القديس كيرلس الأورشليمي :
مقالاته لطالبي العماد
الباب الثاني: مقالاته لطالبي العماد
مقال افتتاحي
البنيان الروحي[2]
1- رائحة المعمودية الذكية[3]
ها هي رائحة السعادة تنبعث منكم يا من تتقبلون الاستنارة!
ها أنتم تستعدون لقطف الأزهار الروحية[4]، لتضفروا منها أكاليل سمائية! إنه يفوح فيكم شذا الروح القدس (نش 2: 12)!
إنكم تجتمعون في بهو قصر الملك[5]، ليت الملك بنفسه يقودكم!
الآن تظهر الأزهار على الأشجار، ليت الثمر يكون كاملاً! إذ صار لكم: تسجيل أسمائكم (في قوائم طالبي العماد)، دعوتكم للخدمة (في جيش المسيح)، حمل مشاعل كوكب العرس، شوق إلى الوطن السمائي، نيّة صالحة ورجاء مرافق!…
الله سخي جدًا في هباته، لكنه ينتظر الإرادة الصالحة لكل أحدٍ. لذلك يضيف الرسول قائلاً: “الذين هم مدعون حسب قصده” في قوله الذي لم يكذب فيه “كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو 8: 28).
إن إخلاص نيّتك يجعلك مدعوًا.
أما إذا كنت ها هنا بجسدك (بين صفوف طالبي العماد) دون ذهنك فلن تنتفع شيئًا.
2- مثال لمن يعتمد بنيّة شريرة
جاء سيمون الساحر يومًا إلى الجرن (أع 8: 13)، واعتمد دون أن يستنير، فمع أنه غطس بجسده في الماء، لكن قلبه لم يستنر بالروح. لقد نزل بجسده وصعد، أما نفسه فلم تُدفن مع المسيح ولا قامت معه (رو 6: 4؛ كو 2: 12).
ها أنا أقدم لكم مثالاً لساقط حتى لا تسقطوا أنتم. فإن ما حدث كان عبرة لأجل تعليم المتقرّبين لهذا اليوم (يوم العماد).
ليته إذن لا يكون بينكم من يجرب نعمة الله، لئلا ينبع فيه أصل مرارة ويصنع انزعاجًا! (عب 12: 15)
ليته لا يدخل أحدكم وهو يقول: لأنظر ماذا يعمل المؤمنون! لأدخل وأرى حتى أعرف ماذا يحدث؟! (أي يدخل لمجرد حب الاستطلاع).
أتظن إنك ترى الآخرين وأنت (في نيتك أن) لا ترى؟! أما تعلم أنك وأنت تفحص ما يحدث معهم، يفحص الله قلبك؟!
3- مثال لإنسان يعتمد لمجرد حب الاستطلاع
جاء في الإنجيل أن إنسانًا دخل مرة إلى وليمة العرس يستطلعها[6]، وقد ارتدى ثوبًا غير لائق. دخل وجلس وأكل، إذ سمح له العريس بذلك. كان يليق به لما رأى الكل لابسين ثيابًا بيضاء أن يرتدي ثوبًا مثلهم، لكنه اشترك معهم في الطعام دون الهيئة والنيّة.
والعريس مع سخائه هكذا فهو ليس بعديم الفطنة، إذ بينما كان يسير بين الضيوف ويلاحظهم… رأى إنسانًا غريبًا غير مرتد ثوب العرس، فقال له: “يا صاحب. كيف أتيت إلى هنا؟ وبأي وجه؟[7] وبأي ضمير أتيت؟! هل دخلت هكذا لأن الحارس لم يمنعك من الدخول بسبب وجود صاحب الوليمة؟ أم أنك تجهل الزي اللائق بدخولك الوليمة؟! ألم تتعلم هذا مما رأته عيناك حين دخلت ونظرت ثياب الضيوف المتألقة؟! أما كان يليق بك أن ترجع في الوقت المناسب لكي تعود وتدخل أيضًا في الوقت المناسب؟! لكن لأنك دخلت بغير لياقة تخرج”. وهكذا أمر عبيده قائلاً: “أوثقوا قدميه اللتين اقتحمتا الموضع بوقاحة. اربطوا يديه اللتين لم تعرفا كيف تلبسانه الثوب اللامع. اطرحوه في الظلمة الخارجية لأنه غير مستحق لمشاعل العرس”.
لقد رأيتم ما حدث مع هذا الرجل، فاسلكوا أنتم في الطريق الآمن.
4- لا تعتمد بنية خاطئة
إننا عبيد نقبل كل من يتقدم إلينا، كبوابين نترك الأبواب مفتوحة.
هل تمكنت من الدخول بنفس ملوثة بالخطايا ونيّة دنسه؟ لقد سُمح لك بذلك، وسُجل اسمك.
أخبرني، هل ترى هيبة اجتماعنا؟! هل ترى نظامه وتدابيره[8]؟! وقراءات الأسفار المقدسة[9]، وحضور المكرّسين[10]، ونظام تعليمنا؟ إذن فلتخزَ في هذا المكان (الذي اقتحمته) وتعلَّم مما تراه!
أخرج الآن بلياقة (أي لا تتعجل الدخول في صفوف طالبي العماد وأنت بنيه شريرة)، وادخل غدًا وأنت أكثر استعدادًا.
إن كان ثوب نفسك هو “الطمع”، البس آخر غيره وتعال اخلع ثوبك القديم ولا ترتده.
أرجوك أن تخلع الزنا والنجاسة، وتلبس ثوب النقاوة المتألق.
إنني أوصيك بهذا قبل أن يدخل العريس يسوع ويتطلع إلى ثوبك.
إنني اترك لك زمانًا طويلاً للتوبة. إنها فرصة كافية لك كي تخلع وتغسل وتلبس وتدخل!
لكنك إن بقيت مقاومًا بنيّة شريرة، فإن المتكلم لا يكون مسئولاً، بل أنت تحرم نفسك من النعمة، إذ تتقبل الماء (ونيّتك شريرة) لا يقبلك الروح[11].
إن شعر أحد بجرحه فليأخذ المرهم، وإن كان ساقطًا فليقم!
ليته لا يكون بينكم سيمون، ولا رياء، ولا حبًا للاستطلاع مملوء بلادة من جهة هذا الأمر.
5- العماد بقصد التودد للغير[12]
…قد يحدث أن رجلاً يرغب في التودد إلى امرأة، فيأتي بهذا الدافع. ويمكن أن نقول نفس الأمر لامرأة، أو قد يأتي عبد إرضاء لسيده أو صديق ليبهج صديقه.
إنني أقبل هذا كَطُعم الصنارة. أقبلك بالرغم من مجيئك بنيّة غير سليمة، إذ لي وطيد الأمل إنك ستخلص.
ربما لا تعرف إلى أين قد أتيت؟ ولا في أي شبكة أنت تُصطاد؟ إنك أتيت في داخل شباك الكنيسة! (مت 13: 47) لقد أُخذت حيًا فلا تهرب، لأن يسوع اصطادك كالسمكة لا لتُقتل بل لتصير بالموت حيًا.
يلزمك أن تموت وتقوم ثانية، إذ تسمع الرسول يقول: “أموت عن الخطية لكن أحيا في البرّ” (راجع رو 6: 11، 14). مُت عن خطاياك وعش للبرّ. عشْ هكذا اليوم.
6- يا لعظمة المعمودية!
أرجو أن تتأمل عظمة عطايا المسيح التي يشرِّفك بها. لقد كنت تدعى “موعوظًا”، كنت تسمع الكلمة تدوي حولك من الخارج، كنت تسمع الرجاء ولا تدركه، تسمع عن الأسرار ولا تفهمها، تسمع الأسفار المقدسة ولا تلمس أعماقها. هوذا لا يعود الصدى يدوي حولك، بل يكون في داخلك، لأن الروح الساكن فيك (رو 8: 9، 11) يجعل من ذهنك بيتًا لله.
عندما تقرأ عن الأسرار وتفهم ما لا تفهمه عنها الآن، اعلم أن هذا الأمر ليس بشيء هين. فبالرغم من أنك إنسان بائس تتقبل أحد ألقاب الله.
اسمع القديس بولس يقول “أمين هو الله” (1 كو 1: 9). ويقول سفر آخر: “هو أمين وعادل” (1 يو 1: 9)، فإذ ينال الإنسان لقب من ألقاب الله، أي “أمين”. لهذا تنبأ المرتل في شخص الله قائلاً: “أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي تُدعون”. لكن أحذر لئلا يكون لك اللقب أنك “أمين” وأنت لك إرادة غير مؤمن “أي غير أمين في إرادتك”.
إنك تدخل سباقًا، جاهد فقد لا تجد فرصة أخرى كهذه[13].
إن يوم زفافك (عمادك) أمام عينيك، ألاّ تريد أن تترك كل شيءٍ وتتفرغ لإعداد الوليمة؟! لقد اقترب يوم تكريس نفسك للعريس السماوي، أما تكف عن الانشغال بالأمور الزمنية حتى تربح الروحية؟!
7- معمودية واحدة!
إننا لا ننال المعمودية مرتين أو ثلاثًا… لأنه يوجد “رب واحد، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة” (أف 4: 5)، فلا تُعاد المعمودية، إلاّ معمودية الهراطقة، إذ لا تحسب معمودية.
8- آمن بفاعلية المعمودية
لا يطلب الله منا سوى النيّة الصالحة.
لا تقل كيف تُمحى خطاياي؟ فإنني أقول بواسطة الإرادة[14] والإيمان.
أي طريق أقصر من هذا؟! لكن إن أعلنت شفتاك الإرادة (في التمتع بمغفرة الخطايا) وقلبك صامت، فإن الذي يدينك يعلم قلبك.
من اليوم كف عن كل ما هو رديء! كف لسانك عن أن ينطق بكلمات غير لائقة. أغمض عينك عن التطلع إلى الخطية والتجول فيما لا ينفع.
9- المعمودية والتلاوات[15]
لتسرع قدماك بشغف إلى التعاليم[16] المستلمة، سواء تلك التي تسمعها أو تتلوها، فإن العمل بالنسبة لكم هو الخلاص.
لو كان لديك ذهب خام مخلوط بمواد أخرى مثل النحاس والقصدير والحديد والرصاص، وأنت تطلب ذهبًا نقيًا، فهل يمكن تنقيته بطريق آخر غير النار؟! هكذا لا يمكن للنفس أن تتنقى بدون التلاوات الإلهية المجمعة من الأسفار المقدسة.
لتستر وجهك[17] لكي يتحرر ذهنك، لئلا تزوغ عيناك، فلا ينضبط قلبك. لكن متى أغمضت عينيك لا يعوق شيء أيضًا أذنيك عن تقبل معاني الخلاص.
وكما أن المهرة في حرفة الصياغة ينفخون النار بأدوات دقيقة فيشعلونها تجاه الذهب الموضوع في البوتقة، وبهذا يبلغون غايتهم، هكذا بنفس الطريقة أصحاب التلاوات يثيرون رعبًا بواسطة روح الرب، وتصير النفس كما لو كانت على نار بوتقة الجسد، فيهرب الخصم الشيطان، ويسكن الخلاص ورجاء الحياة الأبدية، وعندئذ تتنقى النفس من خطاياها ويكون لها خلاص.
يا إخوة، ليتنا نسكن في رجاءٍ، ونسلم أنفسنا للرب ونترجاه، حتى يرى إله الكل غايتنا وينقينا من خطايانا، ويهبنا أمالاً صالحة فيما نحن عليه، ويعطينا توبة تنشئ خلاصًا.
الله يدعو، والدعوة هي لك أنت!
10- المعمودية والحرب الروحية
أصغ إلى التعاليم بكل طاقتك[18]. ومع أنه يجدر بنا أن نطيل مقالنا لكنني لا أترك ذهنك يمل، فإنك تتسلم عدة حربية ضد قوة العدو، سلاحًا ضد الهراطقة، ضد اليهود والسامريين[19] والأمم.
إن لك أعداء كثيرين. تسلم سهامًا كثيرة ترشقهم بها، إذ يجدر بك أن تتعلم كيف تنازل اليونانيين[20]، وكيف تصارع الهراطقة وأيضًا اليهود والسامريين.
هوذا السلاح مُعد “سيف الروح” (أف 6: 17) مهيأ. يليق بك أن تبسط يدك اليمنى بطريقة صالحة لكي تحارب حرب الله، وتغلب القوات المقاومة وتصير (حصنًا) منيعًا يصد كل محاولة للهراطقة.
11- المعمودية وملازمة التعليم
دعني أقدم لك هذه الوصية أيضًا. اعرف التعاليم[21]، واحفظها إلى الأبد.
لا تظنها عظات عادية، فإن العظات العادية مع كونها صالحة وتستحق المديح، لكننا إن أهملناها اليوم ندرسها غدًا. أما التعاليم بخصوص جرن المعمودية التي نقدمها لك في حلقات مسلسلة إن أهملتها اليوم متى تدرسها كما ينبغي؟!
تصور أن الآن فصل غرس الأشجار، فإننا إن لم نحفر، ونحفر بعمقٍ، كيف نقدر أن نغرس الشجرة بطريقة سليمة إن غرسناها بطريقة خاطئة (وضاع وقت الغرس)؟!
التعليم نوع من البناء، إن لم يرتبط بعضه مع البعض بربطات منتظمة يكون البيت معيبًا، ويصير البناء غير سليمٍ، ويؤول عملنا السابق إلى لا شيء.
إذن يلزمنا أن نُلحق الحجر بحجرٍ، ونزوج الزاوية بأخرى، وخلال اللمسات الأخيرة لإزالة الزيادات يصير البناء منسقًا، هكذا بنفس الطريقة نجلب المعرفة كما لو كانت حجارة، فنُسمعك عن الله الحي، والدينونة، والمسيح، والقيامة… وأمور أخرى كثيرة يلزم تتابع مناقشتها، هذه التي نحبها واحدة فواحدة حتى يتهيأ لنا بناء مترابط متناسق. فإن لم تتهيأ (التعاليم) في وحدة واحدة، ونرتبها كما يليق التعليم الأول فالثاني… فإن البناء يُعد لكنه لا يكون سليمًا.
12- نقدم كل تعليمٍ في الوقت المناسب
عندما تتسلم تعليمًا، إن سألك موعوظ من الخارج[22] قائلاً لك: ماذا يقول المعلمون؟ لا تجبه بشيءٍ. إننا نسلمك سرًا ورجاء في الحياة المقبلة، احفظ السرّ لذاك الذي يهبك المكافأة.
لا يقول لك أحد: ماذا يصيبك لو عرفته أنا أيضًا؟ فإنه كالمريض الذي يطلب خمرًا، فإذ يأخذه في وقت غير مناسب يحدث له هذيان، وبهذا يتحقق شران: المريض يموت والطبيب يُلام! هكذا أيضًا متى سمع الموعوظ شيئًا من المؤمن يصير في حالة هذيان (إذ لا يفهم ما يسمعه، ويجد فيه خطأ، ويتهكم على ما يسمعه)، ويُدان المؤمن كخائنٍ.
أنت الآن على الشاطئ، احذر من أن تقول شيئًا في الخارج، لا لأن ما تقوله لا يستحق أن يُقال، بل لأن الأذن لم تتهيأ للسماع له.
إكنت يومًا ما موعوظًا، ولم أخبرك بما أعلنه لك الآن. إنك ستختبر كيف أن أمور تعاليمنا عالية، وعندئذ تدرك أن الموعوظين لم يتأهلوا بعد لسماعها.
13- المعمودية والاهتمام بخلاص النفس
أنتم الذين سُجلت أسماؤكم تصيرون أبناء وبنات أم واحدة. عندما تدخلون إلى وقت التلاوات، فليتكلم كل واحدٍ منكم بما هو للصلاح. وإن لم يأتِ أحدكم في دوره فلتبحثوا عنه، لأنه متى دعيتم إلى وليمة أما تنتظرون حتى يأتي زميلكم الضعيف؟! إن كان لك أخ أما تطلب خيره؟!
لا تنهمكوا في أمور باطلة، فلا تنشغلوا (في وقت الأربعين المقدسة) بما يحدث في المدينة أو القرية أو مع الملك أو الأسقف أو الكاهن. انظروا إلى فوق واطلبوا ما تحتاجون إليه في هذه الساعة التي أنتم فيها.
لتصمتوا ولتعرفوا إني أنا الله!
إن رأيتم المؤمنين يخدمون… وهم مطمئنون، فلتعترفوا أنهم في ملكية النعمة… أما أنتم فإلى الآن على كفة ميزان، قد تقبلون وقد لا تقبلون، فلا تقلدوا من تحرروا من القلق، إنما اطلبوا المخافة.
14- آداب الحضور في الكنيسة
عندما تتم التلاوة، فإلى أن يجيء دور الآخرين يجب أن يبقى الرجال مع الرجال والنساء مع النساء[23].
إنكم محتاجون أن أقدم لكم فلك نوح كمثالٍ، إذ كان فيه نوح وبنوه، وزوجته ونساء بنيه. فمع أن الفلك واحد والباب مغلق، لكن كل الأمور فيه كانت مرتبة ترتيبًا حسنًا.
هكذا متى أغلقت الكنيسة وأنتم في داخلها، لينفصل الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، لئلا يكون علة خلاصكم فرصة للهلاك. إن وجد عذر مقبول لجلوسكم مع بعضكم البعض (أي جلوس رجل مع امرأة) فلتطرد شهواتكم![24]
بالأحرى ليت الرجال عند جلوسهم يكون معهم كتابًا مفيدًا، واحد يقرأ والآخر يستمع، وإن لم يوجد كتاب فليصل واحد وينطق آخر بكلام نافع.
كذلك ليت الحدَثات يجلسن معًا بنفس الطريقة، يسبحن أو يقرأن بهدوء، فتتحرك شفاهن دون أن يسمع أحد أصواتهن، إذ لا يُسمح للمرأة أن تتكلم في الكنيسة (1 كو 14: 34؛ 1 تى 2: 12).
وليتبع النساء المتزوجات نفس المثال ويصلين. لتتحرك شفاهن دون أن تُسمع أصواتهن حتى يوهب لهن “صموئيل”[25] – الذي معناه “الله الذي يسمع الصلاة”، إذ هكذا هو تفسير اسم “صموئيل” – وتلد نفوسهن العواقر الخلاص.
15- اقبلوا عمل الله
سأرى غيرة كل رجل وتقوى كل امرأة.
ليت ذهنكم يتنقى كما بنار في وقار! ليت نفوسكم تُصهر كالمعدن! ليت الشوائب تُزال، ويتبقى المعدن خالصًا. لينزع زغل الحديد، ويتبقى المعدن الحقيقي!
ليظهر الله لكم الليلة الظلام الذي يتلألأ كالنهار، إذ قيل عنه: “الظلمة لا تظلم لديك، الليل مثل النهار يضيء” (مز 139: 12). لينفتح باب الفردوس في وجه كل واحدٍ منكم، عندئذ تبتهجون بمياه المسيح[26] التي لها رائحة ذكية.
اقبلوا اسم المسيح[27]، وقوة الأمور الإلهية.
الآن أرجوكم أن ترفعوا عيون أذهانكم، فتروا طغمات الملائكة، والله رب الجميع جالسًا مع الآب عن يمينه والروح القدس…، تنظرون العروش والسلاطين يخدمون (الثالوث القدوس)، ترون كل واحدٍ وواحدة منكم سيخلص.
لتنصت آذانكم من الآن إلى الصوت المجيد الذي ستتغنى به الملائكة بسبب خلاصكم قائلة: “طوبى للذي غفر إثمه وسُترت خطيته”[28]. وذلك عندما تدخلون ككواكب الكنيسة المتألقة جسدًا، ومتلألئة نفسًا.
عظيم هو العماد الذي يوهب لكم فإنه[29]: عتق الأسرى، غفران المعاصي، موت الخطية، ميلاد جديد للنفس، ثوب النور، ختم مقدس لا ينفيك، مركبة للسماوات، بهجة الفردوس، ترحيب في الملكوت، عطية التبنّي!
لكن احذروا، فإنه توجد حيَّة في الخارج تترقب المارين. احترسوا لئلا تلدغكم بلدغات عدم الإيمان.
إنها إذ ترى كثيرين يقبلون الخلاص تلتمس أن تبتلعه منهم (1 بط 5: 8).
إنكم داخلون إلى أب الأرواح، لكنكم ستعبرون على هذه الحيّة.
كيف تعبرون عليها؟ كونوا “حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام” (أف 6: 15)، حتى إذا لدغتكم لا تؤذيكم. فإذ يكون لكم إيمان حي ورجاء ثابت وصندل قوى تجتازون العدو وتدخلون إلى حضرة الرب.
هيئوا قلوبكم لتقبل التعليم من أجل شركة الأسرار المقدسة.
صلوا بأكثر مثابرة، لكي ما يجعلكم الله مستحقين للأسرار السمائية الخالدة. لا تنقطعوا عنها نهارًا وليلاً، بل عندما يُطرد النوم من عيونكم تحرر أذهانكم للصلاة. وإن ثار فيكم أي فكر معيب، حوّلوا أذهانكم إلى التأمل في الدينونة، فتتذكّرون الخلاص.
قدموا أذهانكم كلها للدراسة، حتى تحتقروا الأمور الدنيئة.
وإن قال لكم أحد: “هل أنت داخل لكي تغطس في الماء[30]؟ ألاّ توجد طرق أخرى للمدينة؟” أذكر هذا قول: “التنين الذي في البحر” (إش 27: 1) الذي يبث خداعاته ضدّك، فلا تنصت إلى شفتيه، بل أصغِ إلى الله الذي يعمل فيك.
لاحظوا أنفسكم إلى النهاية، حتى لا تسقطوا في الشباك، فتعيشوا في رجاء، وتصيروا وارثين للخلاص الأبدي.
16- أنتم عملنا
نحن نوصيكم ونعلمكم وأنتم كبناء لنا لا تكونوا خشبًا وعشبًا وقشًا حتى لا نفقد بناءنا فيحترق عملنا، بل كونوا ذهبًا وفضة وحجارة كريمة (1 كو 3: 12، 15).
مهمتي أن أتكلم، وعملكم أن تصغوا بذهنكم فيما أقول[31]، وتركزوه في الله ليجعلكم كاملين.
لنشدد أذهانكم وننهض نفوسكم على رجاء نوال الأبديات، والله الذي يعرف قلوبكم ويميز الصادق من المرائي قادر أن يحفظ من هو صادق النيّة، ويهب إيمانًا للمرائي، لأنه حتى غير المؤمن متى سلم قلبه لله قادر أن يهبه الإيمان.
ليوف الله الصك الذي عليكم (كو 2: 14) ويهبكم غفران معاصيكم السابقة، ويغرسكم في كنيسته، ويجندكم في خدمته، ويلبسكم سلاح البر (2 كو 6: 7)، ويغمركم بخيرات العهد الجديد السمائية، ويعطيكم ختم الروح القدس الذي لا يمحى على مرِّ الأزمنة، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
إلى القارئ[32]
هذه المقالات التعليمية موجهة إلى لذين يستنيرون، فتُعطى للموعوظين المتقدمين للعماد وللمؤمنين الذي اعتمدوا فعلاً لكي يقرأوها، لكنها لا تُقدم دفعة واحدة للموعوظين… وإن كتبت نسخة منها فاكتب هذه في المقدمة.
________________________________________
[1] المترجم.
[2] من وضع المترجم.
[3] العناوين الجانبية من وضع المترجم، أما الهوامش فبعضها مترجم عن مجموعة آباء نيقية.
[4] الأزهار الروحية أو العقلية mental هي الحقائق الإلهية التي نتنسم فيها عبير الروح القدس.
[5] يقصد به الصالة الخارجية للمعمودية، إذ يقصد بالقصر الإلهي الملكي المعمودية؛ حيث في المعمودية تتحد النفس بالله كعروس الملك عظيم.
[6] مت 22: 2 طبق القديس المثل على المعمودية في المقال 3: 2.
[7] الترجمة الحرفية “وبأي لون”.
[8] الكلمة اليونانية في معناها العام تعني “المعرفة أو الفهم” لكنها في الكتابات الكنسية تستخدم بمعنى تدبير خدمات الكنيسة بوقار ومهابة.
[9] منذ القرون الأولى رتبت الكنيسة قراءات معينة متناسبة ومتكاملة معًا كقراءات قداس الموعوظين من بولس وكاثوليكون وإبركسيس وفصل من الإنجيل…
[10] اللفظ اليوناني يحمل معنى كل فئات كل فئات المكرسين الدين يخدمون في الكنيسة من كهنة وشمامسة وشماسات ورهبان وعذارى وأرامل.
[11] راجع مقال 17: 36.
[12] تحدث أيضًا القديس أمبروسيوس في مز 119 عظة 10: 48 كيف يتظاهر البعض باعتناق المسيحية ويكون – للأسف – واقعهم الرغبة في التزوج مسيحية يرفض والدها أن يزوجها لوثني.
[13] راجع مقال 17: 36.
[14] يقول روفينوس في كتابه “شرح قانون الإيمان” عن غفران الخطايا أن الوثنيين يدعون إننا نخدع أنفسنا بالقول إن الخطايا تُغفر بالكلام، أي مجرد الإيمان الكلامي بالمسيح الفادي، مع أننا نؤكد أن إيماننا ليس كلامًا بل تصحبه إرادة عملية لعمل الله فينا وتجاوبنا معه.
[15] راجع مفهوم التلوات أو الصلوات القصيرة.
[16] أي التعاليم الدينية الشفهية التي تُلقى على طالبي العماد.
[17] ربما يقصد أن الإنسان في أثناء ترديد التلاوات أو الصلوات يغمض عينيه حتى لا ينشغل بشيءٍ مما حوله. ويرى البعض أن الموعوظ كان يستر وجهة أثناء التلاوة، ثم ينزع الغطاء إشارة إلى أن البرقع قد نُزع عن قلبه وذهنه ليدرك المفاهيم الروحية.
[18] الترجمة الحرفية “تماما”.
[19] كان ابيفانيوس وغيره من الآباء في القرن الرابع ينظرون إلى السامريين كمقاومين عُنفاء للمسيحية.
[20] أي الأمميين أي الوثنيين… وهنا الحرب ليست حربًا مادية بل حرب روحية أساسها أن يفند المسيحيون مقاومة المناقضين… وإنما نعرف بروح الكتاب وبروح الكنيسة ليس عملنا جرح مشاعر الناس ولا مهاجمتهم بل تقديم الإيمان السليم ومجاوبة الذين يسألوننا.
[21] التعاليم التي تقدم خلال الأربعين المقدسة، لا كعظات عادية، بل تعاليم منظمة مدروسة.
[22] الموعوظون الذين لم يقبلوا بعد كطالبي عماد.
[23] جاء في أغسطينوس 51:1 De symbol أن الموعوظين يحضرون أمام المجمع ويدخلون واحدًا فواحدًا، ليُصلى عليهم. هنا يظهر كيرلس أنه يليق بكل واحدٍ أن ينتظر إخوته.
[24] يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في مت عظة 74: 3 [يلزم أن يكون في داخلكم حائط يفصلكم عن النساء. ولكن إذ لا تريدون هذا، فكر الآباء في ضرورة فصلكم عن بعض على الأقل بهذه الحواجز “الخارجية”، إذ سمعت من آبائي أنه لم تكن توجد مثل هذه الحواجز في الأيام السابقة.]
هذه الحواجز التي يتحدث عنها القديس يوحنا الذهبي الفم والتي نراها في الكنائس الأثرية لم تكن موجودة في أورشليم حتى أيام كيرلس الاورشليمي كما نري من حدثيه المذكور.
[25] 1 صم 1: 13، 20 صموئيل أي سمع إيل، أي سمع الله.
[26] النص هو Christ bearing في الطبعة البندكتية “عندئذ تبتهجون بالمياه التي تحمل رائحة المسيح”.
[27] مقال 21: 1 “تكونون شركاء المسيح أنتم الذين بحق تدعون مسحاء”.
[28] مز 32: 1، لا زالت الكنيسة اليونانية تستخدم هذه التسبحة بعد العماد.
[29] يستخدم القديس باسيليوس الكبير نفس الكلمات والعبارات في مدح المعمودية، إذ يُحتمل أن يكون هو وغيره من الآباء قد اقتبسوها من القديس كيرلس الأورشليمي.
[30] أو” تنزل في الماء”
[31] جاءت الكلمة اليونانية في تث 13: 4 (الترجمة السبعينية) بمعنى “التصقوا به” وفي يش 23: 12، مز 112: 10 بان يقيم الإنسان قلبه عليه.
[32] يُشك في أن يكون القديس كيرلس الأورشليمي هو كاتب هذه الملاحظ
المقال الأول: اغتسلوا، تنقوا
“اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني…” (إش 1: 16)
1- السماء تفرح بكم!
يتوق تلاميذ العهد الجديد وشركاء أسرار المسيح أن يكون لهم قلب جديد وروح جديد، ليس بحكم عملهم بل وبالنعمة أيضًا، إذ تعم السعادة سكان السماء. لأنه إن كان كقول الإنجيل: “يكون هناك فرح من أجل خاطئ واحد يتوب” (لو 15: 7)، فكم بالأكثر يسعد سكان السماء بخلاص نفوس كثيرة؟! إذ كما لو كنتم داخلين ممرًا صالحًا مجيدًا، راكضين بوقار في جهادٍ وورعٍ.
إن ابن الله الوحيد حّال هنا، ومستعد على الدوام أن يخلصكم، قائلاً: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28).
يا لابسي ثوب المعاصي الدنس، أيها المقيّدون بحبال خطاياكم، أنصتوا إلى صوت النبي القائل: “اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني” (إش 1: 16)، فإن طغمات الملائكة تترنم بسببكم قائلة: “طوبى لمن غفر إثمه، وسُترت خطيته” (مز 32: 1).
يا من تضيئون مشاعل الإيمان، لا تسمحوا لها أن تنطفئ بين أيديكم حتى يهبكم – ذاك الذي قديمًا على جبل الجلجثة المقدس فتح باب الفردوس للص بسبب إيمانه – أن تسبحوا ترنيمة العرس.
2- اخلعوا الإنسان العتيق
إن كان بينكم من هو عبد للخطية، فليستعد بالإيمان استعدادًا تامًا للميلاد الجديد في الحرية والتبني. وبخلع عبوديته لخطاياه المرذولة وارتدائه عبوديته للرب المطوّبة، يصير أهلاً لميراث ملكوت السماوات.
اخلعوا “الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور” (أف 4: 22) بالاعتراف، حتى تلبسوا “الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 3: 10).
بالإيمان خذوا “عربون الروح القدس” (2 كو 1: 22) “لكي يقبلوكم في المظال الأبدية” (راجع لو 16: 9).
تعالوا لتنالوا الختم السري حتى يعرفكم السيد بسهولة، وتكونوا محصيين بين قطيع المسيح المقدس الروحاني، ويكون مكانكم عن يمينه، فترثوا الحياة المعدة لكم. أما هؤلاء اللابسون ثوب خطاياهم الدنس فيبقون عن يساره، إذ لم يقتربوا بالمسيح إلى نعمة الله في الميلاد الجديد بالمعمودية. وإنني لا أعني بالميلاد الجديد ميلادًا جسديًا، بل ميلادًا روحيًا جديدًا للنفس، فوالدانا المنظوران يلدوننا حسب الجسد، أما أرواحنا فتُولد ميلادًا جديدًا بالإيمان. إذ “الريح تهب حيث تشاء” (يو 3: 8).
عندئذ متى وُجدتم مستحقين، تسمعون الصوت القائل: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين” (مت 25: 21)، وذلك إن كان ضميركم غير ملوث بدنس الرياء.
3- اخلعوا الرياء
إن ظن أحد الحاضرين في نفسه أن يجرب الله، فإنه يخدع نفسه ولا يختبر قوة الله.
تحرر يا إنسانمن الرياء، وذلك من أجل فاحص القلوب والكُلى (مز 7: 9).
وكما أن الذين يتقدمون للحرب يفحصون أعمار المتقدمين للخدمة العسكرية ويختبرون لياقتهم البدنية، هكذا يختبر الرب نيّات الأرواح المجندة (ضد إبليس)، فإن وُجد في إحداها رياء خفيًا يطردها، إذ لا تصلح لخدمته الحقيقة، أما إن رأى من تستحق فإنه للحال يهبه نعمتها.
إنه لا يعطى القدس للكلاب (مت 7: 6)، لكن من رأى فيه ضميرًا صالحًا يهبه ختم الخلاص، الختم الذي يرعب الشياطين وتعرفه الملائكة، يهرب منه الأولون، ويتطلع إليه الآخرون كأقرباء… لذلك يليق بمن يتقبل هذا الختم الروحي المخلص أن تكون له الأخلاق اللائقة به. وكما أن القلم والسهم يحتجان إلى من يستخدمها، هكذا تحتاج الخدمة إلى أذهان مؤمنة تستخدمها.
4- تأمل عظمة المركز الجديد
إنك لا تتقبل درعًا فاسدًا، بل درعًا روحيًا!
منذ الآن تُزرع في فردوس غير منظور!
إنك تتسلم اسمًا جديدًا لم يكن لك من قبل، إذ كنت تُدعى موعوظًا، أما الآن فمؤمنًا!
من الآن فصاعدًا تُطعم في زيتونة روحية (رو 11: 24)، إذ قُطعت من الزيتونة البرية، وطُعِّمت في الزيتونة الجيدة. نُزعت من الخطايا إلى البرّ، ومن الأدناس إلى النقاوة.
ها أنت تصير شريكًا في الكرمة المقدسة! (يو 15: 1، 4، 5) حسنًا فإن ثبّت في الكرمة تنمو كغصنٍ مثمرٍ، وإن لم تثبت فيها تهلك بالنار.
إذن لتحمل ثمرًا باستحقاق! فلا يسمح الله أن يحل بك ما حلّ بشجرة التين العقيمة (مت 21: 19)، إذ لم يأتِ بعد المسيح (للدينونة)، ولا لعننا بسب عُقمنا.
لتكن لنا القدرة أن نقول: “أما أنا فمثل زيتونة مثمرة في بيت الله، توكلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد” (راجع مز 52: 8)، وهنا لا نفهم الزيتونة بمعناها المادي، بل نفهمها ذهنيًا بكمال النور.
فإن كان الله يزرع ويسقي[2]، فإنه يليق بك أن تأتي بثمار. الله يهب نعمته، وأنت من جانبك تتقبلها وتحافظ عليها.
لا تحتقر النعمة من أجل مجّانيتها بل اقبلها واكتنزها بورع.
5- جاهد لتنال أكثر
الآن وقت للاعتراف. اعترف بما تقترفه بالقول أو بالعمل، نهارًا وليلاً. اعترف في وقت مقبول وفي يوم خلاص (2 كو 6: 2)، فتتسلم الكنز السماوي.
كرِّس وقتك للتلاوات، واظب على التعليم، تذكر ما تتلقنه، لأن ما يُقال لك هو ليس لأذنك فحسب، إنما بالإيمان اختمه في ذاكرتك. أمحِ من ذهنك كل اهتمام أرضي[3]، فإنك تركض من أجل نفسك، إنك تطلب أمور العالم فقط، وهذه قليلة بينما يهبك الله الأمور العظيمة!
أطلب الأمور الحاضرة، لكن لتكن ثقتك في الأمور المقبلة. العلّك ركضت حلقات من السنين هذا عددها منهمكًا في العمليات الباطلة، ولا تتفرغ في الأربعين يومًا للصلاة[4] من أجل نفسك؟!
يقول الكتاب: “كفوا واعلموا أني أنا الله” (مز 46: 10).
اعف نفسك من التفوّه بكلمات كثيرة باطلة، وامتنع عن الوشايات، ولا تمل أذنك إلى النمامين، بل بالأحرى كن متأهبًا للصلاة، وليظهر قلبك متشددًا في التدبير النسكي.
نقِ كأسك لتقبل فيضًا أكثر من النعمة! حقًا إن غفران الخطايا يوهب للجميع بالتساوي، لكن شركة الروح القدس تُوهب حسب إيمان كل إنسانٍ. فإن كنت تعمل قليلاً تنال قليلاً، وإن كثيرًا تكسب مكافأة عظيمة. إذن اركض لأجل نفسك واهتم بها.
6- نصائح ووصايا
إن كان لك شيء على أحد أصفح عنه. فإذ تأتي هنا لنوال غفران خطاياك يلزمك أن تصفح لمن أخطأ ضدك. وإلا فبأي وجه تقول للرب: “اغفر لي خطاياي الكثيرة”، إن كنت لا تصفح عن أخطاء العبد رفيقك القليلة؟!
واظب على اجتماعات الكنيسة بنشاطٍ، ليس فقط في هذه الوقت حيث يطالبك الكهنة بالمثابرة على الحضور، بل وبعد أن تنال النعمة، لأنه إن كنت قبل نوالها تعمل عملاً صالحًا، أفما يليق بالأكثر بعد نوالها؟! إن كنت وأنت لم تُطعم بعد لك فرصة آمنة لكي تُسقى ويُعتنى بك، فكم بالأولى بعد تطعيمك؟!
صارع من أجل نفسك، خاصة في مثل هذه الأيام. أنعشها بالقراءات المقدسة، إذ يعد الرب لك مائدة روحية. عندئذ تقول مع المرتل: “الرب راعيّ فلا يعوزني شيء، في مراعٍ خضرٍ يربضني، إلى مياه الراحة يوردني، يرد نفسي” (مز 23: 1-3)، حتى الملائكة أيضًا تشاركك فرحتك، والمسيح نفسه رئيس الكهنة الأعظم إذ يتقبل صدق عزيمتك يُحضرك أمام الآب قائلاً: “ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله” (عب 2: 13؛ إش 8: 18).
ليحفظك الرب موضع سرور في عينه، هذا الذي له المجد والسلطان إلى دهر الدهور الأبدية. آمين
________________________________________
[2] يقول الرسول: “أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله ينمي” (1 كو 6: 3). نسب القديس كيرلس الغرس والسقي للَّه العامل الذي ينمى الزرع.
[3] الترجمة الحرفية “بشري”.
[4] محذوفة في بعض النسخ.
المقال الثاني: التوبة وغفران الخطية
“بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًا وعدلاً، فحياة يحيا لا يموت…” (حز 18: 20-23).
1- الخطية لهيب نار متقدة!
الخطية مرعبة للغاية، والعصيان مرض النفس الوبيل، إذ يشل طاقاتها خفية، ويجعلها مستحقة للنار الأبدية.
إن الشر الذي يختاره الإنسان بنفسه هو نتاج الإرادة، وتظهر إرادتنا الحرة في ارتكاب الخطية من قول النبي بوضوح: “وأنا قد غرستك كرمة مثمرة، شجرة كاملة، فكيف تحولتِ إلى شجرةٍ بريةٍ وكرمةٍ غريبةٍ؟!” (راجع إر 2: 21) كان الزرع جيدًا ولكن الثمر جاء رديئا! فالزارع بريء، وأمّا الشجرة فتُحرق بالنار، لأنها زُرعت جيدة وبإرادتها حملت ثمرًا رديئًا. وكما يقول المبشر: “الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا 7: 29). ويقول الرسول: “لأننا نحن عمله، مخلوقين… لأعمال صالحة وقد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف 2: 1-2). فالخالق صالح، خلقنا لأعمال صالحة، أما الخليقة فانحرفت إلى الشر بإرادتها الحرة.
إذن الخطية كما قلنا شر مرعب للغاية، لكنها ليست بالمرض المستعصى شفاءه. هي مرعبة لمن يلتصق بها، لكن من يتركها بالتوبة يُشفى منها بسهولة.
تصور إنسانًا يحمل نارًا في يديه، فإنه مادام يحمل الفحم يتأكد احتراقه، وإن ألقاها يلقى اللهيب أيضًا! لكن أن ظن أحد أنه لا يحترق إن أخطأ، فإن الكتاب المقدس يخبره قائلاً: “أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!” (أم 6: 27)
الخطية تحرق طاقات النفس (تكسر عظام الذهن الروحية، وتظلم نور القلب)[1].
2- اهتم بحياتك الداخلية!
قد يقول قائل: ماذا يمكن أن تكون الخطية؟ هل هي شيء؟ هل هي ملاك؟ هل هي شيطان؟ ما هذه التي تعمل في داخلنا؟ يا إنسان، إنها ليست عدوًا يحاربك من الخارج، بل هي برعم يبزغ في داخلك. (احفظ نفسك[2])، ولا تنشغل بأمر آخر، فستنتهي أعمال اللصوصية[3] (التي للخطية).
تذكر الدينونة، فلا يسيطر عليك الزنا ولا الدعارة ولا القتل ولا عصيان الشريعة، أما إن نسيت الله فالشر يراودك وترتكب المعصية.
3- الشيطان يخدعنا بأفكاره
لست وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف. إنه الشيطان الذي يقترح عليك الشر دون أن تكون له سيادة إلزامية على من يقبله. لذلك يقول المبشر: “إن صعدَت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك”[4].
أغلق بابك واطرده بعيدًا عنك، فلا يصنع بك سوءًا، أما إن قبلت فكر الشهوة بغير مبالاة، فستتغلغل جذوره فيك، ويُفتن ذهنك بحيله، ويهوي بك في هاوية الشرور.
قد تقول: أنا مؤمن، لا تقدر الشهوة أن تصعد إليّ حتى وإن فكرت فيها كثيرًا! أما تعلم أن جذع الشجرة بالمقاومة المستمرة يستطيع أن يحطم حتى الصخرة؟! فلا تسمح للبذرة أن توجد فيك حتى لا تمزق إيمانك وتحطمه. اقتلع الشر بجذره قبلما يزهر، لئلا بإهمالك في البداية تحتاج بعد ذلك إلى فؤوس ونار.
عالج عينيك في الوقت المناسب عندما يلتهبان، لئلا تصير أعمى، وتحتاج إلى طبيب!
4- الشيطان يجرف معه البشرية
الشيطان هو المصدر الأول للخطية وأب الأشرار.
هذا القول ليس من عندي، بل هو قول الرب. “لأن إبليس من البدء يخطئ” (1 يو 3: 8، يو 8: 44)، إذًا لم يخطئ أحد من قبله. لكنه لم يخطئ عن إلزام، كأن فيه نزوع طبيعي للخطية، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلى خالقه أيضًا، إنما هو خُلق صالحًا، وبإرادته الحرة صار إبليس، متقبلاً هذا الاسم من عمله.
كان رئيس ملائكة، لكنه دُعي “إبليس” بسبب أضاليله. كان خادم الله الصالح، وقد صار مدعوًا شيطانًا بحق، لأن كلمة “شيطان” معناها “خصم”.
هذا التعليم ليس من عندي، بل هو تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: “كنت خاتم صورة الله، وتاج البهاء، وُلدت في الفردوس” (راجع حز 28: 12-17). يعود فيقول بعد قليل: “عشت بلا عيب في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم”. إنه بحق يقول: “حتى وُجد فيك إثم”، إذ لم يُجلب عليه من الخارج، بل هو جلبه لنفسه.
وللتوّ أشار إلى السبب قائلاً: “قد ارتفع قلبك لجمالك بسبب كثرة خطاياك، طعنت فطرحت على الأرض”. هذا القول يتفق مع قول الرب في الإنجيل: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 10: 18). ها أنت ترى اتفاق العهدين القديم والجديد!
عندما طُرد سحب معه كثيرين، إذ يبث الشهوات فيمن ينصتون إليه. منه تنبع الدعارة والزنا وكل أنواع الشر. خلاله طُرد أبونا بسبب العصيان، وتحول عن الفردوس ذي الثمر العجيب إلى الأرض المنبتة شوكًا.
5- الرب يردنا ويخلصنا
ماذا إذن؟ قد يقول قائل: لقد سُلبنا وفُقدنا، أما من خلاص لنا؟! لقد سقطنا، أما يمكن أن نقوم؟! صرنا عُمى، أما يمكن أن نشفي؟ وفى كلمة، نحن أموات ألا يمكن أن نقوم؟! الذي أقام لعازر بعد موته بأربعة أيام ونتنه، ألا يقدر بالأكثر أن يقيمك يا إنسان وأنت حي؟!
ليتنا لا نستهين بأنفسنا يا إخوة! ليتنا لا نهجر أنفسنا، فنسلك في اليأس. إذ مخيف هو عدم الإيمان برجاء التوبة. لأن من لا يتطلع إلى (يرجو) الخلاص لا يكف عن أن يزيد الشر شرًا، أما من يترجى الشفاء بسهولة يقدر أن يعتني بنفسه.
اللص الذي لا يترجى العفو ييأس، أما من يرجوه فغالبًا ما يأتي إلى التوبة.
ماذا إذن؟! هل تنسلخ الأفعى عن جلدها، وأنت لا تخلع خطيتك؟!
إن كانت الأرض المملوءة شوكًا متي فُلحِّت جيدًا تصير خصبة، أفلا نترجّى نحن الخلاص؟
حاشا! بل بالأحرى طبيعتنا تربة صالحة للخلاص، إنما نحتاج إلى الإرادة!
6- لله يحبك!
الله محب البشر، لا يحبهم في مقاييس قليلة. لهذا لا تقل إنني ارتكبت الزنا والدعارة وفعلت خطايا فظيعة، ليس مرة بل مرات، فهل يغفر لي؟ هل يهبني عفوًا؟! اسمع ما يقوله المرتل: “ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك” (مز 31: 19)، فإن معاصيك المتراكمة لن تعلو مراحم الله الكثيرة. جراحاتك لن تغلب مهارة الطبيب الفائقة. سلِّم نفسك له بإيمان. أخبر الطبيب عن مرضك المزمن. قل أيضًا مثل داود: “قلت أعترف للرب بذنبي”، فيحدث معك ما قد حدث معه، فتقول للتو “أنت رفعت آثام خطيتي” (مز 32: 5).
7- أمثلة عن محبة الله لأناس ساقطين
يا من أتيت لسماع التعاليم متأخرًا، أتريد أن ترى محبة الله المترفقة؟ أتريد أن تنظر حنو الله وغنى طول أناته؟! اسمع ما حدث مع آدم.
آدم – أول خليقة الله البشرية – عصى الله، أما كان يمكن أن يُفرض عليه الموت فورًا؟! لكن أنظر ماذا فعل الله بالإنسان في محبته العظيمة؟ لقد طرده من الفردوس، إذ صار بالخطيئة غير مستحقٍ للعيش هناك، “وأقامه ليسكن مقابل الفردوس”[5] حتى متى تطلع إلى حيث سقط وتأمل ما كان عليه وما بلغ إليه، يخلص بالتوبة.
قايين أول مواليد البشر صار قاتلاً لأخيه، مخترعًا كل الشرور، وأول الحاسدين والقتلة. ومع هذا بماذا حكم الله عليه بعد أن أزال أخيه من الوجود؟ “تكون متنهدًا ومرتعبًا على الأرض” (راجع تك 4: 12). يالبشاعة الإثم، ويا لخفة الحكم!
8- وفي الطوفان
هذه الأمور تكشف عن محبة الله المترفقة الحقيقية، لكنها قليلة إن قورنت بما يلي ذلك: تأمل ما حدث في أيام نوح فإن الجبابرة أخطأوا، وانتشر على الأرض شر عظيم بسببه حدث الطوفان. بقى الله يهدد خمسمائه عامًا، وفي المئة السادسة جاء بالطوفان على الأرض.
تأمل مدى اتساع محبة الله المترفقة على مدى هذه المئات من السنوات! أما كان يمكنه أن ينفذ في الحال ما قد صنعه بعد انتظار مئات السنين! لكنه أمد في الزمن لكي يهبهم مهلة للتوبة فلو أنهم تابوا لما أخفقوا في التمتع بمحبة الله المترفقة.
9- ترفقه براحاب الزانية الوثنية
تعال معي الآن إلى فئة أخرى خلصت بالتوبة.
قد تقول امرأة ما: لقد ارتكبت الزنا والدعارة ودنست جسدي بكل أنواع الترف والإفراط فهل لي خلاص؟ حولي عينيك إلى راحاب، وتطلعي أيضًا إلى الخلاص. إن كانت زانية عامة تزني علنًا خلصت بالتوبة، أفما تخلص بالتوبة والصوم من سقطت في الزنا قبل قبولها النعمة؟!
اسألي كيف خلصت؟ إنها فقط قالت: “الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت” (يش 2: 1). إنها تقول: “إلهكم” دون أن تجسر لتنسبه لنفسها بسبب حياتها المملوءة ضلالاً. وإن أردتم التأكد من خلاصها بشهادة من الكتاب المقدس فإنك تجد في سفر المزامير: “أذكر راحاب وبابل بين الذين يعرفونني”[6] (مز 87: 4).
يا لعظمة حنو الله المترفق، فإن الكتاب المقدس يشير حتى إلى الزانيات. إنه لا يقول: “اذكر راحاب وبابل” فقط بل يكمل “بين الذين يعرفونني”، فالخلاص نبلغه بالتوبة سواء كنا رجالاً أو نساء على قدم المساواة.
10- أمثلة أخرى
لا، بل وإن أخطأ الشعب كله. فهذا ليس بكثير على حنو الله المترفق فقد صنع الشعب (القديم) عجلاً، ومع ذلك لم يكف عن محبته[7]. هم أنكروا الله، أما هو فلم ينكر نفسه…
ليس فقط الشعب، بل حتى هارون رئيس الكهنة أخطاء، إذ يقول موسى “وعلى هارون غضب الرب جدًا ليبيده فصليت أيضًا من أجل هارون في ذلك الوقت (فسامحه)”. ماذا إذن؟ يصلى موسى من أجل رئيس كهنة مخطئ فيغلب الله (بالمحبة) بينما لا تقبل شفاعة يسوع ابنه الوحيد عند الآب؟! إن كان هرون لم يُمنع من الكهنوت السامي بسبب عصيانه، فهل تمنع من الدخول إلى الخلاص يا من أتيتمن بين الأمم؟! فقط تب يا إنسان هكذا، فلا ترفضك النعمة!
عُد بلا خجل إلى طريقك الذي للحياة، فإن الله بحق محب للبشر، ولا تقدر كل الأزمنة[8] أن تخبر عن محبته المترفقة، بل وكل الألسنة إن اجتمعت معًا لا تستطيع أن تخبر بما يليق بها. وإنما نحن نخبركم قليلاً مما ورد بشأن محبته للبشر المتحننة…
11- ترفقه بداود الساقط
…تعال إلى داود الطوباوي واقبله مثالاً للتوبة. فبقدر ما كان عظيمًا سقط. إذ قام من نومه وأخذ يتمشى على السطح في المساء، تاركًا لنفسه أن ينظر بغير حرصٍ، فشعر بشهوة بشرية. لقد أكمل خطيته لكنه لم يمت بسببها، وذلك بسبب صراحته في الاعتراف بها، عندما جاءه ناثان النبي كمتهم مفاجئ له ليشفي جرحه. إنه يقول له بأن الرب غاضب وأنت تخطيء.
لقد عُرض الأمر على الملك الحاكم، فلم يتهاون داود الملك، إذ لم يهتم بمن يكلمه بل بالله الذي أرسله. إنه لم يتعجرف بحشود الجند المحيطين به، لأنه تطلع إلى جنود الرب الملائكية. لقد ارتعب إذ رأى من لا يُرى (عب 11: 7). لهذا قال للرسول بل بالأحري أجاب الرب مرسله قائلاً: “أخطأت إلى الرب” (1 صم 12: 13).
أنظر إلى تواضع الملك! تأمل اعترافه… لقد حدث كل شيء على وجه السرعة، فما أن ظهر النبي كمتهم حتى أعترف الخاطئ بخطيئته، وإذ أسرع بالاعتراف نال الشفاء بأقصى سرعة! فناثان الذي هدد هو بنفسه نطق للحال: “الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك”. يا لعظمة رقة مراحم الله!…
12- هكذا إذن أراحه النبي، لكن الطوباوي داود إذ سمعه يقول: “الرب قد نقل عنك خطيتك”، لم يكف عن التوبة. ومع أنه كان ملكًا، لبس المسموح عوض الأرجوان، وجلس في الرماد عوض التاج الملكي… لا بل جعل الرماد طعامه، قائلاً: “إني قد أكلت الرمادمثل الخبز” (مز 102: 10). لقد غسل عينيه الشهوانيتين بالدموع قائلاً: “أعوِّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي” (مز 102: 7).
وعندما سأله موظفوه أن يأكل خبزًا لم يسمع لهم، بل بقي صائمًا سبعة أيام كاملة.
إن كان الملك قد اعترف هكذا، أفما يليق بك أيها الشخص العادي أن تعترف؟
أيضًا عند عصيان أبشالوم عليه كان أمامه طرق كثيرة للهروب، أما هو فاختار الهروب خلال جبل الزيتون (2 صم 15: 23)، وكأنه يناشد المخلص إذ من هناك صعد الرب إلى السماوات. وعندما لعنه شخص بمرارة قال “دعوه” (2 صم 16: 10)، عالما أن من يغفر يُغفر له!
13- رحمته مع سليمان وآخاب ملك السامرة
لقد رأيت نفع الاعتراف. لقد أدركت كيف يوجد خلاص للتائبين. سليمان أيضًا سقط، لكنه قال: “إني تُبت”[9].
أيضًا أخآب ملك السامرة، صار أشر عبدة الأوثان. صار إنسانًا وحشيًا قاتلاً للأنبياء[10]، غريبًا عن الصلاح، مغتصبًا حقوق الآخرين وكرومهم (1 مل 21: 19). لكنه عندما قتل نابال مخدوعًا من إيزابيل وجاءه إيليا النبي يهدده خلع ثيابه ولبس المسوح، فماذا قال الله الرحوم لإيليا؟ “هل رأيت كيف أتَّضَع (نُخس في قلبه) أخآب أمامي”؟ (1 مل 21: 29) وكان الله يريد أن يهدئ غيرة إيليا المتقدة من جهة التائب ويلطفها، إذ قال له: “لا أجلب الشر في أيامه”.
ومع تأكده أنه لا يترك شره سامحه، ليس جهلاً بما سيكون عليه في المستقبل، بل كواهبٍ للغفران حسب التوبة المقدمة في ذلك الوقت. فإن عدل الله يقتضيه أن يحكم في كل قضية حسبما هي عليه في حينها.
14- ومع بربعام
وأيضًا يربعام كان قائمًا عند المذبح يقدم ضحايا للأوثان، يده ملطخة بالدماء، هذا عندما قبض علي النبي الذي وبخه، بخبرته أدرك قوة الواقف أمامه، فقال له: “تضرع إلى وجه الرب إلهك” (1 مل 13: 6) وبسبب هذا القول رجعت يده مرة أخرى كما كانت.
إن كان النبي شفي يربعام، أفما يستطيع المسيح أن يشفيك وينقذك من خطاياك؟!
15- ومع منسى
وأيضًا منسى كان شريرًا إلى أبعد حد. لقد نشر إشعياء ومزقه، وتدنس بكل العبادات الوثنية، ولطخ أورشليم بدم الأبرياء، لكنه عندما أُسر استخدم خبرته في محنته مستعينًا بالتوبة كعلاج، إذ يقول الكتاب عنه أنه “تواضع جدًا أمام الرب، وصلى إليه، فاستجاب له، ورده إلي مملكته” (إش 38: 1). فإن كانت التوبة قد أنقذت من نشر النبي ومزقه، أفما تخلصك أنت يا من لم ترتكب مثل هذا الشر العظيم؟!
16- ومع حزقيا
أتريد أن تعرف ما هي قوة التوبة؟
أتريد أن تعلم سلاح الخلاص القوي وتدرك قوة الاعتراف؟
حزقيا بالاعتراف ضرب خمسة وثمانين ألفًا ومائة من أعدائه. يا له من أمر عظيم، لكنه يحسب قليلاً بالنسبة لما أذكره لك. إذ بالتوبة استطاع الملك أن يحصل على تغيير في القول الإلهي الذي نطق به فعلاً. إذ لما مرض قال له إشعياء: “أوصِ بيتك، لأنك تموت ولا تعيش”. هل يمكن أن يقوم استثناء بعد، أو يوجد رجاء شفاء بعدما قال له النبي: “لأنك تموت”؟!
لكن حزقيا لم يكف عن التوبة. وبتذكرهما هو مكتوب: “متى رجعت وبكيت تخلص” (راجع إش 30: 15)، اتجه بوجهه إلى الحائط وهو على سريره، رافعًا ذهنه إلى السماء (حيث لا تعوق الحائط بلوغ الصلوات بورعٍ إلى السماء) وقال: “أذكرني يا رب. يكفي أن تذكرني فأشفي!” (راجع إشعياء 38)
إنك لا تخضع للزمان، بل أنت خالق القانون. أنت واهب قانون الحياة وتدبيرها حسب إرادتك، إذ لا تعتمد حياتنا على يوم ميلادنا، ولا على اقتران النجوم معًا في برجٍ واحد كما يظن البعض في غباوة.
ذاك الذي كان يمكنه إلاّ يرجو الحياة بسبب العبارة النبوية، صار له خمسة عشر عامًا مضافة إلى حياته، وكانت العلامة أن الشمس رجعت إلى خلف عشر درجات.
حسنًا! من أجل حزقيا رجعت، وأمّا من أجل المسيح انكسفت. لم ترجع درجات بل انكسفت معلنة بذلك الفارق بين حزقيا ويسوع!
الأول أبطل قرار الله (بالتوبة)، أفما يقدر يسوع على غفران الخطايا؟!
أرجعوا ونوحوا على أنفسكم! أغلقوا أبوابكم وصلوا لكي يغفر لكم!
صلوا لكي ينزع عنكم النار المحرقة، لأن له السلطان أن يطفئ حتى النار، وله قوة أن يبكم حتى الأسود!
17- مع حنانيا وصاحبيه
لكنك إن كنت لا تؤمن بهذا، فتأمل ما حدث مع حنانيا وصاحبيه، أي عواصف اطفأوها[11]؟! كم من مياه كانت تحتاج إليها النار لإطفاء لهيبها الذي ارتفع تسعة وأربعين ذراعًا إلى فوق[12]؟! فإذا ارتفع اللهب قليلاً[13] إلى العُلى، تدفق عليها الإيمان، إذ تكلموا ضد كل الشرور[14]. إذن توبتهم أطفأت اللهب[15].
إن كنت لا تؤمن بقدرة التوبة على إطفاء نار جهنم فلتتعلم هذا من حنانيا.
لكن قد يقول أحد السامعين الحاذقين: هؤلاء الفتية خلصهم الله بعدل، إذ هم رفضوا الاشتراك في عبادة الأصنام فوهبهم الله هذا السلطان. إذ يثور هذا الفكر فإنني أقدم مثلاً آخر بخصوص التوبة[16]
18- ماذا تظن في نبوخذ نصر؟
ألم تسمع عنه في الكتاب المقدس كيف كان متعطشًا لسفك الدماء، وحشًا كالأسد[17]؟! ألم تسمع عنه أنه أخرج إلى النور عظام الملوك من قبورهم (إر 8: 1، با 2: 25). ألم تسمع[18] أنه حمل الشعب إلى السبي؟ ألم تسمع أنه خلع عيني الملك بعدما أراه أولاده يذبحون؟! (2 مل 25: 7)
ألم تسمع أنه كسر الشاروبيم إلى أجزاء؟! لست اقصد الشاروبيم غير المنظورين[19] – هذا ما لا يخطر على الفكر قط يا إنسان[20]- بل الصورتين المنحوتتين على غطاء التابوت الذي في وسطه يتكلم الله بصوته[21]، كما داس تحت قدميه حجاب القدس[22]، وأخذ مذبح البخور وحمله إلى مذبح الأوثان؟! (2 أي 26: 7) أخذ كل التقدمات، والهيكل حرقه من أساساته![23]
أية عقوبة شديدة يستحقها هذا من أجل ذبحه الملوك وحرقه القدس وسبيه الناس وحمله الأواني المقدسة إلى بيت الأوثان؟! أما يستحق الموت عشرات الألوف؟!
19- لقد رأيت تفاقم شروره! تعال لترى محبة الله الحانية! لقد تحول إلى وحش بري[24]، وتأدب بالسكنى في البرية لكي يخلص. لقد صارت له مخالب كالأسد[25]، إذ كان زائرًا علي القدس. أكل العشب كالثور، إذ كان بهيمي لا يعرف من الذي أعطاه المملكة. تبلل جسده بالندي، لأنه رأى النار تنطفئ بالندي ولم يؤمن[26].
وماذا حدث؟ يقول[27]: “بعد هذا أنا نبوخذ نصر رفعت عيني إلى السماء… وباركت العلي، وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد” (دا 4: 34).
إذ عرف العلي[28] نطق بالحمد لله، وتاب عن فعله. لقد عرف ضعفه فأعاده الله إلى كرامة ملكه.
20- ماذا إذن؟[29] هل عندما اعترف نبوخذنصر الذي فعل كل هذه الأعمال ردّه إلى الملك وغفر له، وأنت عندما تتوب إلاّ يهبك مغفرة الخطايا وملكوت السماوات متي عشت في حياة بلا لوم؟!
الرب محب للبشر، مسرع إلى المغفرة، لكنه يظهر العقوبة (التأديب)! إذن ليته لا ييأس أحد من خلاصه.
فبطرس الرسول[30] أنكر الرب ثلاث مرات، لكنه تاب وبكي بمرارة. بالبكاء تطهر قلبه، فلم ينل فقط المغفرة عن إنكاره، بل وعاد إلى كرامة الرسولية كما كان.
خاتمة
إذ قدمت لكم يا إخوة أمثلة كثيرة لأناس أخطأوا وتابوا وخلصوا، فهل تعترفون أنتم أيضًا من قلوبكم للرب، حتى يجعلكم مستحقين للعطية السمائية وميراث ملكوت السماوات مع كل القديسين في المسيح يسوع الذي له المجد إلى أبد الأبد، آمين[31].
________________________________________
[1] هذه العبارة محذوفة من النسختين البندكتية، وال Milles لكنها وردت في الطبعات الحديثة الدقيقة.
[2] هذه العبارة حذفت في الطبعات الحديثة الدقيقة.
[3] لعله يقصد إلا ننشغل بالخطية كأمرٍ خارجيٍ، بل نهتم بحياتنا الداخلية فلا تسرق الخطية قلبنا.
[4] جا 10: 4. راجع أيضا أف 2: 7. “ولا تعطوا إبليس مكانا”.
[5] الترجمة السبعينية بدلاً من القول: “وأقامه شرق جنة عدن”.
[6] في الطابعة البيروتية “راحاب وبابل اللتين تعرفانني”.
[7] لقد أطال الله أناته كثيرًا على الشعب اليهودي بالرغم من قسوة قلوبهم حتى انتهي الأمر برفضهم للمسيح وصلبه، فصار دمه عليهم، وترك بيتهم خرابًا، ًونزع عنهم سمة “شعب الله”، وفقدوا في نظر الله اسم “إسرائيل” روحيًا، ولم يعودوا أبناء إبراهيم بالروح.
[8] الطبعة البندكتية: “لا تقدر كل البشرية أن تخبر…”
[9] راجع أم 24: 32. الترجمة السبعينية. يرى القديس هيلاري أسقف بواتييه (مز12)، وأمبروسيوس ( دفاعه 1) وآباء آخرون أن سليمان قد تاب، بينما يقول أغسطينوس إن الكتاب المقدس لم يذكر شيئًا عن توبته (راجع كتابنا عن تفسير سفر الحكمة، ص 7).
[10] 1 مل 21: 4. Dantè L’ Aradise Canto 10: 109
[11] تضيف طبعة Roe & Casauban عبارة “في أتون النار”.
[12] تسبحة الثلاثة فتية.
[13] طبعة R. & C. “كثيرًا”.
[14] تسبحة الثلاثة فتية وقد جاءت في طابعة R. & C. “ينابيع التوبة العظيمة قد تدفقت عليهم فقالوا…”
[15] جاء في الطبعة المذكورة “إذن التوبة تطفئ لهيب الأتون، افما تؤمن إنها قادرة أيضًا على إطفاء نار جهنم؟!”.
[16] جاء في الطبعة المذكورة (إذ هذه القصة لا تتناسب مع الحاضرين، لذلك لأن حنانيا وصاحباه رفضوا عبادة الأوثان، فوهبهم الله سلطانًا عجيبًا)، لذلك أخذت على عاتقي أن أقدم مثلاً آخر نظرا لوجود أمثلة كثيرة…
[17] جاء في الطبعة المذكورة (قاسيًا متوحشًا في طبعه).
[18] جاء في الطبعة المذكورة R. & C. ( أما تعلم…).
[19] جاء في الطبعة المذكورة (السمائين)
[20] محذوفة من الطبعة R. & C.
[21] راجع خر 37: 7 الخ…، 1مل 6: 23-26، 8: 6، 7، 2مل 24: 13.
[22] الكلمة اليوناني تعني “القداسة”.
[23] جاء في طبعة R. & C. (حجاب الهيكل مزقه، وعاد إلى المذبح وحمل الأواني إلى هيكل أوثان، والهيكل نفسه حرقه).
[24] جاء في طبعة R. & C. (بعد هذا تحول إلى وحش مفترس هذا الذي كان في تصرفاته كوحش بري. تحول إلى وحش لا لكي يهلك بل لكي بالتوبة يخلص).
[25] الطبعة المذكورة ( كالطيور ) راجع دا 4: 33.
[26] الطبعة المذكورة (لأنه رأى حنانيا وأخويه في أتون النار كمن يسمعون صوت الندى ولم يؤمن!).
[27] الطبعة المذكورة “بعد هذا عاد إلى عقله وتاب ثم قال بنفسه…”.
[28] الطبعة المذكورة جاءت بأكثر توسع.
[29] الطبعة المذكورة جاءت بأكثر توسع.
[30] الطبعات الكاثوليكية جاءت “رئيس الرسل وأولهم “.
[31] الطبعة R. & C. جاءت بأكثر توسع.
المقال الثالث: في العماد
“أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت…” (رو6: 3-4).
1- السماوات تفرح لاتحادكم بالعريس
“لتفرح السماوات ولتبتهج الأرض” (مز 96: 11) من أجل أولئك الذين يُنضحون بالزوفا[1]، ويتطهرون بزوفا روحي[2] هو قوة ذاك الذي في آلامه قُدم له أن يشرب من زوفا وقصبة[3].
فإذ تفرح القوات السمائية، ليته تستعد هذه النفوس التي تتحد مع العريس الروحي، فتسمع صوتًا صارخًا في البرية: “أعدوا طريق الرب” (إش 40: 3).
إنه ليس أمرًا بسيطًا ولا شيئًا هينًا ولا اتحادًا حسب الجسد، بل هو اختيار الإيمان يقوم به الروح القدس فاحص الكل (1 كو 2: 20).
إنه حيث توجد ثروة أو جمال يوافق العريس بسرعة، أما هنا فلا يطلب (العريس) جمال الإنسان بل نقاوة ضمير النفس. إنه لا يسعى إلى ماله بل ثروة النفس في الصلاح.
2- أعدوا طريق الرب
يا أبناء البرَ، أنصتوا إلى نصيحة يوحنا، القائل: “اصنعوا طريق الرب مستقيمًا” (يو 1: 23).انزعوا العقبات وكل حجر عثرة لكي تسيروا تجاه الحياة الأبدية باستقامة.
لتكن أواني النفس مستعدة، مطهرة بإيمان ثابت، لكي تتقبل الروح القدس. ابدأوا فورًا في غسل ثيابكم بالتوبة، حتى متى دعيتم إلى حجال العريس يجدكم أنقياء.
حقًا إن العريس يدعو الجميع بغير تمييز، لأن نعمته غنية، وصوت الرسل يعلو صارخًا لكي يجمع الكل. لكن العريس نفسه يقوم بفرز من دخلوا معه في علاقة زوجية رمزية.
آه ليته لا يسمع أحد ممن سُجلت أسماؤهم هذه الكلمات: “يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟” (مت 22: 12).
ليتنا نسمع جميعًا: “نعمًا أيها العبد الصالح الأمين، كنت أمينَا في القليل، فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 23).
فإذ أنتم الآن جالسون خارج الباب، يهبكم الرب أن تقولوا: “أدخلني الملك إلى حجاله” (نش 1: 4)، “لتبتهج نفسي بالرب، لأنه قد ألبسني ثوب الخلاص. كساني رداء البهجة. توجني بعمامة[4]garland كعريس، وزينتني بحلي كعروس” (راجع إش 61: 10)، وبهذا تكون نفوسكم بلا دنس ولا شيء من هذا القبيل.
لست أقصد أن يكون لكم هذا قبل نوالكم النعمة، إذ كيف يمكن أن يتحقق هذا؟! إذ أنتم مدعوّون لنوال غفران الخطايا! لكن حين توهبون النعمة يكون ضميركم غير ملوم، منسجمًا مع النعمة.
3- استعدوا للنعمة العظيمة
يا إخوة، حقًا أنها العماد أمر خطير، يليق بكم أن تقتربوا إليه بكل اهتمام صالح.
لقد اقترب وقت امتثال كل واحد منكم في حضرة الرب أمام عشرات الألوف من الأجناد الملائكية، والروح القدس يختم نفوسكم.
إنكم تسجلون في جيش ملكٍ عظيمٍ. لذلك تزٌودوا بارتدائكم ليس لباسًا لامعًا، بل ورع النفس بضمير صالح. لا تنظروا إلى الجرن كماء بسيط، بل بالأحرى تطلعوا إلى النعمة الروحية التي توهب مع الماء.
فكما أن التقدمات التي ترفع على مذابح الأوثان تتدنس بتكريسها للأصنام بالرغم من كونها بسيطة في طبيعتها، هكذا على النقيض يحمل الماء البسيط قوة جديدة للقداسة بتكريس الروح القدس والمسيح والآب.
4- تقدسوا بالماء والروح
للإنسان طبيعة ذات جانبين هما النفس والجسد، هكذا تحمل التنقية جانبين: جانب غير مادي من أجل ما هو غير مادي (النفس)، وجانب جسداني من أجل الجسد. الماء ينظف الجسد، والروح يختم النفس. بهذا تقترب إلى الله بقلب مرشوش بالروح، وجسد مغتسل بالماء (عب 10: 22). إذن عندما تنزلون في الماء لا تفكروا في المادة المجردة، بل تطلوا إلى الخلاص بقوة الروح القدس. لأن بدونهما – كلاهما – لا يمكن أن تصيروا كاملين.
وما أقوله هذا ليس من عندي، إنما هو كلام الرب يسوع صاحب السلطان في هذا الأمر. إنه يقول: “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (راجع يو 3: 3). فمن يعتمد بالماء ولا يكون متأهلاً للروح (بسبب سوء نيته) لا يتقبل نعمة الكمال، كذلك إن كان فاضلاً في أعماله ولم يتقبل الختم بالماء لا يدخل ملكوت السماوات.
هذا القول فيه جسارة، لكنه ليس مني، بل أعلنه يسوع. وفيما يلي برهان على ذلك بشهادات من الكتاب المقدس. كان كرنيليوس إنسانًا بارًا، تكرم برؤية ملائكة، وصعدت صلواته وصدقاته تذكارًا صالحًا أمام الله في السماء. جاءه بطرس وانسكب الروح القدس على المؤمنين، وتكلموا بألسنة وتنبأوا، وبعد نعمة الروح يقول الكتاب إن بطرس أمرهم أن يعتمدوا باسم يسوع المسيح (راجع أع 10: 48) حتى تولد النفس مرة أخرى بالإيمان، ويكون للجسد شركة في النعمة بواسطة الماء.
5- لماذا اختار الماء للعماد؟
إن أراد أحد أن يعرف سبب إعطاء النعمة بواسطة الماء دون سواه، فليتعلم هذا من الكتاب المقدس. الماء شيء عظيم، وهو ألطف العناصر المنظورة التي يتكون منها العالم… فقبل الأيام الست التي فيها تكونت الأشياء كان “روح الله يرف على وجه المياه” (تك 1: 2). الماء هو بدء العالم، كما أن الأردن هو بداية بشارة الإنجيل.
خلاص إسرائيل [5]من فرعون كان خلال البحر، وخلاص العالم من الخطيئة يتم بغسل الماء بكلمة الله (أف 5: 26). وحيث يقطع عهد يكون الماء أيضًا. فبعد الطوفان قطع عهد مع نوح، ومن جبل سيناء كان هناك عهد بماء وصوفًا قرمزيًا وزوفا (عب 9: 19)…
إيليا صعد بوجود الماء، إذ عبر أولاً على الأردن وبعد ذلك ارتفع في مركبة إلى السماء.
رئيس الكهنة كان يلزمه أن يغتسل قبل أن يقدم بخورًا، إذ اغتسل هارون وبعد ذلك صار رئيس كهنة، لأنه كيف يقدر أن يصلي عن الآخرين من لم يتطهر بالماء؟!
كذلك كانت توجد مرحضة في خيمة الاجتماع تشير إلى المعمودية.
6- العماد خاتمة العهد القديم وبداية الجديد
العماد هو خاتمة العهد القديم وبداية العهد الجديد، إذ قام به يوحنا الذي ليس من بين مواليد النساء من هو أعظم منه. إنه نهاية الأنبياء “لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا” (مت 11: 13). وهو بكر ثمار الإنجيل إذ قيل: “بدء إنجيل يسوع المسيح… كان يوحنا يعمد في البرية” (مر 1: 41).
قد تشير إلى إيليا التسبيتي الذي أُخذ إلى السماء، لكنه مع هذا ليس أعظم من يوحنا.
أخنوخ انتقل، ومع ذلك ليس أعظم من يوحنا.
موسى مستلم الشريعة العظيم جدًا، وكل الأنبياء نُعجب بهم لكنهم ليسوا أعظم من يوحنا. إنني لست أتجاسر فأقارن بين الأنبياء بالأنبياء، لكن سيدهم وسيدنا، الرب يسوع، أعلن ذلك قائلاً: “الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا” (مت 11: 11). إنه لم يقل “بين المولودين من العذارى”، بل “بين المولدين من النساء”. فالمقارنة هنا بين الخادم العظيم وزملائه من الخدام، أما سموّ الابن ونعمته فيفوقان كل مقارنة…
انظر كيف اختار الله إنسانًا عظيمًا كأول خادم للنعمة؟! اختار إنسانًا لا يملك شيئًا، محبًا للبرية، لكنه غير مبغض للبشرية. يأكل الجراد وتطير نفسه تجاه السماويات. يقتات بالعسل، ويتحدث عن أمورٍ أحلى من العسل وأقْيَم منه، يلبس ثوبًا من وبر الإبل، مقدمًا نفسه مثالاً للحياة النسكية. تقدَّس بالروح وهو بعد محمول في أحشاء أمه!
إرميا تقدس، لكنه لم يتنبأ وهو في الرحم (إر 1: 5)، إنما يوحنا وحده الذي ركض بابتهاج وهو محمول في الرحم (لو 1: 44). ومع أنه لم يرَ سيده بعينيه الجسديتين لكنه عرفه بالروح. فإذ كانت نعمة العماد عظيمة لهذا تطلَّبت أن يكون موجدها عظيمًا أيضًا.
7- اعترفوا بخطاياكم
كان هذا الرجل يعمد في الأردن فخرجت كل أورشليم (مت 3: 5) لتتمتع ببكورات العماد، إذ يوهب لأورشليم امتياز في كل عملٍ صالحٍ.
تعلموا يا سكان أورشليم كيف كان يعمد الخارجين إليه، “المعترفين بخطاياهم” (مت 3: 6). لقد كانوا يكشفون له جراحاتهم، ويقدم لهم العلاج، فيخلص الذين يؤمنون من النار الأبدية.
وإن أردت فحص هذه النقطة، أي أن عماد يوحنا يخلصهم من التهديد بالنار، اسمعوا قوله: “يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي” (مت 3: 7). لا تكن بعد أفعى. فإذ لك جلد أفعى قديم، أي حياتك الماضية، اخلعه عنك. لأن كل أفعى تزحف في جحر وتتخلص من جلدها القديم، وبهذا يتجدد شباب جسدها. هكذا ادخل أنت أيضًا من الطريق الكرب الضيق (مت 7: 13-14)، واخلع القديم بالأصوام، واترك ذاك الذي يهلكك. اخلع الإنسان العتيق مع أعماله (كو 3: 9.). وقل مع نشيد الأناشيد: “قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟!”[6].
لكن ربما يكون فيكم مرائي أو من يحب إرضاء الناس، ومن يتظاهر بالتقوى دون أن يكون له إيمان القلب، فيكون له رياء سيمون الساحر، فيأتي لا ليتقبل النعمة بل ليتجسس على ما يُعطى هنا. ليته يتعلم أيضًا من يوحنا “الآن قد وُضعت الفأس علي أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقطع وتلقى في النار” (مت 3: 10).
إن الديّان لا يتهاون، اخلع عنك الرياء!
8- ثمار التوبة العملية
إذن ماذا يليق بكم أن تفعلوا؟! وما هي ثمار التوبة؟ “من له ثوبان فليعطِ من ليس له” (لو 3: 11).
المعلم بهذا مستحق للثناء، إذ مارس بنفسه ما علَّم به. لهذا لم يخجل من أن ينطق بهذا، إذ ضميره لم يخالف لسانه.
“ومن له طعام فليفعل هكذا”. أتريد أن تتمتع بنعمة الروح القدس، ومع ذلك تحكم بأن الفقير غير مستحق للطعام المادي؟! أتطلب الخيرات العظيمة وأنت لا تجود بالخيرات البسيطة؟!
حتى إن كنت عشارًا أو زانيًا ترجَ الخلاص، فإن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله (مت 21: 31). لقد شهد بولس بذلك قائلاً: “لا زناة ولا فاسقون… يرثون ملكوت الله، وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم” (1 كو 6: 9-11). إنه لم يقل “هكذا فيكم أناس” بل “كان أناس منكم”. إذ الخطية المرتكبة بجهل يُعفي عنها، أما عناد الشرير فيُدان عنه.
9- يا لعظمة المسيح واهب العماد
إن كان لكم الابن نفسه، ابن الله الوحيد، كمجد العماد فلماذا أتكلم بعد عن إنسان؟! حقًا كان يوحنا عظيمًا، لكن ماذا يكون يوحنا بجانب الرب؟! إنه صوت صارخ، لكن ماذا يكون إن قورن الصوت بالكلمة؟! هذا الرسول نبيل جدًا، لكن ماذا يحسب إن قورن بالملك؟!
نبيل هو هذا الذي عمد بماء، لكن ماذا يكون إن قورن بالذي يعمد بالروح القدس ونار؟! (مت 3: 11) إذ عمد المخلص الرسل بالروح القدس ونار عندما “صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحدٍ منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع 2: 2-4).
10- معمودية الدم
من لا ينال المعمودية لا يتمتع بالخلاص، اللهم إلا الشهداء الذين يتقبلون الملكوت حتى بدون ماء. لأنه عندما طُعن المخلص في جنبه لخلاص العالم بصليبه أفاض دمًا وماء، لكي يتعمد من هم في زمن السلم بالماء، ومن هم في وقت الاستشهاد بدمهم.
اعتاد الرب أن يدعو الاستشهاد عمادًا قائلاً: “أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا، وأن تعتمدان (تصطبغان) بالمعمودية (الصبغة) التي اعتمد بها أنا؟! (مر 10: 38)…
11- في المعمودية رضض الرب رؤوس الشيطان
لقد قدس يسوع المعمودية باعتماده بنفسه. إن كان ابن الله قد اعتمد فكيف يمكن أن يكون ورعًا من يحتقر العماد؟!
إنه لم يعتمد لينال غفران خطايا، إذ هو بلا خطيته. لكنه إذ هو هكذا بلا خطية اعتمد ليهب المعمَّدين نعمة سماوية علوية. “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما” (عب 2: 14)، حتى إذ تشاركنا بحضوره في الجسد نصير شركاء معه في نعمته الإلهية. هكذا اعتمد يسوع لكي بشركتنا معه نتقبل الخلاص والكرامة.
جاء في أيوب أنه كان في المياه الوحش الذي “اندفق الأردن في فمه” (أي 40: 23)، وكان يلزم تحطيم رؤوسه (مز 74: 14)، لهذا نزل (السيد) وربط القوي في المياه، حتى نال قوة فيها إذ يكون لنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19).
كان الوحش عظيمًا ومرعبًا، لا يقدر أي قارب صيد أن يقاوم ضربة واحدة من ذيله[7]، ثائرًا على كل من يلتقي به. لقد نزل “الحياة” إليه ليلتقي معه، فيسد فم الموت هناك، عندئذ إذ نخلص نقول: “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا قبر؟!” (راجع 1 كو 10: 55) لقد نُزعت شوكة الموت بالعماد.
12- بالمعمودية ندفن ونقوم في برّ
إنكم تدخلون المياه حاملين خطاياكم، وبابتهال النعمة التي تختم نفوسكم لا يعود يبتلعكم الوحش المرعب.
إذ تنزلون أمواتًا في الخطايا تصعدون أحياء في البرّ. فان كنتم قد صرتم متّحدين مع المخلص بشبه موته تصيرون جديرين أيضًا بقيامته (رو 6: 5). لأنه كما حمل يسوع خطايا العالم ومات، حتى بإماتته الخطية نقوم في برٍّ، هكذا بنزولكم في الماء إذ تُدفنون فيه، كما دُفن هو في الصخرة، تقومون أيضًا سالكين في جدة الحياة (رو 6: 4).
13- بالمعمودية ننال سلطانًا لمقاومة إبليس
أضف إلى هذا، أنكم إذ تتأهلون للنعمة يهبكم سلطانًا لمحاربة القوات المضادة. فكما جُرب أربعين يومًا بعد عماده، لا لأنه كان عاجزًا عن نوال النصرة قبل ذلك، بل أراد أن يفعل كل شيءٍ بترتيبٍ حسنٍ وتدبيرٍ صالحٍ، هكذا أنتم أيضًا على نفس المثال بعد نوالكم النعمة تصيرون واثقين في سلاح البرّ (2 كو 6: 7)، فتدخلون المعركة وتكرزون بالإنجيل إن أردتم، أنتم الذين كنتم قبل العماد لا تتجاسرون على الصراع مع المقاومين (الشياطين).
14- بالمعمودية ننال التبني
يسوع المسيح هو ابن الله، ومع هذا لم يكرز قبل العماد بالإنجيل (الذي جوهره هو التمتع بالتبني لله خلال السيد المسيح).
إن كان السيد نفسه قد اتبع هذا الوقت المناسب اللائق، فهل يجوز لنا نحن خدامه أن نخالفه النظام؟! إذ “من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز” عندما “نزل عليه الروح القدس بهيئة جسيمة مثل حمامة” (مت 4: 17؛ لو 3: 22) لا لكي يراه يسوع فيعرفه، إذ هو يعرفه قبلما يأتي عليه على هيئة جسيمة، إنما لكي يراه يوحنا الذي يعمده إذ يقول: “لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس” (يو 1: 23).
إن كنت أنت أيضًا تحمل درعًا قويًا، فإن الروح القدس يحل عليك، والآب يكلمك من فوق من الأعالي ليس قائلاً: “هذا هو ابني” بل “الآن صرت ابني”، لأن فعل المضارع في “هذا يكون ابني” يخص الابن وحده الذي “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله” (يو 1: 1)، فهو وحده الذي يقال له: “هو يكون ابني” إذ هو على الدوام ابن الله. أما أنت فيُقال لك: “الآن تكون” إذ لا تحمل بنوة طبيعية بل تتقبلها بالتبني. هو ابن سرمدي، أما أنت فتقبل النعمة مؤخرًا.
15- استعد مهما بلغت خطاياك
ليكن إناء نفسك مُهيأ لتصير ابن لله ووارث مع المسيح (رو 8: 17).
إن كنت حقًا تُعد نفسك لتقبل هذا، إن كنت بحق تقترب إلى الإيمان لتكون مؤمنًا، إن كنت تخلع الإنسان العتيق من أجل غرض أمامك، فإن كل ما اقترفته يُغفر لك، سواء الزنا أو الدعارة أو أي شكل من أشكال الفسق.
أية خطية أعظم من أن يَصلب الإنسان المسيح، ومع هذا فإن العماد يغسلها! لأنه هكذا تحدث بطرس مع الثلاثة آلاف الذين جاءوا إليه. هؤلاء الذين صلبوا الرب، إذ سألوه قائلين: “ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟!” (أع 2: 37) فإن الجرح عظيم؟! لقد جعلتنا يا بطرس نفكر في خطيتنا بقولك: “رئيس الحياة قتلتموه” (أع 3: 51). فأي تضميد يصلح لجرحٍ عظيمٍ كهذا؟! أي تطهيرٍ يكون لغباوة كهذه؟! أي خلاصٍ لهلاكٍ مثل هذا؟!
إنه يقول: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح ربنا لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 2: 38).
يا لحب الله المترفق غير المنطوق به؟! مع أنهم كانوا بلا رجاء من جهة خلاصهم، لكنهم مع ذلك تأهلوا للروح القدس! هل رأيت قوة المعمودية؟!
إن كان أحدكم يصلب المسيح بكلمات تجديفه، إن كان أحدكم ينكره في جهلٍ أمام الناس، إن كان أحدكم يجدف على التعاليم بكلمات شريرة، فليتب، وليكن له رجاء صالح، لأن النعمة حاضرة إلى الآن.
16- تشجعوا… الرب يطهركم!
“تشجعي يا أورشليم فإن الرب ينزع عنكِ كل آثامك”، “الرب يغسل دنس أبنائه وبناته بروح القضاء وبروح الإحراق”، “سيرش عليكم ماء طاهرًا، فيطهركم من كل خطاياكم” (راجع صف 3: 14، 15؛ إش 4: 4؛ حز 36: 25).
إن الملائكة سترقص حولكم قائلة: “من هذه الطالعة في ثوب أبيض مستندة على حبيبها” (راجع نش 8: 5).
لأن النفس التي كانت قبلاً عبدة تبناها سيدها كقريبة له، وإذ يرى أمامه غاية راسخة يجيب: “ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة… أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، وذلك بسبب الاعتراف بضميرٍ صالحٍ، كل واحدة متئم” (نش 1:4، 2) وذلك بسبب النعمة ذات الجانبين “أي توأم”: أقصد أنها تصير كاملة بالماء والروح، أو النعمة المعلنة في العهدين القديم والجديد.
ليت الله يسمح أن تذكروا جميعكم ما أقوله لكم عندما تنهون فترة الصوم، وتأتون بثمر أعمال صالحة، فتقفوا أمام العريس الروحي بلا لوم وتنالوا غفران خطاياكم من الله الذي له المجد مع الابن والروح القدس إلى الأبد. آمين.
________________________________________
[1] أو أشنان داود: نبات من الفصيلة الشفوية ذات أوراق عطرة حريفة المذاق.
[2] الزوفا الروحي أو غير المنظور هو قوة الروح القدس المطهرة في المعمودية، كقول المرتل “اغسلني بزوفاك فأطهر” (مز 51: 7).
[3] يتحدث عن السيد المسيح في آلامه إذ قدم له ليشرب من زوفا (يو 19: 29)، ومن قصبة ( مت 27: 48).
[4] الكلمة اليونانية في النص تعني تاج الكاهن أو البرطل الكهنوتي.
[5] سبق لي في مواضعٍ كثيرة الإشارة أن ما حدث مع بني إسرائيل لم يكن إلا رمزًا لما يتم مع كنيسة العهد الجديد التي قبلت الإيمان بينما رفضه اليهود وصاروا غير مؤمنين، وانتفت عنهم جميع المواعيد، وخلعوا أنفسهم من دائرة شعب الله.
[6] في سفر النشيد (5: 3) يشير النص إلى الاعتذار عن عدم القيام من السرير للسير مع الرب، لكن القديس يستخدمه هنا بمعنى مغاير.
[7] الترجمة السبعينية أي 40: 26 عوض أي 41: 7 التي بين أيدينا.
المقال الرابع: في البنود العشر التعليمية
“انظروا أن لا يكون أحد يسبيكم “يفسدكم” بالفلسفة وبغرور باطل حسب تقليد الناس حسب أركان العالم…” (كو 2: 8).
دعوة للتمتع بروح التمييز
1- الرذيلة تحاكي الفضيلة، وذلك كما يجتهد الزوان أن يبدو قمحًا، فينمو مثله في مظهره، لكن يكتشفه عارفوه ويميزونه من طعمه. هكذا أيضًا يُغير الشيطان نفسه في شكل ملاك نور (كو 11: 14)، لا لكي يصعد مرة أخرى إلى حيث كان، إذ قلبه صلب كالسنديان[2]، فصارت إرادته عاجزة عن أن تتوب، إنما يفعل هذا بقصد إغراق السالكين في حياة ملائكية في ظلمات العمى والكفر المهلك.
ذئاب كثيرة تجول في ثياب حملان (مت 7: 15)، نعم ثيابها ثياب حملان وليس أظافرها أو أسنانها. وإذ هم يسيرون في الجلد الناعم يخدعون الأبرياء بمظهرهم، فيبثّون فيهم من أنيابهم سم الدنس المهلك.
إذن نحن نفتقر إلى نعمة إلهية وذهن علوي وبصيرة نفاذة، حتى لا نأكل الزوان علي أنه حنطة، فيصيبنا ضررُ من الجهل، ونسقط فريسة للذئاب التي نحسبها حملان، ويبيدنا الشيطان المهلك الذي نظنه ملاكًا مباركًا. إذ يقول الكتاب: “كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1 بط 5: 8). هذا هو السبب لتحذيرات الكنيسة، وهو الدافع لتعليماتنا الحالية، الدروس التي تقرأ الآن.
الحاجة إلى الإيمان العملي
2- لأن طريق الصلاح يحمل أمرين: تعاليم ورعة، وتدريب عملي للفضيلة. ولن تكون التعاليم مقبولة لدى الله بعيدًا عن الأعمال، ولا الأعمال دون أن تتكمّل بالتعاليم التقوية. لأنه ما الفائدة إن عرفت التعاليم الخاصة بالله معرفة حسنة ومع ذلك أنت زانٍ دنيء؟! أو أي أنفع أن تكون نبيل الطبع وأنت مجدف جاحد؟! لذلك فإن معرفة التعاليم تُعتبر مقتنيات ثمينة، لكنها في نفس الوقت تحتاج إلى نفسٍ متيقظةٍ، إذ كثيرون يفسدون بالفلسفة والخداع الباطل (كو 2: 8).
فاليونانيون[3]، من ناحية يسحبون الناس خارجًا بلسانهم اللين، إذ يقطر العسل من شفتي الزانية (أم 5: 3). وأهل الختان[4]، من ناحية أخرى يخدعون من يلتقون بهم بتفسيرهم الكتاب المقدس تفسيرًا خاطئًا رغم دراستهم له منذ الطفولة حتى الشيخوخة (راجع إش 46: 3 ). أما الهراطقة فبأعمالهم الصالحة ولسانهم اللين يخدعون قلوب البسطاء (رو 16: 17) تحت ستار اسم المسيح، إذ يدسون أسهمًا مسمومة هي تعاليمهم المملوءة كفرًا.
عن هؤلاء جميعًا يقول الرب “انظروا لا يضركم أحد” (مت 24: 4).
لهذا نقوم بتعليم قانون الإيمان وشرحه لكم.
3-لكنني أظن أنه يليق قبل تسليمكم قانون الإيمان أن نقدم لكم ملخصًا مقتضبًا للتعاليم الضرورية حتى لا يسبب كثرة الكلام مع طول فترة أيام الصوم الكبير المقدس نسيانًا في أذهان البسطاء منكم. فأقوم بغرس بعض بذور التعاليم باقتضاب فلا تنسونها، نعالجها بأكثر إسهاب فيما بعد.
ليت الناضجون ذهنيًا من الحاضرين الآن، والذين “لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 5: 14)، يحتملون بصبر الإنصات إلى أمور تتناسب بالأكثر مع الأطفال، إذ هو حديث افتتاحي يُقدم مثل لبنٍ (للأطفال). بهذا ينتفع المحتاجون إلى التعليم، وفي نفس الوقت يتذكره جيدًا الذين لهم سابق معرفة به.
الله الواحد
4- أولاً لنلقِ “التعليم عن الله” كأساس في أنفسكم.
إنه الله (الآب)، واحد وحيد غير مولود، بلا بداية ولا تغيير، ليس فيه تنوع، ليس مولودُا من آخر، ولا يعقبه آخر، لم يبدأ في زمن للحياة ولا ينتهي قط.
إنه صالح وعادل في نفس الوقت، فإن سمعت من هرطوقي ينادي بوجود إله عادل وآخر صالح[5] تذكر في الحال سهام الهراطقة المسمومة. إذ يتجاسر البعض في كفر أن يقسموا الله الواحد. وقال البعض إن واحد خالق للنفس وآخر إله الجسد[6]. وهذا التعليم غامض وشرير. لأنه كيف يمكن لإنسان أن يصير خادمًا للسيدين، بينما يقول ربنا في الإنجيل “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؟!” (مت 6: 24؛ لو 6: 13)
يوجد الله، واحد وحيد، خالق للنفوس والأجساد، واحد هو خالق السماء والأرض، صانع الملائكة ورؤساء الملائكة.
هو خالق لكثيرين، لكنه أب لواحدٍ وحيد قبل كل الدهور، الابن الواحد الوحيد ربنا يسوع المسيح، الذي به خلق كل شيء، ما يُرى وما لا يُرى (يو 1: 3؛ كو 1: 16).
سمو كمال الله
5- إن أبا ربنا يسوع المسيح، الذي لا يحده مكان، هو ليس بأقل من السماء، بل هي عمل يديه (مز 8: 3)، وكل الأرض في قبضته (إش 40: 12). إنه في كل شيء ومحيط بكل شيء!
لا تظن أن الشمس أكثر منه بهاءً، ولا مساوية له في الضياء، بل يليق بموجدها أن يكون أعظم منها وأبهى بما لا يقاس!
لقد سبق فعرف كل شيء قبل كونه. هو أقدر من الكل، عالم بكل شيء. يعمل ما يريده دون أن يخضع إلى حتمية إلزامية، ولا لحركات نجم[7]، ولا لمحض صدفة أو قضاء وقدر. إنه كامل في كل شيءٍ. يملك كل أشكال الفضائل في كمال مطلق متساوٍ، لا ينقص ولا يزيد. بل كما هو بلا تغيير… يُعد العقوبة للخطاة والإكليل للأبرار.
الحفظ من عبادة الأوثان
6- لقد ضل كثيرون عن الله الواحد بطرقٍ متعددة، فعبد البعض الشمس حتى متى غابت يسكنون في الليل بغير الله. والبعض عبدوا القمر فلا يكون لهم الله في النهار[8]. والبعض عبدوا أجزاء العالم الآخرى[9]. والبعض عبدوا الفنون[10].
وعبدَ البعض أنواع أطعمة مختلفة[11]، والبعض ملذاتهم[12]، وسُحر البعض بالنساء، فأقاموا تمثالاً لامرأة عارية ودعوها أفروديت[13]، وعبدوا شهواتهم بصورة منظورة. وبُهر البعض ببريق الذهب فعبدوه[14]، وآخرون عبدوا أنواعًا أخرى من هذه الأمور.
أما من ألقى في قلبه تعليم وحدانية الله كأول أساس، ووثق فيه للحال ينزع عنه حصيلة[15]، شرور عبادة الأصنام وكل أخطاء الهراطقة. إذن ألقوا بالإيمان بهذا التعليم الديني الأول كأساس في أنفسكم.
المسيح
7- آمن أيضًا بابن الله الواحد الوحيد، ربنا يسوع المسيح، المولود، إله من إله، حياة من حياة، نور من نور، مساوٍ لمن ولده في كل شيء[16]، لم يتقبل وجوده في زمان، بل هو أزلي قبل كل الدهر، مولود من الآب بطريقة لا تدرك.
إنه حكمة الله وقوته، وبرّه، كائن فيه شخصيًا[17].
جالس عن يمين الآب قبل كل الدهور. لأنه لم يتقبل العرش الذي عن يمين الآب كجزاء لاحتماله بصبرٍ كما يظن البعض، إنما تقبله بوجوده السرمدي… هو شريك الآب في عرشه بكونه الله والحكمة والقوة، وكما يقال عنه إنه يملك مع الآب… دون أن ينقص شيئًا من الكرامة الإلهية.
إنه يعرف (الآب) الذي ولده، كما يعرف هو أيضًا أنه مولود منه. وباختصار أذكر ما جاء في الإنجيل: “لا يعرف أحد الابن إلاّ الآب، ولا الآب إلاّ الابن” (مت 11 :27؛ يو 10: 15؛ 17: 25).
واحد مع الآب
8- علاوة على هذا، لا تفصل بين الابن والآب[18]. لا تعتقد في ابن شبيه بالآب Son – Fatherhood))… بل آمن أن الله الواحد ابن واحد وحيد، هو كلمة الله من قبل الدهور. ليس كلمة منطوقه[19] منتشرة في الهواء، ولا شبه الكلمات غير الذاتية، بل هو الكلمة الابن خالق كل المخلوقات العاقلة، يسمع الآب وهو نفسه يتكلم.
ليت الله يسمح فنتكلم عن هذه الأمور بأكثر توسع في الوقت المناسب حتى لا ننسى هدفنا الحالي، أي تقديم تمهيد لعقائد الإيمان باختصار.
ميلاده من عذراء
9- آمِنْ أن ابن الله الوحيد هذا نزل من السماء إلى الأرض من أجل خطايانا. لبس هذه الطبيعة البشرية وتشبه بنا (أع 14: 15؛ يع 5: 17)… وولد من العذراء القديسة من الروح القدس، وصار إنسانًا.
لم يكن هذا خيالاً، ولا مجرد مظهر، بل بالحق صار هكذا[20]، ولا عبر في العذراء كما في قناة[21] بل صار منها جسدًا فعلاً “وانتعش باللبن فعلاً”[22]، وأكل مثلنا فعلاً، وبحق شرب، فلو كان التجسد خيالاً لصار الخلاص أيضًا خيالاً…
الصليب
10- بحق صُلب عن خطايانا. فإن أردت إنكار هذا يرفضك بطريقة منظورة هذا المكان أي الجلجثة المباركة التي نجتمع فيها الآن (من أجل المصلوب هنا. وقد امتلأ العالم بأجزاء من خشبة الصليب)[23].
لكنه لم يُصلب عن خطايا ارتكبها، بل لكي يخلصنا من خطايانا. وفي الوقت الذي فيه احتقره البشر فلطموه، كانت الخليقة تعرف أنه ابن الله، فانكسفت الشمس لما رأت ربّها مُهانًا، مرتعبة كيف تحتمل هذا المنظر؟!
دفنه
11- بحق وُضع في قبرٍ منحوتٍ في الصخر، لكن الصخور تشققت مرتعبة بسببه! لقد نزل إلى أسافل الأرض ليخلص الأبرار[24].
اخبرني، هل ترغب في أن يتمتع الأحياء وحدهم بنعمته ولا ترغب في أن ينالوا حريتهم من لهم زمان طويل مسجونون من آدم؟! لقد أعلن إشعياء النبي بصوت عالٍ عن أمورٍ كثيرة تخصه، ألاّ تريد أن ينزل الملك ويخلص رسوله؟!
أيضًا داود وصموئيل وكل الأنبياء كانوا هناك، ويوحنا نفسه القائل خلال تلميذيه “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر” (مت 11: 3)، أفما ترغب أن ينزل ويخلص أمثال هؤلاء؟!
قيامته
12- لكن الذي نزل إلى طبقات الأرض السفلي قام أيضًا. يسوع الذي دفن بالحق قام في اليوم الثالث.
وإن ضايقك اليهود في هذا اسألهم: هل يخرج يونان من جوف الحوت في اليوم الثالث ولا يقوم المسيح من الأرض في اليوم الثالث؟!
إن كان الميت بلمسه عظام إليشع عاد إلى الحياة، أفليس بالأولي جدًا على خالق البشرية أن يقوم بالآب؟!
حسنًا، إنه قام حقًا، وبعد قيامته رآه التلاميذ، وشهد الاثنا عشر بقيامته[25]، حاملين الشهادة لا بكلمات مفرحة، بل باحتمال الآلام والموت من أجل حقيقة القيامة. ماذا إذن؟ إن كان “على فم شاهدين أو على فم ثلاثة شهود يقوم الأمر” كقول الكتاب (تث 19: 15)، فهل لازلت غير مؤمن بقيامة المسيح وها اثنا عشر رسولاً يشهدون؟!
صعوده
13- إذ تمم يسوع نصيبه من الاحتمال بصبرٍ، وخلص البشرية من خطاياها، صعد إلى السماوات مرة أخرى إذ رفعته سحابة، وإذ ارتفع صارت ملائكة بجواره والتلاميذ يتطلعون إليه.
إن كان أحد لا يؤمن بهذه الكلمات التي أنطق بها، فليؤمن بقوة الأمور التي يراها الآن. لأن كل الملوك ينطفئ سلطانهم بموتهم، أي بانتهاء حياتهم، أما المسيح المصلوب فهو معبود من العالم كله. نحن نعلن عن المصلوب، والشياطين ترتعب منه!
كثيرون صُلبوا في أزمنة مختلفة، لكن أي شخص آخر مصلوب صنع ابتهالاً يطرد الشياطين!
قوة علامة صليب المسيح
14- ليتنا لا نخجل من صليب المسيح. وإن استحى منه البعض، فاطبعه بوضوح على جبهتك، فتهرب منك الشياطين مرتعبة، إذ ترى العلامة الملوكية[26].
اصنع هذه العلامة عندما تأكل وعندما تشرب، عندما تجلس وعندما تنام وعندما تنهض، وعندما تتكلم وعندما تسير، وباختصار ارسمها في كل تصرف[27]. لأن الذي صُلب هنا هو في السماوات في الأعالي. لو أنه بقي في القبر بعد صلبه ودفنه لكنا نستحي منه، لكن في الواقع الذي صُلب على الجلجثة صعد إلى السماوات من فوق جبل الزيتون من ناحية الشرق، فإنه بعدما نزل إلى الجحيم وصعد إلينا ارتفع من بيننا إلى السماوات، فيحدثه أبوه قائلاً: “اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك” (مز 110: 1).
الدينونة المقبلة
15- يسوع المسيح الذي صعد يأتي لا من الأرض بل من السماوات، وأنا أقول “لا من الأرض، وذلك لأن مسحاء كذبه كثيرون يأتون في هذا الوقت من الأرض. وقد بدأوا فعلاً في المجيء قائلين: “أنا هو المسيح” (مت 24: 5)، مدعين لأنفسهم باطلاً اسم المسيح، وقد أوشكت “رجسة الخراب” أن تحل (مت 24: 15).
لكن تطلع إلى المسيح الحقيقي، ابن الله، الابن الوحيد، إنه لا يأتي بعد من الأرض بل من السماوات، ظاهرًا للجميع أكثر لمعانًا من أي نورٍ مبرقٍ، تحيط به الجنود الملائكية، يأتي ليدين الأحياء والأموات ويملك مُلكًا سمائيًا أبديًا لا ينتهي.
أرجوك أن تحتاط في هذا الأمر لأن كثيرين يقولون إن ملكوت المسيح له نهاية[28].
الروح القدس
16- آمن أيضًا بالروح القدس، وما تسلمته بخصوص الآب والابن، واقبله بالنسبة للروح القدس. ولا تتبع المعلمين بتجاديف عنه[29].
اعلم أن هذا الروح القدس هو واحد غير منقسم، له قوة ذات جوانب متعددة وأعمال كثيرة، أما هو فغير منقسم.
إنه يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1 كو 2: 10)، نزل على الرب يسوع في شكل حمامة. عمل في الناموس والأنبياء، وهو يختم نفوسكم عند العماد.
تحتاج كل خليقة عاقلة إلى قداسته، ومن يجدف عليه “لن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 32).
هو مع الآب والابن[30]، مكرّم بذات اللاهوت. تحتاج إليه العروش والسيادات والرئاسات والقوات (راجع كو 1: 16).
إذ يوجد الله واحد، أب المسيح، رب واحد هو يسوع المسيح الابن الوحيد لله الواحد، روح قدس واحد يقدس الجميع ويتعبدون له، هذا الذي تحدث في الناموس والأنبياء، في العهد القديم والعهد الجديد…
ختم الروح القدس
17- هل تفكر في الختم الذي تلمسته لمسًا خفيفًا خلال مقالي المختصر عنه، والذي أعرضه بمشيئة الرب فيما بعد ببراهين الأسفار المقدسة قدر المستطاع، إذ لا يكفي أن نتحدث بعبارات عرضية فيما يختص بأسرار الإيمان الإلهية دون الرجوع إلى شهادات الأسفار المقدسة؟! حتى بالنسبة لي أنا الذي أخبرك عن هذه الأمور لا أقدم تصديقًا مطلقًا لما أقوله دون أن استند على الكتب الإلهية. لأن الخلاص الذي نؤمن به لا يعتمد على حذاقة الذهن بل برهان الأسفار المقدسة.
النفس
18- بعد معرفة هذا الإيمان الموقر المجيد الكلّي القداسة يليق بك أن تعرف من أنت. الإنسان له طبيعة ذات جانبين، إذ يتكون من النفس والجسد. وكما سبق أن قلنا منذ قليل أن الله ذاته هو خالق النفس والجسد[31].
اعرف أيضًا أن لك نفس سيدة ذاتها، هي أسمى أعمال الله، خُلقت على صورة خالقها. خالدة إذ وهبها الله الخلود. إنها كائن حيّ عاقل غير فاسدٍ، إذ وهبها الله هذه النعم.
لها سلطان أن تفعل في حرية ما تشاء[32]، فأنت لا تخطئ حسب (تاريخ) ميلادك، أو ترتكب الزنا بمحض الصدفة، ولا تُجبر على ارتكاب الفجور حسب سير النجوم كما ينطق البعض بكلمات فارغة[33].
لماذا تُحجم عن الاعتراف بأفعالك الشريرة، ناسبًا اللوم إلى النجوم البريئة؟!
أرجوك إلاّ تعطي اهتمامًا للمنجمين، إذ يقول الكتاب المقدس الإلهي “ليقف الراصدون النجوم يخلصوك”، ثم يكمل: “ها إنهم قد صاروا كالقش. أحرقَتهم النار. لا ينجّون أنفسهم من يد اللهيب” (إش 47: 13، 14).
مسؤولية النفس وحرية إرادتها
19- إننا نعلم أيضًا أن النفس لم ترتكب خطيئة قبل مجيئها[34]، بل جاءت بلا خطية[35]، إنما أخطأنا بإرادتنا الحرة.
أرجوك إلاّ تجوي وراء من يفسر الكلمات التالية تفسيرًا خاطئًا “إن كنت أفعل ما لست أريده” (رو 7: 16)، بل تذكر القائل: “إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتحررتم تأكلون بالسيف” (إش 1: 19-20). وأيضًا “كما قدّمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم، هكذا الآن قدّموا أعضاءكم عبيدًا للبرّ للقداسة” (رو 6: 19). تذكر أيضًا الكتاب المقدس القائل: “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم” (رو 1: 28). وأيضًا “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم” (رو 1: 19). وأيضًا “غمضوا عيونهم” (مت 13: 15).
تذكر أيضًا كيف اتهمهم الله مرة أخرى قائلاً: “أنا قد غرستك أفضل كرمة (سورق)، زرع حق كلها، فكيف تحولتِ إلى مرارة أيتها الكرمة الغريبة؟!” (راجع إر 2: 21)
نفوس الرجال والنساء متشابهة
20- النفس خالدة. وكل نفوس الرجال والنساء متشابهة، إنما التمييز هو في أعضاء الجسد[36]. لا يوجد أنواع معينة في النفوس، نوع يخطئ بالطبيعة، وآخر يمارس البرّ بالطبيعة[37]. بل كلها تعمل بحريتها. فمادة النفوس واحدة، جميعها متشابهة.
على أي الأحوال أنني أدرك أنني تكلمت كثيرًا، وأن الوقت فعلاً قد طال، لكن أي شيء أهم من الخلاص؟
أما تريد أن تتعب في الحصول على إمدادات في الطريق ضد الهراطقة؟!
ألا تشاء أن تعرف الممرات الجانبية التي للطريق حتى لا تسقط في هوةٍ بسبب الجهل؟!
إن كان معلموك يحسبون تعليم مثل هذه الأمور شيئًا نافعًا ليس بقليل، أما تتقبل بفرح ما نحدثك به ونحن مسرورون؟!
حرية إرادة النفس والمكافأة
21- تتمتع النفس بحرية الإرادة. ومع أن الشيطان يقدر أن يقترح عليها، لكنه ليس له سلطان يلزمها بشيء بغير إرادتها. إنه يصور لك فكر الزنا، فإن أردت قبلته، وإن لم ترد تحتقره. لأنك لو كنت زانيًا قهرًا لما أعد الله جهنم؟! وإن كنت صانع بر بالطبيعة وليس بإرادتك لما أعد الله أكاليل مجد لا يُنطق بها؟!
الغنم وديع، لكنه لا يكلل على وداعته، لأنها ليست باختياره بل بحكم الطبيعة.
جمال الجسم البشري
-
لقد تعلمت أيها الحبيب عن طبيعة النفس قدر ما سمح الوقت، اجتهد أن تقبل التعليم الخاص بالجسد أيضًا.
لا تقبل القائلين أن هذا الجسد ليس من عمل الله[38]. لأن الذين يعتقدون بأن الجسد لا يعتمد على الله وأن النفس تسكن فيه كما في وعاءٍ غريبٍ، هؤلاء يدنسونه بالزنا. ومع هذا أي خطأ يجدونه في هذا الجسد العجيب؟!
ماذا ينقصه في كماله؟!
أما يحمل تكوينه مهارة كاملة؟!
ألا يلزمهم أن يتأملوا تكوين العينين المضيئتين؟! وكيف توضع الإذن بميل لتستقبل الصوت بغير عائق؟! وكيف يميز الشم الروائح؟! وكيف يخدم اللسان غرضين: حاسة التذوق وقوة الكلام؟! وكيف تستنشق الرئتان غير المنظورتين استنشاق الهواء بغير انقطاع؟!
من الذي جعل نبضات القلب غير منقطعة؟!
ترى من الذي وزع (الدورة الدموية) بين أوردة وشرايين هذا عددها؟!
من الذي ربط بمهارة بين العظام والعضلات؟
من الذي يحول جزء من الأطعمة إلى طبيعتنا وآخر إلى عصارات مناسبة؟!.
من الذي وهب البشرية أن تبقى خلال الاتصال الجسدي البسيط، مع أنها كانت ستنتهي وتموت؟!
النفس هو وراء الخطية
23- لا تقل لي إن هذا الجسد هو علّة الخطية[39]. فلو كان الجسد سبب الخطية، فلماذا لا تخطئ الجثة الميتة؟ ضع سيفًا في يمين إنسان مات حالاً، فإنه لا يرتكب جريمة قتل! ليقترب جمال ما من كل نوع نحو شابٍ ميت حالاً، فإنه لا تثور فيه شهوة دنسة. لماذا؟ لأن الجسد لا يخطئ بذاته، بل النفس تخطئ خلال الجسد.
الجسد هو آلة، إنه بالنسبة للنفس بمثابة ثوب أو رداء لها. فإن غلبْته بالزنا تدنس، وإن قطنت فيه نفسًا مقدسة يصير هيكلاً للروح القدس.
لست أنا القائل بهذا، بل الرسول بولس الذي قال: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم؟!” (1 كو 6: 19).
إذن اهتم بجسدك بكونه هيكل للروح القدس. لا تفسده بالزنا، ولا توسّخ ثوبك الجميل. وإن كنت دنسته فأغسله الآن بالتوبة. اغسله جيدًا إذ سمح الوقت.
دعوة إلى البتولية
24- أما بخصوص التعليم عن العفة، فلنهتم أولاً بخصوص نظام المتوحدين والعذارى الذين يمارسون الحياة الملائكية في العالم. ليت بقية شعب الكنيسة يتمثل بهم. لأنه قد أعد لكم أيها الإخوة إكليل عظيم، فلا تستبدلوا شرفًا عظيمًا مقابل لذة زهيدة. اسمعوا قول الرسول: “لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحًا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع باكوريته” (عب 12: 16).
ليسجل (اسمك) هنا في الكتب الملائكية من أجل عمل العفة، ناظرًا أنك تمسحه مرة أخرى بارتكابك الزنا.
كرامة الزواج
25- من ناحية أخرى لا تنتفخ بسبب عفتك (بتوليتك) أمام السالكين في طريق الزواج الذي هي أقل. إذ يقول الرسول: “ليكن الزواج مكرمًا عند كل أحدٍ، والمضطجع غير دنس” (عب 13: 4). ألم تولد من أناس متزوجين أيها المحافظ على عفتك (بتوليتك)؟! فإن كنت تملك ذهبًا، فلماذا تحتقر الفضة؟ بل ليكن المتزوجون منبسطي السريرة، هؤلاء الذين يستخدمون الزواج حسب الشريعة، حسب أقوال الله، وليس للفجور، طالبين شهوات بلا ضابط. هؤلاء الذين يعرفون أوقاتً للامتناع ليتفرغوا للصلاة (1 كو 7: 5)، الذين يحضرون اجتماعاتنا في الكنيسة بأجساد طاهرة وثياب نقية، إذ دخلوا قصدوا من الزواج إنجاب الأطفال لا للانغماس في متعة اللذة.
شرعية الزواج
26- أيضًا لا يحتقر المتزوجون مرة واحدة الذين قبلوا الزواج الثاني (بعد وفاة الطرف الأول). فمع أن ضبط النفس أمر نبيل وعجيب، لكن الزواج الثاني مسموح به للضعيف كي لا يسقط في الزنا. يقول الرسول: “إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا، ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا، لأن التزوج أفضل من التحرق” (1 كو 7: 8، 9).
اترك جميع الممارسات الأخرى من زنا ودعارة وكل أنواع الفسق. احفظ جسدك طاهرًا للرب فيكرم الرب في جسدك.
لتنعش جسدك بالطعام لكي يعيش ويخدم دون أي عائق وليس لكي تدفعه للذات.
الطعام
27- أما من جهة الطعام، فلتكن هذه هي قوانينك، إذ توجد عثرات كثيرة من جهته. فالبعض لا يبالي بما يقدم للأوثان. بينما يدرب البعض نفسه (على عدم أكله) لكنهم في نفس الوقت يدينون من يأكلون منه. وهكذا بطرق متنوعة تتدنس نفوس البشر في أمر الأطعمة بسبب جهلهم الأسباب المعقولة النافعة للأكل أو الامتناع عنه.
فنحن نصوم ممتنعين عن الخمر واللحوم، ليس احتقارًا لهما كأشياء دنسة، بل أملاً في المكافأة. فنستهين بالأمور المادية لكي نتمتع بالوليمة الروحية العقلية، وإذ نزرع الآن بالدموع نحصد في العالم الآتي بالفرح (مز 126: 5).
إذن لا تدنْ من يأكل، إذ بسبب ضعف جسده يشترك في الطعام (رو 14: 3). وأيضًا لا تلم من يستخدم قليل خمر من أجل معدته وأمراضه الكثيرة (1 تي 5: 23)، لا تحسبهم خطاة، ولا تبغض اللحم كطعام غريب، فإن الرسول عرف أناسًا من هذا النوع عندما قال: “مانعين عن الزواج وآمرين أن يمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين” (1 تى 4: 3).
فالامتناع لا يكون بالنظر إليها على أنها أمور دنسة[40] بل من أجل المكافأة. فتترك أمورًا صالحة بسبب تطلعك إلى أمور روحية أفضل.
عدم الأكل مما يقدم الأوثان
28- احفظ نفسك في أمان فلا تأكل مما يقدم الأوثان… فإن هذا الأمر لست أنا وحدي أمنعك عنه، بل والرسل ويعقوب أسقف هذه الكنيسة كان مملوء غيرة من جهته. فلقد كتب الرسل والشيوخ رسالة جامعة لكل الأمم أنه ينبغي أن يمتنعوا أولاً عما ذبح للأصنام ثم عن الدم والمخنوق (راجع أع 15: 20، 29). لأن كثيرين يشربون الدم بصورة وحشية، سالكين مثل الكلاب. وأيضًا يتمثلون بالحيوانات المفترسة التي تفترس المخنوق. أما أنت يا خادم المسيح فاحترس في الأكل مراعيًا أن تأكل بوقار…
ما قلته هذا يكفي بخصوص الأطعمة.
الكساء
29- ليكن لباسك بسيطًا، لا للزينة، بل للسترة للضرورة، لا لكي تخدم غرورك بل لتدفئتك في الشتاء وإخفاء ما هو غير لائق من جسدك، لئلا في إخفاء ما هو غير لائق من جسدك تسقط في أمر غير لائقٍ بملبسك المغالي فيه.
القيامة
30- أتوسل إليك أن تهتم بهذا الجسد، فإنك ستقوم من الأموات لتدان به. إن ساورك بعض الشك باستحالة هذا الأمر، تأمل بنفسك على ما تراه من الأحداث.
اخبرني أين كنت منذ مائة عام ونيف؟ ومن أية مادة حقيرة جدًا وصغيرة للغاية أخذت هذه القامة العظيمة وصار لك هذا الجمال؟ ماذا إذن؟ الذي أوجدك من العدم أما يستطيع أن يقيمك مرة أخرى بعدما صرت موجودًا الآن وتفسد؟!
الذي يقيم المحصول الذي يُزرع من أجلنا عامًا بعد عامٍ[41]، هل يجد صعوبة في إقامتنا نحن؟!…
ها أنت ترى كيف تتجرد الأشجار من الثمار والأوراق شهورًا كثيرة، وإذ يعبر الشتاء تحيا من جديد كما من الموت! أو ليس بالأحرى والأسهل جدًا أن نعود نحن إلى الحياة؟!
لقد تحولت عصا موسى بإرادة الله إلى طبيعة غير طبيعتها، إلى حية، فالإنسان الذي مات أما يمكن أن يُعاد إلى ما هو عليه مرة أخرى؟
31- لا تهتم بالقائلين إن هذا الجسد لا يقوم، فقد شهد إشعياء قائلاً: “تحيا أمواتك تقوم الجثث” (إش 26: 9). ودانيال يقول: “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي” (دا 12: 2).
ومع أن القيامة عامة للجميع لكنها ليست متشابهة بالنسبة للجميع. جميعًا يستلم أجسادًا أبدية، لكنها ليست متشابهة. فالبعض يتقبلها خلال الأبدية مرتبطين بجوقات الملائكة، وأمّا الأشرار فيتقبلونها لاحتمال عذابات خطاياهم
جرن المعمودية
32- لهذا السبب وهبنا الرب حسب محبته المترفقة التوبة عند العماد لحمايتنا.
فننبذ الخطايا الرئيسية، بل بالأحرى نترك كل ثقل خطايانا، ونتقبل ختم الروح القدس لنكون ورثة الحياة الأبدية. وإذ تكلمنا بالأمس عن جرن المعمودية بما فيه الكفاية. ليتنا نعود الآن، فنثبت المواضيع التي ذكرناها في افتتاحية تعليمنا.
الأسفار المقدسة
33- الأسفار المقدسة الإلهية الموحى بها: كل العهد القديم والعهد الجديد، هي التي تعلمنا. فإن إله العهدين هو واحد، فقد أخبرنا في العهد القديم عن المسيح، الذي يظهر في العهد الجديد، والذي قادنا خلال الشريعة والأنبياء إلى مدرسة المسيح… إذ “كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح” (غل 3: 24).
إن سمعت أحد الهراطقة ينطق بشرٍ على الناموس والأنبياء أجبه بكلمات المخلص إذ جاء يسوع “لا لينقض الناموس بل ليكمله” (راجع مت 5: 17).
اعرف أيضًا بمثابرة من الكنيسة ما هي أسفار العهد القديم وما هي أسفار العهد الجديد. ولا تقرأ من كتابات الأبوكريفا[42]، لأنه ما الداعي أن تتعب نفسك باطلاً في كتب مُتنازع فيها يا من لم تعرف بعد ما هو معروف للجميع.
اقرأ الأسفار الإلهية الاثنين وعشرين سفرًا للعهد القديم التي قام بترجمتها اثنان وسبعون مفسرًا.
تاريخ الترجمة السبعينية
34- فإنه بعد موت الإسكندر ملك مكدونية وتقسيم مملكته إلى أربعة أقسام بابليون ومكدونية، وآسيا، ومصر، فإن أحد الذين ملكوا مصر هو بطليموس الفيلادلفي كان مغرمًا بالقراءة، يجمع الكتب من كل بقعة، فسمع من أمين مكتبته ديمتريوس فيلادلفيوس عن الكتاب المقدس الذي يحوى الشريعة والأنبياء، وإذ يرى أنه من الأفضل جدًا إلاّ يأخذ الكتب من أصحابها عنوة بل خلال تقديم الهدايا والصداقات،
إذ يعلم إن ما يؤخذ عنوة غالبًا ما لا يُسلم كما هو، أما ما يُقدم إليه بطيب خاطر فإنه يُقدم بإخلاص بغير تغيير. لهذا أرسل إلى اليعازر رئيس الكهنة هدايا كثيرة عظيمة للهيكل في أورشليم، وطلب منه أن يرسل عشرة مفسرين من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثنى عشر للترجمة[43].
وقد صنع تجربة لمعرفة أنه الكتاب الإلهي (أي لئلا يكونوا قد خدعوه)، فمن حذّره منع القادمين إليه من الاجتماع معًا بل جعل لكل واحد منهم حجرة مستقلة منفصلة في جزيرة فاروس مقابل الإسكندرية. وأمر كل واحد منهم أن يقدم ترجمة للكتب المقدسة. ولما انتهوا من العمل في اثنين وسبعين يومًا أحضر جميع الترجمات التي تمت في حجرات مختلفة، دون أن يرسل الواحدة إلى الأخرى فوجدها متشابهة لا في المعنى فقط، بل وفي الكلمات، لأن الترجمة لم تكن وسيلة لإبراز بلاغة بشرية، بل نطق بها الروح القدس وتمت به…
أسفار العهد القديم
35- من هذه الترجمة اقرأ الاثنين وعشرين سفرًا…
ادرس بشغف الأسفار التي تقرأ علانية في الكنيسة، لأن الرسل والأساقفة الأولون ورؤساء الكنيسة الذين سلمونا هذه الأسفار هم أكثر منك حكمة وتقوى….
فبخصوص العهد القديم – كما نقول – ادرس الاثنين وعشرين سفرًا التي متى كنت مشتاقًا للتعليم تحفظ أسماءها كما أتلوها لك:
– الشريعة، أي أسفار موسى، الأسفار الخمس الأولى: التكوين والخروج واللاويين والعدد وتثنية.
– بعد ذلك يشوع بن نون Nave[44]
– سفر القضاة شاملاً راعوث محسوبًا السفر السابع.
– الكتب التاريخية الأخرى: ملوك الأول والثاني[45]، وهما عند العبرانيين سفر واحد. والثالث والرابع سفر واحد. وبنفس الطريقة أخبار الأيام الأول والثاني سفر واحد.
وأيضًا Esdras الأول والثاني (عزرا ونحميا) سفر واحد.
أستير هو الكتاب الثاني عشر. هذه هي الكتب التاريخية.
– أما الكتب الشعرية فهي خمسة: أيوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد. وبهذا يكون العدد سبعة عشر سفرًا.
– يأتي بعد هذا الكتب الخمس للأنبياء وهى:
أ. الاثنا عشر نبيًا وهي تكوٌن سفرًا واحد.
ب. إشعياء.
ج. إرميا ويحوى باروخ ومراثي إرميا والرسالة[46].
د. حزقيال.
هـ. دانيال.
هذه هي أسفار العهد القديم الاثنان وعشرون[47].
أسفار العهد الجديد
36- يحوي العهد الجديد أربعة أناجيل فقط، أما بقية الأناجيل مزورة… فقد كتب أتباع ماني إنجيلاً دعوه “حسب توما” وقد أعطوه اسم الرسول لكي يفسدوا أرواح البسطاء.
بعد ذلك سفر أعمال الرسول ومعه سبعة رسائل الجامعة ليعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا. وكخاتم لهذه كلها أخرى أعمال التلاميذ الأربعة عشر رسالة لبولس[48].
أمّا ما تبقّى فهو من الدرجة الثاني.
الأسفار التي لا تقرأها الكنيسة لا تقرأها أنت أيضًا، بل اقرأ ما تسمعه…
حياة المسيحي في المسيح
37- ابطل كل عمل شيطاني ولا تصدق “الحية” المقاومة التي تغيرت عن طبعها الأصلي بإرادتها الحرة. والتي تستطيع أن تغري الإرادة دون أن تلزمها بشيء.
أيضًا لا تنصت إلى أقوال التنجيم والعرافة والتكهنات ولا إلى خرافات الإغريق في الإلهيات[49]. فإن العرافة والسحر واستحضار الأرواح لا تستحق حتى سماعها.
ابتعد عن كل نوع من الإفراط ولا تنسق إلى النهم ولا إلى الفسق، ولتكن ساميًا فوق كل طمع ورِبا فاحش.
لا تهلك نفسك بحضورك اجتماعات الوثنين في مشاهدهم العامة ولا تستخدم الاحجبة عند المرض
أبطل أيضًا كل فظاظة…
لا تنزلق في مذهب السامريين أو اليهودية، لأن يسوع المسيح فاديك.
ابتعد عن ملاحظة السبوت (غل 4: 10)، ولا تدع أطعمة ما أنها دنسة.
على وجه الخصوص أبغض كل اجتماعات الهراطقة الأشرار. وفي كل طريق أمّن نفسك بالأصوام والصلوات والصدقات والقراءة في أقوال الله، فإذ تعيش بقية حياتك في الجسد في تعقل متمسكًا بالتعاليم الصادقة تتمتع بالخلاص الواحد الذي يفيض من العماد. بهذا تُحسب عضوًا في جيوش السماء بواسطة الله الآب، وتستحق أكاليل سمائية في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبد آمين.
________________________________________
لكن اختلفت المخطوطات في تحديد البنود بين 10، 11. واختلفت أيضًا في العناوين وعملية الترقيم بكل بند على حده.
وأنني في هذا المقال اقتبس التبويب والعناوين عن مجموعة آباء نيقية كما هي.
[2] راجع أي 41: 24 الترجمة السبعينية وقد استخدم هذا النص في الرد على الأفكار الاوريجانية القائلة بان الشيطان يمكن أن يخلص.
[3] يقصد باليونانيين الوثنيين الذين عشقوا الفلسفات اليونانية الوثنية.
[4] أي اليهود.
[5] ذكر القديس ايريناؤس (ضد الهرطقات 1: 27) أنCerdo نادى بأن إله الناموس والأنبياء ليس هو أبًا ربنا يسوع المسيح، بل هو واحد عادل والآخر صالح. كذلك جاء في (ضد الهرطقات 3: 25: 3) أن مرقيون قسم الله إلى اثنين الواحد يدعي صالحًا، والآخر عادلا، وبهذا وضع حدًا للاهوت. راجع أيضًا العلامة ترتليان ضد مرقيون 1: 2، 6. والعلامة أوريجينوس ضد مكسيموس 4: 54.
[6] من هؤلاء أتباع ماني.
[7] كان كثيرون يؤمنون أن مجريات الأمور تحدث حسب حركات النجوم.
[8] أي 31: 26، 27 كان التعبد للشمس والقمر منتشرًا في المسكونة تحت أسماء مختلفة.
[9] الإله Gaea أو Tellus هو الأرض، وزيوس أو جوبتر هو السماء. كما عبد البعض الأنهار والينابيع.
[10] لقد عُبدت الموسيقى والطب والصيد والحرب والزراعة والتعدين. وأبولو إله الجمال والرجولة والشعر والموسيقى. واسكولابوس أو عسقولاف إله الطب عند الإغريق. وديانا إله الصيد، ومارس إله الحرب عند الرومان.
وفلكان إله النار والمعادن عندهم.
[11] ذكر هيرودت أن المصرين يتعبدون لطيور معينة وأسماك وبهائم.
[12] مثل عروس Eros إلهة الحب عند الإغريق.
[13] إلهة العشق والجمال عند الإغريق.
[14] مثل فلوطس Blutus إله الثروة عند الإغريق.
[15] في بعض النسخ “فساد”.
[16] الكلمة اليونانية تعني”مشابه”. وقد أثار هذا اللفظ مشاكل كثيرة إذ خشي الأرثوذكس أن يُظن وجود إلهين متشابهين، لذلك فالدقة تستلزم القول “واحد مع الآب في كل شيء (في ذات الجوهر)”.
[17] His Righteousness Personally Subsisting.
[18] أثارت هذه النقطة اهتمام أساقفة مجمع نيقية، وهو أن الابن، الوحيد واحد مع الآب في الجوهر غير منفصل قط عنه.
Cf: St Athans. De Decrets Syno 20. & Tert : marcion 4: 6 & Ignatius to Trall 6. (نسخة المطولة)
[19] قال بولس السموساطي إن الكلمة غير شخصية، وإنها مجرد عمل من أعمال اللَّه وليس نطقا إلهيًا.
[20] ظهرت بعض الهرطقات لها سمات فارسية، تؤمن بأن المادة ظلمة والجسد من صنع آلهة الشر، لذلك في نظرهم السيد المسيح لم يكن له جسد حقيقي حتى لا تكون فيه ظلمة، بل شُبِّه للناس أنه يحمل جسدًا وأنه جاع وعطش ونما وتألم.
[21] “علَّم فالنتينوس الغنوسى أن اللَّه أوجد ابنًا من طبيعة حيوانية عبر خلال مريم كما تعبر المياه خلال القناة، وان المخلص حل عليه أثناء عماده” (إيريناؤس: ضد الهرطقات 1: 7: 2).
[22] وجدت هذه العبارة في كتابات ثيؤدورت التي نقلها من القديس كيرلس، وقد أخذت بها الطبعات الحديثة.
[23] روى سقراط (1: 17) قصة اكتشاف الصليب، وأيضًا سوزومين (2: 1) فقد تركت هيلانة في أورشليم جزءاً منه بعد تغطيته بغطاء فضي، وأرسل جزء إلى مدينة القسطنطينية حيث كساه قسطنطين بطريقة خاصة.
أعطى يوسابيوس اهتمامًا كبيرًا لاكتشاف القبر المقدس (حياة قسطنطين 3: 25، 30). لكنه لم يشر إلى اكتشاف الصليب.
[24] راجع مقال 14: 18، 19.
[25] ضم للأحد عشر شهادة متياس الذي شهد معهم بقيامته.
[26] يقول القديس يوستينوس (ضد تريفو 247) “أننا ندعوه معينًا ومخلصًا. إن قوة اسمنا تخيف الشياطين، إذ تنهزم عند ما يتلى اسم يسوع المسيح الذي صلب في عهد بيلاطس بنطس حاكم اليهودية”.
[27] تحدث القديس غريغوريوس النيسي والقديس يوحنا الذهبي الفم عن عدم الخجل من رسمه. يقول العلامة ترتليان (De Colona 3): [إننا نطبع على جبيننا العلامة في كل خطوة وكل حركة، عند كل دخولنا وخروجنا، عندما نرتدي ملابسنا وأحذيتنا، عندما نستحم وعندما نجلس على المائدة، عندما نشعل مصابيحنا، على السرير وعلى المقعد وفي كل شئون حياتنا اليومية.]
[28] راجع مقال 15: 27 حيث نادى أتباع مارقليوس الذي من أنقرا بهذا الفكر.
[29] راجع مقال 16: 6-10 حيث قدم القديس كيرلس قائمة بالهرطقات التي قامت ضد الروح القدس.
[30] راجع كتابنا: “التجديف على الروح القدس للقديس أغسطينوس”، 2005.
[31] مقال 4: 4.
[32] يقول العلامة ترتليان (ضد مرقيون 2: 6) إنه يليق بالذي يتمتع بكونه على صورة الله ومثاله أن تكون له إرادة حرة وسيادة على نفسه، إذ بحرية الإرادة والسيادة الذاتية يكون على صورة الله ومثاله.
[33] القديس أغسطينوس (مدينة الله 5: 1) يذكر أن المنجمين يقولون بأن تحركات معينه لكوكب المريخ تجعل الإنسان قاتلاً.
[34] نادى أفلاطون بأن النفس أخطأت فجاءت إلى الجسد كحبس للتأديب.
Plato, Cralyl 400 & Clem. Alex.: Stromata 3: 3.17
[35] إيماننا المسيحي أن النفس في طبيعتها الأصلية كما الجسد بلا خطية، أي صالحين، لكن منذ سقوط آدم تسربت الخطية إلينا، فبالآثام حبل بينا وبالخطية ولدتنا أمنا. لكننا لا نعتقد بان النفس أخطأت فلبست الجسد تأديبًا لها.
[36] نسب Apelles الهرطوقى اختلاف الجنس إلى النفس التي هي موجودة قبل الجسد، والتي تؤثر عليه حسب جنسها (ترتليان: النفس 36).
[37] كثيرًا ما كان القديس أغسطينوس يرد على أتباع ماني في عظاته ومقالاته، إذ يقولون بوجود صنفين من البشر، أبرار بطبعهم لا يخطئون، وأشرار بطبعهم لا يتغيرون. يقول العلامة أوريجينوس في تفسيره رومية مقال 8: 10 “لست اعرف كيف يظن المتخرجون من مدرسة أتباع فالنتينوس وباسيليوس أنه يوجد نفوس من طبيعة دائمًا آمنة لن تهلك، وأخرى دائمًا تهلك لن تخلص؟!”
ويقول القديس ايريناؤس (1: 7: 5) عن أتباع فلانتينوس إنهم يعرفون 3 أنوع من البشر: روحي ومادي وحيواني. هذه الطبائع الثلاث لا توجد في شخص واحد بل هي أنواع مختلفة من البشر… وفي إعادة تقسيمهم للنفوس الحيوانية يقولون إن البعض بالطبيعة صالحون والأُخر بالطبيعة أشرار.
[38] مقال 4: 18.
[39] عالج القديس أغسطينوس هذا الأمر في مقاله العفة Continence، 1968.
[40] قامت جماعات كثيرة مثل الغنوسيين والمانيين تنادى بتحريم الزواج والامتناع عن بعض الأطعمة كأمور دنسة.
Cf. Iren. Hoer 1: 8. & Clem Poed 2: 2 & Aug. Hoer 46.
[41] راجع يو 12: 24 “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير”، 1 كو 15: 36 “يا غبي الذي تزرعه لا يحيا أن لم يمت!”.
[42] ربما اخذ كلمة” ابو كريفا” هنا عن روفينوس الذي يقسم الكتب إلى ثلاثة أصناف:
-
كتب قانونية في العهد القديم والعهد الجديد.
ب. كتب كنسية تقرأ في الكنيسة. ويسميها بعض الآباء الأولون كتب من الدرجة الثانية (وهي كتب قانونية وجدت في أقدم النسخ السبعينية المشهورة: السينائية، الإسكندارنية، الفاتيكانية… راجع المقدمة الواردة في الأسفار القانونية الثانية التي حذفها البروتستانت المرحوم يسى عبد المسيح والدكتور مراد كامل).
ج. كتب الابركريفا أي المزيفة والتي لا تقرأ في الكنائس…
[43] إلى هذه النقطة يعتمد القديس كيرلس على العبارات Pseudo – Aristeas والوزير الموثوق فيه لدى فيلادلفيوس. أما ما جاء بعد ذلك من أقوال بخصوص الحجرات المستقلة، وأنه قام كل واحد منهم بترجمة كاملة للأسفار، وأن جميع الترجمات تشابهت حرفيًا فهذا مأخوذ عن فليون اليهودي ( حياة موسى 2: 7).
وان إيماننا المسيحي لا يطلب فكرة الترجمة أنها جاءت في كل النسخ حرفية، لأننا لا نفكر أن الروح القدس هو الذي أوحي بالكتاب وهو الذي أعان المترجمين، لكنه لا يهتم أن تكون جميع الترجمات متشابهة حرفيًا… فالكتاب المقدس روح وحياة.
وقد تتبع يوسيفوس المؤرخ (Antiquities 12: 2. 3-14) رسالة Aristeas مقدمًا وصفًا مطولاً عن الهدايا العجيبة التي أرسلها فيلادلفيوس إلى أورشليم وعظمة سخائه علي المترجمين، لكنه لم يذكر الحجر المنفصلة ولا اتفاق الترجمة في الكلمات والحروف، بل بالعكس يقول أن الـ 72 مترجمًا جلسوا معًا في النهاية وراجعوا النصوص مع بعضهم البعض واكملوا عملهم المشترك في 72 يومًا.
و المحتمل أن يكون فعلاً قد قام بفصلهم فرادي أو كما يقول لنا التاريخ الكنسي أنه عزلهم اثنين اثنين لما عرف عن اليهود انهم مخادعون ولا يردون ترجمة الكتاب المقدس إلى غير العبرية…. وفي نهاية المدة رجع هذه النصوص المترجمة وبعد التأكد من أنها جميعًا تمثل كتابًا واحدًا اجتمعوا معًا واتفقوا علي ترجمة واحدة.
[44] حسب الترجمة السبعينية.
[45] أي صموئيل الأول والثاني.
[46] وهي الأصحاح الأخير من سفر باروخ.
[47] لم يذكر القديس كيرلس الأسفار الأخرى، وهو في هذا اختلف مع سائر الآباء فيما عدا البابا اثناسيوس الذي دعي بقية الأسفار أنها هامة وضرورية لكنها ليست جزءا من الكتاب المقدس….أما بقية الآباء فحسبوها جزء منه…”أرجو أن يهيئ الله لي عرض بحث عنها”.
[48] لم يذكر سفر الرؤيا وقد رأينا في سلسلة “من تفسير وتأملات الآباء – رؤيا يوحنا اللاهوتي” طبعة 1969 أهمية هذا السفر في الكنيسة الأولي. وكيف اهتمت بشرحه وإلقاء محاضرات عنه.
[49] راجع مقال 19: 8 حيث يشير إلى أعمال خرافية تقدم لخدمة الشيطان.
المقال الخامس: الإيمان
“وأما الإيمان، فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى. فإنه في هذا شُهد للقدماء” (عب 11: 1-2)
1- يا لعظمة لقبك: “مؤمن”!
أظهر الرسول بولس عظمة الشرف الذي يهبه لك الله بانتقالك من نظام الموعوظين إلى جماعة المؤمنين، مؤكدًا “أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح” (1 كو 1: 9). فإذ يُدعى “أمينًا Faithful”، هكذا أنت أيضًا تُدعى بنفس اللقب (أمينًا أو مؤمنًا faithful)، فتتقبل كرامة عظيمة.
فكما يدعى الله صالحًا وعادلاً وقديرًا وخالق المسكونة، هكذا هو آمين. تأمل إذن أية كرامة ارتفعتَ إليها إذ صرت شريكًا في لقب يخص الله!
2- لتكن أمينًا أو مؤمنًا بالعمل
بالأحرى يليق بكل واحدٍ منكم أن يكون أمينًا (مؤمنًا) في ضميره. “أما الرجل الأمين فمن يجده؟!” (أم 20: 6) أظهر صدق إيمانك (أمانتك) لله فاحص الكُلى والقلوب (مز 7: 9)، والعارف بأفكار البشر (مز 94: 11)، ولا تكشف ضميرك لي أنا، لأنك لا تُدان بحسب حكم إنسان (1 كو 4: 3-5).
عظيم هو الإنسان المؤمن، وأغنى من جميع الأغنياء، لأن المؤمن يملك العالم بكل ثروته، إذ يستهين به ويطأه. أما الغني في المظهر صاحب الممتلكات الكثيرة فهو فقير في نفسه، إذ قدر ما يجمع يُنخس بالشوق إلى ما لم ينله بعد.
يحمل المؤمن نقيضين غريبين. إنه غني وهو فقير، إذ يعلم أنه إن كان له قوت وكسوة فليكتف بهما (1 تى 6: 8)، وبهذا يطأ الغنى تحت قدميه.
3- أهمية الإيمان حتى في الأمور الزمنية بين غبر المؤمنين
ليس وحدنا نحن الذين نحمل اسم المسيح نعرف كرامة الإيمان العظيمة أن كل ما يجري في العالم – حتى ما يتم على أيدي الغرباء عن الكنيسة[1]- يحدث بإيمان[2].
فبالإيمان تُربط شرائع الزوجية بين أطراف غرباء معًا، فيصير الغريب شريكًا لغريب عنه من جهة شخصه وممتلكاته…
بالإيمان تقوم الزراعة أيضًا، فمن لا يؤمن أنه ينال محصولاً لا يتحمل المشاق.
بالإيمان يثق البحارة في قطعة خشب رقيقة ويستبدلون الأرض الصلبة جدًا بأمواج لا تهدأ، معتمدين على آمال غير أكيدة، حاملين معهم إيمانًا أقوى من كل مرساة.
إذن بالإيمان تتم أغلب شؤون البشر فيما بينهم، ليس بيننا نحن وحدنا بل كما أقول حتى بالنسبة للذين هم من خارج… فإن كانوا لا يقبلون الأسفار المقدسة، لكنهم تعلموا هذا من ذواتهم وقبلوها بإيمان…
4- بالإيمان نتحصن ضد إبليس
القراءة التي تُتلى عليكم اليوم تدعوكم إلى الإيمان الحقيقي، فتقدم لكم الطريق الذي فيه يُسر الله بك إذ قد تؤكد أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11: 6).
كيف يُقبل إنسان على خدمة الله إن لم يؤمن أنه واهب المكافأة؟!
كيف تختار شابة حياة العذراوية أو يعيش شاب في تعقل ما لم يؤمن أن للعفة إكليلاً لا يفنى؟! (1 بط 5: 4)
الإيمان بمثابة عين تنير كل ضمير وتهب الفهم، إذ يقول النبي: “إن لم تؤمنوا لا تفهموا” (إش 7:9). الإيمان يسد أفواه الأسود (عب 11: 34)، كما حدث مع دانيال، إذ يقول الكتاب عنه: “فاصعد دانيال من الجب، ولم يوجد فيه ضرر، لأنه آمن بإلهه” (دا 6:23).
هل يوجد ما هو مرعب أكثر من الشيطان؟ نعم، فإننا في مقاومته لا نجد درعًا سوى الإيمان (1 بط 1: 9)، إذ هو ترس خفي ضد عدو غير منظور، يرشق سهامًا متنوعة في ليلٍ بهيمٍ (مز 11:2) تجاه غير المتيقظين. فإذ لنا عدو غير منظور يلزمنا الإيمان كعدة حربية قوية، إذ يقول الرسول: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16). فإذ يصوب إبليس سهم الشهوة الدنس الملتهب، يُقدم الإيمان صورة الدينونة، فيبرد الذهن وينطفئ السهم.
5- مثال من العهد القديم: إبراهيم
إن لي كثيرًا أقوله عن الإيمان، ولا يكفيني اليوم كله لوصفه كما ينبغي. إنما لنكتفِ بإبراهيم كمثال من العهد القديم، ناظرين أننا قد صرنا أبناءه بالإيمان. لقد تبرر ليس فقط بالأعمال[3]، بل وأيضًا بالإيمان. فمع أنه صنع أعمالاً صالحة كثيرة، لكنه لم يُدع خليل الله إلاّ عندما آمن. وهكذا كما تبرر هو تتبرر أنت أيضًا.
لقد مات جسده فعلاً من جهة النسل، وشاخت سارة، ولم يوجد بعد أي رجاء لهما لإنجاب أبناء. وإذ وعد الله الشيخ بابن، فإن إبراهيم “إذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو صار مماتًا” (رو 4: 19) إذ لم يتطلع إلى ضعف جسده، بل إلى قوة من وعده، إذ حسب الذي وعده صادقًا (عب 11: 11). هكذا بغير تردد اقتنى ابنه من الجسدين اللذين ماتا فعلاً.
وعندما اقتنى ابنه أُمر أن يقدمه ذبيحة، ومع أنه سمع الكلمة “بإسحق يُدعى لك نسل” (تك 21:12؛ 22: 2)، قدم ابنه الوحيد لله مؤمنًا أنه قادر أن يقيمه من الأموات (عب 11: 19).وإذ ربط ابنه ووضعه على الحطب، قدمه فعلاً بالنيّة، لكن خلال صلاح الله الذي أعطاه حملاً عوض ابنه، تقبّل (إبراهيم) ابنه حيًا.
وإذ آمن إبراهيم في هذه الأمور ختم بره “وأخذ علامة الختان ختمًا لبرّ الإيمان الذي كان في الغرلة” آخذًا وعدًا أن يكون “أبًا لجمهور من الأمم” (رو 4: 11؛ تك 17:5).
إبراهيم أب لأمم كثيرة
6- إذن ليتنا نرى كيف صار إبراهيم أبًا لأمم كثيرة؟ (رو 4: 17، 18) فبالنسبة لليهود هو أب لهم كما هو معروف، إذ هم نسله حسب الجسد.
لكننا إن أخذنا بالنسل حسب الجسد تكون الأقوال باطلة. لأنه حسب الجسد إبراهيم ليس أبًا لجميعنا، إنما نحن صرنا أبناء لإبراهيم على مثال إيمانه. كيف؟ وبأية طريقة؟ إنه بحسب البشر لا يُعقل قيامة إنسان من الأموات، ولا يُصدق أن يأتي نسل من شيخين متقدمين في السن كالأموات. هكذا أيضًا عندما كُرز بالمسيح أنه صُلب على شجرة، وإنه مات وقام آمنا نحن. فعلى مثال إبراهيم، بإيماننا صرنا أبناء له.
ويتبع إيماننا أننا نتقبل مثله الختم الروحي، إذ نُختن بالروح القدس خلال المعمودية، ليس في غرلة الجسد بل في القلب، كقول إرميا: “اختننوا للرب في غرلة قلوبكم” (راجع إر 4: 4). وقول الرسول “بختان المسيح مدفونين معه في المعمودية…” (كو 2:11، 12).
7- مثال من العهد الجديد: بطرس على المياه
إن حفظنا هذا الإيمان نتحرر من الدينونة ونتزين بكل أنواع الفضائل.
عظيم هو السير على البحر فبطرس إذ كان إنسانًا مثلنا له جسد ودم ويقتات بطعامٍ، عندما قال له يسوع: “تعال” (مت 14:29) آمن وسار على المياه في أمان أكثر مما لو كان على الأرض، وارتفع جسده بفعل سمو إيمانه. ومع أن سيره على المياه كان فيه أمان طالما هو مؤمن، فإنه عندما شكّ في الحال بدأ يغرق. وعندما رأى يسوع – مخفف الآلام – هلاكه قال له: “يا قليل الإيمان لماذا شككت؟” (مت 14:31) وإذ تقوّى من جديد بالذي أمسكه بيمينه. وعاد إليه إيمانه وهو ممسك بيد السيد، عاد إلى سيره على المياه. وقد أُشير إلى هذا بطريق غير مباشر إذ يقول: “ولما دخل السفينة” (مت 14: 36)، إذ لم يذكر أن بطرس سبح وعبر، بل نفهم أنه رجع إلى السفينة مرة أخرى نفس المسافة التي جاءها ليقابل يسوع.
8- بالإيمان يخلص الغير أيضًا
نعم، الإيمان هكذا هو قدير، حتى أنه ليس فقط المؤمن وحده هو الذي يخلص، بل ويخلص البعض بإيمان الآخرين. فالمفلوج بكفر ناحوم لم يكن مؤمنًا، لكن الذين أحضروه كانوا مؤمنين ودلّوه من السقف (مر 2: 4)، إذ كان مرض نفسه مشتركًا في مرض جسده.
لا تظن أنني أتهمه باطلاً، فإن الإنجيل نفسه يقول: “ولما رأى يسوع إيمانهم – وليس إيمانه- قال للمفلوج: قم” (مت 9: 2، 6).
الحاملون آمنوا والمريض بالفالج انتفع ببركة الشفاء!
أختا لعازر
9- أتريد دليلاً أقوى على أن البعض يخلص بإيمان آخرون؟! لعازر مات (يو 11: 14-44). ومضى عليه يوم واثنان وثلاثة، وانحلت عضلاته، ودّب الفساد فعلاً في جسده. كيف يمكن لميت له أربعة أيام أن يؤمن، ويطلب بنفسه من المخلص؟
ولكن ما نقص عند الميت، وُجد عند أختيه الحقيقيتين، فعندما أتى الرب سجدت الأخت أمامه. وعندما قال: “أين وضعتموه؟” أجابته: “يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة أيام”. فأجابها: “إن آمنتِ ترين مجد الله”. كأنه يقول لها: ليكن عندك الإيمان الذي يقيم جثة الميت.
كان لإيمان الأختين قوة عظيمة هكذا حتى أعاد الميت من أبواب الجحيم! إن كان للبشر بالإيمان – واحد لحساب الآخر – يمكن أن يقوم الميت، أما يكون النفع أعظم إن كان لك إيمان خالص لأجل نفسك؟! بلى، حتى وإن كنت غير مؤمن أو قليل الإيمان فإن الله محب البشر يتعطف عليك عند توبتك.فمن جانبك يليق بك أن تقول بذهن أمين: “أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني” (مر 9:24).
أما إذا حسبت أنك مؤمن بحق، لكنك لست في كمال الإيمان، فإنك محتاج أن تقول مثل الرسل: “يا رب زد إيماننا” (راجع لو 17:5). فإذ لك نصيب من جانبك، تتقبل النصيب الأعظم من الله.
الإيمان العقائدي
10- كلمة “الإيمان” من جهة اللفظ واحدة، لكنها تحمل معنيين متمايزين. يوجد نوع من الإيمان عقائدي dogmatic يحمل قبول النفس لأمورٍ معينة. وهو مفيد للنفس كقول الرب: “إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة” (يو 5: 34). وأيضًا من “يؤمن بالابن لا يدان بل انتقل من الموت إلى الحياة” (يو 3:18، 5: 24).
يا لمحبة الله المتحننة! لأنه كان الأبرار لسنوات طويلة موضع سروره، وما اقتنوه خلال السنوات العديدة لإرضائه يمنحه لك يسوع في ساعة واحدة. فإنك إن آمنت أن يسوع المسيح رب، وأن الله أقامه من الأموات تخلص، وينقلك في الفردوس الذي أدخل فيه اللص.
لا تشك في إمكانية هذا، لأن الذي خلص اللص على هذه الجلجثة المقدسة بعد ساعة واحدة من إيمانه هو بنفسه يخلصك بإيمانك (لو 23: 24).
الإيمان بحسب النعمة من الروح القدس
11- يوجد نوع آخر من الإيمان يمنحه المسيح كهبة للنعمة، “فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء” (1 كو 12: 8، 9). هذا الإيمان المُعطى هو نعمة من الروح القدس وليس مجرد إيمان تعليمي، إنما يعمل أعمالاً فوق طاقة الإنسان. فمن له هذا الإيمان ويقول لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك ينتقل (راجع مر 11: 23). من يقول هذا بإيمان أنه يكون ولا يشك في قلبه يتقبل نعمة.
وقد قيل عن هذا الإيمان: “لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل” (مت 17:20). وحبة الخردل صغيرة الحجم لكنها متقدة في عملها حتى أنه وإن كانت تُزرع في موضع صغير لكن بنموها يصير لها مجموعة أغصان عظيمة تؤوي الطيور (مت 13: 32).
هكذا أيضًا للإيمان فاعلية عظيمة في النفس في لحظة سريعة، فعندما تستنير تتمتع برؤى خاصة بالله، إذ تراه قدر ما تستطيع، وتهيم فوق رباطات العالم، وترى الدينونة ونوال المكافأة الموعود بها قبل نهاية هذا العالم. ألك الإيمان في الله الذي من جانبك[4] حتى تتقبل منه ذاك الإيمان الذي يعمل ما هو فوق حدود البشر؟![5]
أهمية قانون الإيمان الكنسي
12- عندما تتعلم “الإيمان” والاعتراف به، أطلب هذا الإيمان وحده الذي تسلمه لك الكنيسة الآن[6]، واحتفظ به، هذا المشيٌد من كل الكتاب المقدس تشييدًا قويًا.
فإذ لا يستطيع الكل أن يقرأ الكتاب المقدس (بكامله)، فلكي لا تهلك النفس بسبب الجهل لحرمانها من المعرفة بسبب نقص تعلمها… نلخص كل تعليم الإيمان في سطورٍ قليلة.
هذا الملخص أريد منك أن تتذكره عندما أتلوه عليك، وتردده أنت بكل اجتهاد. فلا تكتبه على ورق، بل انقشه بذاكرتك في قلبك، واحذر لئلا يسمعه أحد الموعوظين[7]…
إنني أرغب في تقديمه لك كعونٍ يسندك كل أيام حياتك، لا تطلب آخر سواه حتى إن تغيّرنا نحن أنفسنا ونقضنا هذا التعليم الحالي، أو جاءكم ملاك مقاوم مغيرًا شكله إلى ملاك نوراني (2 كو 11: 54) لكي يضللكم. “ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما” (غل 1: 8-9).
أنصت الآن إذا حدثك ببساطة ناطقًا قانون الإيمان.
أودعه في ذاكرتك، وفي الوقت المناسب سأثبت كل بند من بنوده ببراهين من الأسفار المقدسة، لأن بنود الإيمان لم تُجمع حسبما يبدو صالحًا في عيني إنسان، بل جمعت البنود الهامة الواردة في الكتاب المقدس كله مكونة تعليمًا للإيمان واحدًا كاملاً.
وكما تحمل حبة الخردل أغصانًا كثيرة في حبة واحدة صغيرة، هكذا يحتضن الإيمان كل معرفة الصلاح الواردة في العهد القديم والعهد الجديد مسطرًا في كلمات قليلة…
يا إخوة، انظروا وتمسكوا بالتقاليد[8] التي تتسلمونها الآن. اكتبوها على ألواح قلوبكم.
الإيمان كوديعة
13- كرموها (التقاليد) لئلا يُهلك العدو من يتراخى، أو يشوِّه أحد الهراطقة إحدى الحقائق المسلمة إليكم. فإن الإيمان يشبه إيداع الأموال في مصرف (مت 25: 27، لو 19:23) كما نفعل نحن الآن، لكن اطلبوا الحسابات المودعة من الله.
وكما يقول الرسول: “أوصيك أمام الله الذي يحي الكل، والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس بنطس بالاعتراف الحسن أن تحفظ هذا الإيمان المسلم إليك بلا دنس إلى ظهور ربنا يسوع المسيح” (راجع 1 تي 13: 14).
لقد تسلمت الآن كنز الحياة، ويطلب السيد منك أن تودعه إلى مجيئه، “الذي سيبينه في أوقاته، المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت، ساكنًا في نور لا يُدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له (المجد) والكرامة والقدرة” (1 تي 6: 15-16) إلى الأبد. آمين.
________________________________________
[1] يقصد بالغرباء عن الكنيسة أو الذين في الخارج الأمم الوثنيين (ترتليان: العماد 14) أو الهراطقة (ترتليان: العماد 15).
[2] من الاعتراضات العامة التي كان الوثنيون يوجهونها ضد المسيحية أنها لا تقوم على المنطق والعقل، بل على الإيمان وحده. وهنا يظهر القديس كيرلس لزوم الإيمان حتى في شئون الحياة العادية. هذا ما قاله أيضًا العلامة أوريجينوس ضد صلسس اليهودي 1: 11، وأرنوبياس ضد الأمم 2: 8.
[3] حذفها Casauban في طبعته مع أنها موجودة في بقية الطبعات وفي المخطوطات.
[4] لا يمكن إنكار معونة الله حتى في هذا النوع من الإيمان الذي من جانبنا. هذا ما نادى به القديس نفسه ( بند 10).
[5] ميّز أيضا القديس يوحنا الذهبي الفم بين الإيمان الذي العقائدي والإيمان الذي هو “أم المعجزات”. عظاته على كورنثوس الأولي، 29.
[6] إذ جاء المقال بعد شرح مختصر لقانون الإيمان.
[7] لكي يتسلمه الموعوظون بالتدريج قدر استطاعته.
[8] 2 تي 2: 15. راجع مقال 23: 23
No Result
View All Result
Discussion about this post