رسالة البابا
يوحـنَّا بولس الثاني
إلى النّساء
إليكنَّ جميعاً يا نساء العالم أجمع
تحية من القلبّ!
1- إلى كل منكنَّ أوجّه هذه الرسالة دليل مشاركة وامتنان ونحن على أبواب المؤتمر العالمي الرابع حول المرأة الذي سينعقد في بكين في شهر أيلول القادم.
أودُّ أولاً أن أقول لمنظمة الأمم المتّحدة عظيم تقديري لهذه المبادرة ذاته المغزى الكبير. أن الكنيسة تولي هي أيضاً عنايتها الخاصة بالإسهام في الدفاع عن كرامة النساء ودورهنَّ وحقوقهنّ، ليس فقط بمساهمة وفد الكرسي الرسولي الرسميّ المميّزة في أعمال مؤتمر بكين، بل أيضاً بتوجيه كلامه المباشر إلى قلب النساء وروحهنّ. لمّا زارتني منذ أيام السيدة جرترود مونجلاّ أمينة السر العامة للمؤتمر، خصيصاً بشأن هذا الاجتماع الهامّ، حرصت على إيداعها بلاغاً عرضت فيه بعض نقاط أساسية في تعليم الكنيسة عن هذا الموضوع. بلاغ يتجاوز الحدث المعيّن الذي ألهمه لينفتح على نظرة أشمل تتناول وضع مجمل النساء ومشاكلهنّ في سبيل خدمة قضيتهّن في الكنيسة وفي العالم المعاصر. لذلك قررت أن أعممه على جميع المؤتمرات الأسقفية لكي أضمن له انتشاراً أوسع. إنطلاقاً ممّا كتبت في هذه الوثيقة أودّ الآن أن أتوجه إلى كل واحدة من النساء لنفكّر معاً في المشاكل والتوقعات التي تكتنف وضع المرأة في أيامنا، فأتوقف بنوع خاص عند الموضوع الأساسي: كرامة النساء وحقوقهّن على ضوء كلمة الله.
إن نقطة انطلاق هذا الحوار لا يمكن أن تكون إلاّ فعل شكر. لقد كتبت في الرسالة الرسولية كرامة المرأة: “ترغب الكنيسة في أن تشكر الثالوث الأقدس من أجل “سر المرأة” وكل امرأة، وعلى ما ينطوي عليه البعد الأبدي لكرامتها الأنثوية وعلى “عجائب الله” التي تتحقق فيها وبواسطتها، عبر تاريخ الأجيال البشرية” (عدد 31).
2- إن فعل الشكر الذي نرفعه إلى الرب من أجل قصده في دعوة المرأة ورسالتها في العالم يغدو أيضاً فعل شكر صريح ومباشر للنساء، وكل واحدة من النساء، من أجل ما يمثّلنه في حياة البشرية.
شكراً لكِ أيتها الإمرأة – الأمّ، يا من تقبلين في حشاك الكائن البشري بالفرح وآلام خبرة فريدة بها تصيرين بسمة الله للولد الآتي إلى العالم، تقودين خطواته الأولى وتساعدينه على النمو وتكونين له المَعْلَمَ الهادي على طريق الحياة.
شكراً لكِ أيتها الامرأة – الزوجة يا من تربطين بوثاق لا ينقض مصيرك بمصير رجل، في علاقة عطاء متبادل لخير الوحدة والحياة.
شكراً لكِ أيتها الامرأة – الفتاة والامرأة – الأخت يا من تحملين إلى البيت العائلي، ومن ثمّ إلى مجمّع الحياة الاجتماعية ثروات إحساسك وحدسك وسخائك وجَلَدك.
شكراً لكِ أيتها الامرأة – العاملة، المنخرطة في جميع قطاعات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنيّة والسياسية، من أجل مساهمتك التي لا بديل منها في تطور ثقافة من شأنها أن تقرن العقل بالعاطفة، وفي نظرة للحياة منفتحة أبداً على معنى “السرّ”، وفي إنشاء بنيات اقتصادية وسياسية أغنى بالإنسانية.
شكراً لكِ أيتها الامرأة – المكرّسة، يا من على غرار العظيمة بين النساء، أم المسيح، الكلمة المتجسد، تنفتحين بطواعية وأمانة على حب الله، وهكذا تساعدين الكنيسة والبشرية كلها على أن تجيب الله “بنعم العروس” التي تعبّر تعبيراً عن الاتحاد الذي يريد أن يقيمه مع خليقته.
شكراً لكِ أيتها الامرأة، لا لشيء سوى أنك امرأة! تُغنين بشعورك بأنوثتك فهم العالم وتسهمين في قيام علاقات بشرية على الحق كله.
3- بيد أني أعرف أن الشكر لا يكفي. فلقد أُخضعت المرأة عبر التاريخ، ويا للأسف، لشروط قاسية جداً، جعلت في كل زمان ومكان طريقها صعبة، وانتقصت كرامتها، وشوّهت ميزاتها، وأدَّت في الغالب إلى تهميشها بل إلى استعبادها. كل ذلك منعها من أن تكون هي ذاتها بكل معنى الكلمة وحرم البشرية كلها من خيور روحية أصيلة. ليس من السهل حقاً أن نحدّد بالضبط المسؤوليات، بالنظر لثقل الرواسب الثقافية التي كوّنت عبر الأجيال الذهنيات والمؤسسات. لكن إذا كنّا لا يمكننا، في هذا المجال، وبخاصة في إطار بعض الأوضاع التاريخية، أن ننكر مسؤولية الكثيرين من أبناء الكنيسة، فأنا آسف لذلك كثيراً. وعسى أن يؤدي هذا الأسف، في الكنيسة كلها، إلى القيام بجهد في سبيل الأمانة المتجددة لإلهام الإنجيل فإنه في كلامه بالتحديد عن تحرير المرأة من كل أشكال الظلم والهيمنة، يحمل رسالة تبقى واقعية وتقتبس من موقف المسيح ذاته. فلقد تجاوز القواعد المرعية في ثقافة ذلك الزمن، وكان له من النساء موقف الانفتاح والاحترام، والترحيب والحنان، مشيداً في ذلك بالكرامة التي كانت للمرأة في قصد الله وحبه. إننا نتوجه إليه في نهاية هذا الألف الثاني، متسائلين إلى أي حدٍّ قبلنا رسالته عملياً؟
أجل لقد آن الأوان لأن ننظر، بشجاعة الذاكرة وصدق الاعتراف بالمسؤوليات، إلى تاريخ البشرية الطويل الذي ساهمت فيه النساء مساهمة ليست دون مساهمة الرجال وفي غالب الأحيان وسط ظروف أصعب. وإني أفكر خاصة بالنساء اللواتي أحببن الثقافة والفنّ وكرّسن نفوسهن لهما في حالات لم تكن مؤاتية لهن، إذ كنَّ في الغالب محرومات من تنشئة تعادل تنشئة الرجال، عرضةً لقلّة الاعتبار، يُنكر عليهن أو يُسلب منهنّ إسهامهنّ الفكري. ومن المؤسف أن نشاط النساء الكثيف عبر التاريخ لم يبقَ منه إلاّ النذر القليل الممكن تسجيله في تاريخ العلم. لكن من حسن الحظ إنه إذا كان الزمن قد طوى الوثائق التي تحمل أثر ذلك الإسهام، لا يمكننا إلاّ أن نلمس ثماره الخيّرة في الماوية التي نفذت منها الأجيال المتعاقبة حتى أيامنا. إن البشرية لمدينة ديناً لا يُقدّر لهذا التراث الأنثوي الواسع الكبير. كما من النساء حُكِمَ ويُحكَمُ عليهنّ بمظهرهن الجسدي أكثر منهنّ بكفاءاتهن، بقيمتهن المهنية، بنشاطهن الفكري، بغناهنّ العاطفي وبالتالي بكرامتهن الشخصية.
4- وما عسانا نقول في العراقيل التي ما زالت في بلدان عديدة تمنع النساء من الإندماج الكامل في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ يكفي أن نذكر أن عطية الأمومة هي في الغالب عرضة للعقوبة أكثر منها للتقدير مع أن البشرية مدينة لها باستمرار البقاء. لا شك في أنه يبقى علينا أن نفعل الكثير لكيلا تتعرض حال المرأة والأم لأيّ تمييز. ومن الضروري للغاية بأن نحصل في كل مكان على المساواة الفعلية في الحقوق الشخصية، وبالتالي على تساوي الأجور للعمل المتساوي، وحماية الأمهات اللواتي يعملن، والترقية العادلة في المهنة، وتساوي الزوجين في تدبير العيلة، والاعتراف لهن بكل ما هو مرتبط بحقوق المواطن وواجباته في نظام ديمقراطي. إن هذا لعدل ولكنه أيضاً ضرورة. ففي سياسة الغد سيتزايد دائماً تورّط النساء في المشاكل التي تعالج حالياً: الوقت الحر، نوعيّة الحياة، الهجرات، الخدمات الاجتماعية، قتل المنازع تخليصاً له من عذابه، المخدرات، الصحة وأعمال الوقاية، الحفاظ على البيئة، ألخ… في جميع هذه الحقول سيكون لحضور المرأة الاجتماعي حضوراً فاعلاً دور هامّ، لأنها ستسهم في إبراز تناقضات مجتمع قائم على قواعد الفعالية والانتاجية تفرض إعادة النظر في تحديد الأنظمة لصالح عملية الأنسنة التي تطبع “حضارة المحبة”.
5- إننا فيما نمعن النظر في ظاهرة من أدق ظواهر وضع النساء في العالم، لا يمكننا إلاّ أن نذكّر بتاريخ الإساءَات الطويل المذلّ التي كانت ترتكب – غالباً في “الدهاليز” – بحق النساء في موضع الحياة الجنسية. ولا يمكننا عشية الألف الثالث أن نظل لا مبالين بهذه الظاهرة ولا أن نرضى في النهاية بها. لقد آن لنا أن نشجب بقوة مختلف أشكال العنف الجنسي الذي تتعرض في الغالب له المرأة، ونحرّك الأدوات الشرعيّة المناسبة للدفاع عنها. إننا بداعي احترام الشخص البشري لا يسعنا إلاّ أن نندّد بثقافة واسعة الانتشار دأبها اللذة والمتاجرة تعتمد استغلال الجنس المنظَّم، وتدفع بالفتيات منذ نعومة أظفارهنّ إلى الوقوع في معاثر الفساد وتحويل أجسادهنّ إلى سلعة.
فأمام هذه الموبقات، أي تقدير لا تستحقه، بالعكس نساء يدفعهنّ حبهنّ البطولي لولدهن إلى الاستمرار في حبل ناتج عن علاقات جنسية ظالمة مفروضة عليهن بالقوة، وذلك ليس فقط في نطاق الفظائع التي تقع ويا للأسف في سياق الحروب المتواترة في أيامنا، بل أيضاً في أوضاع سعة وسلام موبوءة بثقافة تبيح اللذة، وحيث تتنامى بسهولة أكثر النزعات إلى الانحراف العنيف. إن خيار الإجهاض في مثل هذه الحالات، قبل أن يكون مسؤولية تتحملها النساء، هو جريمة يجب أن يتحملها الرجل والمجتمع الشريك في الجريمة.
6- إن شكري للنساء إذن يأخذ طابع الدعوة الملحة للجميع، وبخاصة للدول والمؤسسات الدولية لكي يقوموا بما يلزم لكي تستعيد النساء حُرمة كرامتهنّ ودورهنّ. لا يسعني في هذا الصدد إلاّ أن أعرب عن إعجابي بالنساء ذوات الإرادة الحسنة اللواتي يكرّسنَ أنفسهنّ للدفاع عن كرامة وضع المرأة باكتساب حقوقها الأساسية في الحقل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، واللواتي أخذن بكل شجاعة هذه المبادرة في أزمنة كان يعتبر فيها هذا الالتزام من قبلهنّ فعل مخالفة، وعلامة نقص في الأنوثة، وظاهرة حب للظهور، بل خطيئة أيضاً!
لدى التأمل بمسيرة تحرير المرأة يمكننا القول بأن هذه الطريق، كانت، كما سبق فكتبت في الرسالة في مناسبة يوم السلام العالمي هذه السنة “صعبة ومتشّعبة، ولا تخلو من الأخطاء أحياناً، ولكنها، إيجابية فيما يتصل بالجوهر، ولو بقيت حتى اليوم غير مكتملة بسبب العراقيل العديدة التي تحول في مناطق كثيرة من العالم، دون أن يعترف بالمرأة وتحترم وتقدّر في كرامتها الخاصة” (عد 4).
ويجب الاستمرار بالسعي في هذه الطريق! بيد أنني مقتنع بأن سرّ إنجاز مسيرة احترام هوية المرأة بسرعة، لا يمرّ فقط عبر التنديد، مهما كان ضرورياً، بأعمال التمييز الجنسي والمظالم، بل وبخاصة عبر مشروع تنمية، فعال بقدر ما هو واعٍ، يتناول شتّى مرافق الحياة النسائية، انطلاقاً من وعي كرامة المرأة وعياً متجدداً وشاملاً. فالعقل ذاته، الذي يقبل شريعة الله المكتوبة في قلب كل إنسان، يحملنا على الاعتراف بهذه الكرامة رغم كل ما طرأ عليها من تكييف عبر التاريخ بيد أن كلمة الله خاصة هي التي تمكننا من أن نتبيّن بوضوح في أي أساس تتجذر من الوجهة الإنسانية كرامة المرأة، إذ يبرز لنا في قصد الله في البشرية.
7- فاسمحن إذن لي، يا أخواتي العزيزات، أن أتأمل معكنّ مجدداً بصفحة الكتاب الرائعة التي تعرض لنا خلق الإنسان وتقول أشياء كثيرة عن كرامتكنّ ورسالتكنّ في العالم.
يتكلّم سفر التكوين عن الخلق بإيجاز وبلغة شعرية ورمزية ولكنها في العمق حقيقية: “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، رجلاً وامرأة خلقهما” (تك 1 / 27). ويجري عمل الله الخالق وفقاً لمشروع معيّن. قيل أن الإنسان خُلِقَ على صورة الله وكمثاله (انظر تك 1 / 26)، عبارة تسلط الضوء على طابع الإنسان المميّز في مجموعة عمل الخلق.
وقيل فيما بعد أن الإنسان خُلِقَ “رجلاً وامرأة” (تك 1 / 27) منذ البدء. ويقدم الكتاب ذاته تفسيراً لهذا القول: إن الإنسان رغم وجوده محاطاً بخلائق لا عدّ لها في العالم المنظور، يجد نفسه وحيداً (انظر تك 2 / 20). فيتدخل الله ليخرجه من هذه الوحدة: “لا يحسن أن يظل الرجل وحده فلنخلق له عوناً بإزائه” (تك 2 / 18). مبدأ العون إذن مكتوب منذ البدء في خلق المرأة: عون – لا بد من الإشارة إلى ذلك – ليس من جهة واحدة بل هو متبادل. فالمرأة تكمّل الرجل كما يكمّل الرجل المرأة، المرأة والرجل هما متكاملان. المؤنث يحقق “الإنساني” بشأنه شأن المذكر.
وعندما يتكلم سفر التكوين عن “العون”، فإنه لا يعني الفعل فقط، بل الكينونة. المؤنث والمذكر يكمّل أحدهما الآخر ليس فقط من الناحية الجسدية والنفسية بل من الناحية الكيانية. وإنما بفضل الإزدواج “المذكر” و”المؤنث” يحقق “الإنسان” ذاته تحقيقاً كاملاً.
8- بعد أن خلق الله الإنسان رجلاً وامرأة قال لهما: “املأوا الأرض وأخضعوها” (تك 1 / 28). إنه لا يخوّلهما فقط القدرة على الإنجاب لاستمرار الجنس البشري على الزمن، بل قلّدهما أيضاً الأرض مهمةً، وحضَّهما على استثمار مواردها بطريقة مسؤولة. فالإنسان، الكائن العاقل والحر مدعوّ ليغيّر وجه الأرض. وفي هذه المهمة، التي هي بالأساس عمل ثقافة، يتساوي بالمسؤولية الرجل والمرأة منذ البدء. إن المرأة والرجل بهذه المبادلة الزوجية المخصبة بينهما في السيادة على الأرض وإخضاعها، لا يعبّران عن مساواة تعادليّة تزيل الفوارق، وأقل منها عن هوّة اختلاف تصادميّ بينهما لا يرحم، بل العلاقة الأكثر طبيعية بينهما المتجاذبة مع قصد الله في “وحدة الاثنين” أي “وحدة ثنائية” في العلاقة تمكن كلاًّ منهما من أن يكتشف العلاقة الشخصية المتبادلة عطية، مصدر غنىً ومسؤولية.
إلى هذه “الوحدة في اثنين” أو كل الله، ليس فقط عمل الإنجاب والحياة في العيلة، بل عمل بناء التاريخ ذاته. إذا كان الاهتمام تركّز، خلال سنة العيلة العالمية التي احتفل بها سنة 1994، على المرأة كأمّ، فمؤتمر بكين هو فرصة مؤاتية لوعي متجدد لمساهمات المرأة المتعددة في حياة المجتمعات والأمم جميعاً. إنها قبل كل شيء مساهمات ذات طابع روحي وثقافي ولكنها أيضاً اجتماعية واقتصادية. إنه لعظيم القدر حقاً إسهام النساء في مختلف قطاعات المجتمع والدول والثقافات القومية، وبالتالي في تقدم الجنس البشري بأسره.
9- يقدّر التقدم (البشري) بشكل عام وفقاً لمقولات علمية وتقنية، فحتى من وجهة النظر هذه إسهام المرأة لا يستهان به. بيد أنه ليس ذلك هو القياس الأوحد ولا الرئيسي للتقدم. القياس الأخلاقي والاجتماعي الذي يطبع العلاقات البشرية وقيم الروح، يبدو الأكثر أهمية. وإنما في هذا المجال الذي تجري فيه الأمور بلا ضجّة عبر العلاقات اليومية بين الأشخاص وبخاصة وسط العيلة، يترتّب على المجتمع معظم ما يدين به “لعبقرية المرأة”.
أودّ في هذا الصدد أن أعبّر عن شكري الخاص للنساء الملتزمات في قطاعات العمل التربوي على اختلافها، خارجاً عن العيلة، في روضات الأطفال والمدارس والجامعات والخدمات الاجتماعية والرعايا والجمعيات، والحركات. فحيث تدعو الحاجة إلى عمل التنشئة يمكننا أن نرى جهوزية لا حد لها عند النساء يبذلن الذات في العلاقات البشرية وبخاصة لصالح المستضعفين والذين ليس لهم من يدافع عنهم. وفي العمل يبذلن لوناً من الأمومة العاطفية والثقافية والروحية، لا يقدر ثمنها حقاً بالنظر للأثر الذي تتركه في تنمية الإنسان ومستقبل المجتمع. وكيف لا نذكر هنا شهادة نساء كثيرات كاثوليكيات والعديد من الجمعيات الرهبانية النسائية اللواتي، في مختلف القارات، جعلن من التربية، وبخاصة تربية البنين والبنات، نشاطهنّ الرئيسي؟ وكيف لا يكون عندنا شعور بمعرفة الجميل تجاه جميع النساء اللواتي عملن ولا يزلن يعملن في القطاع الصحي، ليس فقط في المؤسسات الصحية الحسنة التنظيم، بل غالباً وفي ظروف غير مؤاتية، في أفقر بلدان العالم، مؤدّيات شهادة في الاستعداد للخدمة، يداني الاستشهاد في غالب الأحيان؟
10- أتمنى إذن، أيتها الأخوات العزيزات، أن تُمعنَّ الفكر في موضوع “عبقرية المرأة”، ليس فقط لكي نتبيّن فيها ملامح قصد الله الذي يجب أن نتقبّله ونجلّه، بل أيضاً لكي نفسح له المجال في مجمل الحياة الاجتماعية، ومثلها في الحياة الكنسية. لقد تيَسَّر لي في الرسالة الرسولية “كرامة المرأة” الصادرة سنة 1988 أن أتبسط بمعالجة هذه المسألة وقد كنت تعرضت لها إبّان السنة المريمية. ثم أنني أحببت هذه السنة في مناسبة خميس الأسرار أن أذكّر بالرسالة الرسولية كرامة المرأة في الرسالة التي تعوّدت أن أوجّهها إلى الكهنة لأدعوهم إلى التفكير في الدور المميّز الذي تقوم به المرأة في الحياة كأمّ وكأخت وكشريكة في الأعمال الرسولية. إنه إطار “للعون” – مختلف عن الإطار الزواجي ولكن له نفس الأهمية – يدعو سفر التكوين المرأة لكي تؤديه للرجل.
إن الكنيسة ترى في مريم أسمى تعبير “لعبقرية المرأة” وتجد فيها ينبوع الهام لا ينضب، لقد حدّدت مريم ذاتها أنها “أمة الرب” (لوقا 1 / 38). وهي، إطاعةً لكلمة الله، استقبلت دعوتها المميّزة، لكن غير السهلة أبداً، كزوجة وأمّ لعيلة الناصرة. وفي وقفها ذاتها لخدمة الله وقفت ذاتها أيضاً لخدمة البشر، خدمة حبّ. وهي هذه الخدمة التي جعلتها تحقق في ذاتها خبرة “الملكية”، خبرة سرية ولكن حقيقية. وليس من قبيل الصدفة أن تُدعى “ملكة السماء والأرض”. إن جماعة المؤمنين كلها تدعوها هكذا؛ شعوب وأمم عديدة يدعونها “ملكة”. وإنما مُلكُها خدمة وخدمتها مُلكٌ.
هكذا ينبغي أن تفهم السلطة في العيلة مثلها في المجتمع وفي الكنيسة. “الملكُ” يُبرز في دعوة الكائن البشري الأساسية، بوصفه مخلوقاً على “صورة” ذاك الذي و سيد السماء والأرض، وكمدعوّ لأن يكون ابناً بالتبني في المسيح. فالإنسان هو المخلوق الوحيد على الأرض الذي “أراده الله من أجل ذاته”، حسب تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي يضيف بطريقة معبّرة أن “ليس بوسع الإنسان أن يجد ذاته في الصميم إلاّ ببذل ذاته بذلاً مجرداً” (فرح ورجاء عد 24).
وبذلك يقوم “مُلك” مريم الأم. فلأنها بكل كيانها عطية للابن، صارت أيضاً عطية لأبناء وبنات الجنس البشري بأسره، تحيا في الصميم ثقة من يلتفت نحوها لكي تقوده على دروب الحياة الصعبة إلى غايته الشخصية، إلى مصيره الفائق الطبيعة. كل إنسان يبلغ، عبر مراحل دعوته الخاصة، هذه الغاية الأخيرة، التي توجّه في الزمن التزام الرجل والمرأة على حد سواء.
11- من وجهة نظر “الخدمة” هذه – التي تعبّر عن “ملك” الكائن البشري الحق، إذا تمت في الحرية والتعاطف والحب – يمكن القبول باختلاف في الوظائف ليس فيه اجحاف بحق المرأة، ما دام هذا الاختلاف غير ناتج عن نظام اعتباطي، بل ينبثق من ميزات طبع الرجل والمرأة. هذه المقولة تُطبَّق أيضاً تطبيقاً خاصاً في داخل الكنيسة. فإذا كان المسيح – بخيار منه سيد، حر، يؤكده الإنجيل وتقليد الكنيسة الدائم – أعطى الرجال فقط وأوجب عليهم أن يكونوا “أيقونة” وجهه “راعياً” و”عريساً” للكنيسة عبر ممارسة كهنوت الخدمة، فذلك لا ينتقص من دور النساء ولا من دور غيرهن من أعضاء الكنيسة الذين لم يتوشّحوا كهنوت الخدمة المقدس، مع اشتراكهم جميعاً بكرامة “الكهنوت العام” المتأصل في العماد. فهذه الفوارق في الأدوار يجب ألا تفسَّر على ضوء قوانين التوظيف السارية في المجتمعات البشرية، بل وفقاً للقواعد المميزة في تدبير الأسرار، أي تدبير “الآيات” باختيار الله الحر ليحقق حضوره بين البشر.
وعدا ذلك، وفي خط تدبير الآيات هذا حتى خارجاً عن نطاق الأسرار، فإن “الأنوثة” التي تعاش على مثال مريم السامي، ليست أمراً غير ذي بال. فإن في “أنوثة” المرأة المؤمنة، وبخاصة المرأة “المكرسة” نوعاً من الحضور “النبويّ” (انظر كرامة المرأة، عد 29)، والرمزية الشديدة الإيحاء، بل يمكن الذهاب إلى القول “بطابع أيقونيّ” والد يتحقق تحققاً تاماً في مريم. ويعبّر عن كيان الكنيسة ذاتها كجماعة مكرسة، في غمرة قلب “بتولي” لكي تكون “عروس” المسيح وأم المؤمنين. من وجهة نظر التكاملية “الأيقونية” هذه بين دور الرجل ودور المرأة تبرز الكنيسة بوضوح أكثر في بُعديها غير المنفصلين: البُعد “المريمي” والبعد “الرسولي والبطرسي”، (المرجع ذاته عد 27).
ومن جهة أخرى “إن كهنوت الخدمة – كما ذكّرت به الكهنة في رسالة خميس الأسرار هذه السنة المذكورة آنفاً – لا يعني في قصد المسيح التسلط بل الخدمة” (عد 7). فمن ألحّ واجبات الكنيسة، في تجددها اليومي على ضوء كلمة الله، أن تبرز دائماً أكثر، في تعزيز روح الاتحاد وتنمية اليقظة على كل وسائل المشاركة ذات الطابع الكنسي، وعبر احترامها وتقديرها وللمواهب العديدة لدى الأشخاص والجماعات، التي يبعثها روح الله لبناء الجماعة المسيحية وخدمة البشر.
وفي مجال الخدمة هذا عرف تاريخ الكنيسة حقاً طوال الألفي سنة وبرغم العوائق، “عبقرية المرأة”، فلقد ظهر فيها نساء من الطراز الأول، طبعن مختلف العهود بطابعهن الخاص، طابع هام وخيّر. وإنني لأفكر بقافلة الشهيدات الطويلة، والقديسات والصوفيات. وأفكر خاصة بالقديسة كاترين السيانيّة، وبالقديسة تيريزيا الكبرى، اللتين منح كلاً منهما البابا بولس السادس لقب معلمة الكنيسة. وكيف لنا أن لا نذكر أيضاً نساء لا عدّ لهنَّ كرّسْنَ حياتهنّ بدافع من الإيمان للقيام بمبادرات ذات نفع اجتماعي منقطع النظير في خدمة الفقراء بنوع خاص؟ إن مستقبل الكنيسة في الألف الثالث لن يفوته، ولا ريب، أن يشهد ولادة تجليات جديدة ورائعة “للعبقرية النسائية”.
12- إنكنّ ترين إذن، أيتها الأخوات العزيزات أن لدى الكنيسة أسباباً عديدة لكي تتمنّى أن تظهر في المؤتمر القادم الذي تنظمه الأمم المتحدة في بكين، كل الحقيقة عن المرأة، ولكي تبرز “عبقرية المرأة” بأجلى مظاهرها، ليس فقط في النساء ذوات الشأن الشهيرات اللواتي عشن في الماضي أو أولئك القائمات اليوم بيننا، بل في النساء البسيطات اللواتي يَضَعْنَ ما أعطين من مواهب في خدمة الغير في الحياة العادية كل يوم. فإنما ببذل الذات للغير في حياة كل يوم تحقق المرأة دعوة حياتها العميقة. هي التي، ولربما أكثر من الرجل، ترى الإنسان، لأنها إنما تراه بقلبها، وبصرف النظر عن مختلف الأنظمة الإيديولوجية والسياسية وإنها لتراه بعظمته وبحدوده معاً، فتسعى إليه لكي تكون له عوناً. وعلى هذا النحو يتحقّق في تاريخ البشرية قصد الخالق الأساسي ويظل يظهر في مختلف الدعوات، الجمال – ليس فقط الجمال الجسدي بل الروحي بنوع خاص – الذي أغدقه الله منذ البدء على الخليقة البشرية وبنوع خاص على المرأة.
وفيما أعهد إلى الله في الصلاة بأن يؤتي لقاء بكين حسن النتيجة أدعو الجماعات الكنسية لأن تجعل من السنة الجارية زمن فعل شكر عميق لخالق العالم وفاديه، من أعطانا هذا الخير العظيم الذي هو الأنوثة، أنها بوجوهها المتعددة تنتمي إلى التراث الذي به تقوم البشرية والكنيسة.
فلتسهر مريم ملكة المحبة على النساء ورسالتهّن في خدمة البشرية، والسلام وانتشار ملكوت الله.
مع بركتي.
صدر عن الفاتيكان في 29 حزيران 1995، عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post