القديس كيرلس الأورشليمي :
مقالاته لطالبي العماد
المقال السادس: وحدانية الله
“أؤمن بإله واحد”، وبخصوص “الهراطقة”
“أما إسرائيل، فيخلص بالرب خلاصًا أبديًا، لا تخزون ولا تخجلون إلى الأبد. لأنه هكذا قال خالق السماوات…أنا الرب وليس آخر”. (إش 45: 17-18)
1- وحدانية المجد للآب والابن
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح” (2 كو1: 3). مبارك أيضًا ابنه الوحيد[1].
إذ نفكر في الله، فلنفكر في الحال في الآب دون أن نجزئ مجد الآب عن الابن، لأنه ليس للآب مجد والابن مجد آخر، بل هو مجد واحد بذاته، إذ هو أب الابن الوحيد.
إذ يتمجد الآب يشاركه الابن مجده، لأن مجد الابن من كرامة الآب! وأيضًا عندما يتمجد الابن يُكرم الآب – الذي له بركة عظيمة – بكرامة علوية!
2- مجد الله لا يُنطق به!
إن كان الذهن يستوعب أفكاره في غاية السرعة، لكن اللسان يتطلب كلمات وإبراز حديث طويل كوسيط (للتعبير عما يجول في الذهن).
العين تدرك عددًا من مجموعات الكواكب في لحظة واحدة، لكن متى رغب الإنسان في وصفها واحدة فواحدة، ليصف كوكب الصباح وكوكب المساء… يحتاج إلى كلمات كثيرة!
وهكذا أيضًا في لحظة خاطفة يستوعب الذهن الأرض والبحر وكل أفق المسكونة، وما يدركه في لحظة يستلزم الكثير من الكلمات لوصفه[2].
هذا المثال الذي قدمته قوي، لكنه أيضًا ضعيف وغير لائق، لأننا لا نتكلم عن الله كل ما ينبغي الحديث به (إذ لا يعرفه إلاّ الله وحده)، وإنما نتكلم حسبما تسعفنا الطاقة البشرية قدر ما يحتمل ضعفنا. إننا لا نشرح الله كما هو، بل في صراحة أقول إننا نشهد بأن معرفتنا لله كما هو غير دقيقة! إن أفضل معرفة هي اعترافنا بجهلنا فيما يخص الله![3]
إذن “عظموا الرب معي ولنُعلِّ اسمه معًا” (مز 34:3). لنجتمع كلنا معًا في مجموعنا، لأن الإنسان ضعيف بمفرده. لا بل بالأحرى وإن اتحدنا جميعًا معًا لا نقوم بالعمل (تعظيم الله وتسبيحه) كما ينبغي!
إنني لا أقصدكم أنتم فقط الحاضرين هنا، بل ولو اجتمع كل أبناء الكنيسة في العالم، سواء الموجودين الآن أو الذين سيكونون فيما بعد، فإن الجميع معًا يعجزون عن الترنم بتسابيح راعيهم!
3- إبراهيم أدرك عجزه أمام الله!
إبراهيم رجل عظيم ومكرم بمقارنته بالبشر فقط، لكنه متى امتثل أمام الله تكلم بحق قائلاً في صراحة: “أنا أرض ورماد” (تك 17: 27). إنه لا يقف عند حد قوله “أنا أرض” لئلا يكون قد لقب نفسه بعنصر عظيم بل أكمل “ورماد” معلنًا طبيعته الواهية. هل يوجد شيء أقل من الرماد وأهون منه؟ فلنقارن الرماد بالبيت، والبيت بالمدينة، والمدينة بمقاطعة الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية بكل الأرض، وكل الأرض بالسماوات التي تحيط بها…
وعندما تستوعب بالفكر السماوات بأجمعها، ومع هذا فإن السماوات أيضًا لا تستطيع تمجيد الله كما يستحق، حتى ولو كانت أصواتها أقوى من الرعد. إن كانت هذه القوات السمائية العظيمة لا تقدر أن تتغنى بتسابيح الله كما ينبغي، فهل يقدر “الأرض والرماد” الذي هو أقل الأشياء وأصغرها أن يقدم التسبيح لله، أو يستحق الحديث عن “الجالس على كرة الأرض و(الممسك) سكانها كالجندب (نوع من الجراد)” (إش 40: 22).
4- من يدرك الله في كماله؟!
إن حاول أحد الحديث عن الله، فليبدأ أولاً بالحديث عن الأرض، فإن كنتَ وأنت تسكن الأرض لا تعرف حدودها… كيف تقدرأن تشكل فكرًا سليمًا عن خالقها؟!
إنك تنظر الكواكب ولا ترى خالقها، أحصِ هذه الكواكب المنظورة، وبعد ذلك صف ذاك الغير منظور، إذ هو “يحصي عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء” (مز 47:4).
منذ فترة قليلة اجتاحتنا السيول متأخرًا وأهلكتنا. أحصِ قطرات الأمطار التي سقطت على هذه المدينة وحدها، لا بل أقول إن استطعت فأحصِ فقط القطرات التي سقطت على منزلك – وليس على المدينة- لمدة ساعة واحدة! إنك لا تستطيع!
إذن، فلتعرف ضعفك ولتعلم من هذه اللحظة قدرة الله “المحصي قطرات الأمطار” (راجع أي 36:27) على المسكونة كلها، ليس الآن فقط بل خلال كل الأزمنة.
والشمس هي من صنع الله. ومع عظمتها فهي أشبه بنقطة وسط السماء. تأمل الشمس وبعد ذلك تفرّس في رب الشمس مندهشًا. “لا تطلب ما يعييك نيله، ولا تبحث عما يتجاوز قدرتك، لكن ما أمرك الله به فيه تأمل” (ابن سيراخ 3: 22).
5- إذن، كيف نتكلم عن الله؟!
رب قائل يعترض: إن كان جوهر اللاهوت لا يقع تحت الحواس، فلماذا نتحدث في هذه الأمور؟ نعم، هل لأني لا أستطيع أن أشرب النهر كله يكون هذا سببًا في ألاّ أستقي منه باعتدال قدر ما يناسبني؟! هل لأن عينيَّ تعجزان عن استيعاب أشعة الشمس في كمالها ألاّ أنظر إليها قدر ما احتاج؟! وإذا دخلت حديقة عظيمة ولم أقدر أن آكل كل ثمارها هل تريد مني أن أخرج منها جائعًا؟! إذن لأسبح الله خالقنا وأمجده، إذ وُهبت لنا وصية إلهيه تقول: “كل نسمة فلتسبح الرب” (مز 50:6).
إنني أسعى الآن، أقوم بتمجيده دون أن أصفه، عالمًا أنه بالرغم من عجزي عن القيام بتمجيده حسبما يستحق، لكن حتى مجرد السعي هو من الأعمال التقوية. ويشجع الرب يسوع ضعفي بقوله: “الله لم يره أحد في أي زمان” (يو 1:18).
6- الملائكة ترى الله قدر احتمالها!
رب قائل يعترض: ماذا إذن، ألم يُكتب: “إن ملائكة الصغار كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات؟” (أنظر مت 18:10). نعم لكن الملائكة ترى الله ليس كما هو، بل قدر ما تحتمل. إذ يقول يسوع المسيح: “ليس أن أحدًا رأى الآب إلاّ الذي من الله، هذا قد رأى الآب” (يو 6: 46).
لذلك فالملائكة ترى الله قدر ما تحتمل، ورؤساء الملائكة يرون قدر ما يحتملون، والعروش والسلاطين يرون أكثر من السابقين، لكنها لا ترى كما يستحق الله[4].
فالابن – مع الروح القدس – هو وحده الذي يقدر أن يراه بحق كما هو، لأنه: “يفحص كل شيء حتى أعماق الله” (1كو 2: 10). هكذا الابن الوحيد مع الروح القدس يدركان الآب في كماله، إذ قيل: “لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يُعلن له” (مت 11:27).
إذ يري الكل حسب احتمالهم، لذلك فهو يرى الآب بكماله، معلنًا الله (الآب) خلال الروح، إذ الابن مع الروح شريك (واحد) مع الآب في اللاهوت.
المولود يعرف الوالد، والوالد يعرف المولود. إن كان الملائكة جاهلين (بمعرفة الله في كماله)، فلا يخجل أحدكم من الاعتراف بجهله.
حقًا إنني أتكلم الآن كما يتكلم أي إنسان في مناسبة ما، أما كيفية الكلام فلست أعرفه. إذن كيف أستطيع أن أخبركم عن واهب الكلام نفسه؟!
وإذ لي نفس لا أقدر أن أخبركم عن سماتها المميزة لها، فكيف أصف واهب النفس؟!
7- كماله مطلق!
من أجل التقديس يكفينا أن ندرك في بساطة أن لنا إله، هذا الإله واحد حي، حيّ إلى الأبد، يشبه ذاته على الدوام “بلا تغيير”، ليس له أب غيره ولا أحد أقوى منه، لي ينازعه خليفة مملكته. له أسماء متعددة، سلطانه بلا حدود، جوهره بلا تغيير.
وإذ يدعى صالحًا وعادلاً وقديرًا وصباؤوت[5]، فلا يفهم من ذلك أي تنوع أو أنه أخذ أشكالاً متغايرة. إنما هو واحد، يقوم بأعمالٍ كثيرة بفعل لاهوته دون زيادة أو نقص، بل في كل شيء شبيه بذاته بلا تغيير.
إنه ليس عظيمًا في حبه المترفق وقليلاً في الحكمة، بل له قوة متساوية في الحكمة والحب المترفق. لا يُرى من ناحية معينة فيه دون أخرى، بل كله عين وكله إذن وكله ذهن[6]. إنه ليس مثلنا يُدرك من جانب دون آخر. فإن مثل هذا تجديف لا يليق بجوهر الله الذي يعرف الأمور قبل كونها. قدوس وقدير، يفوق الكل في الصلاح والعظمة والحكمة.لا يمكننا أن نخبر عن بداية له أو شكل أو مظهر، إذ يقول الكتاب: “لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته” (يو 5: 37). وكما قال موسى: “احتفظوا جدًا لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما (يوم كلمتكم)”[7].فإذ يستحيل تمامًا رؤية شكله، كيف تفكر في الاقتراب من جوهره؟!
8- لا تتصور اللاهوت بشكلٍ!
كثيرون قدموا تصورات لله، وجميعهم فشلوا. فالبعض تخيلوه نارًا، وآخرون حسبوه إنسانًا مجنحًا، إذ أساءوا فهم العبارة الحقانية القائلة: “بظل جناحيك استرني” (مز 17:8). لقد نسوا قول ربنا يسوع المسيح في حديثه إلى أورشليم عن نفسه: “كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23:37).
إنه يتطلع إلى قوة حماية الله كأجنحة، أما هم ففشلوا في فهم هذا، ساقطين في إدراكات بشرية (حسِّية)، ظانين غير المفحوص على شكل إنسانٍ!
كذلك تجاسر البعض قائلين إن له سبع أعين، إذ مكتوب “إنما هي (سبع) أعين الرب الجائلة في الأرض” (زك 4: 10). فإن وضعت حوله سبع أعين منفصلة، يكون بهذا نظره منفصل وغير كامل. وفي هذا القول عن الله تجديف، إذ يليق بنا أن نعتقد في كمال الله في كل شيءٍ، كقول المخلص: “إن أباكم الذي في السماوات هو كامل” (مت 5:48).
إنه كامل في النظر، وكامل في القوة، وكامل في العظمة، وكامل في العدل، وكامل في المحبة المترفقة. ليس بمحصور بفراغٍ، بل هو خالق كل الفراغ، موجود في الكل، لا يحدّه شيء. حقًا “السماء كرسيه”، لكن ليس بجالسٍ عليها، “والأرض موطئ قدميه” (راجع إش 66:80)، لكن قوته تبلغ إلى ما تحت الأرض…
10- تركوا الله الحقيقي وعبدوا الخليقة!
الله عظيم هكذا بل وأعظم (لأنه وإن تحول كل كياني إلى لسان لما استطعت التحدث عن سموّه. بلى ولو اجتمعت كل الملائكة معًا لما قدرت أن تتحدث عنه كما يستحق).
ومع أنه عظيم هكذا في صلاحه وجلاله لكن الإنسان تجاسر وقال للحجر الذي نحته “لأنك أنت إلهي” (إش 44:17). يا للعمى المريع، إذ نهوي من عظمة هذا قدرها إلى انحطاط هذا عمقه! الشجرة التي أوجدها الله وتعهدها بالأمطار، التي ستحرق وتصير رمادًا تُدعى الله، والله الحقيقي يُزدرى به!
بل انتشر شر الوثنية بأكثر إسراف، فعُبدت القطة والكلب والذئب عوض الله![8] عُبد الأسد مفترس الإنسان بدل الله صديق الإنسان المحب له إلى الغاية! عُبد الثعبان والحية[9] التي خدعته، وأخرجته من الفردوس، ومستهينًا بالذي غرس له الفردوس!
إنني أخجل أن أقول، لكنني أقول إنهم عبدوا حتى البصل!
لقد أُعطى الخمر ليبهج قلب الإنسان (مز 104: 10)، لكن ديوناسيوس (باخوس) عبده عوض الله (لأجل البهجة)! خلق الله القمح بقوله “لتنبت الأرض عشبًا” (تك 1:11)، وتأتي البذور كل بنوعها، وبهذا يتقوّت قلب الإنسان بالخبز، فلماذا يعبده ديميتر Demeter!
إلى يومنا هذا تتولد النار من احتكاك الحجارة معًا، فكيف يكون هيفاستوس (فولكان) خالق النار؟ (مز 104: 15)
تعدد الآلهة يدعو إلى مجيء الابن
11- كيف جاء الشرك بالله عند اليونانيين؟ الله ليس له جسد، فكيف وُجد بين المدعوين آلهة زناة؟! إنني لست أتكلم بخصوص تحول زيوس إلى خنزير. إنني أخجل من التحدث عن تحوله إلى ثور، لأن النعير لا يليق بإله!
لقد وُجد عند الإغريق إلهًا زانيًا، وهم لا يخجلون من هذا، إذ كيف يدعى إلهًا من كان زانيًا؟! يتحدثون عن آلهة سقطوا في ميتات[10] وسقطات[11] وانحطاط. انظروا كيف سقطوا من علوّ شاهق هكذا إلى انحطاط شديد.
إذن هل جاء ابن الله من السماء باطلاً؟! ألم يأتِ ليشفي جرحًا كان عظيمًا هكذا؟!
هل جاء الابن باطلاً؟ أم جاء لكي يخبر عن الآب؟! لقد عرفت ما هو الدافع لمجيء الابن الوحيد من العرش عن يمين الآب فإذ هم احتقروا الآب جاء الابن يصلح الأمر.
إذ به خُلق كل شيء التزم أن يحضر “الخليقة” بأسرها كتقدمة لرب الكون!
لاق به أن يضمد الجراح، لأنه أي جرح أشر من أن يُعبد الحجر عوض الله؟!
الهرطقات
12- لهم اسم المسيح وهم أعداء له!
لا يصنع الشيطان هذه الحروب بين الوثنيين وحدهم، بل حتى بين كثيرين من المدعوين مسيحيين باطلاً، هؤلاء الذين ينتسبون خطأ إلى اسم المسيح العذب، إذ يخطئون في كُفر متجاسرين أن يُبعدوا الله عن خليقته. أقصد بذلك جماعة الهراطقة، أشر الناس، أصحاب الاسم الرديء، يتظاهرون بالصداقة مع المسيح، وهم مبغضون له تمامًا. إذ من يجدف على أبي المسيح يكون عدوًا للابن.
لقد تجاسروا فنادوا بوجود إلهين: واحد صالح والآخر شرير. يا للعمى المريع! كيف ندعو من هو غير صالح إلهًا! الله بالتأكيد صالح؟! يُحسب الصلاح هكذا إذ هو من خصائص الله، فالله وحده يخصه الحب المترفق والبركة والقدرة والسلطان. فلهم أحد اختيارين، إما يربطون الاسم بالعمل لمن يدعونه الله، أو لا يعطونه الاسم مجردًا بغير عمل.
سخافة الثنائية
13- يتجاسر الهراطقة فينادون بوجود إلهين: مصدرين للخير والشر، وهما غير مولودين. فإن كانا غير مولودين، فهما متساويان وقديران، فكيف يبدد النور الظلمة؟! ثم هل يتواجدان معًا أم هما منفصلان عن بعضهما البعض؟ لا يمكن أن يكونا معًا، إذ يقول الرسول: “أية شركة للنور مع الظلمة؟!”[12]
وإن كان أحدهما منفصلاً عن الآخر فبلا شك يحتل كل منهما مكانًا مستقلاً. وعلى هذا نكون تحت سيادة أحدهما، وبالتالي نعبد إلهًا واحدًا.
إذن ننتهي إلى أننا حتى إن قبلنا غباوتهم نلتزم بالتعبد لله الواحد[13].
لنسألهم عما يقولون في صدد الإله الصالح: هل هو قدير أم غير قدير؟
إن كان قديرًا، فكيف لا يستطيع أن يسحق الشر؟ وكيف يتأتى الشر على الرغم من إرادته؟
فإن كان يراه ولا يستطيع منعه، بهذا ينسبون إليه العجز. وإن كان يستطيع أن يمنعه ولا يفعل ذلك، فيُحسب غير صالح. اُنظر إذن إلى جنونهم؛ فإنهم يدّعون أحيانًا أنه إله الشر، لا علاقة له بإله الخير فيما يختص بالخليقة.
يقولون أحيانًا إن له رُبع العالم.
ويقولون أيضًا إن الإله الصالح هو أبو المسيح، ويُسمون المسيح بالشمس. فإن كان العالم – حسب عقيدتهم – من صنع إله الشر؛ وإذا كانت الشمس في العالم، فكيف يمكن لابن الله الصالح أن يخدم إله اشر مُكرها؟
إننا نتلوث بالحديث عن هذه الأمور، لكننا نتحدث عنها حتى لا يسقط أحد من الحاضرين في حمأة الهراطقة عن جهلٍ.
أنا أعلم أن فمي قد تلوث، وكذلك آذان السامعين. لكن الأمر لا يخلو من فائدة، إذ من الأفضل أن نحثكم عن عقائد الآخرين الخاطئة، عن أن نترككم تسقطون فيها عن جهلٍ.
عقيدة الهراطقة الشريرة متشعبة، وعندما يضل أحد عن طريق التقوى ينساق إلى إحدى شُعبها.
14- سيمون الساحر مصدر كل هرطقة
مصدر كل هرطقة هو سيمون الساحر[14]، هذا الذي جاء عنه في سفر أعمال الرسل أنه فكَّر أن يشتري بمال نعمة الروح القدس، فسمع القول: “ليس لك نصيب في هذا الأمر” (أع 8:18-21)… وعنه أيضًا كُتب: “منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا” (1 يو 2: 19). هذا الإنسان بعدما طرده الرسل جاء إلى روما حيث استمال إليه زانية تدعى هيلينHelene[15]. وقد تجاسر بفمه المملوء تجديفًا أن يدعي أنه هو الذي ظهر على جبل سيناء كالآب، وظهر كيسوع المسيح بين اليهود، ليس في جسدٍ حقيقيٍ، بل كان يبدو هكذا[16]، وبعد ذلك كالروح القدس الذي وعد المسيح أن يرسله كمعزٍ[17].
لقد خدع مدينة روما حتى أقام له كلوديوس تمثالاً، نُقش عليه من أسفل بلغة الرومان: Simoni Deo Sancto وهى تعني “إلى سيمون الله القدوس”[18].
وضع بطرس وبولس نهاية لخطأ سيمون
15- وإذ كان الضلال سينتشر لهذا وضع النبيلان – بطرس وبولس – من قادة الكنيسة[19] نهاية لهذا الخطأ. وعندما أراد سيمون مُدعي الألوهية أن يظهر نفسه أظهراه كجيفة ميتة، إذ وعد سيمون أنه يرتفع إلى السماوات ويأتي على مركبة شيطانية في الهواء…
هذان طرحا إلى الأرض الإله المزعوم أنه من السماء، حتى يُحمل إلى طبقات الأرض السفلى. لقد ظهرت حيَّة الشر في هذا الرجل، وإذ قُطع رأس كل منها وُجدت جذور الشر برؤوس أخرى عديدة…
ضلال الأبيونيين ومرقيون
16- صنع كيرنثوس[20] خرابًا في الكنيسة. وأيضًا Menander [21] وكربوقراط[22] وأبيونيت[23] ومرقيون فم الشر، لأنه أعلن عن وجود إلهين مختلفين، واحد صالح والآخر عادل، يناقض الابن القائل “أيها الآب البار” (يو 17: 25).
وأيضًا من يقول إن الآب غير خالق المسكونة يناقض الابن القائل: “فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويُطرح غدًا في التنور يلبسه الله”، “ويشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين” (لو 12:28؛ مت 5:45).
كذلك يُعتبر مرقيون[24] مصدر ثانٍ لضرر أعظم. وقد دُحض بإبراز شهادات من العهد القديم اقتبست في العهد الجديد، إذ تجاسر وعزل العهدين عن بعضهما، تاركًا الكرازة بكلمة الإيمان بغير شاهدٍ، نازعًا الإله الحقيقي، طالبًا تخريب إيمان الكنيسة كأنّ لا بشائر لها.
17- باسيليدس وفالنتينوس
هذا تبعه آخر هو باسيليدس[25] الشرير صاحب الشخصية الخطيرة، والكارز بالأدناس.
وجاء أيضًا فالنتينوس[26]معينًا للشر، هذا الذي نادى بوجود ثلاثين إلهًا. لقد تحدث الإغريق عن آلهة قليلة، أما هذا الإنسان الذي ادعى المسيحية باطلاً فقد بالغ في الفساد فجعلهم ثلاثين إلهًا. لقد قال أيضًا أن بيثوس Bythus الذي من الهاوية وُلد صامتًا والصمت ولد الكلمة…
البيتوس هذا أشر من زيوس الذي للإغريق، هذا الذي اتحد بأخته…
أما ترى السخافات التي اقترحها متسترًا تحت المسيحية؟!
انتظر قليلاً فستصعق من شره، إذ يؤكد أن بيثوس هذا ولد ثمانية أيونات، ومنهم وُلد عشرة، كما ولد اثنا عشر ذكرًا وأنثى (8 +10 + 12=30) من أين يدلل على هذا!؟
من أين جاء بالثلاثين أيونا؟؟
إنه يجيب: مكتوب عن يسوع أنه اعتمد وهو في الثلاثين من عمره (لو 3: 23).
إن كان قد اعتمد في الثلاثين من عمره، فهل في هذا دليل؟! هل يوجد خمسة آلهةلأنه كسر خمسة أرغفة لخمسة آلاف رجل؟! أو هل يلزم وجود اثني عشر إلهًا لأنه كان تلاميذه اثني عشر؟
المسيح حسب فالنتينوس
18- حتى هذه الأقوال لا تزال أقل شرًا من غيرها، فقد تجاسر قائلاً: إن آخر الآلهة الكائنة هو ذكر وأنثى، وهذا الإله يدعى الحكمة[27]. أي شر هذا، فإنه حقّر حكمة الله (1 كو 1: 24)، أي المسيح الابن الوحيد، فدعاه أنثى، وجعله أحد ثلاثين (أيونا)، وآخر خالق!
كذلك يقول إن الحكمة سعت لترى الإله الأول، وإذ لم تحتمل بهاءه سقطت من السماء وُطردت في ثلاثين، فتنهدت، ومن تنهدها وُلد الشيطان، ومن بكائها على سقوطها صنعت دموعها البحر. يا له من كفرٍ! كيف تخلق الحكمة الشيطان، والتعقل والشر، والنور والظلمة؟!
كذلك قال إن إبليس ولد آخرين، ومن هؤلاء خلق العالم. وقد نزل المسيح لكي ما يُعّصي البشرية ضد خالق العالم.
اهرب من الهراطقة
19- لكن اسمع ماذا يقولون عن شخص يسوع المسيح، إذ يشوّهون أنفسهم أكثر بقولهم إن الحكمة بعدما انطرحت أسفل، فلكي لا يكون العدد ثلاثين كاملاً، فإن التسعة وعشرين أيونًا ساهم كل منهم بنصيبٍ قليلٍ وتكوّن المسيح[28]. قد قالوا إنه ذكر وأنثى في نفس الوقت. هل يوجد كفر أشر من هذا؟! هل يوجد بؤس أكثر منه؟!
إنني أصف لك ضلالهم حتى تمقتهم أكثر. ارفض كفرهم، ولا تسلم على من كان هذا حالهم (2 يو 10: 11)، لئلا تشترك معهم في أعمال الظلمة. لا تسألهم ولا تجاملهم[29].
المبتدع ماني
20- أمقت كل الهراطقة، خاصة ذاك الذي يدعى بحق “ماني”، الذي قام من زمن ليس ببعيد في أيام حكم بروبس Probus. لقد بدأ ضلاله منذ تمام سبعين عامًا[30]، ولا يزال إلى يومنا هذا، أحياء رأوه بأعينهم…
لقد طمح في أن يصير أول الأشرار، فأخذ بتعاليم الكل وربط بينها في هرطقة واحدة مملوءة تجاديف وكل شرور، وضع رمادًا في الكنيسة، بل بالأحرى أهلك الذين هم في الخارج، إذ كان زائرًا كالأسد مفترسًا من يجده (1 بط 5: 8).
لا تُبالِ بكلماتهم الرقيقة، ولا بتواضعهم المزعوم، فإنهم حيات أولاد أفاعي (مت 3: 7). لقد قال يهوذا وهو يخون سيده “السلام يا سيدي” (مت 26:49)، هكذا لا تهتم بقبلاتهم، بل أحذر خبثهم.
21- نشأة ماني ومعلموه
ولئلا أبدو لك إنني اتهمه باطلاً، اسمح لي أن أميل وأخبرك من هو ماني؟ وأُحدثك قليلاً عما علُم به، وإن كان الوقت لا يسمح بالحديث عن كل تعاليمه الغبية بما فيه الكفاية. ولكن “لكي تجد عونًا في حينه” (عب 4:16) تذكر ما سبق أن أخبرت به من قبل، وأكرره الآن حتى يعرفه من لم يسبق لهم معرفته، ويتذكره من سبق لهم معرفته.
ماني ليس من أصل مسيحي. حاشا! ولا هو كسيمون محروم من الكنيسة، ليس هو هكذا ولا معلموه. إنما هو سرق شر الآخرين ونسب شرورهم إلى نفسه…
سيتيانوس (سكيثيانوس) وتريبنثوس أصل المانية
22- لقد كان في مصر إنسان يدعى سيتيانوس (سكيثيانوس) Scythianus عربي المولد[31]، لا علاقة له لا بالمسيحية ولا اليهودية. سكن في الإسكندرية وتمثل بحياة أرسطو، وصنف أربعة كتب[32]، ودعى أحدها إنجيلاً دون أن تحمل أعمال المسيح إنما حمل مجرد الاسم. والثاني دُعي “الفصول Chapters” والثالث “الأسرار” والأخير هو المتداول اليوم ويدعى “الكنز”.
ولما قصد سكيثيانوس الذهاب إلى اليهودية ليصنع فسادًا (بتعاليمه الوثنية) ضربه الرب بمرضٍ خطيرٍ موقفًا سمومه، وقد كان له تلميذ يدعى تريبنثوس Terebinthus.
موت تريبنثوس Terebinthus
23- ورث تلميذه خطأه الشرير كما ورث ماله وكتبه وهرطقته. فذهب إلى فلسطين، وهناك اشتهر، وقد أدين في اليهودية، لذلك وضع في نفسه أن يذهب إلى بلاد فارس، ولكي لا تُعرف شخصيته هناك استبدل اسمه مدعيًا أنه بيداس Buddas[33].
على أي الأحوال صنع قلاقل بين كهنة ميثراس Mithras، وإذ دخلوا معه في نقاشٍ وفنّدوا أقواله ببراهين كثيرة ومجادلات، التجأ إلى أرملة معينة لتحميه. وإذ صعد إلى سطح بيتها استدعى شياطين الهواء، الذين لا يزال يستخدمهم أتباع ماني إلى اليوم، الذين صنعوا محفلاً تافهًا ممقوتًا، فضربه الله وسقط من السطح وأماته، وهكذا انقطع الوحش الثاني.
كوبريكوس Cubricus يخلفه باسم ماني
24- بقيت الكتب المسجلة لكفره، إذ ورثتها الأرملة مع أمواله، وإذ لم يكن لها قريب أو صديق قررت أن تشتري ولدًا يدعى كوبريكوس Cubricus[34]، تبنته وعلمته التعاليم الفارسية، فاستل سيفًا شريرًا أشهره ضد البشرية.
نشأ العبد كوبريكوس بين الفلاسفة، وعند موت الأرملة ورث الكتب والمال. ولكي يخفي اسم العبودية دعى نفسه “ماني” التي تعني في الفارسية “مجادل”… إذ حسب نفسه باحثًا.
لقب نفسه “ماني” كما لو كان سيدًا ممتازًا في الجدال. ومع أنه نسب لنفسه اسمًا مكرمًا في لغة الفارسيين، لكن عناية الله اتهمته، إذ هو ديان نفسه بغير إرادته، فإذ يظن أنه مُكرم عند الفرس إذ يدعى مانيا “Manioe” عند اليونان، ومعناها “الجنون”.
ادعى أنه الروح القدس “المعزي”
25- لقد تجاسر فادعى أنه “المعزي” بالرغم مما كتب: “أما من جدف على الروح القدس فلا يُغفر له” (مز 3:29). لقد ارتكب تجديفًا بادعائه أنه الروح القدس. ليت هؤلاء الهراطقة ينظرون في اجتماعاتهم إلى ما ادعاه لنفسه!…
لقد اشتهر فبدأ يتحدث بأمورٍ فوق طاقة الشر.
حدث أن مرض ابن ملك الفرس، فوعد ماني أنه كإنسان إلهي يشفيه طالبًا الاستغناء عن الأطباء الذين يرعونه، وهنا انفضح كفره، وصار الفيلسوف سجينًا.
لم يسجن من أجل انتهاره الملك لأجل الحق، ولا لرغبته في إبادة الأوثان، إنما سُجن بسبب كذبه وادعائه أنه يخلص، مع أنه كان يليق به أن يقول الحق ولا يرتكب جريمة، إذ قتل الطفل بحرمانه من الأطباء الذين كان يمكن أن ينقذوه بالعلاج.
ماني بعد فشله
26- هنا ظهرت شرور كثيرة أخبرك بها:
أولاًً: تذكر تجديفه.
ثانيًا: عبوديته (إذ حسبها عارًا، فتنكر لها).
ثالثًا: بطلان وعده.
رابعًا: قتله الطفل.
خامسًا: عار سجنه. ولم يقف الأمر عند عار السجن بل هرب منه، هرب الذي ادعى أنه “الباراكليت” و”قائد الحق”. إنه لم يتبع يسوع الذي ذهب إلى الصليب، بل على العكس هرب.
سادسًا: علاوة على هذا أمر ملك الفرس بعقاب حراس السجن. وهكذا كان سببًا في موت الطفل خلال عجرفته الباطلة، وسببًا في موت الحراس بسبب هروبه.
فهل يُعبد من ساهم في جريمة قتل؟! أما كان يليق به أن يقتفي مثال يسوع القائل: “فإن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون؟!” (يو 18: 8) أما كان يلزمه أن يقول مع يونان “خذوني واطرحوني في البحر… أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم؟!” (يونان 1: 12)
27- جدال بين الأسقف أرشلاوس وماني
لقد هرب إلى ما بين النهرين[35] وهناك تدرع الأسقف أرشلاوس بالبرّ واصطدم به. لقد جمع محفلاً من الأمم، واتهم ماني في حضرة الفلاسفة كقضاة، إذ خشي أن يصدر عليه المسيحيون حكمًا فلا يبالي به القضاة.
قال أرشلاوس لماني: أخبرنا بماذا تبشر؟
تكلم ذاك الذي فمه مثل قبرٍ مفتوحٍ (مز 5: 9) بتجاديف ضد خالق الكل، إذ قال إنه إله العهد القديم مصدر الشرور، مدللاً بذلك أنه قال عن نفسه أنه “نار آكلة” (تث 4:24).
أفسد الحكيم أرشلاوس برهانه المملوء تجديفًا بقوله: إن كان إله العهد القديم كما تقول أنه يدعو نفسه نار آكلة، فإن ابنه أيضًا قال “جئت لألقي نارًا على الأرض” (لو 12:49). وإن كنت تُخطّئ القائل: “الرب يحيي ويميت” (1 صم 2:6) فلماذا تكرم بطرس الذي أقام طابيثا وجعل سفيره تموت (أع 5: 10). وإن كنت تجد فيه شرًا لأنه أعد نارًا، فلماذا لا تجد ذلك في (المسيح) “اذهبوا عني إلى النار الأبدية؟” (مت 25: 41)
إن كنت تجد خطأ في القائل: “أنا الله، مبلغ السلام وموجد الشر” (إش 45: 7) فكيف تفسر قول يسوع: “ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا؟!” (مت 10: 34)
فإن كان الاثنان تحدثا بكلام مشابه، بل الاثنان هما واحد. فإما أنهما صالحان، وإلا فلماذا لا تلوم يسوع على حديث نطق به، بينما تلوم ذات الحديث إن ورد في العهد القديم؟
تابع الجدال حول إله العهد القديم ويسوع المسيح
28- عندئذ أجابه ماني: “أي إله هذا الذي يسبب العمى”، إذ يقول بولس: “الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا يضيء لهم إنارة إنجيل (مجد المسيح)” (2 كو 4: 4).
لكن أرشلاوس قدم إجابة مفحمة صالحة بقوله اقرأ ما جاء قبل هذا بقليل: “ولكن إن كان إنجيلنا مكتومًا، فإنما مكتوم في الهالكين” (2 كو 4: 3). أنظر إذن، أنه مكتوم في الهالكين. فليس من الحق أن يُقدم القدس للكلاب (مت 7: 6).
ثم هل إله العهد القديم وحده هو الذي أعمى أذهان غير المؤمنين؟ ألم يقل المسيح نفسه: “من أجل هذا أكلمكم بأمثال، حتى لا يبصروا (لأنهم مبصرين لا يبصرون)؟” (مت 13: 13) هل بدافع البغضة يريدهم إلاّ يبصروا؟ أم بسبب عدم استحقاقهم إذ هم “غمّضوا عيونهم؟!” (مت 13:15)، فإذ يوجد شر إرادي، تُحجز النعمة عنهم، “لأن كل من له يُعطى فيزاد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه” (مت 25:29؛ لو 8:18).
لماذا تُعمى بصيرة غير المؤمنين؟
29- هذا والبعض يفسره تفسيرًا محقًا يليق بنا أن نأخذ به. إن كان حقًا هو أعمى أذهانهم لكي لا يؤمنوا، فقد أعماهم من أجل غاية صالحة. إذ لم يقل: “أعمى أنفسهم” بل “أذهان غير المؤمنين” (2 كو 4:4). وهذا معناه أنه يعمي الشهوانيين في ذهنهم الشهواني لكي يخلصوا، ويعمى خبث اللصوصية المستحوذ على أذهان السالبين لكي يخلص الإنسان نفسه.
وإن كنت لا تقبل هذا التفسير، فإنه يوجد تفسير آخر.
الشمس تعمي من كان ضعيف البصر. فمن كانت أعينهم متوعّكة يؤذيهم النور ويصبهم العمى. فليست طبيعة الشمس أن تعمي، بل العين غير قادرة على النظر.
هكذا أيضًا غير المؤمنين كمرضى القلوب لا يستطيعون التطلع إلى بهاء اللاهوت. وإذ لم يقل: “قد أعمى أذهانكم لكي لا يسمعوا الإنجيل”، بل “لئلا يضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح…” لذلك فإن سماع الإنجيل مكفول للجميع، أما مجده فمحفوظ لأولاد المسيح الحقيقيين وحدهم.
من أجل هذا تحدث الرب بأمثال مع الذين لم يقدروا أن يسمعوا (مت 13: 3)، أما التلاميذ ففسّر لهم الأمثال على وجه الخصوص (مز 4: 34)، لأن ضياء المجد هو للذين يستنيرون، والعمى للذين لا يؤمنون[36].
هذه الأسرار التي تشرحها الكنيسة الآن يا من تعبر من فصل الموعوظين لم تشرحها للوثنيين. فلا نشرح للوثني الأسرار الخاصة بالآب والابن والروح القدس، وحتى أمام الموعوظين لا نتكلم عن الأسرار بوضوح، إنما نتحدث عن أمورٍ كثيرة بطريقة محجبة، يفهمها المؤمنون العارفون بها، ولا يتأذى منها غير العارفين.
إعدام ماني
30- بمثل هذه البراهين وغيرها تُطرح الحيّة خارجًا. هكذا قاوم أرشلاوس ماني وطرحه. فهرب من هذا المكان ذاك الذي سبق فهرب من السجن، وذهب إلى قرية صغيرة جدًا، متشبهًا بالحيّة التي في الفردوس، تركت آدم وذهبت إلى حواء.
لكن الراعي الصالح أرشلاوس المهتم بقطيعه، ما أن سمع بهروبه حتى أسرع بالبحث عن الذئب. وإذ فوجئ ماني برؤية خصمه اندفع هاربًا، وكان ذلك آخر هروب له، إذ بحث عنه أتباع ملك الفرس في كل مكان، وقبضوا على الشارد. وهكذا إذ كان يلزم أن يحكم عليه أرشلاوس تم ذلك بواسطة اتباع الملك.
ماني هذا الذي عبده تلاميذه أُلقي القبض عليه، وأُحضر أمام الملك. وبّخه الملك على بطلان ادعائه وهروبه، موبخًا إياه بعبوديته، ومنتقمًا لقتله ابنه، كما أدانه بسبب قتل الحراس، فأمر بسلخ جلده على النظام الفارسي، وقدّم جسده طعامًا للوحوش، أما جلده فعلق على الأبواب كما لو كان كيسًا (جرابًا).
ذاك الذي ادعى أنه الباراكليت، وأنه عالم بالمستقبل، لم يكن يعرف بأنه سيهرب وسيُقبض عليه.
تلاميذ ماني والتقمص
31- كان لهذا الرجل ثلاثة تلاميذ هم: توماس وباداس وهرماس.
ليته لا يَقرأ أحد إنجيل توماس، فإنه ليس من عمل أحد الاثنى عشر رسولاً، بل أحد تلاميذ ماني الثلاثة الأشرار.
ليته لا يجتمع أحد مع أتباع ماني مهلكي النفوس… الذين يتكلمون بشرٍ على خالق الأطعمة، وهم يبتلعون ما لذَّ وطاب بنهمٍ. إنهم يُعلمون أن من يقطع عشبًا من نوعٍ أو آخر يتحول نفسه إلى ذات العشب. فإن كان أحد يجمع عشبًا أو أي نوع من الخضروات يتحول إليه. فإلى كم نوع يتحول المزارعون وأصحاب الحدائق؟!
يستخدم البستاني منجله ليحصد أنواعًا كثيرة، فإلى أي نوع يتحول؟!
راعي القطيع يصير قطيعًا، فإن قتل ذئبًا فإلى ماذا يتحول؟!
كثيرون اصطادوا سمكًا وطيورًا فإلى أيهما يتحولون؟!
أتباع ماني يلعن بدلاً من أن يبارك
32- فليرد أبناء الكسل أتباع ماني الذين يأكلون من تعب العاملين. إنهم يرحبون ببشاشة بالذين يحضرون لهم أطعمة، ثم يعودون فيلعنوهم…
فإذ يأتيهم أحد بسيط بشيء ما يقولون له: قف خارجًا إلى حين ونحن نباركك. وإذ يأخذ أحد أتباع ماني الخبز على يديه يقول: “أنا لم أصنعك”، ثم يصب اللعنات على العليّ، ويلعن خالق الخبز، وبعد هذا يأكل ما قد خلقه الخالق.
إن كنت تبغض الطعام، فلماذا تبتسم لمن يقدمه لك؟!
وإن كنت تشكر من أحضره لك، فلماذا تجدف على خالق الطعام وموجده؟!
كذلك يقول: “أنا لم أزرعك، ليُزرع من زرعك! أنا لم أحصدك، ليُحصد من حصدك. أنا لم أخبزك، ليُخبز بالنار من خبزك…”
تصرفات أتباع ماني الشنيعة
33- هذه أخطاء شنيعة لكنها ليست بشيءٍ إن قورنت بما تبقى. إنني لا أتجاسر فأصف لكم استحمامهم أمام الرجال والنساء. لا أجسر فأقول ماذا يحدث عندما يغطسون، وأية قباحات يتعاطون! فليُفهم بالتلميح ما أقوله…فإنه بالحق ندنس فمنا إن تحدثنا عن هذه الأمور المخزية.
ألعل الوثنيين يستحقون أن يُمقتوا أكثر من هؤلاء؟!
ألعل السامريين أكثر بؤسًا منهم؟!
ألعل اليهود أكثر جحودًا منهم؟!
ألعل الزناة أكثر دنسًا منهم؟!
لأن الذي يستسلم للفسق، إنما يفعل ذلك للذة لمدة ساعة، لكنه يعود ويدين عمله، ويقر بأنه تنجس، ويشعر بالحاجة إلى التطهير، ويعترف بفباحة فعله. لكن الماني يقيم مذبحه[37] وسط الأدناس ويلوث فمه ولسانه. وأنت يا إنسان، أتقبل تعليمًا من فم كهذا؟ هل تسلم على إنسان كهذا بقبلة متى اجتمعت معه؟
وإني إذ لا أقول شيئًا عن شرهم الآخر، أما تهرب من دنسهم، إذ هم أشر من الفاجرين، تمجهم النفس أكثر من العاهرات؟!
تحذير من المانيين
34- هوذا الكنيسة تنصحك وتخبرك عن هذه الأمور المملوءة وحلاً حتى لا تتوحَّل.
تحدثك عن الجراحات لكي لا تُجرح.
يكفيك أن تعرف ما قلته لك دون أن تمارسه.
الله يرعد وكلنا نرتعب، أما هم فيجدفون.
الله ينير وجميعنا ننحني حتى الأرض، وهم يجدفون على السماوات.
لقد كُتبت هذه في كتب أتباع ماني. ونحن نقرأها بأنفسنا، إذ لا يمكننا أن نصدق من يرويها لنا. نعم من أجل خلاصكم نحن استقصينا بتدقيق عن هلاكهم…
بين الكنيسة وجماعات ماني
35- ليخلصنا الله من ضلال كهذا، ويعطيكم كراهية للحية، إذ هم يرقدون منتظرين عقبكم، فلتدوسوا أنتم على رأسهم. تذكروا ما أقوله: أي اتفاق يمكن أن يقوم بيننا وبينهم؟! أية شركة بين النور والظلمة؟! بين سمو الكنيسة ودنس أتباع ماني؟! هنا يوجد ترتيب ويقوم النظام، هنا السمو، هنا النقاوة، هنا من ينظر إلى امرأة ليشتهيها يُدان (مت 5: 28).
هنا الزواج المقدس، والعفة ثابتة.
هنا تُكرم البتولية كما بين الملائكة.
هنا يؤخذ الطعام بشكرٍ.
هنا يُحمد خالق العالم.
هنا يُعبد أب المسيح.
هنا نتعلم المخافة والخشوع أمام مرسل الأمطار.
هنا نمجد صانع الرعد والبرق.
36- لترع مع القطيع، ولتهرب من الذئاب
لا تنفصل عن الكنيسة. ولتمقت الذين يشككون في هذه الأمور (أتباع بدعة ماني). وإن لم تدرك توبتهم، فلا تثق فيهم، مندفعًا بنفسك في وسطهم.
إنه يُسلم إليك وحدانية الله. فتعلم أن تميز مراعي التعليم.
كن صرافًا مزُكى. “تمسك بالحسن، وامتنع عن كل شبه شر” (راجع 1 تس 5:21، 22).
إن كنت تحبهم اعرف ضلالهم وأبغضه.
إنه يوجد طريق الخلاص، إن ازدريت بالقيء ومقتهم من قلبك، وانفصلت عنهم بنفسك لا بشفتيك، إن تعبدت لأب المسيح إله الشريعة والأنبياء، إن عرفت أن الصالح والعادل إله واحد بنفسه.
وإذ هو حافظكم كلكم، يحفظكم من السقوط والتعثر ويقيمكم في الإيمان في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبد.آمين.
________________________________________
[1] حذفت هذه العبارة من بعض الطبعات.
لقد أخذت تسابيح الحمد لله في أيام القديس كيرلس الأورشليمي أشكالاً متنوعة، فتتبنى كل جماعة صيغة متمايزة. وقد أشار المؤرخ ثيؤدورت (2: 19) إلى أن الأب لينتوس أسقف أنطاكية (348-357م) إذ لاحظ انقسام الكهنة والمجمع إلى جماعتين، جماعة تستخدم صيغة “المجد للآب والابن والروح القدس”، والأخرى”المجد للآب بالابن في الروح القدس” اعتاد أن يكرر تسبحة الحمد هذه بصمت حتى لا تُسمع إلا نهايتها “إلى دهر الدهور آمين”. أما الصيغة التي استخدمها غالبية الأرثوذكس وتبنتها الليتورجيات فهي “المجد للآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى الأبد وإلى دهر الدهور”. (عن مجموعة آباء نيقية وما بعد نقية).
[2] يقول القديس ايريناؤس (2: 28: 4): (حيث أن الله هو كل الذهن وكل العقل وكل الروح العامل وكل النور ودائمًا يوجد كما هو بذاته… فإن مثل هذا لا يُمكن وصفه كما ينبغي. لأن لساننا الجسدي يعجز عن خدمة أحاسيس الإنسان التي هي من طبيعة روحية. لذلك يقف الحديث عنها معوقًا في داخلنا نعجز عن التعبير عنه كما يدركه الذهن، إنما ننطق في أحاديث متتالية قدر ما يستطيع اللسان أن يسعفنا).
[3] يقول العلامة ترتليان في دفاعه (7) (غير المحدود لا يعرفه غير نفسه) هو يقدم عقيدة بخصوص الله الذي هو فوق كل إدراكنا وكل طاقتنا بكاملها لنتزود بفكرة عن الله في حقيقته. (إنه يقدم لأذهاننا في عظمة فائقة الحد فيظهر لنا أنه معروف وغير معروف في نفس الوقت).
[4] تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم في مقاله عن “العناية الإلهية” ترجمة الأخت عايدة حنا (فصل 3) عن “قصر حكمة السمائيين في التعرف على الله كما هو ولا أحكامه بكمالها”. إذ يقول: “حقا أن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل بالطريقة التي جاءت في الرؤيا، لأن الله لا يحده مكان ولا يجلس على عرش… وأمّا جلوسه على عرش واحاطته بالقوات السمائية إنما هو من قبل حبه لهم” كما تحدث في شيءٍ من التفصيل في مقاله: “عدم إدراك الله”.
[5] يدعوه الكتاب المقدس والكنيسة: “رب الصباؤوت” أي “رب الجنود” السمائية.
[6] راجع القديس إيريناؤس 2: 35: 3، 4، 7.
[7] يحدثنا القديس أغسطينوس في هذا الشأن قائلاً: [لا تستسلموا للتفكير بأنكم ترون لله وجهًا جسديًا، لئلا بتفكيركم هذا تهيئون أعينكم الجسدية لرؤيته فتبحثون عن وجه مادي لله… تنبهوا من هو هذا الذي نقول له بإخلاص: “لك قال قلبي… وجهك يا رب أطلب” (1 كو 3: 17)… لتبحثوا عنه بقلوبكم. يتحدث الكتاب المقدس عن وجه الله وذراعه ويديه وقدميه وكرسيه وموطئ قدميه… لكن لا تحسبوا أنه يقصد بها أعضاء بشرية. فإن أردتم أن تكونوا هيكل الله، فلتكسروا تمثال البهتان هذا]. عظات على فصول منتخبة من العهد الجديد، 3.
[8] عبد الإغريق القطة ودعوها Bubastis وقد حققها هيرودت المؤرخ (2: 137) بـ Artemis أو ديانا هي إلهة الصيد. كانت القطط بعد موتها تُحنط إذ وجدت لها موميات في أماكن كثيرة خاصة في بوباستس (هيرودت 2: 67). أما عن الكلاب فيقول عنها هيرودت (2: 67) إنها كانت تعبد خاصة في مدينة Cynopolis أي مدينة الكلاب، إذ عبد المصريون الإله “اتوبيس” وهو إله رأسه رأس كلب. كما وجدت مومياء للذئاب في حجرات نقبت في صخور ليكوبوليس حيث كانوا يعبدون الإله أوزوريس. عُبد الأسد في لينوتوبوليس.
[9] ذكر المؤرخ هيرودت (2: 74) [تُوجد بجوار طيبة حيات مقدسة، لا تضر الإنسان قط. هذه يدفنونها في معبد زيوس، الإله الذي يقدسونه.]
[10] اقتبس القديس إكليمنضس السكندري (Exhort 2: 37) عبارة عن تسبحة كليماخوس بخصوص موت الإله زيوس. وجاء عن الإله أدونيس أنه عاش ومات مرات كثيرة.
[11] يشير إلى السقطات الواردة في قصة هيفاستوس.
[12] 2 كو 6: 14. يتحدث القديس كيرلس الأورشليمي على وجه الخصوص ضد هرطقة ماني.
[13] في تكملة هذا البند استعنت بالتعريب الذي قام به الأب جورج نصور، في سلسلة النصوص الليتورجية.
[14] نادى القديس إيريناؤس بهذا الرأي (ضد الهرطقات 1: 23).
[15] قال القديس إيريناؤس (إذ اشترى من Tyre صور وهي مدينة فينيقية، زانية معينة تدعى Helene أعتاد أن يأخذها معه، معلنًا أن هذه المرأة أول ادراكات ذهنية، وهي أم الجميع، وبواسطتها أدرك منذ البداية خلقة الملائكة ورؤساء الملائكة).
[16] ابيفان (هراطقة ص 55) (قال عن نفسه إنه الابن، وإنه لم يتألم حقيقة بل بدى لهم هكذا).
[17] جاء في القديس ايريناؤس 23:1: 1 علم سيمون أنه جاء بين اليهود بكونه الابن، وبين السامريين كالآب، ولبقية الأمم بكونه الروح القدس.
[18] الشهيد يوستينوس في دفاعه الموجه إلى أنطونيوس بيوس 26، كتب قائلاً: [كان يوجد سيمون السامري من قرية تدعىgitton في أيام حكم كلاديوس قيصر في روما مدينتكم الملكية، هذا صنع أعمالاً وسحرًا، وذلك بواسطة الشياطين العاملة فيه. لقد حسبوه إلهًا وكرم بينكم بعمل تمثال له، حيث أقيم في نهر التيبر بين جسرين وحمل هذا النقش “Simoni Deo Sanceto” أي “سيمون الله القدوس”.] كرر إيريناؤس هذه القصة (ضـد الهراطقة 1: 23: 1)، وترتليان ( دفاع 13).
[19] جاء في النسخ الكاثوليكية: “رئيسًا قادة الكنيسة”.
[20] كيرنثوس: من مبتدعي القرن الأول نادى بأن العالم لم يخلقة الله العلي، بل خلقته قوة منفصلة يجهلها الله. وإذ علم الإله الأعظم بخلقة العالم، أرسل أحد الأرواح الخالدة (الأيونين) وهو المسيح، نزل واتحد بيسوع البار ابن يوسف ومريم أثناء عماده من يوحنا، إذ نزل عليه بصورة حمامة، ولما اعتمد هجم على إله اليهود لينتقم منه، غير أن إله اليهود حرض عليه شعبة فأمسكوه وسمروه على الصليب، وللحال طار المسيح إلى السماء وصلب يسوع. على هذا نادى هذا الهرطوقى بعبادة الإله الأعظم أو المسيح أحد الأرواح الخالدة دون إله اليهود. كما نادى بأن الأجساد تقوم وتعيش مع المسيح المزمع أن يملك في هذا العالم ألف سنة.
[21] ميناندرMenander : ذكره الشهيد يوستينوس ( دفاعه 1: 26)، وهو سامري تلميذ لسيمون. خدع كثيرين في أنطاكية بفنون سحره. واقنع الملتصقين به أنهم لن يموتوا (إيريناؤس 1: 23: 5). وأعلن أنه المخلص، مرسل من قبل غير المرئيين. ونادى بأن العالم من صنع الملائكة ( Tert: Anima 50).
[22] كربوقراط Carpocrates فيلسوف أفلاطوني، علم في الإسكندرية ( سنة 125م) وقال إن العالم وكل ما فيه من صنع الملائكة (راجع ايريناؤس 1: 25: 1، ترتليان: ضد الهراطقة 5) وإن العالم مخلوق من مادة خبيثة، والأنفس خلقت قبل الأجساد وحبست فيها للقصاص. علم بالسحر وأنكر القيامة وأباح الشهوات.
[23] أبيون: عاش في القرن الأول بعد خراب أورشليم وقد ذكر ايريناؤس ( 1: 26) عن الأبيونيين Ebionites أنهم يتفقون في أن العالم من صنع الله. وقد ارتأى أن السيد المسيح ولد من يوسف ومريم ولادة طبيعية، وامتاز عن الناس بالفضيلة والطهارة. ولا يكفي الإيمان به للخلاص بل ينبغي أن يتحد بإتمام الختان وحفظ السبت موجز تاريخ المسيحية (يسطس الدويرى ص151) وقد نقض تعليمه ثم علم بخلافه وسار إلى روما وكان يقدم في سر الافخرستيا الخمر الصرف والفطير (الخريدة النفيسة ج1 ص94).
[24] مرقيون: من سوريا، حاول التوفيق بين المبادئ المسيحية والفارسية فانجرف في الشرك بالله والكفر بعيدًا عن كل مفهوم مسيحي. لم يقبل من البشائر سوى إنجيل لوقا. أساء إلى الكتاب المقدس… اعتقد بوجود ثلاثة مبادئ: أ. الأول طاهر وهو أبو المسيح. ب. الثاني شرير وهو إله الشر. ج. الثالث متوسط بينهما وهو إله اليهود، مهندس العالم. كان إله الشر على الدوام في حرب مع إله اليهود، فلكي ينهى الإله الطاهر النزاع أرسل ابنه المسيح لابسًا هيئة جسد لكي يخرب المملكتين.
[25] باسيليدس: سبق مرقيون، أنشأ الغنوسية في الإسكندرية في عهد هدريان (117-138م) اعتقد بمبدأ واحد انبثق منه سبعة أشخاص منهم الحكمة والقوة اللتان ولدتا رتبة الملائكة التي ابتنت السماء الأولى، وولدتنا ملائكة آخرين ابتنت السماء الثانية وهكذا صارت عدد السماوات ورتب الملائكة معادلاً لعدد أيام السنة. ثم أن سكان السماء الأخيرة خلفوا هذا العالم وكونوا أناسًا استحسنهم الله ومنحهم عقولاً. فاتخذ أحد هذه طغمة اليهود له شعبًا وسن لهم شرائع، بينما تسلط باقي الطغمة على الأمم وتعظموا ونزعوا منهم معرفة الله. فلكي يخلص الله البشر من عبوديتهم أرسل ابنه “نوس” أي العقل وهو المسيح، فاتحد بالإنسان يسوع وإذ لحظ إله اليهود تجسد المسيح حرض شعبة على قتله فقبضوا على يسوع وقتلوه، لكنهم لم يقدروا على المسيح.
[26] فالنتينوس: ظهر في القرن الثاني، نادى بان مسكن الله فيه ثلاثون أيونًا، نصفها ذكورًا والنصف الآخر إناث.
كذلك يوجد أربعة هم: أ. أروس حافظ حدود مسكن الإله الأعظم. ب. المسيح. ج. الروح القدس. د. يسوع الذي ساعد الفلسفة، ابنة الحكمة، حتى ولدت خالق هذا العالم. وما أن خلق حتى ادعى الإلوهية واتخذ اليهود له شعبًا. لذلك نزل المسيح لكي يبطل قوته ويهدى اليهود والأمم إلى معرفة الإله الأعظم، وقد زعم أن المسيح نزل من السماء بجسد واجتاز من العذراء كما يجتاز الماء في قناة. وقد ذكر إيريناؤس (1: 1) تعاليمه.
وقد ذكر ثيؤدورت (رسالة 45) بأن فالنتينوس وباسيليدس وبارديسيانيس وهارمونيس وجماعاتهم قالوا بالحبل بالمسيح وميلاده من عذراء، لكنهم قالوا إن الله الكلمة لم يتقبل شيئًا من العذراء، بل عبر عبورًا خلالها كما في قناة، وكان خيالاً في ظهوره للبشر.
[27] إيريناؤس 1: 2: 2.
[28] اختلف عما ذكره عن إيريناؤس 1: 2: 6.
[29] لما كان فالنتينوس أحد أصحاب المذاهب الغنوسية لذلك أذكر فكرة عن الغنوسية مختصرة عن كتاب “الفلسفة المسيحية” لنيافة الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات القبطية (بالاستنسل).
[الغنوسية بمثابة ملتقى أو مصب هائل لعناصر مختلفة: يهودية، مسيحية، يونانية، وشرقية…
وهى تنادي بالمعرفة بدلاً من الإيمان. ولها مذهب خاص فيما يتصل بالله والخلق وأصل الشر والخلاص، تقدمه للذين يميلون إلى أن ينظروا إلى أنفسهم وكأنهم أشخاص أرفع وأفضل من غيرهم من المسيحيين العاديين.
والعناصر الشرقية والهلينية فمن الواضح بمكان بحيث لا يمكن معها أن تكون الغنوسية هرطقة مسيحية بالمعنى العادي للكلمة، ولو أنها كانت تشكل خطرًا حقيقيًا في القرن الثاني للميلاد، وقد أضلت بالفعل أولئك المسيحيين الذين جذبتهم التأملات الثيوصوفية (أي الباطنية) الغريبة التي قدمتها الغنوسية على أنها معرفة.
ومن أهم خصائص الغنوسية بصفة عامة، قولهم بثنائية بين الله والمادة، وان لم تكن ثنائيتهم هذه مطلقة لكنها على أي الأحوال تذكرنا بمذهب ماني. وأمّا الهوة الناشئة بين الله والمادة، فقد ملأها الغنوسيون بسلسلة من الصدورات أو الكائنات المتوسطة التي يحتل المسيح مكانًا بينها، وتكمل عملية الصدور بالعودة إلى الله عن طريق الخلاص.
ولم تكن الخاصية العامة الرئيسية التي يتميز بها الغنوسيون هي ميلهم إلى الثنائية بقدر ما هو الإصرار على الغنوسية أنها سبيل الخلاص.
أما سبب تبينهم بعض العناصر المسيحية فهو رغبتهم في امتصاص المسيحية وإحلال المعرفة محل الإيمان.
والذي ساعد على قبولها أنها ظهرت في وقت كانت فيه المدارس الفلسفية والديانات السرية مع انتشار المذاهب الباطنية والثيوصوفية التي يحيط بها السحر الكاذب…
وفي الواقع كان هناك كثير من المذاهب الغنوسية منها:
أ. مذهب كيرنثوس. ب. مذهب مرقيون: كان مسيحًا صدر ضده حكم بالحرمان من الكنيسة وقد نادى بأن إله العهد القديم أقل من إله العهد الجديد الذي ظل مجهولاً إلى أن أعلن نفسه في يسوع المسيح. ج. مذهب عبدة الحياة The Ophites ربما كانوا من أصل يهودي إسكندري. د. مذهب باسيليوس. هـ. مذهب فالنتينوس وهو السابق لم يكونا مسيحيين يومًا ولم يحملا في مذهبيهما عناصر مسيحية هامة.
[30] وصل Routh إلى هذه النتيجة: وهي أن الضلال والجدل الذي حدث بين ماني وأرشلاوس كان بين يوليو وديسمبر 77م، وبهذا تكون هذه المحاضرات بعد تمام سبعين عامًا كاملة أي قبل ربيع 348م.
[31] “Soracen by birth” وبلا شك كان وثنيًا.
[32] ذكر أرشلاوس (acta 3) هذه الكتب الأربعة التي كتبها ماني بواسطة تلميذة تربينفوس.
[33] ذكر القديس إكليمنضس السكندري Stromata 1: 15 [أطاع بعض الهنود وصايا بوتا Butta وكرسوه كإله من أجل تقديسه العجيب].
[34] كان عمره حوالي 7 سنوات.
[35] Mestopetamia.
[36] إلى هنا انتهى حديث أرشلاوس.
[37] يفتخر أتباع ماني بسموهم على الوثنيين أنهم يعبدون الله بلا مذابح ولا هياكل ولا صور ولا ذبائح ولا بخور مع أنهم يستخدمونها ( Augustine: Contra Faultum 20: 15)
المقال السابع: في الله الآب
“بسبب هذا أحني ركبتيّ لدى الآب الذي منه تسمى كل أبوة في السماوات وعلى الأرض” (راجع أف 3: 14-15)
مقدمة
1- تحدثنا بالأمس عن الله العلة الوحيدة بما فيه الكفاية. وإني لا أقصد بـ “ما فيه الكفاية” من حيث استحقاق الموضوع، لكن حسبما وُهب لضعفنا. كذلك فندت عرضًا أخطاء الهراطقة الأشرار المتعددة الجوانب. والآن ليتنا ننفض عنا غباوتهم وتعاليمهم السامة للنفس. وإذ نتذكر ما يخصهم، لا لكي يصيبنا ضرر، إنما لكي نمقت خطأهم بمرارة، ونرجع إلى أنفسنا متقبلين تعاليم الإيمان الحقيقي المخلصة. فنرتبط خلال الأبوة التي للوحدانية، ونؤمن بالله الآب الواحد، إذ يليق بنا لا أن نؤمن بإله واحد فحسب، بل بخشوع نتقبله أبًا للابن الوحيد ربنا يسوع المسيح.
اليهود رافضو المسيح
2- لنسمو بأفكارنا على اليهود، فإنهم حقًا يقرون بتعاليمهم بالله الواحد، (ولكن ماذا يكون هذا وهم ينكرونه خلال عبادتهم للأصنام؟!) لكنهم يرفضون أنه أبو ربنا يسوع المسيح. وهم بهذا ينقضون أنبياءهم الذين يؤكدون هذا في الأسفار المقدسة، إذ جاء فيها “الرب قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك” (مز 2:7).
إنهم إلى يومنا هذا يرتجون مجتمعين على الرب ومسيحه (مز 2: 2)، حاسبين أنهم قادرون أن يكونوا أصدقاء للآب وهم منفصلون عن تعبدهم للابن، جاهلين أنه لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بالابن، القائل: “أنا هو الباب والطريق” (يو 14: 6؛ 10: 9). فمن يرفض الطريق الذي يقود إلى الآب وينكر الباب، كيف يتأهل للدخول لدى الله (الآب)؟!
إنهم يناقضون ما جاء في المزمور الثامن والثمانين: “هو يدعوني أبي. أنت إلهي وصخرة خلاصي. أنا أيضًا أجعله بكرًا أعلى من ملوك الأرض” (مز 89: 26-27).
فلو أصروا أن هذا قيل عن داود أو سليمان أو واحدٍ من نسلهم، فليظهروا كيف يكون عرشه حسبما وُصف في النبوة، كأيام السماء وكالشمس قدام الله وكالقمر يقوم إلى الأبد؟ كيف يكون هذا ولا يخجلون مما كتب: “قبل كوكب الصبح أنا ولدتك”[1]. وأيضًا أنه “يثبت مع الشمس وقدام القمر إلى دور فدور”[2].
الإيمان بالآب يمهد للإيمان بالابن
3- على أي الأحوال، لقد بقي اليهود في جحودهم الشرير كعادتهم، سواء في تفسيرهم لهذه العبارات أو غيرها… أما نحن فلنتقبل تعاليم إيماننا الورعة، متعبدين لله الواحد، أبي المسيح (لأن تجريده من مثل هذه الكرامة، ذاك الذي يهب الكل نعمة البنوة يكون جاحدًا).
لنؤمن بالله الآب الواحد، حتى أننا قبل أن نتعرض لتعليمنا بخصوص المسيح يزرع الإيمان بالابن الوحيد في نفوس السامعين دون أن يحدث ارتباك في تعاليمنا بخصوص الآب.
عدم الفصل بين الآب والابن
4- فإذ ننطق باللقب “الآب” يوحي لنا ضمنًا أن نفكر في “الابن”. وهكذا من يدعو “الابن” يفكر ضمنًا في “الآب”[3]. لأنه إن كان الآب فهو أب الابن، بالتأكيد الابن هو ابن الآب. لذلك في حديثنا في قانون الإيمان نقول “نؤمن بإله واحد، الآب القدير خالق السماء والأرض ما يرى”، نكمل “نؤمن بربنا يسوع”، قد يظن أحد في سخافةٍ أن الابن يأتي في المرتبة الثانية في السماء وعلى الأرض، لهذا قبلما نبدأ بدعوتهما نقول: “نؤمن بالله الآب”، فإذ نفكر في “الآب” للحال نفكر في الابن، إذ لا يوجد فاصل بين الآب والابن.
أبوة طبيعية
5- إذن يقال أن الله أب لكثيرين في معنى غير لائق (غير طبيعي)، أما بحسب الطبيعة وبالحق فهو أب لواحد وحده، الابن الوحيد، ربنا يسوع المسيح. لم يوجد في زمن ليصير فيه أبًا بل منذ الأزل هو أب الابن الوحيد[4].
لم يكن قبلاً بدون الابن، ولا بتغيير في قصده صار أبًا. إنما قبل وجود أية مادة وأي فهم، وقبل الزمان والدهور كان للآب الأبوة، ممجدًا نفسه في هذا أكثر من كل الكرامات الأخرى التي له.
إنه ليس أبًا خلال شهوة، ولا باتحاد، ولا في جهلٍ، ولا بحدوث زيادةٍ فيه أو إصابته بنقصٍ، ولا في تعاقب زمني، إذ “كل عطية صالحة وموهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع 1:17).
أب كامل ولد ابنًًا كاملاً، وسلم كل شيء للمولود، إذ قال: “كل شيء قد دُفع لي من أبي” (مت 11:27)، وتمجد بواسطة الابن الوحيد، إذ يقول الابن: “أكرم أبي” (يو8: 49)، وأيضًا: “كما إني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته” (يو 15: 10).
لذلك فنحن نقول مع الرسول: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية” (2 كو 1: 3). ونحني ركبنا لدى الآب الذي منه تسمى كل أبوة ما في السماوات وما على الأرض (أف 3:14-15). فنمجده مع الابن الوحيد، لأن “الذي ينكر الابن ليس له الآب أيضًا ومن يعترف بالابن، فله الآب أيضًا” (1 يو 2: 23)، عالمين أن “يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (في 2: 11).
رد على أتباع ماني المسيئين إلى إله العهد القديم[5]
6- لذلك فنحن نعبد الله بكونه أب المسيح، خالق السماء والأرض، “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب” (خر 3:6)، الذي من أجل تكريمه بني الهيكل القديم، الذي هو ضدنا الآن (إذ صار اليهود أصحاب الهيكل القديم ضد المسيحيين).
إننا لا نسكت علىالهراطقة الذين يفْصلون العهد القديم عن العهد الجديد. إنما نؤمن بالمسيح القائل عن الهيكل: “أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي” (راجع لو 2: 49). وأيضًا: “ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة” (يو 2: 16). هنا يعترف بأكثر وضوح أن الهيكل السابق في أورشليم هو بيت أبيه.
ولكن إن طلب أحد في جحود براهين أخرى على أن أب المسيح هو خالق العالم. فليسمع ما قاله أيضًا: “أليس عصفوران يباعان بفلسٍ وواحدٍ منهما لا يسقط بدون أبي الذي في السماوات؟!”[6] وأيضًا قوله: “انظروا إلى طيور السماء، أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها” (مت 6: 26). وأيضًا قوله: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أيضًا أعمل” (يو 5: 7).
أبي وأبيكم
7- ولئلا يظن أحد في بساطة أو عن سرعة خاطر مع عنادٍ أن في قول المسيح: “أصعد إلى أبي وأبيكم” (يو 20: 17) أنه مساوٍ في الكرامة مع الأبرار، لهذا يجدر بنا أن نصنع تمييزًا. وهو أن اسم “الآب” هو واحد (أي أب لابن واحد)، أما عمله متعدد (أي يعطى البنوة بالتبني لكثيرين). وإذ يعلم المسيح نفسه هذا قال في عصمة عن الخطأ: “أصعد إلى أبي وأبيكم”، ولم يقل: “أبينا”، بل مميزًا بينهما. فقال أولاً بما يليق به “إلى أبي” الذي هو بالطبيعة، وبعد ذلك أضاف: “وأبيكم” الذي هو بالبنوة. لأنه مهما بلغ سمو الامتياز الذي تقبلناه بقولنا في صلواتنا: “أبانا الذي في السماوات”، إلاّ أن العطية هي من قبيل محبة الله المترفقة. فنحن ندعوه أبًا ليس لأننا ولدنا بالطبيعة من أبينا السماوي، بل انتقلنا من حالة العبودية إلى البنوة بنعمة الآب خلال الابن والروح القدس.
لقد سمح لنا أن ننطق بهذا من قبيل محبة الله المترفقة غير المنطوق بها.
بنوتنا له بالتبني
8- لكن إن أراد أحد أن يتعلم كيف ندعو الله “أبًا” فليصغِ إلى موسى المعلم الممتاز، إذ يقول “أليس هذا هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟!” (تث 32:6) وأيضًا إشعياء النبي يقول: “والآن يا رب أنت أبونا نحن الطين… وكلنا عمل يديك” (إش 64:8).
لقد أعلنت العطية البنوية في أكثر وضوح أننا ندعوه أبًا ليس حسب الطبيعة، بل بعمل نعمة الله بالتبني.
العهد الجديد يعلن عن بنوتنا له بالتبني
9- ولكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى “أبًا” من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ “لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 4: 15). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد، بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح. اسمع أيضًا أيوب: “أب أنا للفقراء”. لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم.
وابن الله الوحيد نفسه عندما سُمر على الشجرة وقت الصلب، لما نظر مريم أمه حسب الجسد ويوحنا تلميذه المحبوب جدًا من تلاميذه، قال له: “هوذا أمك”. وقال لها: “هوذا ابنك” (يو 19: 26، 27)، معلمًا إياها أن تصب حبها الأبوي “الأموي”[7] فيه، شارحًا بطريقة غير مباشرة ما قيل في لوقا: “وكان أباه وأمه يتعجبان منه”[8] هذه الكلمات التي يتصيدها الهراطقة قائلين أنه وُلد من رجل وامرأة.
فكما دعيت مريم أمًّا ليوحنا من أجل حبها الأموي وليس لأنها أنجبته، هكذا دُعي يوسف أبًا للمسيح من أجل عنايته بتربيته، وليس لأنه أنجبه. إذ يقول الإنجيل: “لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر” (مت 1: 25).
أبوة بالطبيعة وأبوة بالتبني
10- وهكذا يمكنني أن أذكركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أقدم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يدعى “أبًا للبشر” في معنى غير مناسب (أي ليس بالطبيعة). هكذا خوطب الله في إشعياء: “فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم” و”سارة لم تتمخض بنا” (إش 63: 6).
وإن كان المرتل يقول “ليضطربوا من هيئته، أب لليتامى (للذين بلا أب) قاضي الأرامل” (مز 68:5)، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليسلأنه ولدهم، بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟!
ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني.
فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما بالنسبة للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: “والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5).
الابن يرى الآب في كماله
11- إذن نحن نؤمن بإلهٍ واحدٍ، الآب غير المفحوص، غير المنطوق به، الذي “لم يره أحد من الناس” (1 تى 6: 16)، بل “الابن الوحيد هو خبر” (يو 1: 28)، لأن “الذي من الله يرى الآب” (يو 6: 46)، هذا الذي ترى الملائكة وجهه على الدوام في السماوات (مت 18:10) حسب درجة كل منهم. أما استنارة وجه الآب (في كماله) فتبقى في نقاوتها للابن مع الروح القدس.
لنطلب أبانا السماوي
12- إذ أبلغ هذه النقطة في حديثي، متذكرًا العبارات التي سبق لي الإشارة إليها حالاً، والتي فيها خوطب الله كأب للبشر اندهش للغاية أمام جمود البشر. إن الله بحنوه المترفق غير المنطوق به تلطف، فدُعي “أب للبشر” مع أنه في السماء وهم على الأرض. هو خالق سرمدي وهم خُلقوا في زمان، هو الممسك الأرض في قبضة يده، وهم في الأرض كالعشب والجندب[9]. ومع هذا فإن الإنسان يبحث عن أبيه السماوي، قائلاً: للعود “أنت أبي وللحجر أنت ولدتني” (إر 2: 27). لهذا السبب أظن أن النبي يخاطب البشرية قائلاً: “انسي شعبك وبيت أبيك” (مز 45: 10) أي انسي من اخترتيه أبًا لك، الذي تطلبه نفسك لأجل هلاكك.
الأشرار يطلبون أبوة إبليس
13- لا يقف الأمر عند العود والحجارة بل اختار الإنسان حتى الشيطان مهلك النفوس ليكون أبًا له. لهذا انتهر الرب قائلاً: “أنتم تعملون أعمال أبيكم” (يو 8: 41، 44) أي الشيطان، أب البشر بالخداع لا بالطبيعة.
فكما صار بولس بتعليمه الصالح أبًا للكورنثيين (1 كو 4: 15)، هكذا دُعي الشيطان أبًا للذين وافقوه بإرادتهم الحرة.
إننا لا نقبل الشرح الخاطئ للعبارة: “أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس” (1 يو 3: 10)، قائلين أنه بالطبيعة يخلص البعض وبالطبيعة يهلك آخرون. إنما نحن ندخل في بنوة مقدسة كهذه ليس عن إلزام بل باختيار، كما لم يكن يهوذا الخائن ملزمًا أن يكون ابنًا للشيطان والهلاك، وإلا ما كان يمكنه أن يُخرج الشياطين باسم المسيح، لأن الشيطان لا يخرج شيطانًا” (مر 3: 23).
ومن جانب آخر ما كان لبولس أن يتحول من الاضطهاد ليكون مبشرًا. لكن التبني في قوتنا “أي بإرادتنا”، إذ يقول يوحنا إن كثيرين“قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه” (يو 1: 12)، أي لم يكونوا قبل الإيمان أولاد الله، إنما باختيارهم بالإيمان تأهلوا لذلك.
لنسلك كما يليق بالبنوة
14- إذ نعرف هذا، فليكن حديثنا روحيًا حتى نحسب مستحقين لبنوتنا لله، إذ كثيرون “ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله” (رو 8: 14). إننا لا ننتفع شيئًا من دعوتنا مسيحيين دون أن تكون لنا أعمال لائقة. إنه يقال “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم”، “وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوف”، “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب” (يو 8: 39؛ 1 بط 1:17؛ 1 يو 2: 15).
إذن ليتنا أيها الأبناء الأحباء نمجد أبانا السماوي بأعمالنا الصالحة. “لكي يروا أعمالنا الحسنة ويمجدوا أبانا الذي في السماوات”، “ملقين كل همنا على أبينا، لأنه يعلم ما نحتاج إليه” (مت 5: 16؛ 1 بط 5:7؛ مت 6:8).
بنوتنا لله لا تنفي بنوتنا لوالدينا
15- لكن ليتنا ونحن نمجد أبانا السماوي، نمجد أيضًا “آباء أجسادنا” (عب 12: 9). وقد أشار الرب بنفسه بوضوح إلى هذا الأمر في الناموس والأنبياء قائلاً: “أكرم أباك وأمك لكي يكون لك الخير، وتطول أيام حياتك على الأرض” (راجع تث 5: 16). ليلاحظ الحاضرون هذه الوصية باهتمام… “أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شيء لأن هذا مرضي في الرب” (كو 3:20).
فلم يقل الرب: “من أحب أبًا أو أمًّا فلا يستحقني” لكي بجهلك تخطيء معاندًا ما كُتب بحق، بل أضاف: “أكثر مني” (راجع مت 10:37). فمتى كان آباؤنا الأرضيون مضادين في الفكر لأبينا السماوي عندئذ نلتزم بالطاعة للمسيح.
أما إن وضعنا عائقًا لصنع البرّ بجحودنا، ناسين بركاتهم علينا، مستهينين بهم، عندئذ تجد الوصية التالية مكانًا: “من يلعن أبًا أو أمًّا موتًا يموت” (راجع خر 21: 17؛ لا 20:9؛ مت 15:4).
إكرام الوالدين
16- فضيلة المسيحيين الأولى هي إكرام الوالدين ومكافأتهم عن متاعب من أنجبوهم، مقدمين لهمكل راحة قدر ما يستطيعون… فيستريحون بالراحة التي نقدمها لهم، وعندئذ يثبتون لنا البركات التي نالها يعقوب بمكرٍ عوض أخيه، ويتقبل أبونا السماوي هدفنا الصالح، ويحكم علينا باستحقاق أن “يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13:43)، الذي له المجد مع الابن الوحيد مخلصنا يسوع المسيح ومع الروح القدس المحيى الآن والي الأبد والي أبد الأبد. آمين.
________________________________________
[1] مز 110: 3 “من رحم الفجر لك كل حداثتك”.
[2] مز 72: 5 “يخشونك مادامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور”.
[3] يقول البابا أثناسيوس: “كل اسم منهما، اللذين أشرت إليهما، غير منفصل عن الآخر ولا منقسم عليه. إذ تكلمت عن الآب فإنه قبلما أتحدث عن الابن أكون قد أشرت إليه ضمنًا في الآب. وإن قدمت لكم الابن، فإنني أكون بهذا قد أشرت إلى الآب حتى ولم أكن قد سبق لي الحديث عنه”. De Sentia Dionysii 17
[4] يقول البابا أثناسيوس: “من جهة اللاهوت، فإن الآب وحده هو أب بحق، الابن ابن بحق… وفيهما وحدهما نجد الآب أب على الدوام، والابن ابن على الدوام”. عظة على الأريوسيين 1: 21.
[5] راجع المقال السابق في اتهامهم إله العهد القديم كخالق
المقال الثامن: القدير
“الله العظيم القوي، رب المشورة العظيمة، القدير في أعماله، الله العظيم، الرب القدير ذو اسم عظيم” (إر 19: 18-19 )
مقدمة
1- بإيماننا بالله الواحد نهدم كل اعتقاد شرير في آلهة كثيرة، مستخدمين ذلك كدرعٍ ضد اليونانيين وكل قوة الهراطقة المقاومين.
وإذ نضيف “نؤمن بإله واحد الله الآب” نناقض أهل الختان الذين ينكرون ابن الله الوحيد، إذ كما تحدثنا بالأمس أن بقولنا “الآب” نوضح ضمنا الحقائق الخاصة بربنا يسوع المسيح قبل أن نشرحها، إذ هو أب للابن، حتى حيث ندرك وجود الله ندرك ضمنا “الابن”. ونضيف إلى ذلك أنه “قدير (ضابط الكل)” مؤكدين هذا بسبب اليونانيين واليهود[1] معًا وكل الهراطقة.
قدرته وسلطانه على السماء والأرض
2- فمن جهة اليونانيين يقول البعض إن الله نفس (Soul) العالم[2]. وآخرون قالوا إن سلطانه يسود السماء وحدها دون الأرض. ويشترك البعض معهم في خطأهم مسيئين استخدام العبارة القائلة “حقك إلى السحاب”[3]، فتجاسروا بتحديد عناية الله بالسحب والسماوات، عازلين الله عن شؤون الأرض، ناسين المزمور القائل: “إن صعدت إلى السماوات، فأنت هناك، وإن نزلت إلى الجحيم، فأنت هناك” (مز 139: 8). فإن كان ليس شيء أعلى من السماوات والجحيم أدنى من الأرض، فإن من يدير أمور الجحيم السفلي يهتم بالأرض أيضًا.
قدرته وسلطانه على النفس والجسد
3- سبق أن قلت أن الهراطقة لا يعرفون إلهًا واحدًا قديرًا، فإنه يُحسب قدير إن كان يدبر كل الأمور وله سلطان على كل شيءٍ. أما القائلون بوجود إله هو رب النفس وآخر رب الجسد، فإنهم يجعلون منهما إلهين غير كاملين، يحتاج كل منهما للآخر.
كيف يكون قديرًا من كان له سلطان على النفس دون الجسد، أو الجسد دون النفس؟! لكن الرب يدحض هؤلاء بقوله: “بل خافوا بالأحرى من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت 10: 28). فلو لم يكن لأبي ربنا يسوع المسيح سلطان عليهم أما كان يخضعهما للعقاب؟! إذ كيف يأخذ الجسد الذي تحت سلطان آخر ويلقيه في جهنم “إن لم يربط القوى أولاً وحينئذ ينهب بيته؟!” (مت 12:29)
بين قدرة الله وطول أناته
4- تعرفنا الأسفار المقدسة وتعاليم الحق بإله واحد وحده، مدبر كل الأمور بقدرته، يتحمل كثيرًا بإرادته. إنه صاحب سلطان على الوثنيين وبطول أناته يحتملهم. له سلطان على الهراطقة الذين لا يقيمونه عليهم إلهًا، وبطول أناته يحتملهم. له سلطان على الشياطين وبطول أناته يحتملهم، ليس لأنه محتاج إلى سلطان كمن هو ضعيف… لقد سمح للشياطين أن تعيش لغرضين:
1- لكي تخزى نفسها بنفسها بالأكثر في حربها.
2- لكي يتكلل البشر بالنصرة.
يا لعناية الله الحكيمة! التي تستخدم نيّة الشرير كأساس لخلاص المؤمنين!
فكما استخدم نيّة إخوة يوسف التي لا تحمل أخوّة كأساس لتدبيره، وإذ سمح لهم ببيع أخيهم بدافع الكراهية، وجعلها فرصة ليقيمه ملكًا، الأمر الذي يريده الله.
هكذا سمح الشيطان أن يصارع لكي يتكل المنتصرون. وإذ تتحقق النصرة يخزى هو بالأكثر إذ هزمه الضعفاء، ويُكَّرم البشر بالأكثر بالنصرة على من كان يومًا ما رئيس ملائكة.
لا يفلت شيء من سلطان الله
5- إذن لا شيء يفلت من سلطان الله، إذ يقول الكتاب: “لأن الكل عبيدك” (مز 119:91). الكل سواء كخدم لله، لكن من هذه الأشياء كلها فقط واحد وحده هو ابنه الوحيد، وواحد هو روحه القدوس، كلاهما مستثنيان. أما الباقي فجميعهم يخدمون الله بالابن الوحيد في الروح القدس.
إذن الله يحكم الكل، وبطول أناته يحتمل حتى المجرمين واللصوص والزناة، محددًا وقتًا معينًا لمجازاة كل أحدٍ، لكن إن أصر من يحذرهم على عدم التوبة من القلب ينالون دينونة عظيمة.
الغنى والذهب لله القدير
6- الغنى والذهب والفضة لا تخص الشيطان كما يظن البعض[4]، بل “كل غنى العالم هو للمؤمن، وأمّا الكافر فليس له فلس” (أم 17: 6 ). ليس أحد كافر مثل الشيطان، ويقول الله بوضوح: “لي الذهب ولي الفضة لمن أعطيها؟!” (راجع حجي 2: 8)
فإذ تستخدم هذه الأمور حسنًا لا تخطيء عندما تمتلكها، لكنك إذ تسيء استخدام ما هو صالح فلكي لا تلم تدبيرك في جسارة تلقي باللوم على الخالق[5]. إذن يمكن للإنسان أن يتبرر بواسطة المال، إذ يسمع القول: “كنت جوعانًا، فأطعتموني” (مت 25: 35، 36)، وهذا يتحقق بالمال. وأيضًا قوله: “كنت عريانًا فكسوتموني” يتحقق أيضًا بالمال.
أتريد أن تتعلم أن المال يمكن أن يكون بابًا للدخول في ملكوت السماوات؟!
إنه يقول “بع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء” (مت 19: 21).
الغنى ليس خاصًا بالشيطان
7- لقد ذكرت هذه الملاحظات بسبب الهراطقة الذين يحسبون الممتلكات والمال وأجساد البشر ملعونة. فإنني لا أريدك عبدًا للمال، ولا تنظر إلى ما وهبك الله لاستخدامه كعدو لك. ليس لك أن تقول عن الغنى إنه خاص بالشيطان، لأنه وإن قال لك: “أعطيك هذه جميعها، لأنه قد دفع إلي” (مت 4:9، لو 4:8) فلتحتقر كلامه إذ لسنا محتاجين لتصديق الكذاب. فإنه وإن التزم أن ينطق بالصدق إنما لحضور الله، إذ لم يقل: “أعطيك هذه جميعها”، بكونها ملك له، بل “قد دفع إليّ” أي ليس له سلطان عليها، بل يعترف أنه عُهد إليه بها، وصار واهبًا لها إلى زمانٍ، وفي نفس الوقت يتساءل المفسرون ما إذا كان قوله باطلاً أم صادقًا؟!
تجديف الهراطقة
8- إذن الله واحد، الآب القدير، الذي تجاسر الهراطقة بالتجديف عليه. نعم تجاسروا بالتجديف على رب الصباؤوت[6]، الجالس على الشاروبيم (مز 80: 1).
تجاسروا أن يجدفوا على أدوناى[7].
تجاسروا بالتجديف على من أعلن عنه الأنبياء أنه الله القدير. أما أنتم فاعبدوا الله الواحد القدير، أبا ربنا يسوع المسيح.
اهربوا من خطأ الإيمان بآلهة كثيرة.
اهربوا من كل هرطقة، وقولوا مع أيوب: “اطلب من الرب القدير، الفاعل عظائم لا تُفحص، وعجائب لا تُعد” (راجع أي 5:8، 9)… الذي له المجد إلى أبد الأبد. آمين.
________________________________________
[1] كثيرًا ما أنكر اليهود قدرة الله خلال انحرافهم في الإيمان وعبادتهم للأوثان. هذا ونسب الفريسيون أعمال الخطاة إلى الحظ والقدر، وينكر الـBasmcntheans العناية الإلهية قائلين إن العالم قد وجد خلال حركة تلقائية ذاتية (قوانين الرسل 6: 6).
[2] ذكر شيشرون أن فيثاغورس قال بأن الله هو نفس العالم الذي يخترق كل الطبيعة Cicero, De Natura Deorm.. كما قيل إن هذا الفكر نادى به الرواقيون والأفلاطونيون وصار تعليمًا عامًا.
[3] مز 36: 5. “أمانتك إلى الغمام” يبدو أن القديس كيرلس استعار هذه العبارة عن القديس إكليمنضس السكندري الذي قال إن البعض فهم من هذا المزمور بأن العناية الإلهية تنزل من القمر كقول أرسطو Stromata 14: 9 .
[4] نادى بهذا أتباع ماني (راجع الأب ارشلاوس Disputatio 42 ، وأبيفانيوس عن الهراطقة 66: 81).
[5] راجع أغسطينوس: عظات علي فصول المنتخبة من العهد الجديد.
[6] أي الجنود.
[7] أي “الرب” وهم اسم قديم يحمل العظمة والجلال، ويخص الله وحده
الم والمادة إله الظلمة في نظرهم وهو إله عادل وقاسى وشرير.
[6] مت 10: 29. استعاض القديس كيرلس وكذلك العلامة أوريجينوس والبابا أثناسيوس كلمة أبي عوض “أبيكم”.
[7] الكلمة اليونانية تستخدم عن الحب الذي للأم أو الأب تجاه الابن، أو العكس حب الابن لوالديه. ولكن يظهر هنا أنه يستخدمها بمعنى الحب الوالدي تجاه الابن.
[8] لو 2: 33 “وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه”.
[9] إش 40: 12، 22 الجندب نوع من الجراد.
المقال التاسع: خالق السماء والأرض ما يُرى وما لا يُرى
“من هو هذا الذي يخفي مشورة عني، ويحفظ كلمات في قلبه، ويظن أنه يخيفها عني؟!” (أي 38: 2-3).
لا يراني أحد ويعيش!
1- يستحيل علينا أن نتطلع إلى الله بأعين بشرية، لأن غير الجسدي لا يقع تحت الأعين الجسدية. وقد شهد الابن الوحيد – ابن الله نفسه – قائلاً: “الله لم يره أحد في أي زمان” (يو 1: 18). فإن فهم أحد مما ورد في حزقيال (حز 1: 28) إنه رأى الله، فإنه ماذا يقول الكتاب المقدس؟ إنه رأى “شبه مجد الله”، وليس الرب ذاته كما هو في حقيقته، بل شبه مجده. وبمجرد رؤيته شبه مجد الله، وليس المجد ذاته، سقط على الأرض مرتعدًا. فإن كانت رؤية شبه المجد تملأ الأنبياء رعدة، فبالتأكيد إن حاول أحد رؤية الله ذاته يموت، وذلك كالقول: “الإنسان لا يرى وجهي ويعيش” (خر 33: 20).
من أجل هذا فإن الله بحنو رحمته بسط السماوات أمام لاهوته لكيلا نموت. لست أقول هذا من عندي بل هو قول النبي: “ليتك تشق السماوات وتنزل من حضرتك، تتزلزل الجبال (وتذوب) (إش 64:1).
لماذا تتعجب من سقوط دانيال عند رؤيته شبه المجد، إن كان دانيال عند رؤيته جبرائيل – الذي هو ليس إلا مجرد خادم الله – ارتعب للحال وسقط على وجهه ولم يجسر النبي أن يجيبه بالرغم من أن الملاك نفسه، جاء على شبه ابن بشر؟! (راجع دا 10: 9، 16، 18) إن كان ظهور جبرائيل أرعب الأنبياء، فهل يرى الإنسان الله كما هو ولا يموت؟!
نراه خلال أعماله
2- يستحيل على الأعين البشرية أن ترى الطبيعة الإلهية، إنما تدرك قوتها بعض الإدراك خلال أعماله الإلهية. يقول سليمان: “بعظم جمال المبروءات يبصر ناظرها على طريق المقايسة”[1]. لم يقل إن الخالق يُرى خلال خليقته، بل أوضح أن ذلك يكون “نسبيًا”. فإن الله أعظم مما يدركه أي إنسان خلال معاينته عظمة الخليقة. وإذ يرتفع قلبه أكثر بمعاينته أكثر (لعظمة الخليقة) ينال إدراكًا أعظم نحو الله.
إن كنا لا نفهم عرشه، فكيف ندرك طبيعته؟
3- أتريد أن تتعلم استحالة فهم طبيعة الله؟ يقول الثلاثة فتية في أتون النار بتسبيحه مقدمين المجد لله: “مبارك أنت يا من ترى الأعماق وتجلس على الشاروبيم” (تسبحة الثلاثة فتية 32).
أخبرني ما هي طبيعة الشاروبيم وبعد ذلك تطلع إلى الجالس عليه؟ قدم حزقيال وصفًا لهم قدر ما يستطيع قائلاً إن لكل واحد منهم أربعة أوجه: فشبه وجوهها وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر، ولكل واحد منها ستة أجنحة[2]، لهم أعين من كل جانب، وتحت كل واحد فواحد عجلة ذات أربعة جوانب. وبالرغم مما أوضحه لنا النبي، إلاّ أننا عند قراءته لا نستطيع أن نفهم. فإن كنا نعجز عن فهم العرش الموصوف، فكيف نفهم الجالس عليه غير المنظور ولا منطوق به؟! إذن يستحيل علينا أن نتحرى عن طبيعة الله، إنما في مقدورنا أن نقدم تسابيح لمجده من أجل أعماله المنظورة.
خالق السماء والأرض
4- نقول في قانون إيماننا “(نؤمن) بإله واحد. الآب القدير، خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى”، متذكرين أن أبا ربنا يسوع المسيح هو نفسه خالق السماء والأرض. وبهذا نُحفظ من أخطاء الهراطقة الأشرار الذين يتجاسرون فيقولون شرًا على خالق هذا العالم كلي الحكمة، إذ لهم عيون جسدية، أما عيون قلوبهم فأظلمت.
حكمة الله خالق الجلد
5- لأنه أي خطأ يجدونه في خليقة الله المتسعة؟! هؤلاء الذين كان يليق بهم أن يتأملوا اتساع السماوات مندهشين… ويتعبدوا لخالق السماء كقبةٍ، وموجد مادة السماء (السحب) من الماء، إذ “قال الله ليكن جلد في وسط المياه” (تك 1:6).
تكلم مرة فتحقق قوله وبقي دون أن يسقط[3]…
جمال الخليقة يتحدث عن الله
6- ولكن ماذا؟ أما ندهش معجبين من بنيان الشمس؟ فإنها تبدو للنظر جسمًا صغيرًا لكنها تحمل قوة جبارة. تشرق من المشارق، وترسل أشعتها حتى المغارب. وكما وصف المرتل شروقها عند الفجر قائلاً: “مثل العريس الخارج من خدره” (مز 19: 5).
لقد رسم لنا بهاءها وخفة حرارتها عند بداية شروقها للبشر حتى إذا ما جاء وقت الظهيرة غالبًا ما نهرب من التطلع إليها. فشروقها متعة للجميع، إنها شبيهة بالعريس!
تأمل أيضًا تدابيرها (بل بالأحرى تدابير الله موجد عملها)، كيف تظهر في الصيف مرتفعة حيث يطول فيه النهار، فتعطي للبشر فرصة للعمل، وفي الشتاء يزداد البرد ويطول الليل لأجل راحة البشر… كما تساهم في أثمار منتجات الأرض!
تأمل كيف تتوالى الأيام، وتتوافق مع بعضها البعض، في نظامٍ لائقٍ. في الصيف يطول النهار وفي الشتاء يقصر، وأمّا في الربيع والخريف فيتساوى كل منهما مع الآخر.
وهكذا يحمل الليل نظامًا مشابهًا، إذ يقول المرتل: “يوم إلى يوم يبدي قولاً، وليل إلى ليل يُظهر علمًا” (مز 19:2).
يا للهراطقة الصم، إذ تصرخ هذه جميعها مدوية بصوتٍ عالًٍ خلال نظامها المبدع، قائلة: “ليس إله آخر سوى الخالق، موجد هذه النظم ومدبر نظام المسكونة!”
موجد النور والظلمة
7- لا تسمح لأحد أن يقول إن خالق النور غير خالق الظلمة، بل تذكر ما جاء في إشعياء! أنا الله “مصور النور وخالق الظلمة” (إش 45: 7).
لماذا تتكدر من هذا يا إنسان؟ لماذا تستاء من الفرصة المعطاة لك للراحة؟!
هل الخادم يسمح له سيده بالراحة لو لم تحتم الظلمة عليه بضرورة الراحة؟!
فبعد إرهاق النهار ننتعش ليلاً، فنقوم في الصباح، وقد تجددت قوانا بعد أثقال أتعاب النهار وذلك بفضل راحة الليل.
أي شيء أنفع للإنسان من الليل لبلوغ الحكمة؟! ففيه غالبًا ما نتأمل أعمال الله، وفيه نقرأ الأقوال الإلهية ونتفهمها، وفيه نضبط أذهاننا بالأكثر لنترنم بالأبصلمودية Psalmody والصلاة! أما يحدث هذا بالليل؟!
متى نتذكر خطايانا؟ أما يكون ذلك في الليل غالبًا؟!
إذن ليتنا لا نقبل فكرًا شريرًا ينادي بأن إلهًا آخر هو صانع الظلمة، إذ نحن ندرك بخبرتنا أنها صالحة ونافعة[4].
مدبر الكون!
8- كان يليق بهم بالأحرى أن يندهشوا متعجبين لا من نظام الشمس والقمر فحسب بل ونظم النجوم الدقيق وظهور كل كوكب في حينه. ومن ظهورها يعرف الصيف والشتاء، وبعضها يُعلن وقت الغرس وغيرها تعلن عن بداية الإبحار[5].
فالإنسان وهو جالس في سفينته يبحر بين أمواج بلا حدود، موجهًا سفينته بتطلعه إلى النجوم. وكما يقول الكتاب المقدس عن هذه الأمور “وتكون لآيات وأوقات… وسنين” (تك 1:14)، وليس لأجل التنجيم والخزعبلات…
تأمل كيف وهبنا بنعمته أن يزداد نور النهار تدريجيًا، فلا نرى (الشمس) مشرقة دفعة واحدة، بل تبدأ بنور بسيط حتى تقدر العين أن تتطلع إليه إلى أن تبلغ الشعاع القوي.
تأمل كيف تسعف أشعة القمر ظلام الليل؟!
المهتم بالمياه والأمطار!
9- “من هو أب للمطر؟! ومن ولد مآجل الطل؟!” (أي 38:28)
من اكتنز الهواء في السحب، وربطها ليحمل مياه الأمطار، فتأتي ذهبية اللون (أي 37: 22) من الجنوب، بنظامٍ واحدٍ تارة، وفي شكل دوائر متعددة وأشكال متباينة تارة أخرى؟!
من يحصي الغيوم بالحكمة (أي 38 :37)، إذ قيل في أيوب: “يعرف انفصال السحاب؟!” (أي 37:16 )
من هو “المخرج الريح من خزائنه” (مز 135:7)، وكما قلنا قبل: “من ولد قطرات الندى ومن بطن من خرج الثلج؟!” (راجع مز 135:7؛ أي 38:28) فإن مادتها ماء، وقوتها كالحجر! في وقت ما يصير الماء ثلجًا كالصوف (راجع مز 147: 16)، وأخرى يذريه صقيعًا كالرماد، وثالثة يصير مادة حجرية. إنه يحكم الماء كما يريد. طبيعة الماء واحدة لكن عمله متعدد في القوة، فيعمل في الكرمة خمرًا يفرح قلب الإنسان، وفي الزيتونة زيتًا يلمع وجهه، وفي الخبز يسند قلب الإنسان (مز 104: 15)، ويوجد في كل أنواع الفاكهة التي خلقها الله[6].
ما أعجب أعمالك يا رب!
10- ما هي فاعلية هذه العجائب؟! هل تجدف على الله أم تتعبد له؟ هذا وإنني لم أتكلم شيئًا عن أعمال حكمته المنظورة. تأمل معي في الربيع وفي الزهور المختلفة، تجد لكل واحدةٍ طابعها الخاص، فمن وردة قرمزية اللون، وزنبقة ناصعة البياض، وكلتاهما وُجدتا من أرض واحدة، وارتوتا من مياه واحدة؟! ومن الذي خلقهما هكذا؟!
تأمل معي في عنايته الدقيقة، ففي الشجرة ذاتها تجد ما هو للمأوى، وأجزاء منها عبارة عن ثمارٍ متنوعة، والخالق واحد. وعلى نفس الكرمة نجد منها ما هو للحرق، وما هو للنمو (البراعم)، وما هو أوراق وما هو حالق[7] وعناقيد.
تعجب أيضًا من كثرة العقد التي تتخلل قصبة الغاب لأنها من صنع الخالق!
من أرض واحدة تخرج الزحافات والوحوش المفترسة والقطيع، وعليها تثبت الأشجار، وتوجد الأطعمة والذهب والفضة والنحاس والحديد والحجر!
طبيعة المياه واحدة فيها يسبح سمك، وبها ترتوي الطيور، الأولى تسبح فيها، والثانية تهيم في الجو.
تأمل عظمة البحر!
11- في هذا البحر العظيم المتسع تعيش كائنات بلا عدد (مز 104: 25)، من يقدر أن يصف روعة الأسماك التي تعيش فيه؟! من يقدر أن يتصور عظمة الحيتان وطبيعة الحيوانات البرمائية: كيف تعيش تارة على أرض صماء وأخرى وسط المياه؟!
من يستطيع أن يخبر عن أعماق البحار وسعتها وقوة أمواجها الهائلة؟! ومع هذا فهي تقف عند حدود مرسومة لها، إذ قيل: “إلى هنا تأتي ولا تتعدى، وهنا تتخم كبرياء لُججك” (أي 38: 11) فيُظهر البحر الطاعة بوضوح، إذ يجرى ليقف عند حدود الشاطئ في خط واضح صنعته الأمواج، معلنًا لناظريه أنه لا يتعدى الحدود المرسومة له.
تأمل جمال الطيور!
12- من يقدر أن يميز طبيعة طيور السماء؟! كيف يتمتع بعضها بأصوات ملحنة، وآخر مزرقش بكل الألوان في أجنحتها، والبعض يهيم في الهواء كأنه بلا حراك مثل النسر. فإنه بأمر إلهي “ينشر العقاب (أو الصقر hawk) جناحيه نحو الجنوب” (أي 39: 26).
من يقدر أن يرى الارتفاع الشامخ للصقر؟!… فكيف تريد أن تفهم خالق الكل؟!
تأمل عجائب الحيوانات!
13- مَنْ مِن البشر يعرف حتى أسماء كل الحيوانات المفترسة؟! أو من يقدر أن يميز فسيولوجية كل منها بتدقيق؟! فإن كنت لا تعرف عن الوحوش المفترسة مجرد أسمائها فكيف تفهم خالقها؟!
لقد أصدر الله أمرًا واحدًا قائلاً: لتُخرج الأرض وحوشًا وبهائم وزحافات كأجناسها (راجع تك 1: 24). من أرضٍ واحدةٍ، وبأمرٍ واحدٍ خرجت طبائع متنوعة: الحمل الوديع والأسد الكاسر، ولكل منها غرائز متنوعة… تحمل صورًا لشخصيات متنوعة من البشر.
فالثعلب يعلن لنا عن الخداع في الإنسان، والحية خيانة الأصدقاء، والحصان في صهيله جموح شهوات الشبان (إر 5: 8)، والنملة النشيطة توقظ الكسلان والخامل. فإن قضى الإنسان حياته في كسلٍ تعلمه الحيوانات غير العاقلة، إذ يوبخه الكتاب المقدس قائلاً: “اذهب إلى النملة أيها الإنسان، وكن أحكم منها” (أم 6: 7 ). فإذ تتأملها وهي تخزن طعامها في الوقت المناسب تمثل بها لتحزن نفسك ثمار أعمال صالحة للعالم الآتي.
أيضًا “اذهب إلى النحلة وتعلم منها مقدار نشاطها” (أم 8: 8 ). تأمل كيف تنتقل بين كل أنواع الزهور المختلفة لتجمع لك عسلها. هكذا لتنتقل أنت بين الأسفار المقدسة، وتتمسك بخلاص نفسك، وإذ تشبع منها تقول: “وجدت كلامك حلوًا في حلقي، أحلى من العسل والشهد في فمي” (مز 119: 103).
تمجيد الخالق مانح الخليقة فاعليتها
14- ألا يليق بنا بالأحرى أن نمجد الخالق؟! لأنه إن كنت لا تعرف طبائع كل الأشياء فهل خُلقت بلا نفع؟! أما تعرف فعالية كل الأعشاب؟! أما تعلم الفوائد التي تستفيدها من كل حيوان؟! إنه حتى الأفاعي السامة نأخذ منها ترياقها لحفظ البشر.
لكنك تقول “الحيّة مرعبة”، خف الرب فلا تؤذيك!
“العقرب يلدغ”، خف الرب وهو لا يلدغك!
“الأسد مفترس”، خف الرب، فيرقد بجوارك كما حدث مع دانيال!
عجيبة حقًا هي الحيوانات: فالبعض عنيف في لدغاته كالعقرب، والبعض قوته في أسنانه، والآخر يحارب بمخالبه بينما تكون قوة الأفاعي في تفرسها.
من هذه الأعمال كلها افهم قوة الأفاعي.
تأمل داخلك
15- ربما لا تعرف هذه الأمور، وإذ ليس لك شيء مشترك مع الخليقة الخارجية. ادخل إلى ذاتك، ومن خلال طبيعتك تأمل خالقها.
أي خطأ تجد في تكوين جسدك؟! كن سيدًا لنفسك فلا تخرج شرًا من أعضائك!
آدم في البداية كان في الفردوس بلا ملابس، فليس بسبب أعضائه طُرد، لأنها ليست هي سبب الخطية، بل من يستخدمها استخدامًا خاطئًا.
الصانع حكيم، من الذي أعد الرحم ليحمل الجنين؟!
من يهب الحياة الأشياء التي بلا حياة في داخلك؟!
من الذي ربطنا بعضلات وعظام، وكسانا بجلد ولحم (راجع أي 10: 11)، وما أن يولد الطفل حتى يفيض اللبن من الثديين؟!
كيف ينمو الطفل ليكون صبيًا فشابًا فرجلاً، ويبقى هكذا حتى يعبر إلى الشيخوخة، دون أن يلاحظ أحد هذا التحول الدقيق من يومٍ إلى يومٍ؟!
أيضًا بالنسبة للطعام، كيف يتحول جزء منه إلى دم، وآخر يخرج كإفرازات، وآخر يتحول إلى لحم؟!
من يعطي القلب نبضاته غير المنقطعة؟!
من يحرس ليونة العينين بسور الجفنين؟!
فإن تكوين العينين معقد وعجيب، بصعوبة تقدم مجلدات الأطباء شرحًا له.
من يوزع النفس خلال الجسد كله؟!
ها أنت ترى الصانع، تأمل الخالق الحكيم!
ما أعظم أعمالك يا رب!
16- وإن كنت قد عالجت هذه النقاط في مقالي هذا، إلاّ إنني تركت وراءها الكثير. نعم تركت عشرات الألوف من الأشياء الأخرى، خاصة ما هو غير محسوس ولا منظور.
لتدحض المجدفين على الخالق الحكيم الصالح، ولتدرك مما تسمعه وما تقراه وما تكتشفه أن “من عظمة الخليقة وجمالها يُعرف صناعها إدراكًا نسبيًا” (راجع حك 13: 5).
وإذ نحني رُكبنا بوقار صالح أمام صانع العوالم، أقصد عالم الحس والفكر، ما يُرى وما لا يُرى، فإنك تمجد الله بلسان مقدس، يلهج بالمعروف، وشفتان لا تسكتان، وقلبٍ لا يمل، قائلاً: “ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صَنَعْتَ” (مز 104: 24)، يليق بك الإكرام والمجد والجلال من الآن خلال كل الدهور. آمين.
________________________________________
[1] حك 13: 5. يقول الأب ثاوفيلس الأنطاكي Autolycus 1: 5 & 6 “حقًا لا يمكن أن يُرى الله بأعين بشرية، بل تنظر وتدرك عنايته وأعماله… غير المدرك لا تنظره أعين الجسد”.
[2] ذكر حزقيال (1: 6-11) أن عدد الأجنحة للمخلوقات الأربعة الحيّة أربعة، كما جاء في النسخة العبرية (10: 21). أما السبعينية فقالت 8 أجنحة. ويبدو أن القديس كيرلس خلط ما هو جاء في حزقيال مع ما جاء في إشعياء 6: 2 أن الساروفيم لكل منهم 6 أجنحة.
[3] تأمل القديس في الشمس والقمر والنجوم قدر ما كانت توحي إليه علوم الفلك في أيامه.
[4] أفاض القديس يوحنا الذهبي الفم في الحديث عن فائدة الليل للإنسان والحيوان في مقاله “عناية الله”.
[5] في المرجع السابق تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن استخدام حركات النجوم في معرفة اتجاه الرياح وسرعتها وتوقيت الميعاد المناسب للإبحار، كما تستخدم في معرفة اتجاه السفينة وهو في وسط البحر.
[6] راجع مقال 16: 12، والقديس الذهبي الفم Statues 12: 2.
[7] الحالق أو المحلاق هو جزء لولبي رفيع من النبتة المعترشة، يساعدها على التعلق بسِنادها
المقال العاشر: نؤمن برب واحد يسوع المسيح
“لأنه وإن وجد ما يسمى آلهة، سواء كان في السماء أو على الأرض. لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء، ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح. الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1 كو 8: 5-6).
مقدمة
1- من يتعلم أن يؤمن “بإله واحد، الله الآب القدير”، يلتزم بالإيمان بابنه الوحيد لأن كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضًا (1 يو 2: 23). يقول يسوع: “أنا هو الباب”، “ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي” (يو 14: 6؛ 10: 9)، “لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 11: 27)، فإن أنكرت من يعلن لك تبقى في جهلٍ.
لقد جاءت العبارة التالية في الإنجيل: “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. أما إن احتقر أحد ابنه الوحيد، فمن يقدر أن يطفئ غضب الأب من أجل ابنه الوحيد؟!
الآب يوصينا بالابن
2- فإن رغب أحد في إظهار ورع لله فليعبد الابن، عندئذ يتقبل الله خدمته. لقد نادى الآب بصوتٍ عالٍ قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت” (مت 3: 17). لقد سُر الآب به، فإن لم تكن أنت موضع سروره في الابن لا تكون لك حياة. لا يخدعنك اليهود بقولهم في مكر “يوجد إله واحد وحده” لكن لتعرف أن الله واحد، ولتعلم أن ابن الله وحيد. لا أقول هذا مني بل هو قول المرتل في شخص الابن: “الرب قال لي: أنت ابني” (مز 2: 7).
إذن لا تبالِ بما يقوله اليهود بل اهتم بقول الأنبياء.
هل تتعجب من ازدرائهم بكلمات الأنبياء، هؤلاء الذين رجموا الأنبياء وقتلوهم!
رب واحد، يسوع المسيح
3- آمن بربٍ واحدٍ، يسوع المسيح ابن الله الوحيد إذ نقول: “نؤمن برب واحد يسوع المسيح”. بنوته فريدة لهذا نقول عنه: “واحد” حتى لا نفكر في آخر غيره. ندعوه “واحدًا” حتى لا تسقط في الضلال المنتشر بطلب أسماء كثيرة بسبب أعماله تجاه الأبناء الكثيرين (البشر).
إنه يُدعى “الباب” (يو 1: 7، 9). لا تأخذ المعنى الحرفي للكلمة كمادة خشبية، بل المعنى الروحي. إنه “باب حيّ” يميز الداخلين فيه.
يُدعى “الطريق” (يو 14: 6) لا أن يُداس بالأقدام، بل يقودنا للآب السماوي.
يُدعى “الحمل” (يو 1: 29؛ إش 53:7، 8؛ أع 8:32) لا كغير عاقلٍٍ، بل لأن بدمه الثمين يطهر العالم من خطاياه، ويقف صامتًا أمام جازيه.
هذا الحمل دُعي مرة بـ “الراعي” إذ يقول: “أنا هو الراعي الصالح” (لو 10: 11). هو حمل من جهة ناسوته، وراعٍٍ بالحب المترفق الذي للاهوته. هل تريد أن تعرف حملان عاقلة؟ اسمع المخلص يقول للرسل: “ها أنا أرسلكم كحملانٍ بين ذئاب” (مت 10:10، 16).
إنه يُدعى “أسدًا” (تك 49: 9؛ رؤ 5:5)، ليس مفترسًا للبشر، بل كرامة شخصه الملكية وثباته وقوته. لقد دعي أسدًا، لأنه يقف قبالة الأسد المقاوم الذي يزأر ملتمسًا أن يفترس من يخدعهم (1 بط 5:8). لأن المخلص في مجيئه لم يغير وداعة طبيعته، بل بكونه “الأسد الخارج من سبط يهوذا” (مز 118: 22) يخلص المؤمنين ويطأ على المقاوم.
يُدعى “حجرًا”، ليس بلا حياة، مقطوع بيدٍ بشرية، بل “حجر الزاوية الرئيسي” (إش 28: 16)، من يؤمن به لن يخزى.
تبع أسماء المسيح
4- يُدعى “المسيح”، ليس ممسوحًا بيد بشرية، بل سرمديًا، ممسوح من الآب لكهنوته العلوي من أجل البشر.
دُعي “ميتًا”، لا كمن هو بين الأموات الذين في الجحيم جميعهم، بل وحده الحر بين الأموات (مز 88: 25).
يُدعى “ابن الإنسان”، ليس لأنه من أصل أرضي مثلنا جميعًا، إنما لأنه آت على السحاب ليدين الأحياء والأموات (يو 5: 27).
يدعى “ربًا” ليس عن عدم لياقة مثل أولئك الذين يدعوهم البشر هكذا، إنما هو رب من أجل طبيعته الإلهية السرمدية.
يدعى “يسوع” باسم لائق، إذ دُعي هكذا من أجل العلاج (الخلاص) الثمين الذي يقدمه.
إنه يدعى “ابنًا”، ليس لأنه نال البنوة بالتبني، بل هو مولود طبيعيًا.
كثيرة هي ألقاب مخلصنا، لكن لا تظن بسبب كثرة أسمائه أنه يوجد أبناء كثيرون، كما ظن بعض الهراطقة الذين قالوا أن يسوع غير المسيح، وآخر هو “الباب”[1] وهكذا. فإن قانون الإيمان يؤكد أنه هو “يسوع المسيح”. فالألقاب كثيرة لكن موضوعها شخص واحد.
المسيح رب حقيقي
5- يظهر المسيح لكل واحد حسب احتياجه[2]. فالمحتاجون إلى البهجة يتقدم إليهم ككرمة، والمحتاجون إلى الوجود في حضرة الآب يأتيهم كبابٍ، والمحتاجون إلى من يقدم صلواتهم يجدونه الشفيع فيهم الكاهن العلي، وللخطاة هو الحمل (المذبوح) لأجل تقديسهم.
إنه كل شيءٍ لكل واحد (1 كو 9:22) دون أن تتغير طبيعته بل يبقى كما هو. هو باقٍ، وعمل بنوته لن يتغير، لكنه يكيف نفسه حسب ضعفنا، بكونه طبيبًا ممتازًا أو معلمًا مملوء حنوًا.
إنه الرب نفسه، لم يقبل الربوبية عن تقدم[3]، إنما عمل بنوته طبيعي.
لم يُدعَ ربًا بغير لياقة مثلنا[4]، بل بالحقيقة هو هكذا… فنحن نُدعى أرباب على أناس مثلنا، لهم ذات الحقوق وفيهم نفس العواطف. وأحيانًا ندعى أربابًا على شيوخ، إذ كثيرًا ما يحكم سيد شاب على خدم مسنين.
أما ربوبية يسوع المسيح فهي ليست هكذا بل هو خالق فرب[5]، خلق كل الأشياء بإرادة الآب…
الابن في العهد القديم (سفر التكوين)
6- المسيح الرب هو ذاك الذي وُلد في مدينة داود (لو 2: 11). أتريد أن تعرف أن المسيح هو رب مع الآب قبل تجسده حتى تتقبل العبارة ليس فقط بالإيمان وإنما ببرهان من العهد القديم؟
عد إلى أول سفر “التكوين” يقول الله “نعمل الإنسان” لا على صورتي بل “على صورتنا” (تك 1: 26). وبعد خلقة آدم يقول الكتاب المقدس، “فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه” (زك 1: 27). فإنه لم يقصر شرف اللاهوت على الآب وحده بل شمل الابن أيضًا، مظهرًا أن الإنسان ليس من عمل الله (الآب) وحده بل أيضًا هو عمل ربنا يسوع المسيح الذي هو الله نفسه.
هذا الرب الذي يعمل مع الآب، عمل معه في حالة سدوم أيضًا إذ يقول الكتاب المقدس “فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء” (تك 19: 24).
هذا الرب هو الذي رآه موسى قدر ما يستطيع أن يرى. لأن الرب محب البشر ينزل إلينا حسب ضعفاتنا.
الابن في العهد القديم (سفر الخروج)
7- علاوة على هذا، فلكي تتأكد أنه هو بنفسه الذي رآه موسى، اسمع شهادة بولس القائل: “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1 كو 10:4). وأيضًا قال: “بالإيمان موسى ترك مصر”، وبعد ذلك بقليل يقول: “حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر”[6]. موسى هذا قال له: “أرني ذاتك”. إنك ترى أن الأنبياء أيضًا في ذلك الإيمان رأوا المسيح بمعنى أن كلاً منهم رآه قدر ما يحتمل (خلال الأنبياء).
“أرني ذاتك لكي أعرفك بفهم” (خر 33: 13). لكن الله قال: “الإنسان لا يرى وجهي ويعيش” (خر 33: 20). لهذا السبب إذن، إذ لا يستطيع أحد أن يرى وجه لاهوته ويعيش.
أخذ الرب وجه الطبيعة البشرية حتى نراه ونعيش. لكن حتى عندما أراد أن يظهر بأن هذه عظمة قليلة، فإن التلاميذ إذ رأوا وجهه يضيء كالشمس (مت 2:17) سقطوا مرتعبين. فإن كانت هيئته الجسدية (الناسوتية) تضيء، ليس في كمال قوته بل حسب طاقة التلاميذ، ومع ذلك ارتعبوا غير محتملين هذا، فكيف يقدر أحد أن يحملق في جلال لاهوته؟!
يقول الرب: إنه لأمر عظيم الذي تطلبه يا موسى، وأنا أحقق لك رغبتك التي لا تُشبع. ما أفعل لك هذا الأمر، ولكن قدر احتمالك. “إني أضعك في نُقرة من الصخرة (تك 33: 22)، فإذ أنت صغير أن أحميك في موضع صغير”.
الابن في العهد القديم (تبع سفر الخروج)
8- …عندئذ قال الرب لموسى: “حتى أجتاز بك بمجدي، وأنادي اسم الرب قدامك”. وإذ هو الرب، أي رب هو ينادي؟ أنظر، فإنه يتحدث بطريقة خفية عن التعليم بالآب والابن.
مرة أخرى انظر ما جاء بعد ذلك كلمة فكلمة “فنزل الرب في السحاب فوقف عنده هناك، ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادي الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية” (تك 34: 5-7). وبعد ذلك “فأسرع موسى وخرّ إلى الأرض وسجد”[7] أمام الرب الذي نادى الآب، وقال “ليَسِر الرب (السيد) في وسطنا”[8].
الابن في العهد القديم (سفر المزامير)
9- هذا برهان أول، تقبل برهانًا آخر واضحًا. “قال الرب لربي أجلس عن يميني” (مز 110: 1). قال الرب هذا للرب، لا لعبدٍ، بل لرب الكل، ابنه الذي أخضع كل شيء له. “ولكن حينما يقول إن كل شيء قد أُخضع، فواضح أنه غير الذي أَخضع له الكل”. وماذا يلي هذا؟ “كي يكون الله الكل في الكل”.
الابن الوحيد هو رب الكل، لكن ابن الآب المطيع لم ينل لاهوته (كأمرٍ جديدٍ)، بل هو ابن بالطبيعة حسب إرادة الآب. فليس الابن ناله، ولا الآب حسده لكي يغتصبه. فالابن يقول: “كل شيء قد دُفع إليّ من أبي” (مت 11: 27؛ لو 10:22). “دفع إليّ” ليس كما لو كان ليست لي من قبل. وأنا احفظه حسنًا ولا أسلبه من الذي أعطاه لي.
الابن في العهد الجديد
10- ابن الله هو الرب: إنه الرب الذي وُلد في بيت لحم اليهودية، كقول الملاك للرعاة: “ها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود المسيح الرب” (لو 2: 10، 11). وفي موضع آخر يقول عنه الرسول: “الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح، هذا هو رب الكل” (أع 10: 36).
ولكن عندما يقول “الكل” هل تُستثنى ربوبيته على أحد، لأنه سواء ملائكة أو رؤساء ملائكة أو رؤساء أو سلاطين أو أي مخلوق آخر دعاه الرسول، يخضع الكل لربوبية الابن…
مقارنة بين يسوع وكل من هارون ويشوع
11- يحمل يسوع المسيح اسمين: يسوع لأنه يخلص، والمسيح لأنه كاهن.
إذ عرف موسى النبي المُلهم هذا، دعى اللقبين على شخصين ساميين اختارهما من جميع الشعب، فدعا الذي يخلفه في الحكم Auses “يسوع (بن نون)”، ودعا أخاه “مسيحًا”. وخلال هذين الرجلين المزكين تمامًا يقدم لنا في وقت واحد الكهنوت العلوي والمملكة، كرمز للواحد يسوع المسيح الآتي.
فالمسيح هو كاهن مثل هارون، إذ “لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق” (عب 5: 5-6).
وكان يشوع بن نون رمزًا له في أمور كثيرة لأنه عندما بدأ يحكم على الشعب بدأ من الأردن (يش 3: 1)، وبدأ المسيح أيضًا الكرازة بالإنجيل بعد العماد.
ويشوع بن نون عين اثنى عشر ليقسموا الميراث (يش 14: 1)، وأرسل المسيح اثنى عشر رسولاً كرسل للحق في كل العالم.
أنقذ يشوع الرمز راحاب الزانية عندما آمنت، ويسوع الحقيقي قال: “إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله” (مت 21:31).
في أيام الرمز بمجرد التصويت بالبوق تهدمت حصون أريحا، لأن المسيح قال: “لا يُترك حجر على حجرٍ إلاّ وينقض” (مت 24: 2) سقط الهيكل اليهودي أمامنا، والسبب في ذلك هو عصيانهم.
إشعياء يدعو يسوع مخلصًا
12- يوجد رب واحد يسوع المسيح، اسم عجيب، سبق أن أخبر به الأنبياء بطريقة خفية. إذ يقول إشعياء النبي: “يأتي المخلص، ومعه مكافأته” (إش 62:11).
كلمة “يسوع” في العبرية معناها “مخلص”. فإن العطية النبوية، إذ سبق فرأت روح القتل عند اليهود وأنهم ضد الرب، حجب اسمه عنهم، لئلا إذا عرفوه من قبل يتدبرون ضده فورًا. لكنه دُعي صراحة “يسوع”، ليس فقط من الناس بل ومن الملاك الذي لم يأتِ من ذاته، بل بسلطان الله. قال ليوسف: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابنًا، وتدعو اسمه يسوع” (مت 1: 20). وفي الحال ذكر سبب اسمه قائلاً: “لأنه يخلص شعبه من خطاياهم”…
اليونانيون يدعون يسوع طبيبًا
13- “يسوع” في العبرية معناها “مخلص”، أما في اليونانية فتعني “الشافي”، إذ هو طبيب الأنفس والأجساد. هو شافي الأرواح، فتح عيني المولود أعمى، وقاد الأذهان إلى النور. يشفي العرج المنظورين، ويقود الخطاة في طريق التوبة. يقول للمفلوج: “لا تخطئ”، وأيضًا: “احمل سريرك وامشِ” (يو 5: 14، 8)، لأن الجسد كان مفلوجًا بسبب خطية النفس. شفى النفس أولاً حتى يمتد بالشفاء إلى الجسد.
لذلك إن كان أحدكم متألمًا في نفسه من خطايا، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان، فليقل له: “أعن عدم إيماني” (مر 9: 24).
وإن أصابت أحدكم آلام جسدية، فلا يكن غير مؤمنٍ، بل يقترب، فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح.
اليهود يرفضون المسيح
14- يقبله اليهود على أنه يسوع. لكنهم يرفضون كونه المسيح. لهذا يقول الرسول: “من هو الكذاب إلاّ الذي ينكر أن يسوع هو المسيح” (1 يو 2: 22).
لكن المسيح هو كاهن عليَّ، “له كهنوت لا يزول” (عب 7:24). لم يبدأ كهنوته في زمان، إذ ليس له سلف في كهنوته العلوي، وذلك كما سمعت في يوم الرب عندما ناقشنا عبارة “على رتبة ملكي صادق” في المجمع[9].
لم يتسلم كهنوته عن سلف بشري، ولا مُسح بزيت أعدّه إنسان، بل هو ممسوح من الآب قبل كل الدهور.
هكذا هو يعلو على غيره، فقد صار كاهنًا بقسمٍ (عب 7: 21)، أما هم فبغير قسم… إن هدف الآب المجرد كان كافيًا ليكون مؤكدًا، لكن استخدم وسيلة مضاعفة للتأكيد، إذ تبع الهدف قسم أيضًا، “حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما تكون تعزية قوية” (عب 6: 18) في إيماننا الذي هو أن يسوع المسيح ابن الله.
رفض اليهود له
15- عندما جاء المسيح رفضه اليهود، بينما اعترفت به الشياطين.
داود جده لم يجهله عندما قال: “رتبت سراجًا لمسيحي” (مز 132:7)، هذا السراج الذي فسره البعض أنه بهاء النبوة (2 بط 1: 19)، وفسره البعض أنه الجسد الذي أخذه من العذراء…
لم يجهل النبي أمر المسيح إذ قال: “وأعلن بين البشر بمسيحه His Anointed” (عا 4:13).
موسى أيضًا عرفه، وإشعياء، وإرميا. لم يجهله أحد من الأنبياء، بل حتى الشياطين عرفته إذ انتهرها…
رئيس الكهنة لم يعرفه، والشياطين اعترفت به.
رئيس الكهنة لم يعرفه، والسامرية أعلنت عنه قائلة: “انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟!” (يو4: 29)
اسم جديد يبارك الأرض
16- هذا هو يسوع المسيح الذي جاء “رئيس كهنة للخيرات العتيدة” (عب 9: 11)، الذي من أجل غنى لاهوته وهبنا نحن جميعًا لقبه الخاص به. فالملوك بين البشر لهم طابعهم الملكي الذي لا يشاركهم فيه أحد غيرهم، أما يسوع المسيح فكابن لله أعطانا كرامة أن ندعى “مسيحيين”.
قد يقول قائل إن اسم مسيحيين هو اسم جديد لم يستخدم من قبل والعبارات ذات الطابع الجديد غالبًا ما تدعى كعلامة على أن الإنسان غريب.
لقد سبق أن أشار النبي إلى هذا من قبل، إذ قال: “ويسمى عبيده اسمًا آخر (جديدًا) يبارك في كل الأرض” (إش 65:15-16).
لنسأل اليهود: هل أنتم عبيد الرب أم لا؟ أين اسمكم الجديد.
لقد دُعيتم يهودًا وإسرائيليين في أيام موسى وبقية الأنبياء، وأيضًا بعد الرجوع من سبي بابل إلى يومنا هذا، فأين هو اسمكم الجديد؟ أما نحن فقد صرنا عبيد الرب، ونحمل اسمًا جديدًا حقًا يبارك الأرض…
بولس مضطهد الكنيسة يشهد لها
17- لكن هل تريد أن تعرف أن الرسل عرفوا اسم “المسيح” وبشروا به أو بالأحرى كان المسيح فيهم؟ يقول بولس: “أم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ” (2 كو 13: 3). ويعلن بولس عن المسيح قائلاً: “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا” (2 كو 4:5)…
من هو هذا المتكلم؟ إنه المضطهد السابق! يا للقدرة العجيبة! المضطهد السابق يكرز بالمسيح! لكن لماذا؟ هل كان مرتشيًا؟ لا بل لم يكن من يستخدم هذه الوسيلة للإغراء هل رآه وهو على الأرض…؟ لقد ذهب ليضطهد وبعد ثلاثة أيام صار مبشرًا في دمشق، بأية قوة؟ الآخرون يأتون بأصدقائهم كشهودٍ، أما أنا فأقدم لكم عدوًا سابقًا كشاهدٍ.
إن شهادة بطرس ويوحنا بالرغم من قوتها لكن قد تجد بابًا للشك، لأنه صديقه، أما ذاك الذي كان قبلاً عدوًا، فيقبل بعد ذلك أن يموت من أجله، من يقدر أن يشك في الحق بعد ذلك؟!
المضطهد يكتب أربع عشرة رسالة
18- في هذه النقطة امتلئ دهشة من تدبير الروح القدس الحكيم، كيف قلل عدد رسائل الباقين، بينما أعطى لبولس المضطهد السابق الامتياز ليكتب أربع عشرة رسالة… لنكون نحن جميعًا هكذا مؤمنين، إذ الجميع اندهشوا منه قائلين: أليس هذا هو المضطهد السابق؟! (راجع أع 9: 21) ألم يأتِ إلى هنا لكي يقودنا مقيدين إلى أورشليم؟!
يقول بولس: لا تندهشوا، فإنني اعلم أنه صعب عليّ أن أرفس مناخس. إنني أعلم إنني لست أهلاً أن أُدعى رسولاً لأنني اضطهد كنيسة الله (1 كو 15:9)، لكنني فعلت هذا في جهلٍ (1 تي 1: 13). إذ ظننت أن التبشير بالمسيح يحطم الشريعة، وأعرف أنه جاء ليكمل الناموس لا لينقضه (مت 5: 17)، لكن “تفاضلت نعمة ربنا جدًا في” (1 تى 1:14).
الكل يشهد للمسيح
19- كثيرون يا أحبائي كانوا شهودًا حقيقيين للمسيح.
الآب حمل شهادة من السماء لابنه.
والروح القدس شهد بنزوله في هيئة جسمانية على شكل حمامة.
ورئيس الملائكة جبرائيل شهد، جالبًا بشائر صالحة للعذراء.
والعذراء والدة الإله (ثيؤتوكوس) تحمل شهادة.
وموضع المزود المقدس يحمل شهادة.
مصر تشهد له، حيث استقبلت الرب وهو بعد صغير في الجسد.
سمعان حمل شهادة له إذ حمله على ذراعيه، وقال: “الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك، لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه كل الشعب” (لو 2:29-30).
حنة النبية، الأرملة الورعة للغاية في حياة طاهرة شهدت له.
يوحنا المعمدان حمل شهادة، العظيم في الأنبياء وقائد العهد الجديد، الذي بطريقةٍ ما وحّد بين العهدين في نفسه.
الأردن شاهد له بين الأنهار، وبحيرة طبرية بين البحار.
العمي والعرج شهدوا له، والأموات الذين قاموا، والشياطين التي قالت: “ما لنا ولك يا يسوع، نحن نعرفك، أنت قدوس الله” (مز 1:24).
الرياح شهدت له بصمتها كأمره، والخمس خبزات تزايدت لتشبع خمسة آلاف…
خشبة الصليب المقدسة تحمل شهادة، هذا الذي يُرى بيننا إلى اليوم. ويمتلئ هذا الموضع وافدون من كل بقاع العالم ليأخذ الكل بإيمان نصيبًا منه[10]..
________________________________________
[1] أشار القديس إيريناؤس (3: 16: 8) أن أتباع كيرنثوس وأبيون وفالنتينوس يفصلون بين المسيح ويسوع.
[2] قال البابا أثناسيوس الرسولي في رسالته 10 “إذ هو غني له جوانب متعددة، فيقدم نفسه لكل إنسان حسب طاقة نفسه”. راجع أيضًا أقوال الذهبي الفم “الكنيسة تحبك”: مقالتيه عن اتروبياس طبعة 69.
[3] يقول البابا أثناسيوس الرسولي ( ضد الأريوسيين 1: 37، 38) إن الأريوسيين يدعون أن المسيح تقبل كرامة اللاهوت كابن لله ورب من أجل طاعته لله بكونه إنسانًا، وليس بكونه ابن الله… وقد اعتمدوا في ذلك على العبارات التالية:
“لذلك رفعه الله أيضًا” أف 2: 9.
“أحببت البرّ، وأبغضت الظلم، لذلك مسحك الله إلهك بزيت البهجة أفضل من رفقائك” مز 45: 7.
وقد أجاب البابا في فصل 40 قائلاً: “إنه لم يرفعه في مقامه من حالة أدنى، بل بكونه الله، أخذ شكل العبد وهو في هذا وضع نفسه ولم يتقدم. فأين هنا المكافأة عن فضيلة قدمها أو أي تقدم أو ترقى إذ اتضع؟!”
وقد نادى تلاميذ بولس السمسطائى قائلين إن المسيح لم يكن أصلاً ربًا، بل بعد التجسد، وتقدم وصار الله بعدما كان مجرد إنسانًا.
[4] الكلمة اليوناني تعني “ثانويًا” أو”مجازيًا”.
[5] سقط العلامة أوريجينوس في كتابة (De Brincipiis 1: 2: 10 & 2: 1: 4) في هذا الخطأ، وهو أن العالم يلزم أن يكون أزليًا وإلا ما دعي الله بـ “كلي القدرة Omnipotent”، إذ هو منذ الأزل معتنى بخليقته. وقد تصدى له الآباء ورد عليه الأب ميثوديوس.
ويرى البعض أن القديس كيرلس هنا يميز بين الله كرب وكقدير، وأنه خلق فدعي ربًا لعنايته بخليقته.
[6] عب 11: 26، تشير مصر في العهد القديم إلى كثرة الخيرات، وبالتالي إلى محبة العالم.
[7] ترجمة النص: “أحنى موسى رأسه وسجد”.
[8] المتحدث هنا موسى، وليس الرب.
[9] دعا المسيحيون الأولون اجتماعاتهم Synaxis لتميزها عن اجتماعات اليهود المسماة Syngoge وهي مشتقة منها. والأولى تستخدم بالأكثر على وجه الخصوص في تقديس سرّ الشكر.
[10] ذكر شجرة التين وبستان جثماني وجبل الزيتون وتحول الأمم وعمل المعجزات إلى يومنا هذا كشهادة للمسيح يسوع ربنا.
المقال الحادي عشر:
ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، به كان كل شيء
“الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا في أزمنة متنوعة وطرق مختلفة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب 1: 1-2).
يسوع هو المسيح الوحيد
1- قدمنا لكم بالأمس، مظهرين لكم بما فيه الكفاية، قدر استطاعتنا، أن رجاءنا هو في يسوع المسيح. لكن يليق بنا ألاّ نؤمن به ولا نقبله كواحدٍ من مسحاء كثيرين يدعون هكذا بلا لياقة. فإن هؤلاء المسحاء رمزيّون، أما هو فالمسيح الحقيقي، لم يرتفع إلى الكهنوت عن تقدم[1] بين صفوف البشر، بل له شرف الكهنوت من الآب. من أجل هذا فإن قانون الإيمان يرشدنا مقدمًا حتى لا نظنه واحدًا من المسحاء العاديين، فيضيف الاعتراف بهذا الإيمان أننا نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد.
الابن الوحيد الجنس
2- وأيضًا عندما تسمع “ابن” لا تحسبه أنه مُتنبى، بل ابنًا بالطبيعة، الابن الوحيد، ليس له أخ. من أجل هذا دعي “الوحيد الجنس”، إذ ليس له أخ من جهة شرف اللاهوت ونسبته للآب[2]. ونحن لا ندعوه “ابن الله” من عندياتنا، بل الآب دعي المسيح (دون غيره) ابنه وما يدعوه الآباء لأبنائهم هو اسم حق.
الابن المتأنس
3- ربنا يسوع صار إنسانًا، لكن كثيرين لم يعرفوه. وإذ رغب في تعليم من لم يكونوا قد عرفوه دعا تلاميذه وسألهم: “من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟! (مت 13: 6) لم يسأل حبًا في المجد الباطل، إنما بقصد إظهار الحق لهم، لئلا بإمعان النظر في الله وابن الله يظنون بخفة أنه مجرد إنسان عادي.
وعندما أجابوه أن البعض قالوا بأنه إيليا وآخرون إرميا، أجابهم أنهم معذورون في إجابتهم من أجل عدم معرفتهم، أما أنتم – يا رسلي – يا من باسمي تطهرون البرص وتخرجون الشياطين وتقيمون الموتى، فيلزمكم ألاّ تجهلوا (اسمي) الذي خلاله تفعلون هذه العجائب.
وعندما صمت الكل (إذ كان الأمر أعظم من أن يتعلمه إنسان) أجاب بطرس الرسول[3]… دون أن يرشده كشف بارع ولا فكرٍ بشري، إنما أضاء الآب ذهنه، فقال: “أنت هو المسيح”، بل وأيضًا قال: “ابن الله الحي” وقد تبع هذا تطويب من أجل حديثه كختم على أن ما قاله هو إعلان من الآب. إذ قال المخلص: “طوباك يا سمعان بن يونا، فإن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك، بل أبي الذي في السماوات” (مت 16:17). لذلك فمن يعرف ربنا يسوع المسيح أنه ابن الله يشترك في هذا التطويب، أما من ينكر ابن الله فهو فقير وبائس!
نور سرمدي من نور سرمدي
4- مرة أخرى أقول عند سماعك عن الابن لا تفهم هذا في معنى غير لائق بل هو ابن بالحق. أنه ابن بالطبيعة بلا بداية، لم يأتِ من حالة العبودية إلى التبنّي، أي انتقل إلى حالة أعظم، بل هو ابن أبدي مولود بنسب لا يُفحص ولا يدرك.
وبنفس الطريقة عند سماعك “البكر” لا تفكر في هذا الأمر بمستوى بشري، لأن البكر في البشر له إخوة آخرون.
لقد قيل “إسرائيل ابني البكر” (خر 4: 22) لكن إسرائيل كان مثل رأوبين الذي صعد إلى مخدع أبيه “أي كان خائنا”، فقد طرد إسرائيل ابن الآب خارج الكرم (وصلبوه). قيل عن آخرين: “أنتم أبناء الرب إلهكم” (تث 14: 1). وقيل في موضع آخر “أنتم آلهة، وكلكم بني العلي تُدعون” (مز 72: 6). هؤلاء عندما يقول لهم الله هكذا إنما يتقبلون بنوّة لم تكن لهم من قبل. أما هو فلم يولد ليصير على حال لم يكن عليه من قبل، بل هو مولود من البدء ابن الآب. هو فوق كل بداية وكل العصور، ابن الآب مشابهًا[4] للآب الذي ولده في كل شيء، أبدي من أب أبدي، حياة من حياة، نور من نور، حق من حق، حكمة من الحكيم، ملك من ملك، الله من الله، قوة من قوة.
تقبل البنوة حسب الجسد “لداود”
5- فإن سمعت الإنجيل يقول: “كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم” (مت 1: 1) حسب الجسد. فهو ابن داود “في ملء الأزمنة” (عب 9: 26)، ولكنه ابن الله قبل الدهور بلا بداية. قد تقبل البنوة “لداود” إذ لم تكن له، أما البنوة للآب فهي له سرمديًا.
إن له أبين، داود حسب الجسد، والآخر أي الله أباه في اللاهوت.
بكونه ابن داود يخضع للزمن وللتدبير والتنازل النسبي، لكن من جهة اللاهوت فلا يخضع لا لزمانٍ ولا لمكانٍ. “جيله من يعلنه؟ الله روح” (راجع إش 53:8؛ يو 4: 24). فذاك الذي هو روح قد وُلد روحيًا بكونه غير جسدي بنسب غير مدرك ولا مفحوص. الابن نفسه يقول للآب: “قال الرب لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك” (مز 2: 7) هذا “اليوم” ليس زمنيًا بل سرمديًا. اليوم هنا غير زمني، بل قبل كل الدهور. “من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك”[5].
آمن بيسوع المسيح
6- إذن آمن بيسوع المسيح، ابن الله الحي، الابن الوحيد. حسب الإنجيل القائل: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16؛ يو 3: 18؛ 5: 24؛ يو 3: 36؛ يو 1: 14؛ لو 4:34). وأيضًا: “الذي يؤمن به لا يُدان، إذ يعبر من الموت إلى الحياة”. وأمّا الذي لا يؤمن به فلن يرى الحياة بل يمكث عليه غضب الله”. ويشهد يوحنا عنه قائلاً: “ورأينا مجده مثل مجد ابن وحيد للآب. مملوء نعمة وحقا”. إذ ترتعب منه الشياطين وتقول “ما لنا ولك يا يسوع. أنت ابن الله الحي”.
ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي
7- إذن هو ابن الله بالطبيعة وليس بالتبنّي، مولود من الآب، “وكل من يحب الوالد يحب المولود منه” (1 يو 5: 1)، ومن يحتقر المولود يسيء إلى الوالد. عندما تسمع عن الله “الوالد” (يو 4: 24) لا تفكر في أمور جسدية، ليس في توالد فاسد حتى لا تسقط في خطأ الكفر.
“الله روح”، نسبه روحي، لأن الأجساد تلد أجسادًا، وولادة الأجساد تحتاج إلى زمان، أما ولادة الابن من الآب فلم يدخل فيها زمن.
في حالتنا نحن ما يولد، إنما يولد غير كامل، أما ولادة الابن من الآب فهي ولادة كاملة، لأن ما هو الآن كان منذ البدء، إذ هو مولود بلا بداية.
نحن مولودون هكذا لنعبر من جهل الطفولية إلى التعقل. مولدك يا إنسان غير كامل ونموك يزداد. لكن لا تفكر هكذا في حالة الابن، ولا تنسب الضعف إلى الوالد، لأنه إن كان الذي ولد غير كامل ويحتاج كماله إلى زمان، فإنك بهذا تنسب ضعفًا إلى الوالد…
ولادة غير بشرية
8- لهذا لا تفكر في هذه الولادة على أنها بشرية، ولا كما ولد إبراهيم إسحق، لأنه في ميلاد إسحق لم يلد إبراهيم حسب إرادته، بل ولد ما قد منحه له غيره. أما الله، فإنما ولده الآب لم يكن عن جهلٍ ولا احتاج إلى وسيطٍ[6]. لأن القول بأنه كان يجهل ما كان يفعله هو كفر. والقول بأنه أصبح أبًا خلال أزمنة، هو أيضًا كفر. لأن الله لم يكن قط بدون الابن، وقد أصبح أبًا مع الزمن. إنما كان له الابن أزليًا، ولده ليس كما يلد البشر بشرًا، بل كما هو وحده يعرف، ولده قبل كل الدهر، إلهًا حقًا.
البنوة بالتلمذة
9- فالآب، إذ هو الله ذاته ولد الابن شبهه[7]، الله ذاته، إذ لم يلد كما يلد المعلمون تلاميذ، ولا كما يقول بولس للبعض: “لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 4: 15). إذ لا يكون في هذه الحالة ابنًا بالطبيعة بل بالتلمذة. أما في الحالة السابقة فهو أب بالطبيعة لابن حقيقي.
إنه ليس مثلكم أنتم الذين تستنيرون، فتصيرون أبناء الله… إذ أنتم أبناء بالتبنّي، كما هو مكتوب: “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسدٍ، ولا من مشيئة رجلٍ، بل من الله” (يو1: 12، 13).
حقًا إننا نولد من الماء والروح، لكن المسيح لم يُولد من الآب هكذا. إذ في وقت عماد خاطبه قائلاً: “هذا هو ابني” (مت 3:17). لم يقل “صار ابني”، بل “هذا هو ابني”، معلنًا أنه “ابن” حتى قبل العماد.
10- المسيح كلمة الله
ولد من الآب “الابن” ليس كما بين البشر يلد الذهن كلمة. لأن الذهن موجود فينا جوهريًا، أما الكلمة فتنتشر في الهواء عندما ننطق بها وتنتهي”[8]. لكننا نعلم أن المسيح لم يولد كمثل كلمة منطوق بها، بل هو كلمة جوهرية حية، لا تُنطق بشفتين، ولا تنتشر فتبدد، بل هو مولود من الآب أبديًا، لا يُوصف في الجوهر. إذ “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يو1: 1).
إنه جالس عن يمين الله، الكلمة فاهم إرادة الآب، خالد، كل الأشياء كائنة بأمره.
الكلمة الذي نزل وصعد، أما الكلمة التي ننطق نحن بها فإنها تنزل ولا تصعد.
“الكلمة” ينطق قائلاً: “أنا أتكلم بما رأيت عند أبي” (يو 8: 38).
الكلمة له سلطان، يملك على كل شيءٍ، إذ أعطى الآب كل شيء للابن (مت 11: 27؛ يو 5: 22).
من يقدر أن يعرف كيفية الولادة الأزلية؟
11- الآب الذي ولد ليس بطريقة يُمكن لإنسانٍ أن يفهمها، بل يقدر وحده أن يفهمها. فإننا نعرف ألاّ نخبر عن الطريقة التي ولده بها، بل نصر أنها ليست بهذه الكيفية وليس فقط نحن نجهل مولد الابن من الآب، بل نجهل حتى كل طبيعة مخلوقة.
“أو كلم الأرض فتعلمك” (أي 12: 8). وبالرغم من أنك تسأل كل الأشياء التي على الأرض، فإنها تعجز عن أن تخبرك. لأن الأرض لا تقدر أن تخبر عن جوهر الذي شكَّلها كخزاف صنعها. وليس فقط الأرض بل الشمس أيضًا… والسماء أيضًا لا تعلن ذلك… ولا سماء السماوات…
إذن هل تنحط يا إنسان، إن كنت تجهل ما لا تعرفه حتى السماوات؟! لا. ليس فقط السماوات تجهل طبيعة هذه الولادة بل وكل الطبائع الملائكية. فلو صعد أحد إلى السماء الأولى، وأدرك الرتب الملائكية، وسألهم:” كيف ولد الآب الابن؟” ربما يجيبونه؟ “إن هناك من هم أعظم منا وأسمى، اسألهم”. أذهب إلى السماء الثانية والثالثة. ابلغ إن أمكنك إلى العروش والسلاطين والرئاسات والقوات، فإنه حتى أن وصل أحد إليهم – وهذا مستحيل – فإنهم يمتنعون عن الإجابة لعدم معرفتهم.
جسارة الذين يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته
12- فمن جهتي أنا دائمًا أعجب على جرأة المتجاسرين الذين بوقارهم المتخيل يسقطون في الكفر. فإذ لا يعرفون شيئًا عن العروش والسلاطين والقوات وأعمال المسيح، يحاولون أن يفحصوا الخالق ذاته!
أخبرني أولاً أيها الإنسان الجسور: ما هو الاختلاف بين العروش والسلاطين وبعد ذلك افحص ما يخص المسيح!
اخبرني: ما هي الرئاسات وما هي القوات وما هي الفضيلة[9] Virtue، وما هو الملاك، وعندئذ ابحث في خالقهم الذي “به كان كل شيء” (يو 1: 3)…
من يعرف “أعماق الله” (1 كو 2:10، 11)، إلاّ الروح القدس الذي تكلم به الكتاب المقدس؟ بل حتى الروح القدس لم يتحدث في الأسفار المقدسة بخصوص ميلاد الابن من الآب، فلماذا تشغل نفسك بالأمور التي لم يكتبها الروح القدس في الكتاب المقدس؟!
هناك أمور كثيرة وردت في الكتب الإلهية، منها ما لا نفهم كنهه، فلماذا نشغل أنفسنا بما لم يُكتب؟!
إنه يكفينا أن نعرف أن الله ولد الابن الواحد الوحيد.
لا تخجل من الاعتراف بجهلك
13-لا تخجل من الاعتراف بجهلك مادمت تشترك في هذا مع الملائكة. الوالد وحده هو الذي يعرف المولود، والمولود يعرف الوالد. ويشهد الكتاب المقدس أن المولود هو الله. “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته” و”لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب” و”كما أن الآب يُقيم (من يشاء) كذلك الابن أيضًا يحيى من يشاء”(يو 5: 26، 23، 21). فالذي وَلد لم يحدث له نقصان، ولا ينقص المولود شيئًا[10]…
ميلاد أزلي
14- إذن نحن نؤمن بابن الله الوحيد المولود من الآب الله ذاته. نقول إن الله الحقيقي لا يلد إلهًا باطلاً، ولا هو تَمعن في الأمر وبعد ذلك ولد، بل ولد أزليًا بأكثر سرعة عن ولادة كلماتنا وأفكارنا. إذ نحن نتكلم في زمان، ونخضع للزمان، لكن بخصوص القوة الإلهية، فالميلاد يتم خارج الزمن[11]. وكما قلت مرارًا أن الابن لم يأتِ من عدم إلى التبني الإلهي. ولكن كما أن الآب أزلي، فقد وُلد الابن منه منذ الأزل، بطريقة لا توصف…
نبوات عن التجسد
15- أتريد أن تعرف أن المولود من الآب وقد صار إنسانًا هو الله؟ اسمع النبي يقول: “هذا هو إلهنا ولا يعتبر حِذاءُه آخر. هو وجد طريق التأديب (المعرفة) بكماله، وجعله ليعقوب عبده… وبعد ذلك تراءى على الأرض، وتردد بين البشر” (با 3: 36-38). أما ترى هنا أن الله صار إنسانًا بعد أن قدم الشريعة بواسطة موسى؟
اسمع أيضًا شهادة أخرى عن لاهوت المسيح، إذ قُرأ الآن حالاً “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور” (عب 1: 8). ولئلا بسبب حضوره هنا بالجسد قد يُظن أنه ارتقى إلى اللاهوت، يوضح الكتاب المقدس بجلاء “مسـحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من شركائك” (عب 1: 9). أما ترى المسيح أنه الله ممسوحًا بواسطة الله الآب؟!
شهادة إشعياء عن لاهوت المسيح
16- أتريد شهادة ثالثة عن لاهوت المسيح؟! اسمع إشعياء يقول: “تعب مصر وتجارة كوش (إثيوبيا)” وبعد ذلك “إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر سواك. أنت هو الله ولم نعرف…المخلص” (إش 45: 14، 15). إنك ترى أن الابن هو الله، فيه الله الآب، إذ يقول نفس العبارة التي وردت في الإنجيل “إني في الآب والآب فيَّ” (يو 14: 11). إنه لم يقل: “أنا هو الآب”، بل “الآب فيّ وأنا في الآب”. أيضًا لم يقل: “الآب وأنا هما أنا”، بل “أنا والآب واحد”، حتى لا نفصل بينهما دون أن نضع خلطًا في ابن الآب.
إنهما واحد من جهة شرف وحدة اللاهوت، إذ ولد الله الله. هما واحد في ملكوتهما لأن الآب لا يملك على هؤلاء، والابن على أولئك، متكبرًا على أبيه كما فعل أبشالوم، إنما ملكوت الآب هو ملكوت الابن.
إنهما واحد، إذ لايوجد بينهما اختلاف ولا انقسام، بل ما يريده الآب يريده الابن.
إنهما واحد، لأن أعمال الخلقة التي للمسيح ليست غير ما للآب، إنما خالق كل الأشياء هو واحد، خلقها الآب خلال الابن. وكما يقول المرتل: “هو قال فكانوا. هو أمر فخلقوا” (مز 33: 9، 5:148).
تمايز بين الآب والابن لا انفصال
17- الابن هو الله بعينه Very God، له الآب فيه، دون أن يصير هو الآب، لأن الآب لم يتجسد بل الابن…
الآب لم يتألم من أجلنا بل أرسل من يتألم…
فليس بقصد تكريم الابن ندعوه “الآب”، ولا لتكريم الآب نتصور الابن أحد خلائقه. إنما هو آب واحد نعبده خلال ابن واحد دون أن نفصل العبادة بينهما.
ليعلن عن الابن الواحد، جالسًا عن يمين الآب قبل كل الدهور في العرش ليس عن تقدم ناله في زمان بعد الآلام بل منذ الأزل.
لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا
18- “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9). لأنه في كل شيء الابن شبيه (واحد مع) من ولده. مولود حياة من حياة، نور من نور، قوة من قوة، إله من إله، وسمات اللاهوت غير متغيرة في الابن.
من يتأهل للتطلع إلى ربوبية الابن ينعم بربوبية الآب.
هذا الكلام ليس من عندي، بل هي كلمات الابن الوحيد القائل: “أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب”.
وباختصار لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا.
لا تقل قط إن الابن غريب عن الآب، ولا تقبل القائلين أن الآب في وقت ما هو الآب وفي وقت آخر هو الابن. فإن هذه العبارة غريبة وجاحدة وليست من تعاليم الكنيسة. لكن الآب بولادته الابن بقي الآب ولم يتغير، ولد الحكمة ولم يفقد الحكمة. ولد القوة دون أن يصير ضعيفًا. ولد الله ولم يخسر ربوبيته. لم يفقد شيئًا بالنقص أو التغير، ولا المولود ناقص في شيء. كامل هو الوالد، وكامل هو المولود. الله هو الوالد، الله هو المولود، الله من الله، ولكنه يُدعى الآب إلهه دون أن يخجل من القول: “اصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو 20: 17).
تفسير: “أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”
19- ولكن لئلا يُظن أنه من جانب ما هو أب للابن وللخليقة معًا صنع المسيح تميزًا كما يلي: إنه لم يقل: “اصعد إلى أبينا”، لئلا تصير الخليقة شريكة للابن الوحيد (على مستواه الطبيعي)، بل قال: “أبي وأبيكم” أي هو أبي بالطبيعة وأبوكم بالتبنّي.
مرة أخرى يقول: “إلهي وإلهكم”، فمن ناحية هو إلهه بكونه ابنه الوحيد الحقيقي[12]، وبطريقة أخرى هو إلههم بكونهم عمل يديه…
آمن أن الله له ابن، لكن ليس في تطفل (لإدراك هذا)، إذ بالبحث لا تبلغ شيئًا. لا تنتفخ لئلا تسقط. “لا تبحث عما يتجاوز قدرتك لكن ما أمرك الله به” (ابن سيراخ 3: 21)…
مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل
20- يكفيك من أجل الصلاح أن تعرف، كما قلنا، إن الله له ابن واحد وحيد مولود طبيعيًا. الذي لم يبدأ وجوده عندما وُلد في بيت لحم، بل قبل كل الدهور. اسمع النبي ميخا يقول: “أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (مي 5:2).
إذن لا تفكر في ذاك الذي هو خارج الآن من بيت لحم (ولا تحسبه حديثًا)، بل اعبده، إذ هو مولود من الآب أزليًا.
لا تسمح لأحد أن يقول إن للابن بداية في زمان…
أتريد أن تعرف أن ربنا يسوع المسيح هو ملك أزلي؟ اسمعه يقول: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وتهلل” (يو 8: 56). وعندما استصعب اليهود قبول هذا، قال لهم إن هذا ليس بصعب، فإنه “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو 8: 58).
مرة أخرى يقول: “والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5). قال بوضوح: “بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”. وأيضًا عندما قال “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو 17: 24)، معلنًا أن مجده أزلي.
خالق الكل
21- إذن نحن نؤمن بربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من أبيه الله عينه قبل كل الدهور، الذي به كان كل شيء لأن “فيه خلق الكل… سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين” (كو 1: 16). ولم تفلت خليقة ما من سلطانه.
لتصمت كل هرطقة بخصوص الخالق
22- لتصمت كل هرطقة تنادى بآلهة مختلفة وصانعين للعالم. ليصمت كل لسان يجدف على المسيح ابن الله. ليصمت القائلون إن الشمس هي المسيح، وإنه شمس الخالق[13]…
ليصمت القائلون إن العالم هو من عمل الملائكة لكي يلبسوا كرامة الابن الوحيد، إذ كل شيء، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أو رئاسات أو أي شيء هكذا يدعى إنما كان بالمسيح[14]…
عمل الآب والابن في الخلق
23- لكن دعنا نسترجع اعترافنا بقانون الإيمان لننهي مقالنا.
المسيح صنع كل الأشياء… لا بمعنى أن الآب تنقصه قوة لخلق أعماله إنما لأنه أراد أن يحكم الابن على أعماله، فأعطاه الله رسم الأمور المخلوقة، إذ يقول الابن مكرمًا أبيه: “لا يقدر الابن أن يعمل شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك” (يو 5: 19). وأيضًا: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو5: 17). فلا يوجد تعارض في العمل إذ يقول الرب في الأناجيل: “كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي” (يو 17: 10).
هذا نعلمه بالتأكيد من العهدين القديم والجديد، لأن الذي قال: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك 1: 26) بالتأكيد تكلم مع أقنوم معه.
وأوضح من هذا كلمات المرتل: “هو قال فكانت، وهو أمر فخُلقت” (مز 148: 5). فكما لو أن الآب أمر وتكلم والابن صنع كل شيء كأمر الآب…
يسوع المسيح خالق الكل بأمر الآب
24- إذن المسيح هو ابن الله الوحيد. خالق العالم لأنه “كان في العالم، والعالم به كونّ” و“إلى خاصته جاء” كما علمنا الإنجيل (يو 1: 10، 11). لقد خلق المسيح كأمر الآب ليس فقط الأشياء التي تُرى بل وما لا يُرى، إذ يقول الرسول: “فإن فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل” (كو 1: 16، 17).
حتى إن تحدثت عن العوالم، فإن يسوع المسيح أيضًا هو خالقها بأمر الآب، إذ “كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكي شيءٍ، الذي به أيضًا عمل العالمين” (عب 1: 2)، هذا الذي له المجد والإكرام والقدرة الآن وإلى أبد الأبد آمين.
________________________________________
[1] راجع مقال 10: 5 “الهامش “… أن المسيح لم ينل كرامة كمكافأة لجهادٍ أو تقدمٍ لم يكن له من قبل.
[2] يقول القديس أثناسيوس (ضد الأريوسيين 3: 19) [إنه الله الحقيقي والحياة الأبدية، وقد صرنا أبناء بالتبني والنعمة.]
[3] تضيف النسخ الكاثوليكية: “رئيس الرسل”.
[4] يرفض البابا أثناسيوس كلمة “مشابهًا” بل كما سبق رأينا أن إيماننا الأرثوذكسي يستخدم لفظًا دقيقًا وهو” واحد مع الآب” أو مسوي للآب في ذات الجوهر” “.
[5] مز 11: 3 “من رحم الفجر لك كل حداثتك”.
[6] في تكملة هذا البند استعنت بالتعريب الذي قام به الأب جورج نصور، في سلسلة النصوص الليتورجية.
[7] سبق الحديث عن “شبهه” أنه تعبير غير دقيق، رفضه البابا أثانسيوس إنما الأصح” واحد معه في ذبت الجوهر”.
[8] البابا أثناسيوس De Sentenia Dionysst [الذهن يخلق الكلمة بكونه يعلن فيها. والكلمة تظهر الذهن، إذ تأخذ أصلها منه].
[9] الفضيلة Virtue كطغمة سمائية ذكرها القديس كيرلس أكثر من مرة.
[10] إذ كرر الكثير من العبارات في بقية المقال لأنه يحدث موعوظين، آثرت حذف بعض العبارات.
[11] في تكملة هذا البند استعنت بالتعريب الذي قام به الأب جورج نصور، في سلسلة النصوص الليتورجية.
[12] ربما يقصد القديس أنه كابن… إله من إله يرى في الآب أنه “الله”، فيدعوه إلهه ليس بمعنى أنه يتعبد له، إذ ليس هو مخلوقًا… إنما تحمل الأبوة السامية جدًا الإلهية.
[13] يقول أتباع ماني أن الأنوار هي آلهة، وأن الشمس التي ستظلم هي السيد المسيح…
[14] بقية البند 21، والبند 22 تكرار آثرت حذفهما.
المقال الثاني عشر: تجسد وتأنس
“ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً: “اطلب لنفسك آيه… ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل” (إش 7: 10-14).
إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا
1- بشفاهٍ مملوءة طهرًا، وبفكرٍ عفيفٍ ننشد تسبيحنا للإله ابن البتول. لنستحق أن ننال الشركة في جسد الحمَل الروحي: لنشترك في الرأس مع القدمين[2]، مدركين أن الرأس هو لاهوت المسيح والقدمان تعنيان ناسوته.
لنصغ أيها المستمعون إلى الأناجيل المقدسة، إلى يوحنا اللاهوتي، إذ يقول: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يو 1: 1.)، ويكمل قائلاً: “والكلمة صار جسدًا”. لأنه ليس حسنًا أن نتعبد لإنسان عادي، ولا أن نقول إن المسيح إله فقط ناكرين ناسوته. لأنه إن كان المسيح هو الله فهذا حق، لكن إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا.
إذن لنتعبد له بكونه إله مؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه إنه إنسان وليس الله، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته. لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك، إذ صار طبيبًا، اتزر بكتان ناسوتنا، وشفى من كان مريضًا.
المعلم الكامل للرُضع، صار رضيعًا بينهم (رو 2: 20)، لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يُطعم الجياع!
احتقر اليهود المسيح الحقيقي
2- لكن أولاد اليهود الذين لم يبالوا بالذي جاء، متطلعين إليه كبشرٍ، احتقروا المسيح الحقيقي وانتظروا المخادع فخدعوا أنفسهم. يقول المخلص الحقيقي: “أنا أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه تقبلونه” (يو 5: 43).
حسنًا! لنسأل اليهود: هل كان النبي إشعياء الذي قال إن عمانوئيل يولد من عذراء صادق أم كاذب؟ فإن وسموه بالكذب فلا تعجب، لأنهم قد اعتادوا لا أن يزيفوا الأقوال فحسب، بل ويرجموا الأنبياء. أما إن قالوا إنه صادق، فأشر إلى عمانوئيل وقل: هل الذي يأتي وتقبلونه يكون مولودًا من عذراء أم لا؟! فإن قلتم إنه لا يولد من عذراء تتهمون النبي بالكذب، وأمّا إن كنتم تتوقعون فيه هذا، فلماذا رفضتم من جاء فعلاً؟!
مغالطات الهراطقة
3- ليضل اليهود إذ هم أرادوا هذا، ولتتمجد الكنيسة. فقد قبلنا الرب الكلمة الذي صار إنسانًا حقيقيًا، وهو لم يأتِ عن مشيئة رجل وامرأة كما يدعى الهراطقه، بل من العذراء والروح القدس. ويقول الإنجيل إنه “صار جسدًا” حقيقيًا وليس خيالاً. أما عن كونه إنسانًا حقيقيًا من عذراء ففي الوقت المناسب أقدم الأدلة في هذا المقال إذ أخطاء الهراطقه متعددة.
فالبعض يدعي أنه لم يُولد من عذراء قط.
والبعض يدعي أنه وُلد ليس من عذراء بل من امرأة تقطن مع زوج.
وآخرون ادعوا أن المسيح ليس إلهًا متأنسًا، بل إنسان متأله، فيقولون إنه ليس “الكلمة الأزلي” قد صار جسدًا بل إنسان تقدم فنال إكليلاً.
لنتذكر ما قيل بالأمس عن ربوبيته
4- آمن أنه ابن الله الوحيد، هو هو بنفسه الذي عاد فولد من العذراء. صدق يوحنا الإنجيلي القائل: “والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا”. ذلك لأن الكلمة أبدي، مولود من الآب قبل كل الدهور، وقد أخذ حديثًا جسدًا من أجلنا.
كثيرون يعترضون متشككين، قائلين: ما هو السبب العظيم الذي يدعو أن يصير الله إنسانًا! وأن تكون للطبيعة الإلهية علاقات مع البشرية! هل يمكن لعذراء أن تحبل بدون رجلٍ!
ولما كانت الاعتراضات كثيرة، والمعركة متعددة الجوانب، لهذا فإنني أجيب على كل سؤال بنعمة المسيح وصلوات الحاضرين.
لماذا تجسد المسيح؟
5- دعنا أولاً نبحث عن سبب مجيء المسيح. لا تبالِ ببراهين من عندي كي لا تضل الطريق، بل إن لم تتقبل شهادة الأنبياء فلا تصدقني. ما لم تتعلم من الكتاب المقدس بخصوص البتول وعن مكان الميلاد وزمانه وطريقته، فلا تقبل شهادة إنسان (يو 5: 34). لأن تعليم إنسان قد يؤدى إلى الشك، لكن كيف يشك أحد في نبوات أعلنت منذ حوالي ألف سنة ونيف؟!
إن أردت أن تعرف عن سبب مجيء المسيح ارجع إلى أول أسفار الكتاب المقدس.
في ستة أيام صنع الله العالم. بَيد أن العالم كان من أجل الإنسان، الشمس تبرق بضيائها لكي تنير له، وكل الخليقة وُجدت من أجل خدمتنا. العشب والشجر لكي نستمتع به. كل أعمال الخليقة صالحة، لكن لم يُخلق على صورة الله سوى الإنسان وحده.
الشمس وُجدت بمجرد أمر، أما الإنسان فإنه عمل يديّ الله، إذ قال “لنعمل الإنسان على صورتنا ومثالنا”. إن كانت قطعة خشب منحوتة على صورة ملك تنال شرفًا، فكم بالحري صورة الله العاقلة؟!
لكن إذ وُضع هذا المخلوق العظيم في الفردوس سرعان ما طرده حسد إبليس.
ابتهج العدو بسقوطه، فهل يُترك العدو مستمرًا في بهجته؟! هذا العدو الذي لم يجسر أن يتكلم مع الرجل بقوته فاستضعف حواء التي كانت لا تزال عذراء، إذ عرف آدم حواء امرأته بعد الطرد من الفردوس.
فساد اليهود وشرهم
6- جاء قايين وهابيل في الجيل الثاني للبشرية، وكان قايين القاتل الأول. وبعد ذلك غمرت آثام البشر الأرض. فنزلت نار من السماء على شعب سدوم بسبب تعدياتهم.
وبعد زمن اختار الله شعب إسرائيل، لكن إسرائيل حاد عن الطريق، وصار الشعب المختار جريحًا. إذ بينما كان موسى يقف أمام الله على الجبل إذا بالشعب يعبد ثورًا عوض الرب. وفي أثناء حياة موسى مستلم الشريعة القائل “لا تزن”، تجاسر الإنسان ودخل أماكن الخلاعة مرتكبًا الإثم.
وبعد موسى جاء الأنبياء لشفاء إسرائيل، وإذ بهم يولولون ويندبون عدم قدرتهم على التغلب على الأمراض حتى قال فيهم أحدهم” ويل لي… لأنه قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس” (مي 7: 2). وأيضًا “الكل قد زاغوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد” (مز 14: 3؛ رو 3:12). وأيضًا “لعن وسرقة وفسق وقتل غمر الأرض” (هو 4: 2)… “كانوا يقدسون أولادهم وبناتهم قرابين للشياطين فاستخدموا السحر والجان” (2 أي 31: 6). وأيضًا “يتمدّدون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبحٍ، ويشربون خمر المغرمين في بيت إلههم”[3].
انحطاط البشرية
7- ما أعمق جرح الطبيعة البشرية “من القدم إلى الرأس. ليس فيه صحة، ليس من يقدر أن يستخدم دهنًا أو زيتًا أو عصائب” (راجع إش 1: 6). لذلك ولول الأنبياء قائلين: “هل من صهيون خلاص إسرائيل؟!”[4]… كما يتضرع أحد الأنبياء فيقول: “يا رب طأطئ سماواتك وانزل” (مز 144: 5). إن جروح الطبيعة البشرية لا تلتئم. “نقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك” (1 مل 19: 10)، وصرنا عاجزين عن إصلاح الشر، محتاجين إليك لتصلحه.
رفض اليهود المسيح
8- سمع الرب صلوات الأنبياء واهتم الآب ألاّ يهلك جنسنا، فأرسل ابنه من السماء كشافٍ. يقول أحد الأنبياء: “يأتي بغتة السيد الذي تطلبونه” (مل 3: 1) إلى أين؟”إلى هيكله”!
يقول نبي آخر عند سماعه هذا: “على جبلٍ عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون… قولي لمدن يهوذا”. ماذا أقول؟”هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي” (إش 40:9، 10).
والرب نفسه يقول: “هأنذا آتي وأسكن في وسطكم” (زك 2: 10).
لكن الإسرائيليين رفضوا الخلاص، لهذا “جئت لأجمع كل الأمم والألسنة” (إش 66:18). إذ “جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله” (يو 1: 2).
إنك تجيء، فماذا تهب الأمم؟ “جئت لأجمع كل الأمم والألسنة وأجعل فيهم آية” (إش 66: 19).لأنه متى علقت على الصليب أعطي جميع جنودي ختمًا على جباههم.
يقول نبي آخر “طأطأ السماوات ونزل، (ضباب) تحت رجليه” (مز 18: 9)، لأن نزوله من السماء لم يكن معروفًا من البشر.
سليمان يتنبأ عن مجيئه
9- إذ يسمع سليمان أباه داود ينطق بهذه الأمور، ويبني بيتًا عجيبًا، في دهشة يتساءل: هل يسكن الله حقًا على الأرض مع الإنسان؟! (1 مل 8:27) بلى، يجيب داود متنبأ في المزمور المنسوب لسليمان “ينزل مثل المطر على الجزة” (مز 71: 5).
“مثل المطر” لطبيعته السمائية، و”على الجزة” لناسوته. ولأن المطر ينزل على الجزاز بغير ضوضاء. لهذا فإن المجوس وهم لا يدركون سرّ الميلاد يتساءلون: أين هو المولود ملك اليهود؟ وإذ سمع هيرودس ذلك اضطرب، وأراد أن يعرف من هو هذا المولود فسأل: أين يولد المسيح؟!
شهادة الأنبياء
10- لكن من هذا الذي ينزل؟ “إنه يدوم مع الشمس، وقبل القمر بأجيال الأجيال” (مز 71:4). ويقول نبي آخر: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون. اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك عادل ومعه الخلاص” (زك 9: 9).
ما أكثر الملوك، فعن من تتكلم أيها النبي؟ لتعطنا علامة ينفرد بها عن باقي الملوك. إن قلت إنه مكسو بالأرجوان لا يكون فريدًا، وإن قلت إنه محاط بحاملي السلاح، أو يجلس على مركبة ذهبية، فإن هذا يتميز به باقي الملوك. إذا فلتعطنا علامة ينفرد بها ذلك الملك الآتي، الذي تخبرنا عنه؟ يجيب النبي “هوذا ملكك يأتي إليك، عادل ومعه الخلاص وديع وراكب على جحش ابن أتان” وليس على مركبة. إنه يسوع الوحيد بين الملوك، يجلس على أتان بغير سرج، ويدخل أورشليم بحفاوة كملك.
وعندما يأتي هذا الملك ماذا يفعل؟ “وأنت أيضًا فإني بدم عهدك قد أطلقت أسراكِ من الجيب الذي ليس له ماء” (زك 9:11).
أورشليم عاصمة مملكته
11- لكن ربما حدث هذا مصادفة أن الملك ركب أتانا؟ اعطنا علامة أخرى. أين يحل هذا الملك! ولتكن هذه العلامة داخل المدينة ذاتها، ولتكن العلامة معلومة لدينا، ولتكن واضحة أمام عيوننا حتى نتعرف عليها؟ يجيب النبي: “وقفت قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق” (زك 14:4). هل يصعب على أي إنسان في داخل المدينة أن يتطلع إلى الموضع؟!
يفتح عيون العميان
12- لدينا علامتان ونريد أن نعرف علامة ثالثة. أخبرنا ماذا يفعل الرب عند مجيئه؟ يقول نبي آخر “هوذا إلهنا يأتي ويخلصنا حينئذ تنفتح عيون العمي، وتسمع آذان الصم، حينئذ يقفز الأعرج كالإيل، ويترنم لسان الأخرس” (إش 35: 4-6).
لنأخذ شهادة أخرى. إنك تقول أيها النبي أنه سيأتي ويعمل ما لم يعمله آخر، وماذا أيضًا!” الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم” (إش 3:14). يا لها من علامة جديرة بالأهمية. فإن السيد حاكمه خدامه الشيوخ وخضع لهم!
لماذا لم ينصت اليهود الأشرار لأنبيائهم؟
13- هذه الأمور قرأها اليهود ولكنهم لم يعوها، إذ سدوا آذان قلوبهم كي لا تسمع. أما نحن فلنؤمن بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد وتأنس، لأننا لا نقدر أن نقبله بغير ذلك فإن لم يكن في استطاعتنا أن نتطلع إليه كما هو، ولا نتمتع به، صار واحدًا منا حتى نتمتع به. لأنه إن كنا لا نستطيع أن نمعن النظر تمامًا في الشمس المخلوقة في اليوم الرابع فكيف نستطيع إمعان النظر في الله خالقها؟!
لقد نزل الرب في لهيب نار على جبل سيناء، فلم يستطع الشعب أن يتحملوا ذلك، وطلبوا من موسى: تكلم أنت معنا ونحن نسمع، “ولا تجعل الله يكلمنا لئلا نموت” (خر 20: 19). “لأنه من هو من البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلم من وسط النار مثلنا وعاش” (تث 5: 6). فإن كان سماع صوت الله يُميت أفلا تدفع رؤية الله إلى الموت؟! وأي عجب، فإن موسى نفسه يقول: “أنا مرتعد ومرتعب” (عب 12: 21).
دانيال لم يحتمل رؤية ملاك
14- ماذا تريد إذن! الذي جاء إلى خلاصنا يصير خادم هلاك، لأن الناس لا يحتمّلونه! أو يحد نعمته لقياسنا! دانيال لم يحتمل رؤية ملاك، فهل تقدر أنت أن تحتمل رؤية رب الملائكة؟ عندما ظهر جبرائيل سقط دانيال.
في أية طبيعة أو مظهر ظهر؟ لقد كان على شكل نور (دا 5: 6). لكن ليس كالشمس. عيناه مثل مصباح نور، لكنهما ليسا كشعلة لهيب. صوته كصوت جمهور، لكن ليس كصوت اثنى عشر ربوة من الملائكة، ومع ذلك سقط النبي فجاءه الملاك قائلاً: “لا تخف يا دانيال، قم وتشجع فقد سمعت كلماتك”.
قال دانيال: “قد وقفت مرتعدًا”، بل حتى هذه الكلمات لم ينطق بها إلى أن لمسته يد تشبه اليد البشرية، ولما تحوّل ذاك الذي ظهر له إلى صورة إنسان عندئذ تكلم دانيال. ماذا قال؟ يا سيدي، بالرؤيا “انقلبت عليّ أوجاعي لم تثبت فيّ قوة، ولم تبقَ فيّ نسمة” (دا 10: 16، 17).
إن كان مجرد ظهور ملاك لنبي لم يبقِ فيه صورة ولا قوة، فهل ظهور الله بنفسه سيبقي له نسمة؟! يقول الكتاب المقدس: “فعاد ولمسني كمنظر إنسان” وإلى أن لمسني الملاك لم تلازم الشجاعة دانيال قط. هكذا رأى الرب أنه لكي يمكن للإنسان أن يسمع له يتعين له أن يكون في طلعة الإنسان وملامحه، لذلك أخذ المخلص الطبيعة البشرية بانفعالاتها حتى يمكن أن يرشد بأكثر سهولة.
خلّصنا الرب بنفس الأسلحة التي أراد إبليس أن يهزمنا بها
15- لنتعلم أيضًا عله أخرى. جاء المسيح ليعتمد ويقدس العماد. جاء لكي يصنع عجائب ويسير على مياه البحر. فإن كان قبل ظهوره في الجسد “البحر رآه فهرب… الأردن رجع إلى الخلف” (مز 114:3)، أخذ المخلص جسدًا لكي يقدر البحر علي رؤياه ويستقبله الأردن بلا خوف. هذا سبب لمجيئه، هناك سبب آخر: وهو أنه خلال حواء العذراء سار الموت وخلال العذراء تصير الحياة. وكما أغوت الحيّة القديمة العذراء الأولى، جُعل جبرائيل البشارة الطيبة للثانية.
هجرت البشرية الرب وتخلت عنه وسجدت لصور بشرية منحوته، عبدت صورة الإنسان باطلاً على أنه الله، فصار الله إنسانًا حقيقيًا حتى ينزع الزيف بعيدًا.
استخدام إبليس الجسد كسلاح ضدنا، وقد عرف بولس ذلك فقال: “أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني…” (رو 7:23)، وبنفس الأسلحة التي أراد إبليس أن يهزمنا بها خلّصنا الرب. أخذ الرب شبهنا حتى يخلص البشر. أخذ مالنا حتى يهبنا نعمة أعظم تنقصنا، فتصير البشرية الآثمة مشاركة “فحيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20).
لاق بالرب أن يتألم لأجلنا، لكن لو عرفه إبليس لما تجاسر أن يقترب إليه. “لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 8). لذلك صار جسده طُعمًا للموت، وإذ صار موضع أمل للوحش أن يقبض على المخلص، قبض المخلص عليه. لأنه “يَبْلَعُ الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه” (إش 25: 8).
هل تأنس الله بلا سبب؟
16- هل معتقداتنا مجرد عبارات منمقة وادعاءات بشرية؟ أليس الكتاب المقدس ونبوات الأنبياء هي لخلاصنا؟ لهذا اطلب إليك أن تحفظ هذه الوديعة بغير عيب ولا يثنيك أحد عنها. آمن أن الله صار إنسانًا.
إن كان من السهل إمكانية أن يصير الله إنسانًا، إلاّ أن اليهود لا يزالون غير مؤمنين. لهذا نسوق لهم هذا القول: أي غرابة في القول إن الرب تأنس وأنتم تقولون أن إبراهيم استقبل الرب كضيفٍ؟ (تك 10: 1) أي غرابة فيما نقول إن كنتم تقولون إن يعقوب صارع مع الرب وجهًا لوجه (تك 32: 30)… الرب الذي أكل مع إبراهيم أكل معنا…
متى يأتي هذا النبي المنتظر؟
17…. يقول موسى النبي “نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون” (تث 18: 15؛ أع 7:37). لنترك الآن كلمة “مثلي” إلى حين لبحثها في موضعها. ولكن متى يأتي هذا النبي المنتظر؟
انظر ما كتبه وابحث بتدقيق نبوة يعقوب الموجهة إلى يهوذا: “إياك يحمدك إخوتك”. ثم يقول: “لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع (ويكون منتظرًا من الشعوب)” (تك 49: 8، 10)، لا من اليهود. بهذا أعطى علامة لمجيء المسيح هو انقطاع الحكم من اليهود. فلو لم يكونوا تحت حكم الرومان لما كان المسيح قد جاء بعد. لو كان لليهود ملك من يهوذا من نسل داود لما جاء المسيح بعد…
إنه المنتظر من جميع الشعوب. وما هي علامته؟ “رابطًا بالكرمة جحشه” (تك 49: 11). لاحظ الجحش الذي يعلنه زكريا بصراحة.
تحديد الزمان بالسنوات
18- إذن نبحث بأكثر تدقيق عن شهادة خاصة بزمان مجيئه، إذ يصعب إقناع الشخص ما لم يُقدم له حساب دقيق للزمان بالسنوات. فما هو وقت وحال زمان مجيئه؟ إنه في زمان انحلال ملوك يهوذا وسقوطهم، حيث بلغ هيرودس الأجنبي المُلك. لهذا قال الملاك الذي خاطب دانيال… “فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبناءها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا” (دا 9: 25). والتسعة والستون أسبوعًا يحملون 483 سنة (69×7). فكأنه يقول أنه بعد بناء أورشليم بـ 483 سنة حيث يسقط الحكام، ويأتي عوضًا عنهم ملك من جنس آخر من زمان يولد المسيح.
وقد بني داريوس المادى Mede (دا 5: 31) المدينة في السنة السادسة من حكمه، والسنة الأولى من الأولمبي (Olympiad) الـ 66 طبقًا للإغريق. والأولمبي هي كلمة إغريقية معناها احتفالات للألعاب، تقام كل 4 سنوات، وذلك بسبب اليوم الذي فيه تؤدى دورة الشمس إلى 3 ساعات إضافيا…
أما هيرودس فهو الملك الذي تولى الحكم في الأولمبي الـ 186 في السنة الرابعة منه. فمن الأولمبي الـ 66 إلى الأولمبي 186 يكون هنا 120 أولمبي أي 480 سنة، وبإضافة 3 سنوات ربما الفترة ما بين السنة الأولى والرابعة للأولمبي يكون عدد السنوات 483. وبهذا يكون لديك شهادة طبقًا لقول الكتاب المقدس “إنه من خروج الأمر…”
مكان ميلاده
20- لنصغِ الآن إلى مكان الموعد، إذ يقول ميخا: “وأما أنتِ يا بيت لحم أفراته وأنت صغيرة وأن تكوني بين ألوف يهوذا…” (مى 5:2). وإذ أنت ساكن في أورشليم تعرف ما جاء في المزمور 131: “هوذا قد سمعنا به في أفراته ووجدناه في موضع الغابة”، إذ من سنين قليلة كانت المنطقة مشجرة (غابة).
ولادته من عذراء
21- لنسأل أكثر من هذا: ممن يأتي؟ وبأية كيفية؟ يخبرنا إشعياء النبي بهذا “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل” (إش 7: 14). وهنا يتعثر اليهود الذين هم منذ القدم يقاومون الحق فإنهم يقولون إنه لم يكتب “عذراء” بل “فتاة”. لنتمشى مع اليهود فإننا نصل إلى الحق. لنسألهم: إن أُكرهت فتاة فصرخت طالبة النجدة، هل يكون ذلك قبل الاعتداء أم بعده؟
فإنه يقول الكتاب المقدس في موضع آخر “الفتاة المخطوبة صرخت فلم يكن من يخلصها” (تث 22: 27). أم يتكلم هنا عن عذراء؟! ولكن ما يجب أن تعرفه بوضوح أن العذراء تدعى في الكتاب المقدس فتاة، إذ يتحدث عن ابيشج الشونمية “كانت الفتاة جميلة جدًا” من أجل هذا اختيرت وقد صارت موضع إعجاب داود.
بخصوص النبوة عن ولادته من عذراء
22- لكن اليهود يقولون إن هذا قيل لآحاز مشيرًا إلى حزقيا. حسنا لنقرأ الكتاب المقدس، ماذا يقول؟ “اطلب من الرب إلهك آية في العمق وفي العلو” (راجع إش 7:11). والآية بكل تأكيد يجب أن تكون عجيبة مثل خروج المياه من الصخرة أو انشقاق البحر أو رجوع الشمس إلى الوراء، وما أشبه ذلك، لكن ما أشير إليه بأكثر وضوح لدحض اليهود أن إشعياء هذا كان في أيام آحاز. وآحاز ملك فقط 16 سنة.
فإن كان النبي يتنبأ خلال هذه المدة فإن دعوى اليهود تبطل أنه يقصد الملك الذي جاء بعده حزقيا بن آحاز، إذ كان عمرة 25 عامًا يوم تولية الحكم. فإذ كانت النبوة خلال 16 عامًا فإنه من المفروض أن يكون حزقيا قد ولد بالغًا من العمر تسعة سنوات (على الأقل) قبل النبوة. فما الحاجة إلى النبوة عن شخص ولد فعلاً حتى قبل أن يملك أباه آحاز، فإن النبي لم يقل “حبلت” بل “ها العذراء تحبل” متحدثًا عن أمور ستحدث.
عائلة هذه العذراء
23- عرفنا أن الرب يولد من عذراء، بقي لنا أن نعرف عائلة هذه العذراء. “أقسم الرب لداود بالحق ولن يندم، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك”. وأيضًا “وأجعل إلى الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السماوات”. وأيضًا “حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. فله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس والقمر أمامي” (مز 132: 11؛ مز 89:29؛ مز 89: 35).
ها أنت ترى الحديث عن المسيح لا سليمان، لأن عرش سليمان لا يبقي كالشمس. أما إن أنكر أحد قائلاً: إن المسيح لم يجلس على كرسي داود المادي، فإننا نقدم له هذا القول “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيّون” (مت 23:2)، فهم لم يجلسوا على كرسي خشبي، بل صارت لهم سلطة التعليم، هكذا لا تنظر إلى كرسي داود أنه كرسي خشبي، بل المُلك نفسه.
أيضًا خذوا الأطفال كشهودٍ،ٍ إذ يصرخون: “أوصنا يا ابن داود. مبارك (الآتي) ملك إسرائيل” (مت 21: 9؛ يو 12: 13). كذلك الأعميان قالا: “ارحمنا يا ابن داود” (مت 20: 30). وقد شهد جبرائيل لمريم بصراحة قائلاً: “يعطيه كرسي داود أبيه” (لو 1:32). وأيضًا يقول بولس: “اذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي” (2 تي 2: 8).
وفي بداية الرسالة إلى أهل روميه يقول: “الذي صار من نسل داود من جهة الجسد” (رو 1:3). اقبل المولود ابن داود آمن بالنبوة القائلة: “ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى داود القائم يحكم الشعوب وفيه تثق الشعوب” (راجع إش 11: 10؛ رو 15:12).
العذراء من نسل داود
24- لكن يضطرب اليهود كثيرًا بسبب هذه الأمور. لقد سبق إشعياء فعرفها، قائلاً: “لأنه يكون مأكلاً للنار،لأنه يولد لنا (وليس لهم) ولد ونعطى ابنًا” (إش 9: 5)، لاحظ أنه أولاً ابن الله ثم يعطى لنا. بعد هذا بقليل يقول “سلامه بلا حدود”. مملكة الرومان محدودة، أمّا مملكة المسيح ابن الله فبلا حدود.
دولة فارس ومادي لها حدود، أما ابن الله فمملكته بلا حدود.
ثم يكمل قائلاً: إنه على كرسي داود يجلس، وعلى مملكته يديرها. لذلك فإن العذراء هي من نسل داود.
يتجسد في أحشاء عروس الطهارة
25- يليق بكلي الطهارة ومعلمها أن يتجسد في أحشاء عروس الطهارة. إن كان كاهن المسيح في الخدمة يمتنع عن المضجع، فكيف يولد المسيح من امرأة ورجل؟! إنه يقول بنفسه في المزمور “أخرجتني من الرحم” (مز 22: 1)، مظهرًا أنه مولود بغير زرع رجل، إنما يحمل الجسد عن عذراء، الأمر الذي يختلف عن المولودين من زرع بشري.
أخذ مكوّن الأجساد جسدًا
26- إذ أخذ الرب جسدًا لم يخجل منه إذ هو مكوّن الأجساد. لكن من الذي أخبرنا بهذا؟ يقول الرب لإرميا: “قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك” (إر 1: 5). فإن كان لم يخجل من خلقة جسد الإنسان، أفيخجل من الجسد الذي أخفي فيه لاهوته. الذي يخلق الأطفال في الأحشاء كما كتب أيوب: “ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب؟!” (أي 10:10، 11) ليس شيء نجسًا في هيكل الإنسان بل هو يفسده بالزنى والدعارة.
الذي خلق آدم خلق حواء أيضًا، فإن يد الله هي التي خلقت الرجل والمرأة. ليس عضو من الأعضاء التي خلقها منذ البدء نجسًا.
ليصمت جميع الهراطقة الذين يهينون أجسادهم ويغتابون صناعها. لنذكر قول بولس “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم؟!” (1 كو 6:19)
أيضًا سبق النبي فتكلم عن شخص يسوع فقال: “جسدي مأخوذ منهم” (راجع هو 9: 12). كتب في موضع آخر: “لذلك يسلمهم إلى حين تكون ولدت والدة” (مى 5: 3).
وما هي العلامة؟ إنه يخبرنا بعد ذلك فيقول: “تلد ثم ترجع بقية إخوته”. وماذا عن العروس القديسة العذراء؟ “أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب” (هو 2: 20). لذلك عندما تكلمت اليصابات مع مريم قالت لها “طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب” (لو 1:45).
الرد على الوثنيين
27- لكن كلاً من اليهود واليونانيين يزعجوننا قائلين: إنه من المستحيل أن يولد المسيح من عذراء. أما بالنسبة لليونانيين، فإننا نخرس ألسنتهم من أساطيرهم. يا من تقولون إن الحجارة صارت بشرًا، كيف تستبعدون إمكانية ولادة المسيح من العذراء.
يا من تعتقدون أن فتاة ولدت من عظام كيف لا تقدرون أن تصدقوا أن المسيح يولد من أحشاء عذراء.
يا من تعتقدون باطلاً أن ديونيسيوس ولد من فخذ زيوس كيف تستبعدون الحق.
إنني أعلم أنما انطق به الآن هي أمور يستخف بها الحاضرون، لكنني أذكرها لكي توبخوا اليونانيين في حينه، تجيبونهم من أساطيرهم.
الرد على اليهود
28- أما أهل الختان فإننا نواجههم بهذا السؤال: أيهما أصعب، أن تلد عاقر وفي سن الشيخوخة أم أن تحبل صبية عذراء؟!
سارة كانت عاقرًا وانقطعت عن أن يكون لها كعادة النساء، لكن على خلاف الطبيعة ولدت طفلاً. فإن ولدت عاقر طفلاً، فليس غريبًا أن تحبل عذراء. فإمّا أن تقبل الاثنين أو ترفضهما. لأن الله ذاته الذي جعل العاقر تلد هو الذي جعل العذراء تحبل.
لا تقدر إن تقول إن الله قادر في الحالة الأولى وغير قادر في الحالة الثانية.
أيضًا كيف يمكن لذراع إنسان أن تتحول في ساعة معينة إلى صورة أخرى ثم تشفى مرة ثانية؟! كيف يمكن أن تصير يد موسى بيضاء كالثلج ثم تعود لطبيعتها مرة أخرى؟! إنك تقول إنها إرادة الله صنعت هذا. فهل في هذه الحالة إرادة الله قادرة، وفي الحالة الأخرى إرادة الله بلا قوة؟! خاصة وأنه في حالة موسى كانت الآية للمصريين وحدهم، أما في حالة العذراء فهي للعالم كله.
أيهما أصعب أيها اليهود، أن تلد عذراء، أم أن تصير العصا الجماد مخلوقًا حيًا؟! إنكم تقولون إن عصا موسى صارت حيّة، وقد هرب منها ليس خوفًا، لكن لأنها صارت حيّة. العصا أخرجت عيون وأسنان كالحية، فهل إرادة الله تُخرج من العصا عينين، ولا يمكن أن يولد طفل من عذراء؟!
إنني لم أقل شيئًا عن عصا هارون التي أثمرت في ليلة، الأمر الذي ما كان يمكن أن يتم مع الشجر إلاّ خلال سنين. من لا يعرف أن الغصن متى فقد حياته لا يعود يفرخ حتى وإن زرع في مجاري الأنهار؟!
لكن الله الذي لا يعتمد على طبيعة الأشجار بل هو خالق هذه الطبيعة جعل العصا الجافة التي بلا أوراق أو ثمار أن تزهر وتثمر. فإن كان الرب من أجل رئيس الكهنة أعطى ثمرًا بطريقة معجزية، أفلا يقدر من أجل رئيس الكهنة الأعظم أن يجعل العذراء تلد ابنًا؟!
من الذي ولد حواء؟
29- هذه أدلة قوية، لكن اليهود يرفضونها ولا يريدون الخضوع للشهادات الخاصة بالعصا ما لم يروا ميلاديات عجيبة وفريدة.
اسألهم: من الذي ولد حواء؟ أي أم ولدت من هي بلا أم؟ الكتاب المقدس يقول إنها وُلدت من جنب آدم. فهل ولدت حواء بدون أم من جنب وكثير أن يُولد طفل بلا أب من أحشاء عذراء؟
لهذا كان على جنس المرأة دين إزاء الرجل… لذا دفعت مريم هذا الدين، وردت هذا الجميل عندما حبلت ليس برجلٍ بل وحدها حين حبلت بالروح القدس بطريقة سرية بقوة الله[5].
الميلاد العذري والخلق
30- لننظر عظمة هذا: إنه لأمر عجيب أن تولد الأجسام من أجسام أخرى. وإن كان هذا الأمر عجيبًا لكنه ممكن، لكن العجب كل العجب أن يتحول التراب إلى إنسان له عيون وعظام وهيكل ورئتان يتنفس ويتحرك ويتكلم ويملك. أيها الأغبياء كيف خُلق آدم؟ ألم يأخذ الله حفنة من التراب؟!… العجب كل العجب أن تنشأ الأنسجة والعيون الرائعة من طين لا شكل له، وأن تنتج العظام الصُلبة والرئات الرقيقة، ومختلف الأعضاء الأخرى من التراب ذاته…
أيها اليهود الأغبياء، من أين أتى آدم؟ أليس الله الذي أخذ من تراب الأرض ورسم هذا الشكل العجيب؟ (تك 2: 7)، إن كان الطين تحوَّل إلى عين، ألا تستطيع العذراء أن تلد ابنًا؟…
بمجرد الوعد صار يعقوب يطلق على راحيل “زوجته”
31- أخيرًا دعنا نرد على القائلين إنه ولد من رجل وامرأة، من يوسف ومريم قائلين إنه ذكر في الكتاب المقدس “يوسف أخذ امرأته” (مت 1: 24).
لنرى ماذا قال يعقوب قبل أن يستلم راحيل “أعطني زوجتي” (تك 29: 21). لأنه حتى قبل الارتباط، لكن بمجرد الوعد صار يعقوب يطلق عليها “زوجته”.
كذلك مريم إذ كانت مخطوبة دُعيت زوجة يوسف. لاحظ قول الكتاب المقدس: “في الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف” (لو 1: 26). كما يقول صعد يوسف من الجليل ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى” (لو 2: 54)، إذ حتى وهي حبلى بولد دُعيت زوجته “المخطوبة”. وكما يقول بولس الرسل: “أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة” (غل4: 4)، فقط وليس من رجل وامرأة.
العذراء نفسها سبقت أن تعجبت
32- لا تعجب أيها الحبيب، فالعذراء سبق أن تعجبت قائلة لجبرائيل: “لست أعرف رجلاً”. فقال لها الملاك: “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، ولهذا فالمولود منك يُدعى ابن الله” (لو 1: 34، 35).
لقد كانت ولادة طاهرة وبلا دنس، لأنه حيث يحل الروح القدس يزول كل دنسٍ. ولادة ابن الله الوحيد بالجسد من عذراء ولادة بلا دنس.
إن اعترض الهراطقة على هذه الحقيقة فسيلومهم الروح القدس، وتغضب عليهم قوة العليّ، ويثور عليهم جبرائيل في يوم الدين. وسيفحمهم مكان المزود الذي تقبَّل الرب، وسيشهد ضدهم الرعاة الذين بشروا بالفرح العظيم، وأيضًا جيش الملائكة الذين سبحوا الله، قائلين: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة” (لو 2: 24).
سيشهد عليهم الهيكل الذي حُمل إليه في اليوم الأربعين، وزوجا اليمام اللذان قُرِّبا مكانه، وسمعان الذي حمله على ذراعيه، وحِنة النبية التي حضرت تلك الساعة.
شهادة الأطهار والبتوليين عنه
33- إذن، ليشهد الله، ويشهد الروح القدس، وسيقول المسيح: “الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسانٌ قد كلَّمكم بالحق” (يو 8: 40).
إذن، ليصمت الهراطقة الذين يعارضون في طبيعته البشرية، لأنهم يناقضون القائل: “جسُّوني واُنظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي” (لو 24: 39). فليُسجد للرب المولود من العذراء، ولتعترف العذارى بإكليل جماعتهن، ولتعترف طغمة المتوحدين بمجد العفة، فإننا لم نُحرم من كرامة العفة.
لقد مكث المخلص تسعة أشهر في أحشاء العذراء؛ وأصبح الرب رجلاً في الثالثة والثلاثين من عمره، بحيث إنه إذا كانت العذراء تفتخر بحملها إياه تسعة شهور، فإننا قد حظينا به لسنوات كثيرة.
دعوة إلى الحياة البتولية[6]
34- لنسرع جميعًا بنعمة الله إلى سباق الطهارة، شبابًا وعذارى، شيوخًا وأطفالاً (مز 148: 12). لنسبح اسم المسيح بعيدين عن الشراهة، ولا ننكر مجد العفة. إنها إكليل ملائكي، وفضيلة تسمو بالإنسان.
لنوقر أجسامنا التي يلزم أن تضيء كالشمس (مت 13: 3). ولا ندنس هذا الجسم العظيم من أجل لذةٍ طفيفة؛ فالخطية زائلة تدوم لساعةٍ. أما العار فجسيم يدوم إلى الأبد. الذين يمارسون العفة هم ملائكة سالكون على الأرض. وللعذارى نصيب مع مريم العذراء.
لنبتعد عن كل تبرُّج، وكل نظرةٍ شريرة]، وكل حديثٍ باطلٍ، وكل زينةٍ وعطر مثير للأهواء. ليقتصر عطرنا على راحة صلاتنا الذكية، وممارسة أعمال الخير، وتقديس الأجسام. حتى يتسنى للرب المولود من العذراء أن يقول عنا نحن الذين نمارس العفة، من رجالٍ ونساءٍ؛ “إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا” (2 كو 6: 16). له المجد إلى الأبد، آمين.
________________________________________
[2] خر 12: 9 “رأسه مع أكارعه”.
[3] عا 2: 8 النص الوارد في كيرلس: They fastened their garments with cords and made hangings attached to the alter.
[4] مز 14: 7 هنا السؤال يحمل فساد الشعب اليهودي فيسأل النبي طالبًا خلاصًا.
[5] بند 30 أختصر. كما حذف البندان 33، 34.
[6] في ترجمة هذا البند استعنت بالتعريب الذي قام به الأب جورج نصور، في سلسلة النصوص الليتورجية
المقال الثالث عشر: صلب ودفن
“من صدق خبرنا؟ ولمن أُستعلنت ذراع الرب؟… كشاة تساق إلى الذبح” (إش 13: 1-7).
الصليب أعظم أعجوبة
1- كل عمل قام به المسيح، إنما يمجد الكنيسة الجامعة. ولكن أعظم كل الأمجاد للكنيسة هو الصليب. وإذ عرف بولس ذلك قال: “وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح” (غل 6: 14).
عجيب أن يرى المولود الأعمى من بطن أمه النور في سلوام، لكن هذا العمى كيف يُقارن بعمى العالم كله؟!
انه أمر عظيم وخارق للطبيعة أن يقوم لعازر من الموت في اليوم الرابع، لكن النعمة شملته وحده، فكيف يُقارن بالذين ماتوا بخطاياهم في العالم كله؟!
أي معجزة هذه أن يُطعم خمسة آلاف بخمس خبزات، ولكن ماذا يكون هذا بالنسبة للذين يتضورون جوعًا في المسكونة كلها؟!
حقًا إنها لمعجزة أن تحل المربوطة بالشيطان 18 عامًا من قيودها هذه، لكن ماذا يكون هذا بالنسبة لنا نحن جميعًا الذين تقيدنا برباطات آثامنا؟!
لكن مجد الصليب قادر أن يبعث النور في هؤلاء العميان في جهلهم، ويحل عنهم وثاقات الإثم، ويفتدي العالم البشرية أجمع؟!
يا لعظمة إمكانية المصلوب!
2- لا تعجب من أن العالم كله اُفتدى، لأن الذي مات من أجله لم يكن مجرد إنسان بل ابن الله الوحيد! فإذ جلب عصيان آدم الموت على العالم، لكن كما أنه “بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد. فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد” (رو 5:17).
وإذا كان بسبب شجرة طعام قد طُردوا من الفردوس، أفلا يدخل المؤمنون الآن بأكثر سهولة إلى الفردوس بشجرة يسوع.
إن كان الإنسان الأول المخلوق من الطين جلب الموت العام، أفلا يستطيع الذي صنعه من التراب أن يعيده إلى الحياة الأبدية، هذا الذي هو بنفسه “الحياة”؟!
وإذا كانفينحاس عندما زادت غيرته ذبح فاعل الشر فرد سخط الرب، فهل يسوع الذي لم يذبح غيره بل بذل نفسه فدية (1 تي 2: 6) لا يرد السخط الذي كان من جهة الجنس البشري؟!
لا تخجل من الصليب
3- لا تخجل من صليب مخلصنا، بل بالأحرى افتخر به. لأن “كلمة الصليب عند اليهود عثرة، وعند الأمم جهالة، أما بالنسبة لنا فخلاص” (1 كو 1: 2، 3). إنه “عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله” (1 كو 1:18، 23). لأنه كما سبق أن قلت أنه لم يكن ذاك الذي مات عنا إنسانًا مجردًا، بل هو ابن الله، الله المتأنس.
بالأحرى إن كان الحمل في أيام موسى جعل المُهلك يعبر بعيدًا، أفلا ينزع عنا خطايانا ذاك الذي هو حمل الله الذي يرفع خطايا العالم؟! (يو 1: 29)
دم الخراف غير الناطقة وهب خلاصنا، أليس بالأحرى دم ابن الله الوحيد يخلص؟!
من ينكر قوة المصلوب، فليسأل الشياطين! من لا يؤمن بالكلام، فليؤمن بما يرى. فكثيرون صُلبوا في العالم، لكن الشياطين لم تفزع من واحدٍ منهم، لكنها متى رأت مجرد علامة صليب المسيح الذي صُلب عنا يُصعقون. لأن هؤلاء الرجال صُلبوا بسبب آثامهم، أما المسيح فصُلب بسبب آثام الآخرين… “لأنه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش” (إش 53: 9؛ 1 بط 2:22). لم ينطق بهذه العبارة وحده، وإلا لشككنا في أنه منحاز لمعلمه. ولكن إشعياء قالها أيضًا، ذاك الذي لم يكن حاضرًا معه بالجسد، لكنه تنبأ بالروح عن مجيئه بالجسد.
ما بالنا نستشهد بالنبي وحده هنا؟ فها هو بيلاطس نفسه الذي حكم عليه يقول: “لا أجد في هذا الإنسان علّة” (لو 23:14). ولما أسلمه غسل يديه قائلاً: “أنا بريء من دم هذا البار”.
توجد شهادة أخرى عن يسوع البار الذي بلا خطية، هي شهادة اللص أول الداخلين الفردوس، إذ بكَّت زميله منتهرًا إيّاه قائلاً: “أمّا نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأمّا هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله” (لو 23:41)، لأن كلينا تحت قضائه.
آلامه وصلبه حقيقة وليس خيالاً
4- بالحقيقة تألم يسوع من أجل البشر، لأن الصليب لم يكن وهمًا، وإلا صار فداؤنا وهمًا أيضًا. لم يكن موته مجرد خيال، وإلا كان خلاصنا واهن أيضًا. فلو كان موته مجرد مظهر لكان على حق أولئك الذين قالوا “لقد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم” (مت 63:27).
كانت آلامه حقيقة. لأنه بالحقيقة صُلب، ونحن لا ننكر هذا. لقد صُلب ونحننذكره بل نفتخر به. فإنني إن أنكرته ها هي الجلجثةالتي احتشدنا بالقرب منها تبكتني. خشبة الصليب التي وزّعت قطعًا مختلفة على العالم كله تُفحمني.
إنني اعترف بالصليب إذ أعرف القيامة. لأنه لو كان بعد الصليب بقى كما هو ربما لم أكن أعترف به. بل لكنت أنكره وأحاول إخفاء الصليب وإخفاء سيدي. لكن إذ تبعت القيامة الصليب، فإنني لا أخجل من إعلانه.
لم يصلب بسبب خطية!
5- إذ كان قد صُلب بالجسد كالآخرين، لكنه لم يكن مثلهم في الخطية.
إنه لم يصلب بسبب الطمع، إذ كان معلمًا للافتقار.
لم يحكم عليه بسبب شهوة، بل بنفسه قال في وضوح: “وأمّا أنا فأقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” (مت 5: 28).
ولا حُكم عليه لغضب أو هياج سريع، إذ هو مدير الخد الآخر لمن يلطمه، ولا لكسر الشريعة إذ هو منفذها. ولا لسب نبي، إذ هو نفسه موضوع نبوة الأنبياء. ولا لغشه أحد في أجرته، إذ خدم مجانًا دون مكافأة. ولا لخطية ارتكبها بكلام أو عمل أو فعل، إذ “لم يفعل خطية، ولا وجد في فمه مكر، الذي إذ شُتم لم يشتم عوضًا. وإذ تألم لم يكن يهدد” (1 بط 2:22-23). الذي تألم بإرادته وليس رغمًا عنه. نعم فإنه إلى الآن متى قال له أحد “حاشاك يا رب”، يجيبه “اذهب عني يا شيطان” (مت 16: 22-23).
تألم بإرادته
6- أتريد أن تقتنع أنه تألم بإرادته؟ آخرون لا يعلمون ماذا يحدث لهم لذلك ماتوا بغير إرادتهم، أما هو فسبق وقال: “ابن الإنسان يسلم ليُصلب” (مت 26: 2).
ألاّ تعرف لماذا “صديق الإنسان” هذا لم يمنع الموت؟ لكي لا يهلك العالم كله في خطاياه. “ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلم ويصلبوه” وأيضًا: “تقدم صاعدًا إلى أورشليم” (مت 20: 18، لو 19:28).
أتريد حقًا أن تعرف أن الصليب مجد يسوع؟ استمع إلى كلماته لا إلى كلماتي، فإذ كان يهوذا خائن رب البيت على وشك القيام بالخيانة، وقد جلس على مائدته، وشرب كأس نعمته، عوض الخلاص تقدم ليسفك الدم البريء. “رجل سلامتي الذي وثقت به، آكل خبزي رفع عليّ عقبه” (مز 41:9).
لم تكن يده بعد قد تركت عطية نعمته حتى أسرع ليسلمه إلى الموت، حبًا بثمن الخيانة. وبّخه، وإذ سمع: “أنت قلت” (مت 26: 5) خرج ليسلمه. عندئذ قال يسوع: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” (يو 12: 23).
لترى يا عزيزي، كيف عرف أن الصليب هو المجد اللائق به.
إن كان إشعياء لم يخجل من نشره إلى أجزاء، أفيخجل المسيح لموته عن العالم؟!
“الآن يتمجد ابن الإنسان” (يو 13: 3)، لالأنه لم يكن ممجدًا من قبل، بل كان ممجدًا بالمجد الذي له من قبل كون العالم (يو 17: 5). كان ممجدًا على الدوام، إذ هو الله، والآن يتمجد حاملاً صبره.
إنه لم يسلم حياته رغمًا عنه، ولا قبل الموت قسرًا، بل بموافقته. اسمع ماذا يقول؟ “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا” (يو 10: 18). إنني أسلمها لأعدائي باختياري، وإلا ما كان يتم ذلك.
لقد جاء بغرضٍ وضعه هو بنفسه أن يتألم، مسرورًا بعمله النبيل، مبتسمًا بتاجه، معتزًا بخلاص البشرية، دون خجلٍ من الصليب، إذ هو لخلاص هذا العالم. لم يكن إنسانًا عاديًا بل الله المتأنس…
اعتراض اليهود
7- لكن اليهود يعترضون على ذلك وهم على استعداد دائمًا أن يغالطوا ويرتدوا عن الإيمان. لهذا السبب يقول النبي إلى يومنا هذا “من صدق خبرنا؟” (إش 53:1) آمن الفارسيون، والعبرانيون لم يؤمنوا. “الذين لم يُخبروا به سيبصرون والذين لم يسمعوا سيفهمون” (رو 15: 21، إش 5:1). الذين كانوا يدرسون هذه الأمور كأنهم لم يدرسوها. إنهم يتكلمون ضدنا قائلين: “أيتألم الرب؟ ماذا؟ هل ليد الإنسان سلطان على جبروته؟”
اقرأ المراثي التي فيها يرثيك النبي… إذ رأى خرابك. لقد نظر سقوطك، فانتحب أورشليم على ما كانت عليه، وليس على ما هي عليه الآن، إذ صلبت المسيح أما الآن فتتعبد للرب.
إنه يقول في رثائها “مسيح الرب أُخذ في حفرهم”[1]. هل هذه وجهة نظري أنا؟ إذ يشهد النبي بالقبض على الرب يسوع. ثم ماذا يتلو ذلك؟ قل لنا أيها النبي: “الذي قلنا عنه في ظله إنّا نعيش بين الأمم”، وهو يعني أن عطية الحياة لم تعد تقطن في إسرائيل بل بين الأمم.
شهادات عن آلامه
8- لكننا إذ نجد منهم مقاومة شديدة، لذلك فإنني بصلواتكم أقدم بنعمة الله قليلاً من الشهادات عن آلامه. فإن الأمور التي تتعلق بالمسيح قد سبق أن كُتبت، ولم يترك منها دون شاهد، إنما أعلن على فم الأنبياء. وكُتبت هذه الأمور بصراحة لا على لوحي حجر بل بالروح القدس. لذلك عندما تسمع الإنجيل يتحدث عن يهوذا، أما يليق أن تطلب شهادة عن ذلك؟ لقد سمعت أنه طعن بالحربة في جنبه، أما يلزم أن تعرف عما إذا كان قد كتب عنه هذا؟ سمعت أنه بيع بثلاثين من الفضة، ألاّ تريد أن تعلم أي نبي نطق بهذا؟! سمعت أنه أعطى خلاً للشرب… وأن جسده ألقي في صخرة وأقيم عليها حجر… وأنه صلب بين لصوص أما تريد أن ترى هذا مكتوبًا؟! إنك سمعت أنه دُفن أتريد أن تعرف كل ظروف الدفن كيف سجلت بدقة؟!
لقد سمعت عنه أنه قام أيضًا أتريد أن تعرف إن كنا نسخر بك في هذا التعليم؟! لأن” كلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية” (1 كو 2:4). فنحن لا ننشئ كلامًا سوفسطائيًا بل “نكرز بالمسيح مصلوبًا” (1 كو 1: 23) الذي سبق فتكلم الأنبياء عنه..
التنبؤ بخصوص خيانة يهوذا
9- لنطلب الشهادات الخاصة بآلام المسيح… لقد تقبلت مني الشهادات الخاصة بمجيئه وبسيره على البحر، إذ كتب “في البحر طريقك” (مز 77: 19). لنبدأ الآن بالألم. كان يهوذا خائنًا ووقف ضد المسيح. فمع أنه كان يحدثه بكلمات السلام كان يدبر حربًا. لهذا يقول المرتل: “أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي” (مز 38: 11). وأيضًا: “ألين من الزيت كلماته، وهي سيوف مسلولة” (مز 55: 21). قال: “السلام يا سيدي” (مت 26: 49) وهو يخون سيده إلى الموت. إذ لم يرتدع من تحذير سيده القائل “يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!” (لو 22:48)
إن ما قاله الرب له هو تأويل اسم “يهوذا” الذي يعني “اعتراف”. لقد تآمرت وقبضت الثمن اعترف بسرعة.
“يا إله تسبيحي لا تسكت. لأنه قد انفتح عليّ فم شرير، وفم الغش. تكلموا معي بلسان كذب. بكلام بُغض أحاطوا بي، وقاتلوني بلا سبب” (مز 109: 1-3). كان بعض رؤساء الكهنة حاضرين، وقد تم القبض عليه عند أبواب المدينة، وبهذا تحقق قول المزمور “يعودون عند المساء، يهرون مثل الكلاب ويدورون في المدينة” (مز 59: 6).
ثمن الخيانة وحقل الفخاري
10- لتسمع أيضًا بخصوص الثلاثين من الفضة. “فقلت لهم أن حسُن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا” (زك 11: 12). انظر كيف تنبأ الكتاب المقدس عن هذه الأمور، فقال: “فوَزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة”. يا لدقة النبوة! يا لحكمة الروح القدس العظيمة الذي لا يخطئ! لأنه لم يقل عشرة أو عشرين ولكنه حدد بالضبط ثلاثين.
اخبرنا أيضًا ماذا يتم بهذا الثمن أيها النبي؟ هل يحتفظ بها من استلمها؟ أم يردها؟… يقول “فأخذت الثلاثين من الفضة، وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب” (زك 11: 13). قارن قول الإنجيل بهذه النبوة! “لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم… فطرح الفضة في الهيكل وانصرف”[2]…
12- محاكمة الرب
قيدوا يسوع وأحضروه إلى دار رئيس الكهنة، أتريد أن تعرف كيف سبق أن كتب هذا أيضًا؟ يقول إشعياء “ويل لنفوسهم لأنهم يصنعون لنفسهم شرًا قائلين: لنقيد البار لأنه مغلق لنا” (راجع إش 3: 9-10) نعم ويل لنفوسهم. لترى كيف هذا فإن إشعياء نُشر إلى أجزاء، وبعد ذلك شُفي الشعب. إرميا طُرح في جب من طين، لكن جرح اليهود شفي، إذ أن آثامهم كانت قليلة لأنها موجهة ضد إنسان. لكن عندما أخطأ اليهود إلى الله المتأنس “ويل لنفوسهم… لنقيد البار!”
ألم يكن قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟! قد يقول قائل: الذي حل لعازر من رباطات الموت في رابع يوم، وأطلق سراح بولس من قيود السجن الحديدية، أما كان قادرًا على إطلاق سراح نفسه؟ لقد وقفت الملائكة مستعدة تقول “لنقطع قيودهم” (مز 2: 3)، لكنهم أحجموا لأن سيدهم شاء أن يقبل هذا.
اقتيد إلى المحكمة أمام الشيوخ. وهذه شهادة عن ذلك “الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم” (إش 3: 14).
المحاكمة
13- لكن إذ سأله رئيس الكهنة وسمع الحق أظهر خسة. فضربه موظفوه (عبد رئيس الكهنة)… وأتى آخرون وبصقوا على وجهه هذا الذي ببصاقه شفي المولود أعمى.
“أََلرب تكافئون بهذا يا شعبًا غبيًا وغير حكيم؟” (تث 32: 6) لهذا يتعجب النبي جدًا فيقول: “من صدق خبرنا”؟! (إش 50: 6)، لأن الذي لا يُنطق به، ابن الله، ذراع الرب (1 تس 53: 1) يحتمل هذا! أمّا الذين يؤمنون، فإنهم يخلصون، إذ سبق فكتب الروح القدس في شخص المسيح قائلاً: “بذلت ظهري للسياط، وخديّ للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق” (إش 53: 1)… كأن يسوع يقول: بالرغم من إنني أعرف مقدمًا أنهم يلطمونني لكنني لم أدر عنهم خدي. لأنه كيف أخاف من الموت أنا الذي أعلم تلاميذي ألاّ يخافوا من الموت من أجل الحق؟! فلو أحببت حياتي كيف أعلم بما لا أُمارسه؟! لهذا وهو الله أحب أن يحتمل من الأيدي البشرية حتى لا نخجل نحن إذا تألمنا من أجله مثل هذه الآلام من البشر…
في محاكمته صالحَ المتخاصمين
14- وإذ ربط (يسوع)، أُرسل من قيافا إلى بيلاطس. هل كتب هذا أيضًا؟ نعم “إذ قيد اُقتيد كهدية إلى الملك باريم Jarim ” (هو 10:6). لكن قد يعترض سامع حاذق فيقول: لم يكن بيلاطس ملكًا، (لكن نترك هذا الاعتراض إلى حين) فإنه كيف اُقتيد كهدية لملك؟ يقول الإنجيل “فلما سمع بيلاطس ذِكْر الجليل سأل: هل الرجل جليلي؟… أرسله إلى هيرودس (لو 23: 6) “لأن هيرودس كان ملكًا، وكان في أورشليم في ذلك الوقت.
لاحظ دقة النبي: لأنه يقول أُرسل كهدية. لقد “صار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما البعض في ذلك اليوم، لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما” (لو 23: 12).
نعم الذي صار صلحًا بين السمائيين والأرضيين صالح أيضًا المتخاصمين ضده، إذ كان الرب نفسه بينهما هذا “الذي يصالح قلوب رؤساء شعب الأرض” (راجع أي 2: 24).
لاحظ دقة الأنبياء وصدق شهادتهم.
على من تفغرون الفم؟
15- تطلع باهتمام إلى الرب وهو يحاكم، فقد سمح لنفسه أن يقوده الجنود. بيلاطس جلس في الحكم؛ والذي يجلس عن يمين الآب يقف ليُحاكم! الشعب الذي حرره من أرض مصر… يصرخ: “خذه أصلبه” (يو 19: 15). لماذا أيها اليهود؟ هل لأنه شفى عميانكم؟ أم لأنه جعل العرج منكم يمشون؟ ووهب البركات للآخرين؟! يدهش النبي فيقول: “على من تفغرون الفم وتدلعون اللسان؟” (إش 57:4) ويقول الرب نفسه في الأنبياء: “صار لي ميراثي كأسد في الوعر. نطق عليّ بصوته. من أجل ذلك أبغضته” (إر 12:8). لم أرفضهم لكنهم رفضوني، لهذا أقول: “قد تركت بيتي” (إر 12:7).
صمته في المحاكمة
16- في أثناء محاكمته أعلن سلامه إلى حد قال فيه بيلاطس: “أما تسمع كم يشهدون عليك؟” (مت 27:13).
يقول المرنم: “وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة” (مز 109: 25).
وأيضًا “كأصم لا يسمع وكأبكم لا يفتح فاه” (مز 38: 13)…
سخرية الجنود به
17- لكن الجنود الذين تجمهروا حوله كانوا يسخرون به. صار أضحوكة لهم. “ينظرون إليّ، وينغضون رؤوسهم” (مز 38: 14). كانت تظهر ملوكيته حتى في سخريتهم له حيث كانوا يركعون قدامه.
وقبل الصلب ألبسه الجنود ثوبًا من الأرجوان ووضعوا على رأسه إكليلاً. لماذا ألبسوه تاجًا ولو أنه من الشوك؟ لأن كل ملك يظهر مُلكه بواسطة جنوده. فيسوع كملك تُوِّج رمزيًا خلال الجنود. لهذا يقول الكتاب في نشيد الأناشيد: “أخرجن يا بنات أورشليم، وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه” (نش 3:11). وقد كان التاج سريًا إذ هو غفران الخطايا ومزيل اللعنة.
بالشوك أزال اللعنة
18- تلقى آدم هذا الحكم: “ملعونة الأرض بسببك. شوكًا وحسكًا تنبت لك” (تك 3: 17، 18). لهذا السبب كان يليق بيسوع أن يقبل الشوك حتى يزيل هذا الحكم. ولهذا السبب دُفن يسوع في الأرض حتى تقبل الأرض التي لُعنت البركة عوض اللعنة.
في زمن الخطية ارتديا (آدم وحواء) أوراق التين، لهذا جعل يسوع شجرة التين آخر علاماته (قبل الصلب). فقبل آلامه لعن شجرة التين، ليس كل شجر التين، بل شجرة واحدة لكي تكون رمزًا. قال: “لا يأكل أحد منك ثمر بعد” (مر 11: 14). وإذ كانا قبلاً قد سُترا بأوراق الشجرة، جاء يسوع في وقت لا تعطى فيه شجرة التين ثمرًا. من لا يعرف أن شجر التين لا يحمل ثمرًا في فصل الشتاء؟! هل كان يسوع جاهلاً بهذا الأمر الذي يعرفه الجميع؟! لا، لكن مع معرفته بذلك جاء كمن يبحث عن ثمرٍ لهذه الشجرة، ليس جهلاً، ظانًا أنه يجد فيها ثمرًا، بل لكي يظهر اللعنة الظاهرية التي تلحق بالأوراق…
بين الفردوس والبستان
19- مادمنا قد لمسنا موضوعات تتعلق بالفردوس، فإنني أعجب من حقيقة المقارنات… في الفردوس كان السقوط، وفي البستان كان خلاصنا. من الشجرة جاء اثمنا، وإلى مجيء الشجرة انتهت آثامنا. في المساء إذ كان الرب يتمشى في الجنة اختبأ (آدم وحواء) (تك 3: 8)، وفي المساء قبل يسوع اللص في الفردوس…
الحيّة النحاسية كرمز للصليب
20- إذا هوالرمز الأصلي، الحيّة التي رفعها موسى على صليب، لكي يشفي كلمن لدغته حية، فبالنظر إلى الحيّة النحاسية يُشفى بالإيمان (عد 21:9؛ يو 3: 14).
Discussion about this post