضًا “روحك الصالح يهديني في أرض البرّ (مستوية) (مز 10:143).
وكما نقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني أن عزيا أخذ الروح القدس في زمان الملك آسا (2 أي 15: 1)، ويحزئيل في أيام يهوشفاط (2 أي 20: 14)، وزكتريا آخر الذي رجم (2 أي 24: 20، 21).
ويقول عزرا “وأعطيتهم روحك الصالح لتعليمهم” (نح 9: 20).
أما عن إيليا الذي اختطف وإليشع، فهذان الملهمان صانعي العجائب، من الواضح أنهما كانا مملوئين من الروح القدس، دون أن نقول عنهما هذا.
الأنبياء يشهدون عن عطية الروح القدس
29- هكذا إذا اطلع أحد على جميع كتب الأنبياء الاثنى عشر وغيرهم فسيجد شهادات كثيرة بخصوص الروح القدس.
فيقول ميخا في شخص الله: “سأصنع قوة بواسطة روح الرب”[5].
ويوئيل يصرخ: “ويكون بعد ذلك – يقول الرب – إني أسكب روحي على كل بشر (جسد)” (يوئيل 2:28)…
ويقول حجى: “لأني معكم يقول رب الجنود”، “وروحي قائم في وسطكم” (حجى 2: 4، 5).
كذلك زكريا: “لكن اقبلوا كلامي وفرائضي التي أوصيت بها عبيدي الأنبياء بروحي” (زك 1:6)، وعبارات أخرى.
الأنبياء يشهدون عن عطية الروح القدس (يتبع)
30- ويقول إشعياء بصوته العظيم: “ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة، روح المعرفة والقوة (التقوى)، ويملأه روح مخـافة الرب” (إش 11: 2). مظهرًا أن الروح واحد غير منقسم لكن أنواعه متنوعة.
وأيضًا يقول: “يعقوب عبدي… وضعت روحي عليه” (إش 44: 1؛ 42: 1). وأيضًا: “اسكب روحي على نسلك” (إش 44: 3). وأيضًا: “والآن السيد الرب أرسلني وروحه (أرسلني)” (إش 48:16). وأيضًا: “أما أنا فهذا عهدي معهم قال الرب، روحي الذي عليك وكلامي الذي وضعته في فمك” (إش 49: 21)….
وفي شكايته ضد اليهود يقول: “ولكنهم تمردوا وأحزنوا روحه القدس” (إش 63:10)، “أين الذي جعل في وسطهم روحه القدوس؟!” (إش 63: 11)
وحزقيال أيضًا: (إن كنتم لم تتعبوا بعد من الاستماع) فإنه يقول “وحل عليّ روح الرب وقال لي قل هكذا قال الرب” (حز 11: 5). لكن يجب أن تفهم الكلمات “حل عليّ” بطريقة صالحة أي تعني “بمحبة”، فكما وقع يعقوب على عنق يوسف حين وجده. هكذا أيضًا في الأناجيل حين رأى الآب المحب ابنه الذي عاد من ضلاله “تحنن وركض ووقع على عنقه وقبله” (لو 15: 20). وجاء في حزقيال “وحملني روح وجاء بي في الرؤيا بروح الله إلى أرض الكلدانيين إلى المسبيين” (حز 11: 24).
وشواهد أخرى سبق لكم أن سمعتموها في الحديث عن العماد. “وأرش عليكم ماء طاهرًا…” (حز 36:25)، “وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم” (حز 36: 26). وأيضًا “كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب” (حز 37:1).
الروح الذي يقدس كل الخليقة العاقلة
31- لقد اكتست روح دانيال بالحكمة، فأصبح هذا الصغير قاضيًا للشيوخ.
لقد دينت سوسنة العفيفة كزانية، ولم يكن من يدافع عنها، لأنه من يقدر أن يخلصها من الحكام (قاضيي إسرائيل الشريرين)؟! لقد سيقت إلى الموت، وتُركت للجلادين، لكن المعزي معينها كان حاضرًا. الروح الذي يقدس كل الخليقة العاقلة.
يقول الروح لدانيال اقترب إلى هنا، فمع أنك صغير، لكنك تدين الشيوخ الملوثين بخطايا الشباب، لأنه مكتوب: “أشرق الله الروح القدس على فتى صغير” (سوسنة 45). ومع ذلك (إذ نعبر سريعًا فنقول) أُنقذت السيدة العفيفة بعبارة دانيال.
إننا نقدم هذه الشهادة إذ لا يوجد وقت للشرح.
نبوخذ نصر أيضًا عرف أن الروح القدس في دانيال، إذ يقول له: “يا بلشاصر كبير المجوس (السحرة)، من حيث إنني أعلم أن فيك روح الله القدوس” (دا 4: 9). لقد نطق بالحق ولم يكذب، لأن بالحق كان معه الروح القدس، ولم يكن كبير سحرة بل لم يكن ساحرًا، بل بالروح القدس كان حكيمًا، إذ فسّر له رؤيا التمثال التي لم يعرفها الذي رآها نفسه، إذ يقول له: أخبرني بالرؤيا التي لا أعرفها أنا الذي رأيتها (إذ رأيتها ولم أذكرها).
إنكم ترون قوة الروح القدس، فإن الأمر الذي لم يعرفه من رآه، عرفه بالروح من لم يره، وفسره.
ختام
32- بالحقيقة يسهل جدًا عليّ أن أجمع شهادات كثيرة جدًا من العهد القديم عن الروح القدس، وألقيها عليكم بتوسع أكثر، لكن لضيق الوقت، إذ هو محدد نكتفي بما أوردته من العهد القديم، وحسب مسرة الله نستمر في المقال عينه بخصوص الشهادات التي من العهد الجديد.
ليحسبكم إله السلام جميعًا مستحقين لعطاياه السمائية الروحية بربنا يسوع المسيح ومحبة الروح، الذي له المجد والقوة إلى أبد الأبد. آمين.
________________________________________
[1] الترجمة الإنجليزية “كائن”.
[2] الكاتفرجيانس Cataphrygians أو Phrygians هو الاسم الذي لقب به أتباع فيريجيان مونتانيوس Phrygian Montanus.
[3] إش 1: 8 “كخيمة في مقثاة”.
[4] يضع القديس كيرلس “الأرواح، الفضائل” كطغمتين سمائيتين لهما هذان الاسمان.
[5] مى 2: 8 “لكنني أنا ملأن قوة روح الرب”
المقال السابع عشر: (تابع) الروح القدس
“فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة” (1 كو 12: 8).
الروح القدس في العهد الجديد
1- في المقال السابق قدمت لكم يا أحبائي المستمعين قدر ما استطعت نصيبًا قليلاً من الشهادات الخاصة بالروح القدس. وفي هذه الفرصة أواصل بمسرة الله معالجة الشهادات الباقية من العهد الجديد قدر ما أستطيع. وإذ التزمت بالحدود اللازمة لانتباهكم، قامعًا اشتياقنا في المقال السابق، فإنني الآن أيضًا ألتزم بالحديث عن نصيبٍ قليلٍ فقط مما تبقى (لأنه لا يشبع الإنسان من الحديث عن الروح القدس).
إنني أعترف الآن كما سابقًا أيضًا بأنني أُبتلع من كثرة الأمور المكتوبة. والآن أيضًا لن أستخدم حذاقة إنسانية، لأن هذا غير مفيد، إنما اعتمد على ما ورد في الأسفار المقدسة، إذ هذه أكثر الطرق أمانًا. وكما يقول المطوّب الرسول بولس: “التي نتكلم بها أيضًا، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات” (1 كو 2: 13). فإننا أشبه بالمسافرين أو المُبحرين، الذين لهم هدف واحد لرحلة طويلة جدًا، فمع أنهم يتعجلون مشتاقين للوصول، لكنهم بسبب الضعف البشري محتاجون إلى الاستراحة في الطريق في مدن ومواني مختلفة.
الروح القدس هو واحد
2- لذلك فبالرغم من أن مقالاًتنا عن الروح القدس منفصلة، لكن هو غير منقسم بل واحد بنفسه لا غير. فكما تكلمنا عن الآب وعلمنا مرة أنه العلة الوحيدة، ومرة أخرى أنه يدعى “الآب” أو القادر على كل شيء، ومرة أخرى أنه خالق العالم، لكن انقسام المقالات لا يصنع انقسامًا في الإيمان بموضوع تعبدنا، بل هو واحد وما زال واحدًا. كذلك عندما تعلمنا في الوعظ أن ابن الله الوحيد من جهة لاهوته، وتارة على ناسوته، مقسمين التعاليم الخاصة بمخلصنا يسوع المسيح في محاضرات كثيرة، ومع ذلك فنحن نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته. هكذا الآن فمع أن المقالات عن الروح القدس منفصلة لكننا نكرز بإيمان واحد غير منقسم من جهته، لأنه هو الروح الواحد بعينه الذي “يقسم مواهبه لكل واحد بمفرده كما يشاء”، ويبقى هو غير منقسم. لأن “المعزي” ليس غير الروح القدس بل هو واحد بنفسه مدعو بأسماء متعددة، الذي يعيش ويبقى ويتكلم ويعمل، وأيضًا هو مقدِّس كل الطبائع العاقلة التي خلقها الله خلال المسيح، أي الملائكة والناس.
نؤمن بالروح القدس الواحد
3- ولكن لئلا يظن أحد عن جهل أن هذه الأسماء العديدة للروح القدس تعني أرواحًا عديدة وليس روحًا واحدًا بذاته، الكائن وحده، لذلك فإن الكنيسة الجامعة بصّرتكم من قبل وسلمت إليكم في قانون الإيمان أنه “نؤمن بالروح القدس الواحد المعزي، الناطق في الأنبياء”، حتى يمكنكم أن تعرفوا أنه مع كثرة أسمائه لكنه الروح القدس الواحد وحده، وسنعيد على مسامعكم بعض هذه الأسماء العديدة.
أسماء الروح القدس
4- إنه يدعى “الروح” حسبما قُرأ عليكم حالاً من الكتاب المقدس: “لأنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة” (1 كو 12: 28). ويُدعى “روح الحق” كقول المخلص: “وأما متى جاء ذاك روح الحق” (يو 16: 13). ويُدعى أيضًا “المعزي” كقوله: “لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو 16: 7). أما كونه واحدًا لا غير بالرغم من دعوته بألقاب كثيرة فهذا يظهر من الآتي:
إن الروح القدس والمعزي هما واحد كما تعلن العبارة: “وأمّا المعزي الروح القدس” (يو 14: 26). وأن المعزي هو نفسه روح الحق كما يظهر من القول: “فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق” (يو 14: 26، 27)... إنه يُدعى روح الله كما كُتب: “ورأيت روح الله نازلاً” (يو 1: 32). وأيضًا: “لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله” (رو 8: 14). أيضًا يُدعى روح الآب كما يقول المخلص: “لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت 10: 20). وأيضًا يقول بولس: “بسبب هذا أحني ركبتيّ للآب… لكي يعطيكم أن تتأيدوا بالقوة بروحه” (أف 3: 14-16). يدعى أيضًا روح الرب كقول بطرس: “ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟!” (أع 5: 9) يُدعى روح الله والمسيح كما يكتب بولس: “وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له” (رو 8: 9). يُدعى روح ابن الله كما هو مكتوب “بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه” (غل 4: 6). يُدعى أيضًا روح المسيح كما هو مكتوب: “أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح فيهم” (1 بط 1: 11). وأيضًا: “بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح” (في 1: 19).
ألقاب أخرى للروح القدس
5- إنك تجد ألقابًا أخرى كثيرة للروح القدس بجانب هذه. فهو يُدعى “روح القداسة” كما هو مكتوب: “حسب روح القداسة” (رو 1: 4). ويُدعى “روح التبنّي” كما يقول بولس: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ أيها الآب أبا” (رو8: 15). ويُدعى “روح الموعد” كما يقول بولس: “الذي فيه أيضًا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس” (أف 1: 13). ويُدعى “روح الإعلان” كما هو مكتوب: “كي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته” (أف 1: 17). ويُدعى “روح النعمة” كما يقول أيضًا: “ازدرى بروح النعمة” (عب 10: 29).
لقد دُعيَ بألقاب كثيرة على هذا النمط. وقد سمعت في المقال السابق أنه يُدعى في المزامير بـ “الروح الصالح”[1]، وفي مرة أخرى “روح الرئاسة” (مز 110: 12). وفي إشعياء “روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (إش 11: 2). من خلال عبارات الكتاب المقدس السابق ورودها أو التي نقتبسها الآن يظهر أنه وإن كانت ألقاب الروح القدس متنوعة لكنه واحد، حيّ كائن ودائمًا حال مع الآب والابن…
إنني أطلب إليكم أن تتذكروا ما أخبرتكم به أخيرًا، وأن تعرفوا بوضوح أنه ليس هناك روح في الشريعة والأنبياء وآخر غيره في الأناجيل والرسل، بل هو روح واحد بعينه هو الروح القدس الذي في العهد القديم والجديد ينطق بالأسفار الإلهية”[2].
الروح القدس وتجسد الكلمة
6. إنه الروح القدس الذي حلَ على العذراء القديسة مريم، لأنه حيث أن من حُبل به هو المسيح الابن الوحيد، لذلك فإن قوة العليّ تظللها، والروح القدس يحل عليها (لو 1: 35) ويقدسها، حتى تقدر أن تحمل ذاك الذي به كان كل شيء (يو 1: 3).
إنني لست محتاجًا إلى كلمات كثيرة لأعلمك أن الميلاد كان بغير دنس أو فساد، إذ قد سبق أن تعلمت هذا. إنه جبرائيل الذي قال لها: “أنا (مجرد) رسول لما يحدث، لكن ليس لي نصيب في العمل. فمع كوني رئيس ملائكة لكنني أعرف مكاني، ومع إنني بفرحٍ أعطيكِ السلام قوة العلي تظللك، لذلك المولود منك القدوس يُدعى ابن الله” (لو 1: 35).
الروح القدس يعمل في أليصابات
7- عمل الروح القدس في أليصابات، فإنه لا يعرف فقط العذارى بل والمتزوجات إذ يجعل زواجهن شرعيًا. “وامتلأت أليصابات من الروح القدس” (لو 1: 43) وتنبأت، فقالت الأم النبيلة عن ربها: “فمن أين لي أن تأتي أم ربي إليّ”؟! (لو 1: 43)، إذ حسبت أليصابات نفسها مطوّبة. وإذ امتلأ زكريا والد يوحنا من الروح القدس تنبأ (لو 1: 67) محدثًا عن أمورٍ صالحةٍ يفعلها الابن الوحيد، وأن يكون يوحنا سابقًا نذيرًا له (لو 1: 76) خلال العماد.
بالروح القدس أيضًا أُعلن لسمعان البار أن لا يرى الموت قبل أن يعاين الرب المسيح (لو 2: 26-35)، وحمله على ذراعيه وشهد له بوضوح في الهيكل.
الروح القدس في يوحنا المعمدان
8- وأيضًا يوحنا المعمدان امتلأ من الروح القدس وهو في أحشاء أمه[3]، لكي يتقدس، فيعمد الرب، لا أن يهب الروح، بل لكي يكرز بالبشارة المفرحة التي للرب واهب الروح القدس. إذ يقول: “أنا عمدتكم بالماء للتوبة. وأمّا الذي يأتي بعدي فهو يعمدكم بالروح القدس ونار” (مت 3: 11).
لماذا يعمد بالنار؟ لأن الروح القدس كان في ألسنة نارية، هذا الذي قال عنه الرب بفرحٍ: “جئت لأُلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!” (لو 12: 49)
الروح القدس وعماد الرب
9- نزل الروح القدس هذا عندما تعمد الرب حتى لا تختفي كرامة الذي يعتمد، وكما قال يوحنا: “الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” (يو 1: 33).
لكن انظروا ماذا يقول الإنجيل؟ “السماوات انفتحت”. انفتحت من أجل كرامة الذي نزل. إذ يقول: “السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا (مضيئًا) عليه” (مت 3: 16)… إنه كان لائقًا – كما فسر الرب – أن يكون أول ثمار وبكور الروح القدس من جهة الوعد بالعماد أن يتحقق أولاً في شخص المخلص واهب النعمة ذاتها.
وربما نزل على شكل حمامة – كما يقول البعض – لكي يعلن أنه على مثل الحمامة من جهة أنها نقية وبريئة وطاهرة، كما أنها تعين صغرها الذين تلدهم… كذلك تحمل بطريقة رمزية ما سبق أن أخبرت به، وهو أن المسيح يُظهر في منظر عينيه، إذ تصرخ (النفس) في نشيد الأناشيد بخصوص العريس قائلة: “عيناه كالحمام على مجاري المياه” (نش 5: 12).
حمامة نوح رمز لهذه الحمامة
10- هذه الحمامة كانت لها حمامة نوح رمزًا من جانبٍ معينٍ. لأنه كما في عهده جاء الخلاص وبداية عهد جديد بواسطة الخشب والماء، وعادت إليه الحمامة بغصن الزيتون، هكذا يقولون إن الروح القدس نزل على نوح الحقيقي واهب الميلاد الجديد الذي يجمع بين جدران الأمم وحدة واحدة، إذ كانت أنواع الحيوانات المختلفة التي كانت بالفلك رمزًا. هذا الذي بمجيئه صارت الذئاب الروحية ترعى مع الحملان، وفي كنيسته الثور والأسد والذئب يقتادون في مرعى واحد كما نرى في أيامنا هذه، حيث اقتاد رجال الكنيسة حكام العالم وعلّموهم.
لذلك، كما يفسر البعض جاءت الحمامة الروحية في وقت عماده لكي يظهر أنه هو الذي يخلص المؤمنين بواسطة خشبة الصليب في الماء، واهبًا خلاصًا خلال موته.
حديث المسيح عن الروح القدس
11- هذه الأمور قد نعود فنوضحها فيما بعد، لكنه يلزمنا الآن أن نستمع إلى كلمات المخلص نفسه بخصوص الروح القدس. إنه يقول: “إن كان أحد لا يُولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 3: 5). هذه النعمة هي من الآب، كما يظهر من قوله: “فكم بالأحرى الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟!” (لو 11: 13)
يلزمنا أن نعبد الله في الروح، إذ يقول: “لكن تأتي الساعة وهي الآن حين الساجدون (الحقيقيون) يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4: 23-24). وأيضًا: “إن كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين” (مت 12: 28). وبعد ذلك يقول للحال: “لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفر للناس. وأمّا التجديف على الروح فلن يُغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 31، 32). وأيضًا يقول: “وأنا أطلب من الآب فسيعطيكم معزيًا آخر يمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأمّا أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو 14: 16). ويقول: “بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو 14: 25). ويقول: “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي” (يو 15: 26).
ويقول المخلص أيضًا: “لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي” (يو 16: 7)… ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة” (يو 16: 8). وبعد ذلك يقول: “إن لي أمورًا كثيرة لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب فهو لي. لهذا قلت يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 12-15).
الآب واهب الروح
12- منح الرب تلاميذه شركة الروح إذ مكتوب: “ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو 20: 13).
هذه هي المرة الثانية التي فيها نفخ على الإنسان… ليتم الكتاب: “وصعد نافخًا في وجهك، ومخلصًا إيّاك من الحزن” (نا 2: 1). لكن متى صعد؟ إنه صعد من الجحيم كما يروى لنا الإنجيل، أنه بعد قيامته نفخ فيهم، و بالرغم من أنه وهب لهم في ذلك الوقت نعمته، لكنه يهب بسخاء بأكثر غزارة (فيما بعد)، إذ قال لهم: أنا مستعد أن أعطيها لكم من الآن، لكن الإناء لا يقدر أن يمسك بها. لكن بعد حين تتقبلون نعمة عظيمة هكذا، حيث يمكنكم أن تحتملوها. انظروا إلى قدام قليلاً. “أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي” (لو 24: 39).
الآن اقبلوها جزئيًا (ليس لأنها تُجزأ، لكن بسبب ضعفكم) بعد ذلك تلبسونها في كمالها. لأن من يقبل شيئًا، غالبًا ما يملك العطية جزئيًا، أما من يلبس فيلتحف بثوبه تمامًا.
إنه يقول: لا تخافوا أسلحة إبليس وسهامه، فإنكم تحملون قوة الروح القدس.
لكن تذكر ما قد قيل أخيرًا إن الروح القدس لا ينقسم، لكن النعمة التي تُعطى بواسطته (تكون جزئية قدر احتمالنا).
حلول الروح القدس في يوم البنطقستي
13- لذلك صعد يسوع إلى السماوات وتمم الوعد، إذ قال لهم: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر” (يو 14: 16). لهذا كانوا جالسين متطلعين إلى مجيء الروح القدس، وإذ حل يوم البنطقستي أيضًا في مدينة أورشليم هذه… نزل الروح القدس من السماء، الذي هو حارس الكنيسة ومقدسها، ومدبر الأرواح، ضابط العواصف الثائرة، الذي يرد الضالين إلى الحق ويحكم المقاتلين ويكلل المنتصرين.
عمل الروح القدس الناري في النفس
14- نزل لكي يُلبس الرسل بالقوة ويعمدهم، إذ يقول: “ستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بقليل” (أع 1: 5). هذه النعمة لم تكن جزئية، بل هي قوته في كمالها، لأنه كما أن الذي يغطس في المياه ويعتمد تغمره المياه من كل جانب، هكذا هم اعتمدوا بالروح القدس بالكمال…
ولماذا تتعجب؟! خذ مثالاً واقعيًا وإن كان فقيرًا وعامًا، لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر خلال قطعة حديد، فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا صار محترقًا، ومن كان أسود صار لامعًا، فإن كانت النار التي هي جسم هكذا تخترق الحديد وتعمل فيه بغير عائقٍ وهو جسم أيضًا، فلماذا تتعجب من الروح القدس أن يخترق أعماق النفس الداخلية؟!
حلول الروح القدس كما من هبوب ريح عاصف
15- ولئلا يجهل الناس عظمة العطية القديرة النازلة عليهم، لذلك كان الصوت مثل أبواق سمائية، إذ “صار بغتة من السماء كما من هبوب ريح عاصفة” (أع 2: 2)، مشيرًا إلى حلول ذاك الذي يهب قوة للبشر ليتمتعوا بملكوت الله بقوة، فترى أعينهم الألسنة النارية، وتسمع آذانهم الصوت. “وملأكل البيت حيث كانوا جالسين”، إذ صار البيت إناءً للماء الروحي وجلس التلاميذ فيه، امتلأ البيت كله. وبهذا اعتمدوا تمامًا حسب الوعد ولبست النفس والجسد ثوب الخلاص الإلهي.
“وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نارٍ، واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس”. لقد اشتركوا في النار، لا للاحتراق بل النار المخلصة، النار التي تحرق أشواك الخطية بل تهب بهاءً للنفس. هذه تحل عليكم الآن وتنزع خطاياكم وتحرقها كالشوك، فتضيء نفوسكم الثمينة، وتنالون نعمة… لقد استقرت على الرسل مثل ألسنة نارية حتى تتوجهم بتيجان روحية جديدة على رؤوسهم. في القديم كان هناك سيف ناري على أبواب الفردوس، والآن لسان ناري جالب الخلاص يرد العطية.
يتكلمون بألسنة الأمم الحقيقية
16- “وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 4). بطرس الجليلي أو أندراوس تكلم بالفارسية أو المديانية. يوحنا وبقية الرسل تكلموا بكل ألسنة هؤلاء الأمميين الأصل. لأنه ليس فقط في أيامنا نحن بدأت هذه الجماعات الغريبة أن تجتمع، بل منذ ذلك الحين كانوا يجتمعون هنا من كل الكون. أي معلم يمكن أن يكون هكذا عظيمًا حتى يعلم البشر جميعًا في وقت واحد أمورًا قد لم يكونوا قد تعلموها؟!
يحتاج الإنسان إلى سنوات كثيرة ليتعلم أصول النحو وفنون اللغة حتى يتحدث اليونانية وحدها حسنًا، لكنهم تعلموا جميعًا اللغات الحسنة. قد ينجح الخطيب في التحدث حسنًا، لكن رجل النحو أحيانًا لا يقدر أن يتحدث حسنًا، وصاحب النحو الماهر قد يتحدث أحيانًا لكنه يجهل مواضيع الفلسفة. أما الروح القدس فعلمهم عدة لغات في وقت واحد لم يعرفوها قط طيلة حياتهم. إنها حكمة واسعة. إنها قوة إلهية!
يا للتناقض بين جهلهم الشديد في الماضي وما حدث لهم فجأة، إذ مارسوا هذه اللغات بصورة كاملة ومتنوعة لم يعتادوا عليها.
وسيلة السقوط صارت وسيلة الشفاء
17- إن جماهير المستمعين قد ارتبكت. وهذه هي المرة الثانية للارتباك. الأول حدث كأمر شرير في بابل، إذ كان ارتباك اللغة بقصد الانقسام بسبب أفكارهم المعادية لله، أما هنا فقد انصلحت الأذهان واتحدت بقصد صالح. وسيلة السقوط صارت وسيلة الشفاء!
لماذا تتعجبون قائلين “كيف نسمعهم يتكلمون بألسنتنا؟” (أع 2: 8) لا تتعجب إن كنت جاهلاً ذلك، فإنه حتى نيقوديموس كان جاهلاً عن مجيء الروح، وقد قيل له: “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب” (يو 3: 8). فإنك وإن سمعت صوته لا تعرف من أين يأتي، فكيف نوضحه هو نفسه في جوهره؟!
خمر جديدة هي نعمة العهد الجديد!
18- لكن آخرين سخروا قائلين “إنهم سكارى” (أع 2: 13). في استهزائهم تكلموا بالحق، لأنهم في الحقيقة كانت الخمر جديدة هي نعمة العهد الجديد. هذا الخمر الجديد هو من الكرمة الروحية… كانت قبلاً تحمل هذا الثمر في الأنبياء، والآن قد أنبتت برعمًا في العهد الجديد.
فإنه حتى في الأمور الحسّية نجد الكرمة تبقى كما هي، لكنها تحمل ثمارًا جديدة في مواسمها، هكذا الروح هو بنفسه يستمر كما عمل في الأنبياء والآن يعمل أعمالاً جديدة وعجيبة. فبالرغم من أن نعمته قد تقدمت للآباء أيضًا، لكن هنا تأتي بغزارة، لأنه كان للناس فقط (نصيب) شركة من الروح القدس، أما الآن فاعتمدوا فيه تمامًا.
إنهم سكارى، لكن ليس كما تظنون
19- لكن بطرس الذي له الروح القدس عرف ما قد ناله فيقول (موبخًا): يا رجال إسرائيل أنتم الذين يبشركم يوئيل لكنكم لا تعرفون الأمور المكتوبة “لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون” (أع 2: 15). إنهم سكارى، لكن ليس كما تظنون، بل حسبما هو مكتوب: “يسكرون بدسم بيتك، ويشربون بملذاتك” (مز 36: 8). إنهم سكارى بمسكرٍ سام مميت للخطية وواهب حياة للقلب. مسكر مضاد للسُكر الخاص بالجسد. لأن هذا الأخير يسبب نسيان حتى بالنسبة لما كان الإنسان يعرفه، أما هذا فيمنح معرفة حتى لما لم يكن يعرفه الإنسان.
إنهم سكارى لأنهم شربوا خمر الكرمة الروحية القائلة: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو 15: 5). لكن إن كنتم لا تقتنعون، افهموا ما أخبركم به من ذات الوقت الذي نحن فيه، إنها الساعة الثالثة من النهار (أع 2: 25، 15).
فكما يروي لنا مرقس قد صُلب في الساعة الثالثة، والآن الساعة الثالثة يرسل لنا فيها نعمته. لأن نعمته ليست شيئًا بخلاف نعمة الروح. إنما ذاك الذي صُلب وقتئذ هو أيضًا يهب الموعد… وإن أردتم شهادة بذلك أصغوا إلى ما قيل بيوئيل النبي: “يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي” (أع 2: 18)، (كلمة “أسكب” تحمل غنى العطية، إذ لا يُعطي الله روحه بمقياس…) “أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم”، وبعد ذلك يقول: “وعلى عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام، فيتنبأون” (أع 2: 19).
لا يبالي الروح القدس بالأشخاص إذ لا يطلب كرامات بل تقوى الروح. لا ينتفخ الأغنياء ولا ينخذل الفقراء، بل ليستعد كل واحد لتقبل النعمة السماوية.
الروح القدس في العهد الجديد
20- لقد تكلمنا اليوم كثيرًا، ولعلكم قد قلقتم من الاستماع، لكن بقي أن أقول شيئًا. حقًا أن التعليم بخصوص الروح القدس يحتاج إلى مقال ثالث، بل إلى مقالات أخرى، لكن يليق بنا أن يكون لنا معرفة بكل النقط.
وإذ اقترب عيد الفصح المقدس لهذا نطيل مقالنا اليوم، وإن كان لا يكفي المجال لسرد كل شهادات العهد الجديد كما ينبغي… إنما نجمع القليل منها كما تجمع زهور قليلة من مروج واسعة على سبيل المماثلة.
الروح القدس يعمل في جميع الرسل معً
21- لأنه في قوة الروح القدس بإرادة الآب والابن وقف بطرس مع الإحد عشر ورفعوا أصواتهم… وأسَروا في الشبكة الروحية لكلماته حوالي 3000 نسمة.
عظيمة هكذا هذه النعمة التي كانت تعمل في جميع الرسل معًا، حتى أنه من اليهود صالبي المسيح، آمنهذا العدد العظيم، واعتمدوا باسم المسيح “وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والصلوات” (أع 2: 42).
وأيضًا بنفس القوة التي للروح القدس “صعد بطرس ويوحنا معًا إلى الهيكل في ساعة الصلاة التاسعة” (أع 3: 1)، وباسم يسوع المسيح شفيا الرجل الذي عند باب الجميل الأعرج من بطن أمه منذ أربعين عامًا، فتحقق ما قيل: “حينئذ يقفز الأعرج كالأيل” (إش 35:6).
وهكذا إذ أسَرا في شبكة تعليمهما الروحية خمسة آلاف مؤمنًا في وقت واحد، وقفا ضد رئيس الكهنة وقادة الشعب الضالين ليس بحكمتهما الخاصة إذ “أنهما عديما العلم وعاميان” (أع 4:13)، بل بقدرة الروح القدس القدير، إذ مكتوب حينئـذ امتلأ بطرس من الروح القدس (أع 4: 8).
هكذا أيضًا عظيمة هي نعمة الروح القدس التي عملت بواسطة الإثنى عشر رسولاً في الذين آمنوا حتى أنهم كانوا “بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ” (أع 4:32)، وكان كل ما لهم مشتركًا، وأصحاب المقتنيات يبيعونها ويقدمون أثمانها، ولم يكن أحد محتاجًا إلى شيءٍ، بينما حاول حنانيا وسفيرا أن يكذبا على الروح فسقطا تحت العقاب المناسب لهما.
عجائب بقوة الروح القدس
22- “وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب” (أع 5: 12). هكذا عظيمة هي النعمة الروحية التي ظللت الرسل، حتى وهم ودعاء كانوا مُرعِبين. “وأمّا الآخرون فلم يكن أحد منهم يجسر أن يلتصق بهم، لكن كان الشعب يعظمهم. وكان مؤمنون ينضمون للرب، جماهير من رجال ونساء” (أع 5: 13-14). وامتلأ الطريق بالمرضى على أسرَّتهم وفراشهم، “حتى إذا جاء بطرس يخيم ولو ظلّه على أحدٍ منهم، واجتمع جمهور المدن المحيطة إلى أورشليم”، هذه المدينة المقدسة، “حاملين مرضى ومعذبين من أرواح نجسة وكانوا يبرأون جميعهم” (أع 5: 51، 16) بقوة الروح القدس.
الروح القدس يعضد الرسل أمام الحكام
23- وأيضًا سجن الاثنا عشر رسولاً بأمر رئيس الكهنة بسبب التبشير بالمسيح، وبأعجوبة خلصوا منه في الليل بواسطة ملاك، فاُستُدعوا من الهيكل في المجمع للحكم. وفي خوف انتهروهم بسبب حديثهم عن المسيح، فأجابوا أن الله يعطيهم روحه لطاعته. وعندما جلدوهم ذهبوا فرحين، ولم يكفوا عن التعليم والتبشير بيسوع أنه المسيح (أع 5: 12).
الروح القدس يعمل في الشمامسة
24- ولم تكن نعمة الروح القدس عاملة في الاثني عشر رسولاً فحسب، بل وفي بكر أبناء الكنيسة… أقصد السبعة شمامسة الذين اُختيروا. وكما هو مكتوب أنهم كانوا “مملوءين من الروح القدس وحكمة” (أع 6: 3). هؤلاء الذين كان منهم استفانوس الذي بحق دُعي هكذا، أول الشهداء، إنسان “كان مملوءًا إيمانا وقوة (من الروح القدس)، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب” (أع 6: 8)، ويفحم المجادلين له. إنهم “لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به” (أع 6: 10). وعندما اتهموه بمكرٍ، وأتوا به إلى المجمع كان متلألئًا بضياء ملائكي، ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك… وإذ بحكمته دافع مفحمًا اليهود الذين هم “قساة القلب وغير المختونين بالقلوب والآذان، دائمًا يقاومون الروح القدس” (أع 7: 51).
“نظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله” (أع 7: 56). لقد رآه لا بقوته الذاتية، بل كما يقول الكتاب المقدس: “وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله” (أع 7: 55).
الروح القدس يعمل في فيلبس
25- في قوة الروح القدس أيضًا فيلبس في وقت ما في اسم المسيح كان يُخرج الأرواح النجسة، التي كانت تخرج صارخة بصوت عظيم، وشفى المفلوجين والعرج وآمن جمع كثير بالمسيح (راجع أع 8)…
ثم إن ملاك الرب دعا فيلبس في الطريق من أجل الإثيوبي الخصي التقي جدًا، إذ سمع بوضوح الروح يقول له “تقدم ورافق هذه المركبة” (أع 8: 29). لقد علَّم الخصي، وعمّده، فذهب إلى إثيوبيـا كرسول المسيح، كما هو مكتوب: “إثيوبيا تبسط يدها” (مز 31:68). واختطف الملاك فيلبس فصار يبشر بالإنجيل في المدن بالتتابع.
الروح القدس يعمل في بولس
26- أيضًا بهذا الروح القدس امتلأ بولس بعدما دعاه ربنا يسوع المسيح. وها هو حنانيا البار يشهد لما نقول، إذ في دمشق قال له: “قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس” (أع 9: 17). وللوقت تحوّل عمى بولس إلى حدة نظر بعمل الروح القدير، إذ نال نعمة ختمه في نفسه، جعلته إناءً مختارًا لحمل اسم الرب… فارتد المضطهد السابق إلى سفيرٍ وخادمٍ صالحٍ، “حتى أنه من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكمل التبشير بالإنجيل” (راجع رو 15: 19). وعلَّم في روما الإمبريالية، وحمل غيرة تبشيره إلى أسبانيا محتملاً معارك (روحية) بلا حصر وصانعًا آيات وعجائب…
الروح القدس يعمل في بطرس
27- بنفس قوة الروح أيضًا بطرس شفى إينياس المفلوج باسم المسيح في لدة التي هي الآن ذيوسبلس Diospolis. وفي يافا أقام طابيثا من الموت. وهو على السطح رأى السماء مفتوحة، وبواسطة الإناء النازل عليه مثل ملاءة مملوءة من حيوانات من كل شكل ونوع، تعلم بوضوح ألاّ يدعو أحدًا نجسًا أو دنسًا، حتى وإن كان يونانيًا (أع 10: 11-16 أممياً أو وثنياً). وعندما أُرسل إلى كرنيليوس سمع بوضوح الروح القدس نفسه يقول: “هوذا (ثلاثة) رجال يطلبونك، قم وأنزل وأذهب معهم ،غير مرتابٍ في شيءٍ، لأني أنا قد أرسلتهم” (أع 10: 19، 20).
ولكن يظهر بوضوح أن الذين من الأمم يؤمنون أيضًا، وتعاد لهم شركة نعمة الروح القدس، لذلك عندما ذهب بطرس إلى قيصرية وكان يعلم بالأمور المختصة بالمسيح يقول الكتاب عن كرنيليوس والذين معه: “فبينما بطرس يتكلم بهذه الأمور حلَ الروح القدس على جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة. فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان، كل من جاء مع بطرس، بأن موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأمم أيضًا” (أع 10: 44، 45).
الروح القدس وهب المؤمنين اسم “مسيحيين”
28- وفي أنطاكية أيضًا، المدينة المشهورة جدًا في سوريا، عندما كان التبشير منتشرًا، أرسل برنابا إلى هناك ليساعد في العمل إذ “كان رجلاً صالحًا وممتلئًا من الروح القدس والإيمان” (أع 11:24)، وإذ كان محصول المؤمنين بالمسيح كبيرًا أحضروا بولس من طرطوس إلى أنطاكية ليعينه في جهاده. وإذ تعلم جمع غفير بواسطتهما إذ اجتمعا في الكنيسة “ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً” (أع 11: 26).يبدو لي أن الروح القدس إذ وهب المؤمنين الاسم الجديد… وإذ سكب الله روحه بغزارة في أنطاكية نجد هناك أنبياء ومعلمين من بينهم “واحد منهم اسمه أغابوس” (أع 11:28).
“وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه” (أع 13:2)، وبعدما وضعوا الأيدي عليهما أُرسلا بواسطة الروح القدس.
من الواضح إذن الروح الذي يتكلم ويرسل هو روح حي، كائن عامل كما قلنا.
أقام الروح القدس عهدًا جديدًا في الكنيسة
29- هذا الروح القدس في وحدة مع الآب والابن أقام عهدًا جديدًا في الكنيسة الجامعة، محررًا إيّانا من أثقال الناموس… اقصد ما هو دنس وما هو ليس دنسًا، واللحوم والسبوت والشهور الجديدة، والختان والنضحات والذبائح (الدموية). الأمور التي تُعطي إلى زمان، وهي ظل للأمور العتيدة (عب 10: 1)، لكن متى جاء الحق نُزعت هذه بحق.
لأنه عندما أرسل بولس وبرنابا بسبب السؤال الذي ثار في أنطاكية بواسطة القائلين بضرورة اختتانهم وحفظ عوائد موسى، فإن الرسل الذين كانوا هنا في أورشليم حَرَّروا كل العالم من كل الملاحظات الرمزية والناموسية بأمر كتابي، لكنهم لم ينسبوا الحق إلى أنفسهم في أمرٍ عظيمٍ كهذا، بل أرسلوا أمرًا مكتوبًا، جاء فيه “لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم والمخنوق والزنا” (أع 15: 28-29)، مظهرين بوضوح بما كتبوه أنه بالرغم من أن الكتابة كانت بأيدي الرسل البشريين، لكن القانون صادر من الروح القدس، هذا الذي أخذ به بولس وبرنابا ثبتاه في العالم كله.
الروح القدس يقود بولس
30- والآن إذ بلغت هذا الحد في مقالي أطلب من محبتكم الاهتمام، أو بالأحرى أطلب من الروح الساكن في بولس بسبب عجزي عن سرد كل شيء على مسامعكم بسبب ضعفي أو قلق المستمعين. لأنه بأية عبارات لائقة أتحدث عن الأعمال العجيبة التي حدثت بواسطة الروح القدس في اسم المسيح؟ هذه الأعمال التي تمت في قبرص… وسيليكية وفريجية وغلاطية وميسيا ومكدونية؟! أو ما حدث في فيلبي… وتسالونيكي، أو الخطاب الذي ألقي في أريوباغوس وسط الأثينيين، أو التعاليم التي سردت في كورنثوس وفي كل آسيا؟!…
عظيمة هي النعمة الروحية التي كانت عليهم (أهل أفسس) حتى أن الأمراض كانت تًشفى والأرواح الشريرة تخرج، ليس فقط بلمسة، بل بأخذ العصائب والمناديل التي على جسده (أع 19: 12). وأخيرًا أولئك الذين مارسوا فنون السحر، إذ أحضروا كتبهم وأحرقوها أمام كل الناس (أع 19: 19).
الروح القدس يقود بولس (يتبع)
31- إنني أعبر على الأعمال التي حدثت في ترواس لأفتيخوس الذي غلبه النوم فسقط من الدور الثالث، وحُمل ميتًا، فأعاده إلى الحياة (أع 20:9-12).
إنني أعبر أيضًا على النبوات التي أعلنها لقسوس أفسس الذين دعاهم إليه في ميليتس، محدثًا إيّاهم بصراحة قائلاً: “غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً: (أع 20:23)… فبقوله “كل مدينة” يعلن بولس الرسول أن العجائب التي تمت على يديه[4] في كل مدينة هي من عمل قوة الروح القدس بإرادة الله في اسم المسيح الذي يتكلم فيه.
بقوة هذا الروح القدس كان الرسول نفسه يسرع إلى هذه المدينة المقدسة أورشليم. وبالرغم من أن أغابوس أنبأ له بالروح بما سيحل به، لكنه في ثقة تكلم مع الشعب، معلمًا بالأمور المختصة بالمسيح.
وعندما أُحضر إلى قيصرية ووُجد بين محاكمات، تارة أمام فيلكس، وأخرى أمام فيستوس الوالي والملك أغريباس، تلقى بولس الرسول من الروح القدس قوة عظيمة، وهكذا غلب في حكمة، حتى أن أغريباس نفسه ملك اليهود قال: “غالبًا ما تقنعني أن أصير مسيحيًا”[5].
وفي جزيرة مالطة وهبه الروح القدس ألاّ يصيبه ضرر عندما لدغته أفعى، مقدمًا شفاءات للمرضى.
هذا الروح القدس قاد المُضطهِد القديم كرسول للمسيح حتى إلى روما الإمبريالية، وهناك أقنع يهودًا كثيرين ليؤمنوا بالمسيح، وكان يحاججهم قائلاً بوضوح: “حسنًا كلّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي (عنكم) قائلاً…” (أع 28:25)
بولس يشهد لعمل الروح القدس
32- أما كون بولس مملوءً من الروح القدس هو وكل رفقائه الرسل والذين آمنوا بالآب والابن والروح القدس فاسمع منه بنفسه، إذ يكتب بوضوح في رسائله قائلاً: “وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة” (1 كو 2: 4). وأيضًا: “الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون (غيرة) الروح” (2 كو 1:22). وأيضًا “الذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” (رو 8:11). ويكتب إلى تيموثاوس قائلاً: “احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس المعطى لنا”[6].
الروح القدس ينبئ للرسل
33- أما عن كون الروح القدس قائمًا ويحيا ويتكلم وينبئ، فهذا سبق أن تحدثت عنه قبلاً. يكتب بولس إلى تيوثاوس بوضوح: “ولكن الروح يقول صريحًا إن في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان. الارتداد الذي نراه ليس في الأيام السابقة، بل وفي أيامنا نحن إذ كثيرة ومتنوعة هي أخطاء الهراطقة.
مرة أخرى يقول بولس “الذي في أجيال أُخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه في الروح” (أف 3: 5). وأيضًا: “لذلك كما يقول الروح” (عب 3: 7). وأيضًا: “ويشهد لنا الروح القدس أيضًا” (عب 10: 15). وأيضًا: “وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي كلمة الله” (أف 6:17). وأيضًا: “لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح مكلمين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية” (أف 5: 18، 19). وأيضًا: “نعمة الرب يسوع ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2 كو 13: 14).
أقنوم الروح القدس
34- بكل هذه البراهين التي قدمتها وأكثر منها يُمكن أن نفهم أقنومية الروح القدس وتقديسه وقوته العاملة. لأن الوقت لا يسعفني في مقالي لو رغبت في اقتباس ما تبقى من العبارات الخاصة بالروح القدس في الأربع عشرة رسالة التي لبولس حيث يعلم فيها بكل كمال ووقار… وإنني استمد الغفران من قوة الروح القدس نفسه لما حذفناه بسبب قلة الأيام. أما أنتم أيها السامعون، فيليق بكم أن تهتموا بأكثر كمال أن تعرفوا ما تبقى خلال القراءات المختلفة في الكتاب المقدس، إذ تجتهدون لفهم هذه الأمور.
من خلال المقالات الحالية أو السابق عرضها عليكم يمكننا أن نتمسك بأكثر ثبات بالإيمان أننا “نؤمن بالله الواحد، الآب القدير، وربنا يسوع المسيح ابنه الوحيد، والروح القدس المعزي”.
وبالرغم من أن الكلمة نفسها واللقب “روح” تنطبق على (الثالوث) عامة في الكتاب المقدس، إذ قيل عن الآب: “الله روح” (يو 4: 24)، كما جاء في إنجيل يوحنا وقيل عن الابن: “روح أمام وجهنا المسيح الرب” كقول إرميا النبي (راجع مرا 4: 20). وعن الروح القدس قيل: “المعزي الروح القدس” (يو 14: 25)…
اقبلوا الروح القدس بغير رياء!
35- احذروا لئلا تكونوا مثل سيمون فتأتوا إلى مدبري العماد في رياء فلا تكون قلوبكم طالبة الحق. عملنا نحن أن نمنع هذا، وعملكم أنتم أن تحفظوا نفوسكم. إن كنتم ثابتين في الإيمان، فمباركون أنتم. وإن كنتم ساقطين في عدم الإيمان فاطرحوا عنكم كفركم واقبلوا إيمانًا كاملاً.
ففي فصل العماد، عندما تأتوا في حضرة الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة… اقتربوا إلى خادم العماد، ولا تفكروا في الوجه المنظور، بل تذكروا الروح القدس هذا الذي نتكلم عنه الآن. لأنه حَال، ليختم نفوسكم. إنه سيهبكم ذلك الختم الذي ترتعب منه الأرواح الشريرة، ختمًا سماويًا مقدسًا كما هو مكتوب: “الذي فيه أيضًا أنتم إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس” (أف 1: 13).
يا لخطورة من يتقدم للعماد في خداع!
36- لكنه هو يمتحن النفس. إنه لا يلقي لآلئه قدام الخنزير. فإن جئت برياءٍ فإنه حتى وإن عمدك الناس لا يعمدك الروح القدس. وإن تزكَّيت بإيمان، فإن الناس يخدمون (السرّ) فيما هو منظور والروح القدس يهب ما هو غير منظور.
إنك تأتي إلى تجربة عظيمة، إلى ضيقة شديدة، فإنه في ساعة واحدة تُطرد وتكون كارثتك مرعبة. أما إن كنت مستحقًا للنعمة، فتستنير نفسك وتتقبل قوة لم تكن لك من قبل، تتقبل أسلحة مرعبة ضد الأرواح الشريرة. فإن لم تلقِ عنك أسلحتك محتفظًا بالختم على نفسك لا يقدر أي روح شرير أن يقترب إليك بل يهرب، لأن بروح الله تخرج الأرواح الشريرة.
لا تحزن روح الله القدوس
37- إن كنت تؤمن، فإنه ليس فقط تنال غفران الخطايا بل وتصنع أمورًا فوق الطاقة الإنسانية. ربما تتأهل لنعمة النبوة أيضًا. إنك تتقبل نعمة حسب قياس طاقتك لا حسب كلماتي. لأنني ربما أتكلم عن أمورٍ قليلةٍ وأنت تُوهب أمورًا أعظم، لأن للإيمان عمل عظيم للغاية.
في كل حياتك يسكن معك حارسك المعزي يعتني بك كجندي لك في خروجك ودخولك وضد أعدائك (الروحيين).
إنه يهبك عطايا النعمة من كل نوع إن كنت لا تحزنه بالخطية، إذ مكتوب “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء” (أف 4: 3).
ماذا إذن ألا تحتفظ أيها الحبيب بالنعمة؟ تهيأ لتقبلها، ومتى تقبلتها لا تطردها عنك.
ختام
38- ليت إله الكل ذاته الذي تكلم بالروح القدس خلال الأنبياء، والذي أُرسل على رسله في يوم البنطقستي في هذا المكان، هو نفسه يرسله عليكم في هذا الوقت، وبواسطته يحفظنا نحن أيضًا لكي نتمتع ببركاته نحن جميعًا، حتى نرد إليه ثمار الروح القدس “محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22، 23)، في المسيح يسوع ربنا الذي له وبه ومع الروح القدس المجد للآب الآن والي الأبد وإلى أبد الأبد. آمين.
________________________________________
[1] مقال 16: 28؛ مز 143: 10.
[2] مقال 4: 16؛ 16: 4.
[3] مقال 3: 6.
[4] كان الحديث عن الآلام والأتعاب التي يلاقيها الرسول في كل مدينة.
[5] أع 26: 28 “بقليل تقنعني أن أكون مسيحياً”.
[6] 2 تي 1: 4 “الروح القدس الساكن فينا”.
المقال الثامن عشر: كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية
“كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا” (حزقيال 37).
الرجاء في القيامة أصل كل عمل صالح
1- رجاء القيامة أصل كل عملٍ صالحٍ، فانتظار المكافأة يقوي النفس للأعمال الصالحة. فكل عاملٍ مستعد أن يتحمل الآلام إذا رأى أن مكافأته قريبة. لكن إن أجهد الناس أنفسهم للاشيء، تخور قلبهم كأجسادهم أيضًا. فالجندي الذي ينتظر غنيمة مستعد للحرب، لكن لا يقدم أحد نفسه للموت من أجل ملكٍ لا يبالي بالذين يخدمونه، ولا يمنح كدهم أيّة كرامة.
هكذا كل نفس تؤمن بالقيامة تحرص بطبيعة الحال على نفسها. لكن في عدم إيمانها بالقيامة تترك نفسها للدمار. فمن يؤمن أن جسده سيبقى ليقوم ثانية يكون حريصًا على ثوبه، لا يدنسه بالزنا، لكن من لا يؤمن بذلك يسلم نفسه للزنا، ويسيء استعمال جسده، كأنه لا يخصه. فالإيمان بقيامة الأموات وصية عظيمة والتعليم بـ” الكنيسة المقدسة الجامعة” تعليم عظيم وضروري، ولو ناقضه كثيرون. فهو مع ذلك بالتأكيد أمر حق! يعارضه اليونانيون، ولا يؤمن به السامريّون، ويقاومه الهراطقة، فالنفاق بينهم مختلف، لكن الحق واحد!
مجادلات الهراطقة
2- يجادل اليونانيون والسامريون قائلين: الميت سقط، وتحول إلى ديدان، والديدان ماتت أيضًا، هكذا يصيب الجسد التلف والهلاك، فكيف يقوم ثانية؟!
السفينة الغارقة يلتهم السمك من في داخلها ويبيدهم، والسمك أيضًا يُباد! من يقاتلون الحيوانات المتوحشة تُسحق عظامهم ذاتها، ويستهلكها الأسود والدببة! النسور والغربان تتغذى بجثث الأموات الذين لم يدفنوا، ثم يطيرون مشتّتين، فمن أين إذن يُجمع الجسم ثانية؟ الدجاج الذي التهمه، بعض منها في الهند والبعض في بلاد فارس والبعض الآخر في جاسان! أيضًا أناس آخرون تلتهمهم النيران ورمادهم ينثره المطر والرياح، فمن أين إذن يُجمع الإنسان؟
العالم كله في يده
3- أيها الرجال المساكين والضعفاء، تتراءى لكم الهند بعيدة عن أرض جاسان، لكن الله الذي يمسك العالم كله في قبضة يده، كل الأشياء قريبة لديه. لا تُعزِي إذن الضعف إلى الله بسبب ضعفك أنت، لكن الأفضل أن تتكل على قوته. أليست الشمس وهي عمل صغير من أعمال الله بومضة صغيرة من شعاعها تعطي الدفء للعالم كله؟! أليس الجو الذي عمله الله يكتنف كل شيء في العالم؟ فهل الله خالق الاثنين “الشمس والجو” بعيد عن الاثنين؟
تصور خليطًا من بذور النباتات المختلفة في قبضة يدك، فهل يصعب عليك وأنت إنسان أن تعزل هذه البذور التي في يدك عن بعضها البعض وتجمعها حسب أنواعها؟ أفأنت تقدر على عزل الأشياء التي في يدك، ولا يقدر الله على عزل الأشياء التي تحتويها يده؟ ويرجعها إلى وضعها الأصلي؟ لتقدِّر ما أقول، وإن كان إنكارها كفرًا!
الله عادل
4- أرجوك أيضًا أن تصغي إلى “مبدأ العدل” وترجع إلى نفسك. تصور أن لك خدمًا كثيرين بعضهم طيب والآخر شرير. إنك تكرم الطيب، وتضرب الرديء، وإن كنت قاضيًا فإنك تكافئ البار بمدحه وتعاقب المخطئ. إذن… فهل توجد فيك العدالة أيها الإنسان الفاني، والله ملك الكل الذي لا يتغير، أليس عنده عدالة لمجازيه؟ لا! فإنكارها كفر!
فكِّر فيما أقول. إن قتلة كثيرين ماتوا في أسرتهم غير معاقبين، أين إذن عدل الله؟ فإن لم تكن هناك عدالة ومجازاة بعد هذه الدنيا فأنت تتهم الله بالإثم!
لا تستغرب لتأخير العدالة، فإنه لا يُكافأ مصارع أو يُهان حتى تنتهي المباراة، ولا يُكلل قائد المباراة الرجال أثناء كفاحهم، بل ينتظر حتى تنتهي كل المباراة، فيوزع عليهم الجوائز أو أكاليل الزهور. هكذا الله أيضًا: مادام النزاع باقيًا في هذا العالم يسعف العادلين ولو جزئيا، لكن بعدئذ يرجع لهم مكافأتهم كاملة.
لماذا يُعاقب منتهكي المقابر؟!
5- لكن إن كان بحسب تفكيرك لا تُوجد قيامة للأموات، فلماذا يُحاكم لصوص المقابر؟لأنه إذا كان الجسم يهلك ولا تكون قيامة. تأمل فيها، فلماذا يُعاقب منتهكو المقابر؟
فأنت ترى ولو أنكرت بشفتيك أنه فيك غريزة بأنه لا غنى عن القيامة!
البذور لا تعيش إن لم تمت!
6- هل تزهر الشجرة بعد قطعها؟ وهل يزهر الإنسان بعد قطعه أيضًا؟
وهل سيبقى القمح في جرن الدرّاس بعد بذارة وحصده؟ (دون أن تُعاد زراعته). هل سيبقى الإنسان بعد حصده من هذا العالم للدرّاس؟
هل ترجع أعضاء الكرمة الصغيرة بعد قطعها وشتلها في الحياة، وتعطي ثمارًا؟! وهل الإنسان الذي لأجله تعيش كل هذه (مرة أخرى) يقع في الأرض ولا يقوم ثانية؟
أيهما أصعب، صبّ تمثال لم يوجد من قبل، أم إعادة صوغ الذي سقط بنفس شكله؟
إذن هل الله الذي خلقنا من العدم غير قادر أن يقيم هؤلاء الذين عاشوا وسقطوا؟ لكنك وأنت يوناني لا تصدق الأشياء التي كُتبت عن القيامة. إذن تأمل من الطبيعة ذاتها في هذه الأمور وافهمها مما تراه اليوم.
فمثلا يُبذر القمح أو أي نوع آخر من البذور، وإذ تسقط البذرة تموت وتتعفن وحينئذ لا تكون صالحة للأكل، لكن ما تعفّن يطلع في اخضرار، ولو كان صغيرًا عند نبتته لكنه يخرج أكثر جمالاً. لكن القمح وجد من أجلنا، لأن القمح وجميع الحبوب لم تُخلق لنفسها بل لفائدتنا. إذن هل تدب الحياة في الأشياء التي عُملت من أجلنا عند موتها ونحن الذين صُنِعت من أجلنا لا نقوم ثانية بعد موتنا؟!
أمثلة من عالم النبات وعالم الحيوان
7- في فصل شتاء كما ترى، تقف الأشجار كأنها مائتة. أين أوراق شجرة التين؟! أين عناقيد الكرمة؟! هذه تموت في الشتاء، لكنها تخضر في الربيع! وعندما يأتي إليها الأوان يرجع إليها دبيب الحياة كأنه من حالة موت.
فإذ يعلم الله عدم إيمانك يصنع قيامة سنة وراء أخرى في هذه الأشياء المنظورة، فإذ تلاحظ الأشياء غير الحيّة ولا العاقلة تؤمن بما يختص بالخليقة الحيّة العاقلة…
أنواع أخرى من الفيران الحيّة النوامة. بعد بقائها بدون حركة أثناء الشتاء ترجع في الصيف…
هل الذي يهب المخلوقات الدنيئة غير العاقلة حياة خارقة للطبيعة، أما يقدر أن يمنحنا إيّاها ذاك الذي صنعها لأجلنا؟!
القيامة والعنقاء[2] عند اليونانيين!
8- لكن اليونانيين يطلبون قيامة أموات ظاهرة – ويقولون حتى لو قامت هذه المخلوقات فهي لم تتحلل تمامًا – ويطلبون رؤية أي مخلوق يقوم ثانية بعد إضمحلال كامل.
لقد علم الله جحود الناس، فهيأ لهذا الغرض طائرًا يدعى العنقاء، وهذا الطائر كما يكتب إكليمنضس وكما يروي كثيرون غيره… أنه يصل إلى أرض المصريين في دورة كل خمسمائة سنة، ممثلاً القيامة لا في الأماكن المهجورة لئلا يبقى حدوث السرّ غير معروفٍ، لكن خلافًا لذلك يظهر في مدينة شهيرة حتى يلمس الناس ما هو غير مُصّدق. فإنه يعمل لنفسه كفنًا من اللبان والمرّ والتوابل الأخرى، ويدخل في هذه بعد نهاية عمره ويموت تمامًا ويضمحلّ. ثم من لحم الطائر الفاسد تولد دودة، وبعد أن تكبر هذه الدودة تتحول إلى طائر.
لا تُكذّب هذا، لأنك ترى ميلاد النحل أيضًا على هذا الأسلوب يتولد من الديدان ومن البيضات التي هي عبارة عن سائل. أرأيت الأجنحة والعظام وقوة نشأة الطيور.
بعد ذلك تطير العنقاء المذكورة محلقة عاليًا في الهواء بعد أن تكون قد أصبحت طائرًا كبيرًا كامل النمو كالعنقاء السابقة.
إذن أتعطى قيامة من الموت لهذا المخلوق غير العاقل الذي لا يعرف صانعه، ونحن الذين نمجد الله ونحفظ وصاياه لا توهب لنا قيامة؟
لننظر إلى خلقتنا ذاتها
9- حيث أن العنقاء بعيدة وغير حقيقية، ويُكذب الناس قيامتنا، فإنني أقدم لك دليلاً على القيامة مما تراه كل يوم. منذ مائة سنة (كلنا نحن المتكلمون والسامعون) أين كنا؟!
ألا نعلم أساس مادة أجسادنا؟ ألا نعرف كيف وُلدنا من عناصر ضعيفة لا شكل لها، وبسيطة، وكيف كُوّن الإنسان الحي من شيء ضعيف وبسيط؟! وكيف أن هذا العنصر الضعيف وقد صنع جسدًا تغيّر إلى ذي بأس قوي، وعيون لامعة وآذان سامعة، وأنف حساس، ولسان متكلم، وقلب نابض، وأيادٍ عاملة، وأقدامٍ سريعة، وأعضاءٍ من كل نوع؟!
كيف أن هذا العنصر الذي كان ضعيفًا في وقتٍ ما يصير صانع سفن، وبناء، ومهندسًا معماريًا، وصاحب حرف وفنون مختلفة، وجنديًا، وحاكمًا، وشارع قوانين، وملكًا؟! ألا يقدر الله إذن – الذي صنعنا من مواد ناقصة – أن يقيمنا بعد أن سقطنا في الاضمحلال؟! فالذي يشكل الجسد من شيء حقير ألا يقدر أن يقيم الجسم الساقط أيضًا ثانية؟! والذي يُشكل ما لا يشكل ألا يقيم الكائن الذي سقط؟!…
الرد على السامريين[3]
10- لننتقل إلى السامريين الذين قبلوا الشريعة فقط ولا يميزون الأنبياء. فالفصل الذي قرىء من حزقيال يبدو لهم بلا قوة، لأنهم كما قلت لا يعترفون بالأنبياء. كيف إذن نقنع السامريين أيضًا؟ لنذهب إلى كلمات الشريعة! يقول الله لموسى:“أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب”، فهو إذن إله من لا وجود لهم.
ومتى يقول ملك: أنا ملك جنود غير موجودين؟! أو من يتظاهر بثروة لا يملكها؟! لذلك إبراهيم وإسحق ويعقوب لابد أنهم عائشون حتى أن الله يكون إله من لهم وجود. لأنه لم يقل: “كنت إلههم” بل “أنا إلههم”.
إنه توجد دينونة، ويظهر ذلك إبراهيم في قوله للرب: “أديّان الأرض كلها لا يصنع عدلاً؟” (تك 18: 25)
أمثلة من أسفار الناموس
11- لكن يعترض السامريون على هذا أيضًا ويقولون إن نفوس إبراهيم وإسحق ويعقوب مُمكن بقاؤها لكن أجسادهم لا يمكن قيامتها ثانية. فهل كان ممكنًا أن تتحول عصا موسى التقي إلى حيَّة، وغير ممكن أن تحيا أجساد الأتقياء وتقوم ثانيةً؟ وهل عمل هذا خلافًا للطبيعة، وهل لا يعودون هم ثانية بحسب الطبيعة؟!
كذلك عصا هرون ولو أنها قُطفت، لكنها ازدهرت بدون رائحة الماء (أي 14: 9). ولو أنها تحت سقف أزهرت أزهارًا كما لو كانت في الحقول، ولو أنها وضعت في مواضع جافة وحملت في ليلة الزهور وأثمر النبات الذي يُسقى سنينًا عديدة، فهل قامت عصا هرون من الموت، وهرون نفسه لا يقوم؟! هل يعمل الله معجزات في الخشب ليضمن له الكهنوت، ولا يتعطف بقيامة هرون نفسه؟
تحوّلت امرأة إلى ملح على خلاف الطبيعة، وتحول جسدها إلى ملح، أفلا يرجع اللحم إلى لحم؟! هل تحولت امرأة لوط إلى عمود ملح وامرأة إبراهيم ألا تقوم ثانية؟!
بأية قوة تغيرت يد موسى النبي التي في ساعة صارت كالثلج وعادت ثانية بأمر الله؟! فهل كان أمره يحمل قوة والآن بلا قوة؟!
الخلق أم القيامة
12- أيها السامريون المجاهدون، في البدء خرج الإنسان إلى الوجود. ارجعوا إلى أول سفر في الكتاب المقدس الذي تسلمتموه. “وخلق الله الإنسان من تراب الأرض”. هل يتحول إلى تراب ولا يرجع إلى لحم ثانية؟!
يلزمك أن تسال أيضًا: متى وُجدت السماء والأرض والبحر والشمس والقمر والنجوم؟ وكيف صُنعت الخليقة التي تطير وتسبح في الماء؟! وكيف خرج من التراب كل ما هو حي؟! هل خرجت من العدم إلى الوجود ونحن البشر الذين على صورة الله ومثاله لا نقوم؟!
حقًا هذا الحديث مملوء كفرًا ويدين عديمي الإيمان.
لقد صاحب إبراهيم الرب كديان الأرض كلها بينما متعلمو الشريعة لا يصدقون!إن الإنسان وُجد من التراب، والقارئون لا يصدقون!
لا يقوم الأشرار في يوم الدين
13- هذه الأسئلة موجهة إليهم، أما كلمات الأنبياء فهي لنا نحن المؤمنون. لكن مادام البعض الذين يعلمون بالأنبياء ولا يؤمنون بما هو مكتوب ويجادلون ضدنا، مسيئين فهم ما كُتب بحق: “لذلك لا يقوم الأشرار في الدين” (مز 1: 5).
حسنًًا يليق بنا أن نقابلهم بطريقة سطحية بقدر الإمكان، لأنه إذ قيل إن “الأشرار لا يقومون في يوم الدين”. فهذا يظهر أنهم سيقومون في يوم الدين، لأن الله لا يحتاج إلى إمعان نظر طويل إليهم، بل بعد قيام الأشرار في الحال يذهبون إلى عقابهم.
إذا قيل “ليس الأموات يسبحونك يا رب” (مز 115: 17). فهذا يُظهر أن هذه الحياة فقط هي الوقت المعين للندم والمغفرة. “والذي يهبط إلى الهاوية ولا يصعد” (أي 7: 9). الذين يُسرون بهذه الحياة هم الذين سيُسبحون الله. أما الذين ماتوا في الخطايا فلا يبقى لهم وقت أن يسبحوا بعد الموت كالمتمتعين بالبركات. إنما ينوحون على أنفسهم، لأن التسبيح لمن يشكر، والنحيب لمن هو تحت العقاب. لذلك يقوم الأتقياء بالتسبيح، أما الذين ماتوا في الخطايا، فليس لهم وقت للاعتراف (الحمد) بعد ذلك.
أيوب والأنبياء يشهدون للقيامة
14- وبخصوص العبارة: “هكذا الذي ينزل إلى الجحيم ولا يصعد”. لاحظ ما جاء بعد ذلك. “لا يرجع بعد إلى بيته” (أي 7: 10). ولما كان العالم كله سينتهي، وكل بيت سيخرب، كيف يرجع ثانية إلى بيته عندما تكون أرضًا جديدة مغايرة؟
لكن كان يجب أن يسمعوا أيوب يقول: “لأن للشجرة رجاء، إن قطعت تُخلِف أيضًا ولا تعدم خراعيبها – ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالغرس – أما الرجل فيموت ويبلى، الإنسان يسلم الروح فأين هو؟” (أي 14:7-10 ). إنه يتكلم بعتاب ولوم!
يقول: إذا كانت الشجرة تقع ثم تحيا ثانية، ألا يحيا الإنسان مرة ثانية الذي من أجله وُجد الشجر كله؟ ولكي لا تتصور أنه أقحم الكلمات، اقرأ ما يتبع ذلك. يقول: “إن مات رجل فيحيا” (أي 14: 14)، وحالاً يضيف: “سأنتظر إلى أن أقوم”. وفي موضع آخر: “بعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله” (أي 19: 26).
وفي إشعياء: “تحيا أمواتك، تقوم الجثث” (إش 26: 19).
وفي حزقيال: “ها أنذا افتح قبوركم، وأصعدكم من قبوركم” (حز 37: 12).
وفي دانيال: “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي” (دا 12: 2).
أمثلة عملية على قيامة الأموات في العهدين
15- أناجيل كثيرة تشهد بقيامة الأموات، إذ توجد شهادات كثيرة في هذا الأمر. لكن الآن لمجرد التذكر نقدم تنويهًا عابرًا عن قيامة لعازر في اليوم الرابع، ونلمح فقط لضيق الوقت عن قيامة ابن الأرملة.
ولكي أُذكركم فقط، دعوني أذكر ابنة رئيس المجمع، وتشقق الصخور وقيام كثير من أجساد القديسين الذين رقدوا (مت 27: 52) فقد “فُتحت قبورهم”.
لكن بالأحرى كونوا ذاكرين “أن المسيح قام من الأموات” (1 كو 15:20).
أتكلم عن إيليا وعن ابن الأرملة الذي أقامه، وعن إليشع الذي أقام ميتًا مرتين:مرة في حياته وأخرى بعد موته.
لأنه في حياته أتم القيامة بنفسه his soul (2 مل4: 34). لكن لكي تُكرم ليس فقط نفوس الأتقياء، بل ولكي يُصدق أنه في أجساد الأتقياء تكمن قوة، فالجثة التي ألقيت في قبر إليشع عندما لمست جسد النبي قامت. فصنع جسد النبي الميت فعل النفس. الذي مات ودُفن أعاد الحياة للميت، ولو أن الذي أعطى حياة استمر وسط الأموات. لماذا؟ لئلا إن قام إليشع مرة أخرى فالعمل يُعزى لـ “نفسه” فقط، وإنما ليظهر أنه حتى في غياب “النفس” تسكن فضيلة في أجساد القديسين بسبب النفس التقية التي سكنت به عدة سنين واستعملتها لخدمتها.
فلا تدعونا نكذب بجهل كأن هذه الأشياء لم تحدث. لأنه إن كانت المناديل والعصائب التي من الخارج تلمس أجساد المرضى فيشفون، فما بالك بجسد النبي نفسه يقيم الموتى؟
شهادة الكتاب المقدس عن القيامة
16- يمكننا أن نقول الكثير عن هذه الأمثال، موضحين الظروف الفائقة للطبيعة لكل حادثة، لكن لما كنتم مُتعبين من صوم (الاستعداد) المفروض، وبالسهر، فنعتبرما قيل عنهم كافيًا.
هذه الكلمات بُذرت بضعف حتى أنكم كأرض جيدة قبلت البذور. فيمكن تقديم البذور وإكثارها، ولكن اذكروا أن التلاميذ أيضًا أقاموا موتى. فبطرس أقام طابيثا في يافا، وبولس أقام أفتيخس في ترواس (أع 20: 9)، وهكذا فعل كل التلاميذ الآخرين، ولو أن المعجزات التي صنعها كل واحدٍ لم تكتب جميعها.
بعد ذلك تذكروا كل الأقوال في رسالة معلمنا بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس التي كتبها ضدهم، فقـال: “كيف يقام الأموات؟ وبأي جسم يأتون؟” (1 كو 15: 35) “لأنه إذا كان الموتى لا يقومون، فالمسيح إذن لم يقم” (1 كو 15: 16)، وكيف أن الذين لم يؤمنوا دعاهم أغبياء، تذكروا كل تعليمه هناك، وما يتعلق بقيامة الأموات، وكيف كتب إلى أهل تسالونيكي (1 تس 16: 4-13). “ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم”، لكن الأهم هو من جهة “الراقدين في المسيح سيقومون أولاً”.
سمات الجسد المُقام
17- لقد دّون هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة: “لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت” (1 كو 15: 53). إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد وبشكلٍ جديدٍ. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا: هذا الجسد سيقوم، لكنه لن يمكث كما هو الآن.
إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده، لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه، إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير: “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13: 43). “وكالقمر، وكضياء الجلد” (دا 12: 3).
فالله العالم بعدم إيمان الناس، أعطى الديدان الصغيرة أن تُخرج من جسمها أشعة من نور حتى أنه مما نرى نصدق ما نتوقعه. لأن الله الذي يعطى الجزء قادر أن يعطى الكل أيضًا. والذي جعل الدودة متألقة بالنور، يجعل بالأحرى الإنسان النقي يضيء.
يشترك الجسد في العمل كما في المكافأة
18- سنقوم إذ ذاك كلنا بأجسادنا الأبدية، لكن ليس الكل بأجسادٍ متشابة، فالإنسان التقي يأخذ جسدًا سماويًا، حتى يتأهل للتحدث مع الملائكة، وأمّا الشرير فيأخذ جسدًا أبديًا مناسبًا يتحمل عقوبة الذنوب، فيحترق إلى الأبد في النار ولا يبيد.
بحق يسمح الله بهذا النصيب للطرفين، لأننا لا نعمل شيئًا بدون الجسد. فنحن نجدف بالفم، وبالفم نصلي. بالجسد نرتكب الزنى، وبه نحفظ العفة. باليد نسرق وباليد نمنح صداقات، وهكذا.الجسد الذي كان خادمًا لنا في كل شيءٍ سيشاركنا في المستقبل ثمار الماضي.
لنعتنِ بأجسادنا إذ هو يخصنا
19- لذلك أيها الإخوة لنعتنِ بأجسادنا، فلا نسيء استعمالها كأنها ليست لنا. فلا نقول كالهراطقة إن هذا الثوب من الجسد لا يخصنا. لكن لنعتني به إذ هو يخصنا. يجب أن نقدم حسابًا لله عن كل الأشياء التي يصنعها الجسد. لا تقل لا يراني أحد. لا تفكر أنه يوجد شاهد على الفعل، وغالبًا لا يكون هناك شاهد بشري، لكن الله الذي خلقنا شاهد لا يخطئ “والشاهد في السماء أمين” (مز 89: 37)، يراقب ما نعمله.
دنس الخطية يبقى في الجسد، وآثار جروحه تبقى في الكل، ولا تُزال إلا من الذين قبلوا حميم العماد.
الجروح السابقة للنفس والجسد يشفيها الله بالعماد. لنحترس لأنفسنا من الخطايا المستقبلة حتى نحفظ الجسد طاهرًا. فليس من أجل الزنى والانهماك في الشهوات الجنسية الأخرى لوقتٍ قصيرٍ نضيع خلاص السماوات، لكن نُوهب ميراث ملكوت الله الأبدي، الذي نطلب من الله أن يحسبكم جميعًا مستحقين إياه بنعمته.
حفظ قانون الإيمان
20- وهكذا توجد براهين كثيرة على قيامة الأموات. والآن دعوني أتلو عليكم قانون الإيمان، وأنتم تنطقونه بكل اجتهاد بينما أتكلم…
كنيسة جامعة
21- قانون الإيمان الذي نردده يقول: “وبمعمودية واحدة للتوبة لمغفرة الخطايا، وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة. وبقيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”.
تكلمت عن العماد والتوبة في المقالات السابقة وفي المقالة الحاضرة تحدثت عن قيامة الجسد، والآن أُكمل ما قد تبقى “وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة” سنتكلم عنها باختصار، ولو أنه يمكن أن تقال أشياء كثيرة عنها.
جامعة
23- لأنها تمتد في كل العالم… من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، ولأنها تعلم تعليمًا شاملاً كاملاً فتقدم كل التعاليم التي يجب أن يعرفها الإنسان بخصوص الأمور المنظورة وغير المنظورة، السماوية والأرضية. ويخضع لها كل جنس الرعاة والرعية، المتعلمون وغير المتعلمين، ولأنها عمومًا تعالج وتشفي كل أنواع الخطايا التي اُرتكبت بالروح أو الجسد، وتملك فيها كل ما يُسمى تكوين للفضيلة والأعمال والأقوال، وكل نوع من المواهب الروحية.
إكليسيّا” أو جماعة
24- بحق دعيت “إكليسيّا” لأنها تدعو كل الناس، وتجمعهم مع بعضهم البعض. كقول الرب في لاويين: “واجمع كل الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع” (لا 8: 3). وليكن معلومًا أن كلمة “اجمع” استعملت لأول مرة في الكتاب المقدس هنا في الوقت الذي وُضع هارون في رئاسة الكهنة، وفي سفر التثنية أيضًا قال الرب لموسى: “اجمع لي الشعب، فأُسمعهم كلامي لكي يتعلموا أن يخافوني” (تث 4: 10).
ويُذكر اسم الكنيسة عندما يتكلم عن لوحيّ الشريعة، وعليهما كتبت كل الكلمات التي تكلم بها الرب على الجبل. كأنه يقول بأكثر صراحة: “في اليوم الذي دُعيتم فيه من الله واجتمعتم”. يقول المرتل داود: “أحمدك في الجماعة الكثيرة. في شعب عظيم أسبحك” (مز 35: 18).
رفض اليهود ونشأة الكنيسة
25- ومن القديم يرنم صاحب المزامير: “في الجماعات باركوا الله الرب” (مز 68: 26). لكن بعد أن أُستبعد اليهود من نعمته (بسبب المؤامرات التي فعلوها ضد المسيح) بنى المخلص من الأمم كنيسة ثانية مقدسة، كنيستنا نحن المسيحيين، إذ قال لبطرس: “على هذه الصخرة ابني كنيستي، وأبواب الجحيم لم تقوى عليها” (مت 16: 18).
وتنبأ داود عن الاثنين، فقال في صراحة عن الأولى: “أبغضت جماعة الأثمة” (مز 26: 5). وأمّا عن الثانية التي بُنيت فيقول “يا رب أحببت محل مسكنك” (مز 26: 8) وبعدها رأسًا يقول: “في الجماعات أبارك الرب” (مز 26: 12).
ولما كانت الكنائس في اليهودية قد نُبذت، زادت كنائس المسيح في العالم كله. وعنها يُقال في سفر ملاخي: “ليست لي مسرة بكم، قال رب الجنود، لأنه من مشارق الشمس إلى مغاربها اسمي عظيم بين الأمم” (مل 1: 10، 11). بخصوص هذه الكنيسة المقدسة يكتب بولس لتيموثاوس في رسالته الأولي “فكيف يجب أن تتصرف في بيت الله الذي هو كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته” (1 تي 3: 15).
تجنب اجتماعات الهراطقة
26- ولما كانت الكلمة “إكليسيّا” أي الكنيسة قد استعملت بمعانٍ مختلفة (كما كتبت عن الحشد في مسرح الأفسسيين) “ولما قال هذا صرف الجمع” (1 تي 3: 15)، ولئلا يقول أحد بالحق إن هناك كنيسة أشرار، أعني اجتماع الهراطقة المانيين وأتباع مرقيون وغيرهم. لهذا السبب أسلم لك في أمان القول “بكنيسة واحدة مقدسة جامعة” حتى تتجنب اجتماعاتهم التعسة، وتستمر على الدوام مع الكنيسة المقدسة الجامعة التي وُلدت فيها. وإن حللت في مدن لا تسأل ببساطة أين “بيت الرب” (لأن طوائف الملحدين يحاولون أيضًا أن يُسمّوا أوكارهم بيوت الرب)، ولا تسأل فقط “أين الكنيسة”، بل “أين الكنيسة الجامعة”. لأن هذا هو الاسم الخاص لهذه الكنيسة المقدسة أمنا جميعًا. عروس السيد المسيح ابن الله الوحيد. لأنه مكتوب: “وكما أَحبّ المسيح الكنيسة وأَسلم نفسه لأجلها” (أف 5: 25). وهي صورة ونسخة من أورشليم السمائية التي هي “أمنا جميعًا، وهي حرة” (غل 4: 26). التي كانت من قبل عاقرًا وأصبح لها أولاد كثيرون الآن.
غنى الكنيسة الجامعة
27- لما طُردت الكنيسة الأولى (اليهودية)، ففي الثانية أقام الله بنفسه الكنيسة الجامعة ما قاله بولس “أولاً: رسلاً، ثانيًا: أنبياء، ثالثًا: معلمين ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء. أعوانًا، تدابير، وأنواع ألسنة” (1 كو 12: 28). وفيها كل أنواع الفضائل، أعني الحكمة والفهم، والاعتدال والعدل والرحمة والمحبة المترفقة، والصبر الذي لا يُقهر في الاضطهادات. إنها “بسلاح البرّ لليمين ولليسار، بمجدٍ وهوانٍ” (2 كو 8: 6-7).
في الأيام السالفة وسط الاضطهادات والمحن توِّج الشهداء القديسون بأكاليل الصبر المزهرة المختلفة. والآن في وقت السلام بنعمة الله قبلت كجسدها الجدير بها من الملوك والذين هم في منصب (1 تي 2: 2)، ومن كل نوع وقرابة من الناس. وبينما انتهى سلطان ملوك الأمم في الكنيسة المقدسة الجامعة وحدها، تمتد قوتها (الروحية) بلا حدود في كل العالم، لأن الله – كما هو مكتوب – جعلها ملجأ سلام.
إن أردت أن أتكلم عن كل الأشياء المتعلقة بها احتاج لساعاتٍ طويلة.
الحياة الأبدية
28- في هذه الكنيسة المقدسة الجامعة نتقبل التعليم ونسلك بتقوى لننال ملكوت السماوات ونرث الحياة الأبدية، لذلك أيضًا نحتمل كل الأتعاب، حتى نكون شركاء مع الرب. لأن قصدنا ليس بالأمر التافه، إنما نسعى للحياة الأبدية. ففي قانون الإيمان بعد الحديث عن قيامة الأموات (التي تحدثنا عنها) تعلمنا أن نؤمن أيضًا بالحياة الأبدية التي نجاهد لها كمسيحيين.
مصدر الحياة الأبدية
29- الآب هو الحياة الحقيقية، الذي يغدق عطاياه السماوية على الكل كأنها من ينبوعٍ خلال الابن في الروح القدس. وفي محبته للبشر وعدنا ببركات الحياة الأبدية بدون فشل من جانبنا. يجب ألاّ نجحد هذه الإمكانية، لكن لنا عين ترى، ليس ضعفنا، بل قوته “لأن كل شيء مستطاع عند الله”. ولما كان هذا ممكنًا، ويجب أن ننظر إلى الحياة الأبدية كما يوضح دانيال ذلك: “الذي ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور” (دا 12:3). ويقول بولس: “وهكذا نكون كل حين مع الرب” (1 تس 4: 17)، لأن وجودنا دائمًا مع الرب هو الحياة الأبدية. لكن الأكثر صراحة قول المخلص: “فيمضي هؤلاء إلى عذابٍ أبديٍ، والأبرار إلى حياة أبدية” (مت 25: 46).
كيف نربح الحياة الأبدية؟
30- كثيرة هي البراهين التي تخص الحياة الأبدية. عندما نرغب في أن نربح الحياة الأبدية، يوحي لنا الإنجيل المقدس بطرق ربحها. ولكي لا يطول حديثنا نبسط أمامكم شهادات قليلة، ونترك الباقي لبحث المجتهدين. فبعض النصوص تصرح مرة أنها بالإيمان، إذ مكتوب: “الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية” (يو3: 36). ويقول أيضًا: “الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية” (يو 5: 24). مرة أخرى تقول بشارة الإنجيل: “والحاصد يأخذ أجرة، ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية” (لو 4: 36)، مرة أخرى بالاستشهاد والاعتراف باسم المسيح “من يكره نفسه في هذا العالم يحفظها لحياة أبدية” (مر 7: 25). وأيضًا بتفضيل المسيح على المال والأقارب “كل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية” (مت 19:29). وبالأكثر يكون بحفظ الوصايا “لا تزنِ لا تقتل…” كما أجاب الذي أتى إليه، وقال يا معلم “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية” (مر 10: 17). وأيضًا بترك الأعمال الشريرة، وهكذا نخدم الله، إذ يقول معلمنا بولس: “الآن إن أُعتقتم من الخطية وصرتم عبيدًا لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية للحياة الأبدية” (رو 6: 22).
أبواب كثيرة بها ندخل الحياة الأبدية
31- كثيرة هي طرق الحياة الأبدية، لأن الرب في محبته المترفقة فتح لا بابًا واحدًا ولا اثنين لكن أبوابًا كثيرة بها ندخل الحياة الأبدية، حتى يمكن أن يتمتع بها الكل دون عاتق…
التمتع بالأسرار الكنسية
32- والآن أيها الإخوة المحبوبون تعظكم كلمة الإرشاد لتُعد نفوسكم لاستقبال النعم السماوية الخاصة بالإيمان المقدس الرسولي المسلم لكم للاعتراف. فقد تكلمنا بنعمة الرب في مقالات كثيرة على قدر ما أمكن في الأيام الماضية للصوم الكبير، ليس لأن هذا هو ما كان يجب أن نقوله، إذ كثيرة هي النقاط التي حُذفت، والتي في استطاعة معلِّمين ممتازين تقديمها.
لكن عيد الفصح المقدس قريب، وأنت يا حبيب المسيح يجب أن تستنير “بحميم الميلاد”، وسنتعلم ثانيًا (إن أراد الرب) ما هو ضروري وبأية عبادة وترتيب عظيم ما يجب أن تفعلوا، عندما تستعدون بقصد إتمام أحد الأسرار المقدسة أي العماد، وبأي احترام وترتيب يجب أن تذهبوا إلى مذبح الله المقدس وتتمتعوا بأسراره الروحية السمائية، حتى إذا استنارت نفوسكم بكلمة التعليم يمكنكم أن تكتشفوا في كل شيء عظمة النعم المغدقة عيكم من الله.
الحاجة إلى عظات عن الأسرار
33- وبعد يوم عيد القيامة المقدس الذي للخلاص ستأتون يومًا بالتتابع مبتدئين باستماع مقالات أخرى تتعلمون فيها أسباب كل شيء عُمل، وتأخذون البراهين من العهدين القديم والجديد. أولاً: الأشياء التي تُعمل قبل العماد مباشرة، ثانيًا: كيف تطهرتم من خطاياكم بالرب؟ “بغسيل الماء بالكلمة” (أف 5: 26). وكيف صرتم شركاء في اسم المسيح مثل الكهنة، وكيف أُعطيتم ختم شركة الروح القدس؟ وبخصوص أسرار مذبح العهد الجديد التي ابتدأت من هذا المكان، ما سلّمه لنا الإنجيل المقدس، وما هي قوة هذه الأسرار؟ وكيف يجب الاقتراب منها ؟ وكيف ومتى نتناولها؟ وفي آخر الكل، كيف في الزمن الآتي يجب أن تسلكوا كما يليق بهذه النعمة من جهة الكلمات والأعمال، حتى يمكنكم كلكم أن تتمتعوا بالحياة الأبدية؟ كل هذه الأمور ستقال إن شاءت مسرة الرب.
الاستنارة بالعماد
34- أخيرًا يا إخوتي افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا لأن خلاصكم يقترب، وطغمات الملائكة السماوية تنتظر خلاصكم، والآن صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب (إش 60: 3). ويصرخ النبي: “أيها العطاش هلموا جميعًا إلى المياه”. وبعدها فورًا “استمعوا لي وكلوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم” (إش 55: 1-2). وفي برهة قصيرة ستستمعون هذا الدرس الممتاز القائل: “قومي استنيري لأنه قد جاء نورك” (إش 60: 1)، وعن أورشليم هذه قال النبي: “بعد ذلك تُدعين مدينة العدل القرية الأمينة صهيون” (إش 1: 26) و“لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب” (إش 2: 3)، الكلمة التي وزعت بسخاء على العالم أجمع. وما يقوله النبي أيضًا بخصوصكم: “ارفعي عينيك حواليك وانظري. بنوك قد اجتمعوا إليك” (إش 49: 18)، وهي تجيب قائلة: “من هؤلاء الطائرون كالسحاب وكالحمام إلى بيوتها”؟ (إش 60:8)، سحاب لطبيعتها الروحية، وحمام لطهارتها.
وتقول ثانية: “هل تمخض بلاد في يوم واحد، أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد تمخضت صهيون بل ولدت بنيها” (إش 66: 8). وكل الأشياء تمتلئ بفرح لا ينطق به، لأن الرب قال: “هأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحًا” (إش 65: 18).
مبارك هو الله!
35- نرجو أن تُقال هذه الكلمات أيضًا لكم: “ترنمي أيتها السماوات، وابتهجي أيتها الأرض، لأن الرب قد عزى شعبه وعلى بائسيه يترحم” (إش 49:13). وسيحدث هذا من شفقة الرب المحبة القائل لكم: “قد محوْت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك” (إش 44: 22).
وأنتم الذين حُسبتم جديرين باسم المؤمنين، الذي عنكم كُتب: “ويسمي عبيدي اسمًا جديدًا يتبارك في الأرض” (إش 65: 15). ستقولون بفرحٍ: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح” (أف 1: 3). “الذي فيه الفداء لنا بدمه لغفران خطايانا التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة” (أف 1: 7، 8)… “الله الذي هو غني في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها. ونحن أموات بالخطايا أحيانًا مع المسيح” (أف 2: 4).
وفي مثل هذا تسبحون الرب على كل الأشياء الطيبة، قائلين: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله واحساناته. لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا، حتى إذا تبرّرنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تي 3: 4).
ونرجو الله أبا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أبو المجد “أن يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته، مستنيرة عيونكم وأذهانكم” وأرجو أن يحفظكم في أعمال وأقوال وأفكار مقدسة.
الذي له المجد والكرامة والقوة في ربنا يسوع المسيح مع الروح القدس، من الآن وإلى دهر الدهور. آمين.
________________________________________
[2] العنقاء طائر خيالي يؤمن به اليونانيون وبعض الوثنيين. ولقد كان الآباء الأولون يستخدمون مع الوثنيين بعض الأفكار اليونانية لأجل إقناعهم بسهولة الحقائق المسيحية، ليس بمعنى أننا نقبل هذه الأفكار، وإنما لمناسبتها لأفكار الموعوظين الآتين من الوثنية.
[3] لا يقبل السامريون من الكتاب المقدس إلا الأسفار الخمسة لموسى. وتمتزج عبادتهم بالعبادة الوثن
No Result
View All Result
Discussion about this post